الخوف الجماعي
في ليلة العيد وطبول النصر تدقُّ والزمامير، عثروا على جسدها مُلقًى في الطريق من البيت إلى الجبهة، عند منعطف الهضبة بين البحر والنهر. وجدوها مُلقاةً فوق ظهرها وعيناها سوداوان مفتوحتان ثابتتان في السماء. وجهها ساكن بلا حركة، والكون كله ساكن يُطل عليها، وهواء الليل لا يُحرك شعرةً واحدة من رأسها. وعند فتحة الأنف سكنت الشعيرات. بشرتها سمراء بلون الطمي، يسقط عليها ضوء القمر فتصبح بيضاء كحورية الجنة أو جنية البحر. عارية تمامًا كما ولدتها أمها، لا ثوب ولا قميص ولا سروال. وبدت في عُريها آثمةً رغم موتها؛ فالمرأة لم تكن تتعرَّى في حياتها أو موتها، وإن خلعت الطرحة تظل بالجلباب، وإن خلعت الجلباب تظل بالقميص، وإن خلعت القميص تظل بالسروال، ولا يمكن أبدًا أن تتجرد من السروال قبل الموت أو بعده. كان ظهرها للأرض ووجهها ناحية السماء، وحلمة الثدي نافرة كالزبيبة السوداء، وبين الساقَين جرحٌ عميق في اللحم، ويدها اليمنى فوق الجرح كأنما تُخفيه، وما دامت تُخفيه فهي التي صنعته، وهي التي قتلت نفسها، وقتل النفس جريمة، تمرُّد على إرادة الله؛ فالله وحده هو الذي يقتل. وأصبحت جريمتها بعد موتها في نظرهم جريمتَين؛ العُري والقتل. وأضافوا إليها الجريمة الثالثة؛ فهي وُلدت بغير أب وبغير أم، وكان اليتم عندهم عيبًا، وبات اسمها الثلاثي بغير أب ولا جد داخل ملف أزرق في مكتب الأمن منسوب إلى الأم، وأمام كل اسم جريمة ثلاثية؛ القتل والعار واليتم.
وكانت الليلة عيدًا. دارت السنة وجاء عيد الأضحى مع عيد النصر، وأصبح العيد عيدَين اثنين، والناس تجمَّعوا تحت المصابيح وجلسوا القرفصاء. وجوههم طويلةٌ شاحبة رمادية، وعظام الرأس يشتدُّ بُروزها عند عظمة الأنف، ومن فتحات الوجه ينفثون الدخان والكلام، ومن تحت الشوارب الممدودة فوق الشفة العليا تخرج أنفاسهم كالسعال، يبتلعونه في صدورهم مع الدخان ومعه الكلام. يعطسون ويرمقون السماء بحذر، ويحكون الحكايات عن الملوك والآلهة والعفاريت والجان، ويقول أحدهم: إيه يا جدعان والله زمان حين كنا نعبد الشمس وإله الفيضان. ويرد أحدهم: أي والله لم يكن إله الفيضان يسكت عنا إلا بعد أن نُرضيه بالبنت العذراء، لم يكن يحب المرأة التي تزوَّجت من قبل أو المرأة الأرمل أو المطلقة. ويقول أحدهم: أما إله لئيم يا جدعان. ويقول الآخر: كل الآلهة كانوا كده، ويطوف الجنود بيوت الفلاحين يمسكون العذراء البكر. تختفي البنات فوق الأفران أو تحت التبن داخل الجرن، ويظل الإله غاضبًا لا يهدِّئ غضبَه إلا دمُ العذراء. ويقول أحدهم: ولا الملك شهريار في زمانه. ويرد الآخر: الملك شهريار بس، كل الملوك كده لغاية النهاردة، يصمتون فجأةً يبتلعون أصواتهم مع أنفاسهم مع الدخان ويرمقون بوابة الأمن بحذر، وأجسامهم مسنودة فوق عظمة الكوع تصنع حفرة في الأرض، يزحف إليها طابور من النمل على شكل خط طويل مُنتظم تتقدمه الملكة. ترى الكوع الأسمر بلون الأرض. تدرك أنه ليس الأرض، ويمكن أن يتحرك فجأةً ويهبط فوق رأسها يهشِّمها. تغيِّر الملكة اتجاهها وتلفُّ حول الكوع، وتسلك الطريق الآخر بعيدًا عن الحفرة، ويلتوي الخط المنتظم وراءها ليصبح دائرةً منتظمة ثم يعود خطًّا طويلًا مُنتظمًا.
