الفيلسوف
سحرٌ غامض يجذبني إلى هذا العالم الآخر. هربت إليه كاتي حبيبتي القديمة. سمعت عنه الأساطير وحكايات ألف ليلة وليلة. الشبق في العيون، والذهب السائل في بطن الأرض، وأنا في غرفتي الباردة بغير تدفئة، أنتقل من قطار إلى قطار تحت الأرض. موظفٌ صغير في شركةٍ صغيرة أتطلَّع لابنة المُدير. أحببتها فرفضتني، وتزوَّجت امرأةً رفضها غيري، تكبرني بعشر سنوات، وصدرها أملس بغير أثداء، ردفها نحيلٌ ضامر، ورأسها كبير، وعقلها ساخن، والرحم بارد. تلد الكتاب وراء الكتاب، ولا تؤمن إلا بأطفال الأنابيب. قلت لها: أعظم امرأة ليست من كتبت أعظم كتاب، إنما من ولدت أعظم رجل. قالت: مريم العذراء ولدت ابن الله، وأنا فقدت عذريتي في الطفولة ولا أُومِن بالمسيح. قلت: وبماذا تؤمنين؟ قالت: أُومِن بعقلي وبأي شخص يُخاطب العقل وليس الرحم. وقلت: عوضي على الله والمسيح. وبقيت معها أُدفئها في الشتاء وتُبردني في الصيف. وفي الصباح أجري في السراديب تحت الأرض. أركب قطاراتٍ طويلةً ضيقة كأنابيب الأطفال. الناس محشورة كقطع السردين. ويحملني السُّلم الآلي، أترك له جسدي وأغمض عيني. يلفحني الهواء فوق سطح الأرض. أجري فوق الأسفلت من فوق رأسي مظلة المطر. أدخل إلى مكتبي أنفض الماء عن معطفي، وأساوي شعري في المرآة. لن يدق جرس التليفون بصوتٍ أنتظره، لا رجل ولا امرأة. لم أعد أنتظر أحدًا إلا صوت المدير؛ هذا التقرير عاجل، هذا الخطاب هام، أين الملف؟ عشرون نسخة من هذه الورقة، اطلب هذا الرقم، احجز لي في هذه الطائرة، اكتب هذه المذكرة. أصابعي تتحرك وحدها فوق الأزرار، دقاتٌ مُتكررة كدقات الساعة، لا جديد، لا حب، لا صداقة، لا وقود، لا أمل، واليأس أيضًا راح.
قلبي جدره ثلجٌ أبيض. كوب القهوة بارد في يدي. جدران غرفتي داكنة؛ لونٌ رمادي قاتم تشوبه زرقةٌ باهتة. منذ عشرين عامًا لم أجدِّد الطلاء. ادَّخرت مبلغًا من المال، نويت تجديد الطلاء في عيد الكريسماس. جاء العيد وذهب ولم أجدد الطلاء. أرسلوا الصواريخ في الليل، لن تُبقي الحرب النووية على جدار، فما بال الطلاء؟ جداري خالٍ من الصور، لا أب ولا أم. صورة أبي في خيالي كما وصفته لي جدَّتي يرتدي الزي العسكري. بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى حملني واختفى في جوف البحر. رست السفينة عند جبل الثلج. تركني مع أمه وسافر إلى حربٍ أخرى. مات دون أن يحكيَ لي قصة ولادتي، وجدَّتي لم تعرف شيئًا. وإذا سألتها تقول: كنت طفلًا وسيمًا داخل الأنبوبة. وفي أحلامي أسبح في الأنبوبة باحثًا عن أمي، يبتلعني حوتٌ ضخم وأصحو من النوم مبلَّلًا بالعرق.
أطراف أصابعه مثلجة حول الكوب، قهوةٌ سوداء بغير لبن، يبتلعها كل صباح على معدةٍ خاوية. شهيَّته للطعام راحت، وشهيَّته للحب راحت وشهيته للقراءة. لم يعد يقرأ إلا عنوان الصفحة الأولى في جريدة الصباح، ينتظر خبرًا واحدًا من ثلاث كلمات: إعلان الحرب النووية.
