نشوة الحب
كنت لا أزال في مدرسة الممرضات، وأختي نعمة الله فقدتها فداء الحب، وأخي فضل الله ذهب إلى الحرب فداء الوطن، وأنا لا أريد الموت كبش الفداء، وأقوم الليل أحفظ الكلام عن ظهر قلب لأقوله في الامتحان، ثم جاء حفل التخرج وتوزيع شهادة الخدمة والطاعة. تمشي الممرضات على شكل طابور أمام المنصة. تحصل الناجحات على لقب «الخادمة المثالية». ترتدي الثوب الأبيض، وتلفُّ شعرها برباطٍ من الشاش، وتسير في الصف بخطواتٍ بطيئة، وحين تقترب من المنصة تنحني بالتحية، ومن فوق المنصة تجلس كبيرات نساء الدولة، وزوجة الإمام في الوسط فوق مقعد له ظهرٌ عالٍ، وعن يمينها رئيسة الجمعيات الخيرية ترتدي وجهها المطَّاطي، وعن يسارها رئيسة الممرضات ووسام البر والإحسان مشبوك فوق الصدر بالدبوس، ومن بعدها تأتي الصفوف، أرامل الشهداء والأمهات المثاليات والنساء المتطوعات للخير، كلهن شكلٌ واحد ولا يمكن أن تفترق الواحدة عن الأخرى، جالسات صامتات واجمات، وأياديهن مشبوكة فوق الصدر، وحين تنهض زوجة الإمام ينهضن واقفات، وتظل أيديهن كما كانت فوق الصدر مشبوكة، وأقترب من المنصة بخطواتي الجنائزية، وأرى الزوجة الجديدة أقصر قامةً في الوقوف عنها في الجلوس، رأسها لا يكاد يظهر من وراء المنصة، ومن حوله حجابٌ ملفوف من الحرير المستورد، يلتفُّ حوله عقد من الماس يعكس الشمس، وعقدٌ آخر حول العنق، و«البروش» فوق النهد، والأساور حول المعصم، والخواتم في الأصابع، وكلما امتدَّت يدها إلى الأمام أو الخلف اهتزَّ الكون بآلاف الأضواء.
رأيت هذا المشهد من قبلُ حين تخرَّجت في بيت الأطفال، وكان في مقعد الرئيسة رجل لا أكاد أذكره، رأسه كبير بغير شعر، وصدره يُغطيه الشعر، وكانت الزوجة الجديدة أكبر حجمًا، حليقة الرأس بغير حجاب، ونساء الجمعيات الخيرية كلهن شكلٌ واحد، جسمٌ مربَّع كبير مُمتلئ باللحم، ورأسٌ صغير ملفوف الشعر بالدبابيس، وقدمان سمينتان تهتزَّان أثناء الجلوس في الهواء، وتُطرقعان أثناء السير فوق الكعب الرفيع بصوتٍ عالٍ.
وجاء دوري لتسلم الشهادة، واقتربت من المنصة، وامتدَّت اليد الناعمة نحوي ومن حولها تشع النجوم، والأجسام المربعة على الجانبين واقفات فوق الكعوب الرفيعة ثابتات، وأياديهن البيضاء مشبوكة فوق الصدر، ومع كل جائزة أو شهادة تتحرك اليد من فوق الصدر لتُلامس اليد الأخرى في حركةٍ ثقيلة، ويُسمَع التصفيق كحشرجة أنفاس مُتقطعة بطيئة.
تسلَّمت الشهادة وفي قلبي ارتجاج، وأطراف الأنامل لامست أصابعي لمسة كهرباء، وانطلقت في طريقي فيَّاضة الحماس، أحمل العلم وأرفع صوتي بالهتاف: الله والوطن ويحيا الإمام. أختي ماتت لرجلٍ واحد وأنا أعيش لكل الناس. الاستقلال التام أو الموت الزؤام. وفي النهار أنتقل من جريح إلى جريح، أحمل وعاء البول والبراز، وفي الليل أظل ساهرةً أرهف السمع لصوت الأنين. أراه في الضوء الخافت راقدًا شاخصًا نحوي بوجهٍ شاحب، في صدره جرحٌ غائر، وفي عينَيه حنين، وفي الظلمة أسير إليه وأقول: فضل الله ذهب إلى جبهة القتال، أرأيته هناك، وهل لا زال يعيش؟ ويقول: من هو فضل الله؛ أهو زوجك؟ وأقول: إنه أخي في الرضاع، وفي بيت الأطفال كان. وأسكت لا أكمل الكلام، ويقول: لماذا سكت؟ وأقول: ماذا أقول؟ يقول: احكي لي عن نفسك. ماذا أحكي؟ احكي كل شيء. ولا أعرف ماذا أحكي. حياتي تبدو مليئة بالأسرار، وحين أبدأ الكلام تبدو خالية ولا شيء فيها يُقال. وحوَّطني بذراعَيه كالأم وقال: نامي ولا تخافي. وأغمضت عيني ونِمت. وفي النوم ذهب عني الخوف. بدأت أحكي حياتي، ومع كل حكاية يتحرر لساني، وقلبي يخف، وجسمي يطير كالروح بلا جسم. وفي الطلعة فلتت مني الشهقة وأنا أحلم بالصعود، عشرون عامًا منذ وُلدت وأنا أرى هذه الهضبة بين البحر والنهر، وأمي واقفة تنتظرني، ورائحة الهواء لم تغِب عن ذاكرتي، والشجرة، والصخرة، وذرَّات الهواء، أستنشقها؛ فهي وطني ورائحة حياتي. أحوطها بذراعي، أملأ صدري كأول نفس عند الولادة، وآخر نفس قبل الممات. ولأول مرة أشمُّ البحر وملوحة الماء واليود، وأنفاس العشب والقواقع والسمك الطازج، وتركت نفسي لهواء البحر يملؤني ويُغرقني، وأمواجه ترتفع في الليل بيضاء في السماء تحوطني كأذرع الله، وهو إلى جواري يُعانقني يحدِّثني: أتُحبِّين السمك المشوي؟
– جدًّا جدًّا.
– أتُحبِّين الرأس أم الذيل أكثر؟
– أحبُّهما، الاثنين معًا.
وترنُّ ضحكتها الطفولية في الكون كمحارةٍ تنفتح للشوق، وهواء البحر أصابها بجوع للحياة كالنهم، وحواسها الخمس تستيقظ كالموج، وأنوار النجوم تلمع فوق البحر كفصوص اللؤلؤ، وأوراق الشجر مع الأمواج مع الهواء تذوب في نداءٍ واحد، وعيناها السوداوان الواسعتان تتَّسعان لنشوة الحب حتى الإغماء، وتُغمض عينَيها تنام فوق صدره كالطفلة يُهدهدها، وصوته في أذنها يأتيها من بعيد: أحبُّك.