النني الأسود في عيونهم تحت الضوء ثابت فوق جيش النمل المنتظم يضربون كفًّا بكف، يُمصمصون شفاههم. جيشٌ من الذكور يتبع الأنثى؟! حكم الله عليهم بالعبودية والزحف فوق بطونهم إلى الأبد. يقبِّلون بطن أياديهم وظهرها ويشكرون الله. طابورهم لا ينتظم وإن جاء الحارس بالعصا، ورئيسهم ذكر وليس أنثى. يعطسون ويسعلون ويرصون الدخان في الجوزة، ويغيِّرون مركز ارتكازهم فوق الأرض من الكوع الأيمن إلى الكوع الأيسر. في آذانهم أصوات الصواريخ والهتاف والأناشيد. يذكرون أنه عيد النصر وعيد الأضحى معًا، ودارت السنة وجاء مع العيدين عيد ميلاد الإمام، وأصبح العيد «ثلاثة أعياد»، والليل يجيء داكن الظلمة، وجفونهم تثقل بالنعاس، وقلوبهم ثقيلة كالحجر، والنار تخبو في الجوزة، ويذكرون موتاهم في الحرب والمفقودين لا ماتوا ولا عادوا، والمقطوعي الأيدي والأرجل من خلاف، والمرجومين والمرجومات، والمعتقَلين والمعتقَلات، ومشوَّهي الحرب والشهداء، والذين شربوا الموت مع لبن الصباح وماتوا بالإشعاع، والذين لم يموتوا بعد لكنهم حتمًا موتى بأمر مولانا، ويشفطون آخر نفس في الجوزة، وينتهي الدخان وتنطفئ شعلة النار. يبتلعون آخر الكلام في معدةٍ خاوية بغير عشاء ولُعابٍ طعمه مر، واكتشاف أخير قبل غيبوبة النوم أن مركز ثقلهم فوق الأرض ليس هو الكوع الأيمن ولا الكوع الأيسر، وأنهم ليسوا جالسين وليسوا واقفين، يتحركون بخُطًى زاحفة كالنمل إلا أن طابورهم مُتعرج. يتدافعون بالأيدي والأرجل وكوع كل منهم يصنع في بطن الآخر حفرة، ورأس كل منهم يمتدُّ فوق الرأس أمامه وعنقه يشرئب، يُحاول أن يرى أول الطابور، ولا أحد يرى شيئًا؛ فالطابور طويلٌ مُتعرج كاللولب يمتدُّ بطول البصر، وينتهي عند الأفق بالتقاء السماء، والنني الأسود داخل عيونهم يدور حول نفسه، والصوت يرنُّ في آذانهم لا يعرفون دوي الصواريخ من دوي الهتاف، ويختلط الصراخ بالزغاريد، ويُفيقون فجأةً فاتحين جفونهم مُتذكرين أنه العيد، وأنهم يرتدون أحذيةً جديدة يدبُّون بها على الأرض، وفي كل حذاء حدوةُ حصان من الحديد، منحة العيد بأمر الإمام، وعلاوة الغلاء آخر الشهر. دبيبهم فوق الأرض مسموع. الصف وراء الصف مُتعرج كجيش نمل بلا ملكة. وعيونهم تدور باحثةً في الكون عن الرب. أين أنت يا رب؟ وفي منعطف الطلعة بين البحر والنهر يتوقفون ينظرون ويشهقون. كانت ممدودة فوق الأرض، وجهها للسماء، وعيناها السوداوان مفتوحتان. هزُّوا رءوسهم الملفوفة وقالوا: لا إله إلا الله، ماتت موتة ربنا؛ فربنا يميت الناس. ثم قال أحدهم: ليست موتة ربنا؛ فأنا أعرف القاتل، والقاتل ليس ربنا. استغفروا الله بعد كلامه؛ فلا أحد يموت بيدٍ أخرى غير يد الله. وكتموا أنفاسهم مُحملِقين في السماء مُتصورين أن الله له يدٌ يرونها بالعَين، وسجدوا حتى لامست جباههم الأرض، سبحانه ليس له يد ولا لسان. قرَّبوا رءوسهم وهمسوا في آذان بعضهم بعضًا، ثم رفعوا عيونهم مستغفرين الله هاتفين: الله والوطن والإمام. إن بعض الظن إثم يا جدعان، ولا أحد يموت بغير إرادته سبحانه. وصاحوا في نفسٍ واحد: لا إله إلا الله. ثم دفنوها في التراب، وفي التراب ظل قلبها ينبض. قالوا: ثلاثة أيام ظل قلبها ينبض بعد الموت، وسبعة أيام روحها ظلَّت تحوم حول القبر، وفي اليوم الثامن تركت روحها القبر، وبدأت تسير نحو الطلعة بين البحر والنهر، وأقسموا بالله العظيم أنهم رأوها بعيونهم تسير فوق قدمَيها الاثنتين. خطوتها السريعة لم تتغير، ورأسها المرفوع، ومن خلفها كلبها مرزوق. قالوا: إنهم لم يرونها إلا من الخلف، ولا أحد استطاع أن ينظر إليها من الوجه. وأقسموا بالله والوطن والإمام ثلاثًا أنها هي ولا أحد غيرها، وأن روحها خرجت من القبر لتنتقم منهم، وبات كلٌّ منهم يرتعد. أصبح الخوف يُلازمهم ليل نهار كأجسامهم، لا يحول بينهم وبين الخوف غطاء ولا جلباب. يخافون حتى وهم داخل المرحاض والباب مغلق. يتصورون أنها يمكن أن تخترق أي باب وتنفُذ من أي جدار، وتراهم من حيث لا يرونها؛ فإذا تسلَّل الواحد منهم من فراش زوجته لامرأةٍ أخرى رأته، وإذا مدَّ يده في جيب الآخر رأته، وإذا خلع ملابسه وبات عاريًا رأته، وإذا أمسك عورته وهو نائمٌ رأته. أصبحوا يخافون منها كما يخافون الله، وبدت لهم في النوم كأنما هي الله، ولا أحد يشعر بالبراءة وكلٌّ منهم قذفها بحجر، وقلوبهم ثقيلة بالذنب، وجفونهم ثقيلة بالنوم، وفي الليل يرقدون مُتلاصقين، يخاف الواحد منهم أن ينام وحده، أو يفتح الباب ويخرج في الظلمة وحده. جميعهم يخافون إلا اثنين لم ينالاها بالأذى؛ أمها وكلبها مرزوق. تظل الأم واقفةً في الظلمة تنتظرها، ثابتة في مكانها كالصخرة، وجهها إلى السماء ورأسها مرفوع، يداها كبيرتان مضمومتان فوق قلبها، إلى جوارها يرقد مرزوق مُتكورًا كالأطفال، وجهه طويلٌ شاحب، وعيناه خاليتان من الدمع، زاوية كل عين تلمع في الظلمة كالدمعة المُتجمدة، أذناه مُنتصبتان مُرهفتان تلتقطان وقع قدمَيها قبل أن تظهر، عنقه ممدود وأنفه مُشرئبٌّ يلتقط رائحتها من الكون، وعيناه تلتقطان عينَيها من بين ملايين النجوم. وقبل أن يراها يجري إليها يشبُّ بأقدامه كالطفل يشبُّ على صدر أمه. يمسح عينَيه في ذيل ثوبها ويلهث ويمسح لهاثها، ويرى خيط الدمع بلون الدم والطعنة في ظهرها.