الساعة التاسعة إلا خمس دقائق. لم أعد قادرًا على النهوض، ولماذا أنهض؟ ليس خارج غرفتي إلا الشارع الأسفلت والمطر وسراديب الأرض، وقطارات كأنيب الأجنَّة الصناعية، والسُّلم الآلي يستسلم له جسدي، والأزرار أدقُّ عليها بأصابعي، وصوت المدير تقريرٌ عاجل، خطابٌ سريع، اكتب هذا، لا هذا الملف. مقعد في الطائرة الدرجة الأولى بدون تدخين. هو يُدخن لكنه لا يُحب رائحة دخان الآخرين. دعاني مرةً على العشاء. قال إنه مُعجَب بذكائي. وعيناه على امتداد ساعة العشاء تمتدُّ إلى جسدي. بعد العشاء حوَّطني بذراعَيه. أبعدت وجهي عن أنفاس دخانه. قلت: أشكرك على الحب، لكني أحبُّ شخصًا آخر. سألني: امرأة أم رجل؟ قلت: ليس من حقك أن تعرف شيئًا عن حياتي الخاصة، وماذا يهمُّك من أحبُّ إذا كنت لا أحبُّك أنت؟ ولم أكن أحبُّ أحدًا، لا امرأة ولا رجل. تحرَّرت من الحاجة إلى الحب. تحرَّرت من الانتظار، والوعود دون تحقق. لم يعد جسمي ملكًا لأحد، ولا أريد أن أمتلك أحدًا. لا زلت أحتاج إلى مبلغ من المال كل شهر، أسدِّد إيجار الغرفة وأشتري القهوة والخبز. إذا فقدت وظيفتي فلن يكون لي موردٌ آخر. وحين حوَّطني بذراعَيه في اليوم التالي همست في أذنه بالحب، وسألني هل أنت بخير، وجهك غير الأمس. وتذكَّرت أنني مريض، وفي حلقي مرارة القهوة السوداء. قال: هل ذهبت إلى طبيبٍ نفسي؟ قلت: لا. قال: اذهب؛ فهذه أعراض الاكتئاب.
سألني الطبيب النفسي عن حياتي. حكيت له كل شيء. قال: علاجك السفر؛ فأنت في حاجة إلى دفء الحب والشمس، وجريان المال بين أصابعك. وأعددت الحقيبة وقلت لزوجتي سأسافر. قالت: إلى أين؟ قلت: إلى العالم الآخر. قالت: أي عالم آخر؟ وأشرت بطرف إصبعي إلى الخريطة. ارتدت نظارتها السميكة كقعر الزجاجة، وقالت: وراء البحار هناك؟ قلت: سأعود إليك محمَّلًا بالجواهر. قبَّلتها فوق فمها الخالي من الشفتين، وانطلقت بدونها إلى حبي القديم وحياتي الجديدة. قلبي يخفق لرنين الذهب، وفي المرآة أرى نفسي الملك شهريار. أغتصب كل ليلة عذراء، وقبل الفجر أقتلها قبل أن تقتلني.
•••
من الجو لمعت الأرض تحت الشمس كبحرٍ من الذهب وهضبة خضراء بين النهر والبحر. هبطت الطائرة بعد الغروب، وملأت أنفي رائحةً عتيقة، عرق وشحم وجاز مُحترق، دخان في الجو والوجوه رمادية. لغة الكلام لا أفهمها، وعيون خالية من الشبق. كُتلٌ مربَّعة من اللحم داخل عباءات سوداء. أطفالٌ وجوههم كالعجائز، وعيونهم يأكلها الذباب. رجالٌ يرتدون الجلاليب هجموا عليَّ وأنا خارجٌ من المطار. يتنافسون على حمل الحقيبة وكلٌّ منهم يشدُّ ذراعي. دفعني أحدهم داخل التاكسي، واندفعت حقيبتي من ورائي. انطلقت السيارة في الظلمة وأبواقٌ كثيرة تزعق. أصواتٌ تدوِّي كالصواريخ أو مدافع الحرب. توقَّفت السيارة عند الإشارة الحمراء، وهجم أطفالٌ يمسحون الزجاج بالفوط الصفراء. مدُّوا أياديَهم السمراء المشقَّقة تحت وجهي. طردهم السائق بصوتٍ غليظ. وصلت إلى الفندق مهدود الروح. قلت: هل سأل عني أحد؟ قالوا: لا. قلت: أنتظر موعدًا مع الإمام. قالوا: إنها ليلة العيد، والإمام يخطب، والعالم كله في إجازة. قلت: وماذا أفعل حتى تنتهيَ الإجازة؟ قالوا: لا شيء؛ فالأماكن كلها مغلقة. قلت: ألا يمكن أن أرى شيئًا هذه الأيام؟ قالوا: يمكنك أن ترى العذراء؛ فقد ظهرت في الكنيسة القديمة، قرب الجامع الجديد، وكل الناس هناك. وقبل أن أقرِّر شيئًا دفعني أحدهم داخل التاكسي، ووجدتني أسير نحو الكنيسة، وأنا أرسم فوق صدري الصليب، الأب والابن والروح القدس. لا أكاد أصدِّق عيني. أجساد البشر كيومِ الحشر تجمَّعوا من كل الأنحاء، رجال ونساء وأطفال، جالسون على الأرض أو الكراسي القش.
