وكل شيء بغتة
كنت رافعًا رأسي إلى السماء مُرتديًا وجه الإمام وفوق صدري النياشين، وفي يدي المسبحة المقدسة من الكعبة الشريفة، وأضواء العالم الأول والثاني كالمرايا الدائرية من حولي، وهتاف شعوب العالم الثالث والرابع يدوِّي في أذني: يحيا الإمام مطبِّق الشريعة. وأرى وجهي في المرايا مائة وجه إلا وجهًا واحدًا، تسعة وتسعين وجهًا بعدد أسماء الله الحسنى. وكلما حرَّكت رأسي يمينًا أو يسارًا تضاعف عدد وجهي، وأنا واقفٌ تحت الأضواء ومن تحتي العرش، ومن حولي الأعوان من حزب الله، والمعارضة الشرعية من حزب الشيطان، والقوى العظمى والصغرى وأعلام الحرية والديمقراطية، وصوتي يدوِّي بخطبة النصر وصواريخ العيد تُفرقع، وتُسكرني النشوة بغير خمر فأترنَّح، وفي لحظة الترنُّح يسقط وجهي من فوق رأسي بغتةً، ويستقرُّ بين قدمي تحت المقعد. أقدامٌ تجري فوق الأرض وتدوس على قدمي بغتةً، ومقعدي مقلوبٌ فوق ظهره بغتةً، وأرجله الأربع نحو السماء. أتلفَّت حولي، ماذا حدث بغتةً؟
هل قامت القيامة بغتةً؟
كان المُعارض الشرعي واقفًا إلى جواره لا يفصله عن العرش إلا رئيس الأمن، وبغتةً سمع الصوت يسأل: هل قامت القيامة بغتةً؟ وأدرك أنه صوت الإمام، وأنه راقد إلى جواره تحت المقعد، واشتدَّ ذكاء المُعارض الشرعي، وربط بغتةً بين مقاعد سفينة سيدنا نوح واكتشاف الإشعاع النووي وقيام الساعة. كان الكاتب الكبير قد وضع رأسه بين قدمَيه بغتةً، وأغمض عينَيه في راحةٍ أبدية، وقال فاتحًا عينَيه نصف فتحة: إن التفكير في يوم القيامة بعقلٍ دنيوي غير جائز في الشريعة، وإن يوم القيامة لا علم لنا عنه إلا من خلال كلام الله في القرآن، ومن يقرأ كلام الله بقلبٍ مؤمن يُدرك أن يوم القيامة حادثٌ كوني، لا يخصُّ الأرض والناس وحدهم، بل يشمل أيضًا بقية الكون. قال سبحانه: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ. ولا يقبل كلام الله الجدل أو المعارضة الشرعية أو غير الشرعية؛ فالقيامة تشمل الكون كله السموات والأرض، والاستثناء الوحيد بأمر الله هو خليفة الله في الأرض؛ أي الإمام في عالمنا البشري. ويُشير كلام الله إلى أن سكان الكواكب والقمر والشمس والأجرام الكونية الأخرى مصيرهم فيها كمصير أهل الأرض من حيث الموت بغتةً، وأوضح الله أن مجيء يوم القيامة سيكون بغتةً، وقال سبحانه: أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً. والله ليس في حاجة إلى أسباب كالإشعاع النووي لقيام الساعة، ولا تنقصه الوسائل لتدمير الكون حين يشاء بغتة.
وظهر الإعجاب في عينَي الإمام ببلاغة كاتبه الكبير، واتِّساع ثقافته الدينية وإلمامه بالشريعة، وتحوَّل الإعجاب في عينَي المُعارض الشرعي إلى غيرةٍ أشبه بالحقد، وبدأ يُلقي له خطابًا أطول من خطاب الكاتب الكبير، وأثبت فيه أن الصلة بين يوم القيامة وبين الإشعاع النووي أمرٌ وارد، وإن لم يرد له نص في القرآن. ونهض رئيس الأمن ينفض عن ملابسه ذرَّات التراب، تلمع في الضوء كالإشعاع، وبدأ يجري مطلقًا ساقَيه للريح، تاركًا رئيس حزب الله ورئيس حزب الشيطان راقدَين في أمان الله، لا يفصل بينهما إلا الكاتب الكبير فاتحًا فمه في انبهار، وقد أدهشته شجاعة المُعارض الشرعي في طرحه لقضية الساعة وعلاقتها بالإشعاع النووي، وأنها واردةٌ رغم غياب النص. وتبادل الكاتب الكبير مع رئيس المعارضة ابتسامةً عريضة، امتدَّت من الأذن اليسرى إلى اليمنى، ورأس كل منهما بين قدمَيه، وبينهما الإمام صامتٌ لا ينطق، وأطبق كلٌّ منهما شفتَيه مُنتظرًا كلمة الإمام؛ فكلمته نهائية لا يعقبها سؤال ولا جدل. وظل الإمام صامتًا كأنما إلى الأبد، وتشجَّع زعيم المعارضة وسأل: هل الإمام موجود؟ وبدا السؤال كفرًا وكأنه يسأل هل الله موجود؟ وهو سؤالٌ لا ينمُّ عن الكفر بقدر ما ينمُّ عن الإيمان المضاعف، أو الرغبة في تدعيم إيمان القلب بإيمان العقل، وأصبح السؤال حدثًا رغم أن كل طفل يسأله، وصاحب السؤال بطلًا من أبطال المعارضة. رمقه الكاتب الكبير من تحت المقعد بحسد، وعاد إلى زوجته الرابعة مُنفرج الشفتَين، وأقسم لها بالطلاق ثلاثًا أنه الوحيد الذي فتح جفنَيه، وشهد بعينَيه اللحظة التاريخية، وأن جميع الرجال من أعضاء حزب الله أو حزب الشيطان لم يجرءوا على فتح عيونهم، وظلَّت جفونهم مغلقة كأنما ماتوا بغتةً، فيما عدا رئيس الأمن الذي اختفى بغتةً.