معًا في الخندق
عيناها سوداوان واسعتان تتَّسعان لدهشة الكون، تدوران حولها في الظلمة الداكنة. نجمٌ واحد تراه في مساحةٍ هائلة سوداء، يتحرك بسرعة الضوء، وصوته يدوِّي كالرعد. يقترب من الأرض ويسقط مُنفجرًا شعلة نار. بحرٌ من اللهيب الأحمر. وعيناها مفتوحتان لا تعرف الليل من النهار. انطفأت النار ولم يبقَ إلا دخانٌ أسود ورائحة تراب في أنفها. تحت يدها اليمنى ملمس السلاح، ويدها اليسرى في يده. صوته في أذنها: أطلقت عليه النار وسقط … انظري. أطلَّت برأسها من حافة الخندق، لم ترَ شيئًا. دخانٌ كثيف كالليل بغير نقطة ضوء. وجهه أيضًا لا تراه. قالت: لا أراك. قال: وأنا أيضًا لا أراك. حملقت في الظلمة، رأته واقفًا إلى جوارها في الخندق يده على الزناد، وسلاحه لا زال نحو السماء. قال: سقط واحد ولا زال آخرون. وفي الظلمة رأت يده ممدودة إليها قابضةً على ورقةٍ مطوية، وقال: لو متُّ اذهبي إلى أمي وأعطيها هذه الرسالة.
همست: من أمك؟ قال: هي أمي، وبيتها إلى جوار بيت الأطفال، واسمه بيت السعادة. وعرفت أنه فضل الله، وأنه لا زال يعيش، ولا زال ممشوق الظهر مرفوع الرأس. بشرته سمراء بلون الطمي، ووجهه شاحبٌ نحيل. ينظر في عينَيها مباشرةً دون أن يُحرك عينَيه إلى أسفل. في بريق عينَيه انبهار الطفولة، ونظرته ثابتة لا يبهره شيء. قالت: هل تراني بوضوح في الظلمة فأنا بنت الله؟ وعرفها من وجهها وعينَيها ورائحة شعرها. سألها عن نعمة الله، قالت: ماتت بالحب. قال: وأنت؟ قالت: أنا أعيش بالحب. وحوَّطته بذراعَيها، وقالت: ماذا كتبت لي في الرسالة؟ قال: كتبت أقول لك لا تحزني يا أمي؛ لأني لم أرَك منذ وُلدت، ولم أدخل بيت السعادة، حيث أنت وحيث الحب، لكن الموت في سبيل الوطن هو الحياة من أجلك، فهل تغفرين لي غيابي الطويل إلى الأبد؟ وأغمضت عينَيها. قالت: أراك كما كنت كأنما غيابك كان بالأمس، ولم يُفارقني وجهك يومًا. وأغمض عينَيه، ونام على صدرها كما كان يفعل وهو طفل، ثم استيقظ فجأةً وأدرك أنه لم يعد طفلًا، وهي أصبحت امرأةً مُكتملة النضج، وحوَّطها بذراعَيه في الخندق، فأصبح الخندق ضيقًا بذراعَيه، والكون في عينَيه كبيرًا كقرص الشمس. وحوَّطته بذراعَيها في الخندق والمكان يضيق، وعناقهما يملأ الأرض. وحين كشفهما الضوء ظلَّا مُتعانقين، وفي لحظة العناق توقَّف العالم يرقب مشهد الحب، وهما مُتعانقان كشخصٍ واحد، ولا أحد منهما ينفصل عن الآخر أو يخاف الضوء أو يخاف الموت؛ فكلاهما قد مات من قبل.
وهو يلتصق بها أكثر وأكثر يريد الفناء فيها، وهي تلتصق به أكثر وأكثر تريد الفناء فيه، وكلٌّ منهما قد أصبح هو الآخر، هي أصبحت هو، وهو أصبح هي، ولم يعُد في الكون قوةٌ تفصل الواحد منهما عن الآخر، لا دوي المدافع ولا الصواريخ، ولا هدير العدو ولا الصديق، ولا صوت الإمام أو الشيطان أو رئيس الأمن.
ثم فتحت عينيَّ، ووجدتني واقفةً في الخندق وحدي وفي يدي الرسالة مطوية. أين اختفى فضل الله؟ هل مات في الحرب أم أخذوه ومات في السجن؟ ومن بعيدٍ سمعت أنفاسهم تلهث يركضون خلفي، وأقدامهم تدبُّ على الأرض بأحذيةٍ حديدية، وبدأت أركض في الظلمة أنجو بحياتي، وهم من خلفي يجرون ومن خلفهم كلابهم تنبح، وأنا أجري ولا أعرف لماذا أجري، وكِدت أفلت منهم عند منعطف الطلعة قبل طلوع الفجر، لكن أحدهم أصابني من الخلف، وقبل أن أسقط وأنسى الحروف قلت: كان معي في بيت الأطفال، وهو أخي في الرضاع. قالوا: جريمتك مضاعفة في الدنيا والآخرة؛ فأنت بنت حرام، وهو ابن حرام، وليس له في حزب الله أو حزب الشيطان اسم.
•••
لا زلت أجري والظلمة داكنة. أسمع دبيب أقدامهم الحديدية تركض خلفي. أتحسَّس بطني في الظلام. تحت كفي الارتفاعة الناعمة دافئة كالحب، وصوته يأتيني من بعيد في الظلمة كصوت أمي يُناديني: بنت الله، تعالَي. يقترب مني حتى يُلامسني. أحوطه بذراعيَّ ويحوطني. رجفةٌ غامضة تهزُّني، قشعريرة. يهمس بصوتٍ ناعم: لا تخافي، أنا الله، وسوف تلدين المسيح. الظلمة داكنة، وأنا أجري وفي يدي الرسالة مطوية. أحوطها بأصابعي وأخبِّئها في صدري. أسمع أنفاسهم كاللهاث من خلفي. قلت لن يصلوا إليَّ قبل أن أبلِّغ الرسالة. سأخاطر بحياتي لأنجو بها؛ فهي حياتي. سأخاطر بالموت رجمًا بالحجارة كما فعلت مريم العذراء لتلد المسيح، وكما فعلت أمي لتلدني. وعند منعطف الطلعة بين البحر والنهر عند علامة الأمان عرفت رائحة المكان، وتوقَّفت أشكر الله على النجاة. وكان يمكن أن أنجوَ لولا أنني توقَّفت لأصلِّي، وأصابوني من الخلف. دائمًا يضربون من الخلف، وحين أستدير يهربون، أبدًا لا يواجهون. وقبل أن أسقط وأنسى الكلمات قلت: كنت أصلِّي وأنا أحمل ثمرة الحب. وقال رئيس الأمن: لا شيء اسمه الحب، إنها ثمرة الخطيئة.