جلاليب الريف وبدل الأفندية. نساءٌ محجَّبات ونساءٌ نِصف عاريات. وجوهٌ شاحبة مريضة، ووجوهٌ مُتوردة تفيض حياةً. عيونهم مرفوعة نحو قبَّة الكنيسة ينتظرون ظهور العذراء. قرءوا في الصحف خبر ظهورها. كل من فاته رؤيتها العام الماضي جاء، والأجانب أيضًا جاءوا يشهدون المعجزة، وإلى جوار كل منهم كلبٌ أسود. عينا الكلب مرفوعتان نحو القبة مليئتان بالخشوع. همس رجلٌ في أذن جاره: أيدخل الإيمان قلوب الكلاب؟ ردَّ الرجل: ولمَ لا؟ قال الجار: إذا عرفت الكلاب الوفاء، فلماذا لا تعرف الإيمان؟! وهذا الكلب من أجود الأنواع، مُستورَد من وراء البحار، كشف الله عنه الحجاب، ويعرف المُذنب من البريء، يأكل كبد الحوت ويبتسم في الصورة. ويقول الرجل الأول: لم نرَ في بلادنا كلبًا يبتسم. ويقول الرجل الثاني: بلادهم غير بلادنا، وكلابهم غير كلابنا. قُوًى عظمى، كفانا الله شرَّها، يُرسلون إلينا الموت في علب الأكل. وصواريخ تدكُّ المدن تحت الأرض، وطائرات تُسافر إلى القمر. يندهش الرجل: القمر؟ عيناه تتعلقان بالقمر. لا زال القمر معلَّقًا في السماء بدون أعمدة في الأرض. لا زال الله أقوى من القوى العظمى. الله فوق الجميع. أعندهم رجالٌ سافروا إلى القمر؟ أي والله، وامرأة أيضًا سافرت إلى القمر. تزداد دهشة الرجل: امرأة؟ ويقول الرجل الثاني: أي والله امرأة. ولا يُصدق الرجل الأول: امرأة؟ وما شكلها؟ وهل لها ثديان مثل النساء عندنا؟ مثل زوجتي وزوجتك؟ وهل سافرت وحدها بدون رجل معها؟ بدون محرم؟ ويقول الرجل الثاني: وحدها تمامًا سافرت بدون محرم وبدون حجاب؛ فالقمر ليس فيه رجال، فلماذا تتحجب؟ لا يوجد على سطح القمر رجال، أو هناك رجالٌ من نوعٍ آخر لا تُثيرهم مفاتن الحريم. تزداد دهشة الرجل: إذا لم تُثِرهم مفاتن الحريم، فماذا يُثيرهم؟ ويقول الرجل الثاني: الله أعلم بما يُثيرهم يا أخي. وقد انتصف الليل ولم تظهر العذراء. لماذا تأخَّرت في الظهور؟ غيَّرت رأيها وظهرت في بلادٍ أخرى. لم تكن تختار من بلاد العالم إلا بلادنا. وإذا لم تظهر عندنا فأين تظهر؟ نحن لا نؤمن بابنها المسيح، وقد تظهر في بلادٍ أخرى، لكنها ظهرت بالأمس وهي لا تُفرق بين المؤمنين بالمسيح أو المؤمنين بمحمد؛ فهي لا تشجع الفِتن الطائفية. وفي الصحف قرأنا خبر ظهورها، ورأينا صورتها منشورةً فوق قبة الكنيسة. ألم تقرأ الصحف؟ لا؛ فأنا لا أعرف القراءة، لكن أليست العذراء مريم روحًا بغير جسد؟ نعم إنها روحٌ طاهرة. وهل تنشر الصحف صورة الأرواح؟ ولمَ لا يا أخي؟ إنها صحف الإمام، وهي قادرة على كل شيء.
وصرخت طفلةٌ مشلولة تحملها أمها، وانتفضت واقفةً على قدمَيها، وهبَّ الجميع واقفين مهلِّلين مكبِّرين باسم الله والعذراء، ووقف الرجلان مع الواقفين وكبَّرا مع المكبِّرين، وهمس الرجل الأول في أذن الثاني: هل ظهرت العذراء؟ وصاح الثاني: طبعًا، ألا تراها؟ انظر! ونظر حيث ينظر الناس فوق قبة الكنيسة. وحين لم يرَ شيئًا ارتجَّ جسده مُتصورًا أنه أعمى. طرد الشك وحملق في الظلمة، وصاح مع الناس: رأيتها رأيتها.
هز الإمام رأسه علامة الإعجاب، وقال: مشروعٌ عظيم يُحول جبل الرمل إلى جنة عدن. منحني لقب الخبير وميناء يُطل على البحر، ولم يكن أمامي إلا التوقيع باسمي فوق العقد. قالوا: ما اسمك؟ قلت: «جوزيف.» قالوا: في الأصل كان «يوسف»، وعليك تغيير الاسم. قلت: ليكن اسمي «يوسف»، وعوضي على الله والمسيح. قالوا: أتؤمن بالمسيح وليس الرسول محمد؟ قلت: يمكنني ترك المسيح من أجل المشروع. قالوا: ما اسم أمك؟ قلت: لا أعرف، وأنا من أطفال الأنابيب. قالوا: ما هي الأنابيب؟ قلت: إنها الأرحام الجديدة تُنتج الأطفال الأبرياء من الإثم، بغير جنس ولا نكاح ولا جماع، اللهم إلا التلقيح الصناعي. قالوا: أعوذ بالله من الشيطان. هذا محرَّم بأمر الإمام؛ فهو الزنا والفاحشة وخلط الأنساب. قلت: وما ذنبي وكنت جنينًا في بطن أنبوبة، لا أعرف شيئًا عن الزنا والفاحشة. قالوا: عليك بالتطهير من الإثم وإعلان التوحيد والإيمان بالله والرسول. قلت: آمنت بالله والرسول من أجل المشروع، لكن ما هو التطهير؟ قالوا: قطع جزء من الجلد فوق رأس العضو. قلت: كل شيء ممكن إلا قطع جزء من جسمي. قالوا: لا بد من التطهير إذا أردت بركة الله ونجاح المشروع. قلت: ليكن التطهير وقطعة من الجلد لا تُساوي شيئًا إذا جاء الذهب.
وجاء الحلَّاق يحمل الحقيبة، وحدث التطهير بالقطع بالمشرط دون مخدِّر إلا زجاجة خمر، وأقبل أطفالٌ كثيرون يرغبون التطهير، ووجدت نفسي الكيبر الوحيد المختون بين الأطفال، وأخفيت وجهي في الأرض، وأعلنت إيماني في الصحف، وأطلقوا عليَّ اسم الخبير المؤمن، وكل صباح أرى صورتي داخل برواز، ورأيي منشور كأنه دستور، ولكل سؤال جواب، ولكل مشكلة حل، والحل الناجع الوحيد هو العودة إلى حظيرة الدين والإيمان بالله والرسول. قالوا: والإشعاع النووي ما علاجه؟ قلت: الصلاة وصوم رمضان. قالوا: ومشكلة الغلاء والجوع؟ قلت: قطع يد السارق وتحجيب النساء. ومنحني الإمام لقب الفيلسوف وضاعف الله لي الربح. وفي نهاية العقد حملت حقائب الذهب، وهربت بالطائرة دون دفع الجمرك، ومعي كاتي حبيبتي القديمة.