الحب القديم
من شرفة الحريم الوردية بلون الشمس أطل على الهضبة بين البحر والنهر. اتَّسعت مساحتها وامتدَّت إلى المحيط، ومن خلف النهر أرى الجامع الكبير في المنخفض حيث كان بيت الأطفال، ومن خلفه المسرح العائم، وكان بيت السعادة وراء الخرابة في الخندق، وبينهما المستشفى الحربي في الطريق إلى الجبهة، وشرفاته الزجاجية تلمع تحت الضوء، ومن خلفها أطبَّاء الجيش يضحكون ويُصفرون للبنات في بيت الممرضات، وفوق رءوسهم القبعات العسكرية، وفي أيديهم بنادق أطفال يصطادون العصافير من فوق الشجر، وفي جيوبهم «بمب» العيد. يُمسك الواحد منهم بمبةً ينفخها في يدَيه ويضربها في الأرض، تنفجر مُفرقعةً في الجو، ويدوِّي الهتاف وصواريخ العيد. وصوت الإمام يُلقي خطبة النصر، وأنا واقفةٌ في شرفة الحريم تحوطني باقات الورد، وتلميذات المدارس كالملائكة البيضاء يرقصن، ونساء الجمعيات الخيرية واقفات كالغربان السوداء يُصفقن، والأمهات المثاليات وشهداء الحرب والشهيدات الصف وراء الصف، وهو واقفٌ فوق المنصة يُتهته وعيناه نحو الله، والهتاف يدوِّي كطلقات الرصاص، ووجهه المطاط يسقط بين قدمَيه يُخفيه في الأرض، وأنا أخفي وجهي أدعو الله والرسول أن تبتلعني الأرض، وأدعو المسيح وأمه العذراء أن أصبح الروح القدس. أحلِّق في الجو بغير جسد تراه العيون، وأعود إلى أمي أختفي في الرحم، وأصعد السُّلم القديم جريًا وأمي عند الباب تنتظرني، تتلقاني ذراعاها الممدودتان وتقول: تأخَّرت، أين كنت؟ وأقول: كنت عند الرجل الغريب. تقول: ولماذا يا ابنتي تُعطي حياتك للغريب؟ وأقول: معه العرش والخدم والجواري، وأنا تعبت من غسل الصحون والابتسام في وجوهٍ لا تبتسم والاعتراف بأب لا يعترف. وتقول: غسل الصحون يا ابنتي أخفُّ من غسل الجسد بعد الموت، واعتراف الأم أفضل من اعتراف الأب. وأتركها لأجريَ في الطريق القديم في نهايته البيت الصغير بجوار الكنيسة أدقُّ الباب، وقلبي يدقُّ الدقة وراء الدقة، وينفتح الباب عن وجه المسيح. أعرفه ولا أخطئه، وهو يعرفني ولا يُخطئني. تتلقاني ذراعاه ويقول: تأخَّرت، أين كنت؟ وأقول: كنت عند زوجي الإمام. ويقول: أتخونيني مع زوجك يا «كاتي»؟ وأقول: ليست خيانة يا «جوزيف»؛ فأنا أحبك أكثر، وأنا معه وحين أعانقه أغمض عيني، وأراك أنت بين ذراعي. ويقول: أنت حبي الوحيد، ومن بعدك لم أحب إلا الرجال أو نساءً بغير أثداء يلدن الكتب. وفي النوم أنشد الحب، لكن الحب لا يأتي، وتأتي مكانه غيبوبةٌ تُشبه النوم، تفتح العقل للنسيان دون إغلاق العين. نومٌ ثقيل يُشبه الموت دون ضياع الذاكرة. ولا أنساك ولا أنسى المسيح ولا اسمي ولا جسدي دون الجرح. وأقول: أي جرح؟ ولا يقول شيئًا ويُعانقني، وأراه في المرآة المستديرة فوق سرير الإمام يُعانقني. يصبح داخل المرايا كأنما هو مائة رجل يُعانقونني في آنٍ واحد، وأعانقه من جديد كأنما أعانق رجال الكون. وأضع يدي على الجرح، مُلتهب تحت السروال بعد التطهير، وله رائحة الخشب القديم. وأقول: كانت لك رائحة الشجر الأخضر. ويقول: كان ذلك أيام الحب، لكنك تركت الحب من أجل الذهب، وجئت وراءك أفعل مثلك. وعانقني داخل المرايا وأنا أمسح عرقي بالعطر. تشمَّمه بأنفه وسألني: هل غيَّرت عطرك؟ قلت: إنه العطر القديم، لكن جسدي لم يعد له رائحة الطفولة. وأسندت رأسي إلى مسند السرير، ووضعت الوسادة بين رأسي والسرير، وسرت الرائحة في جسدي أغسلها بالعطر دون جدوى، لا تذهب عني رائحة الموت. وقال لي: ما عليك، أنا أحبك أكثر وأنت فوق العرش، ولا تغيِّري منك شيئًا، ولا تُخفي التجاعيد والشيخوخة. واهتزَّ الكأس المثلج في يدي، وانسكب الخمر فوق السرير، وضحكت كطفلةٍ تسكب كوب اللبن، لكن البقعة فوق الملاءة لونها قاتم، لا تضيع بالغسيل ولا التطهير، وجسدي في الفراش ثقيلٌ مُترهل أرفعه بصعوبة، وأمشي لأجلس فوق مقعد العرش. أخفي جسدي خلف المكتب الضخم، وأحتمي في الورق والكتب، وأرى اسمي منقوشًا بالفضة فوق غلاف لم أفتحه، وزوجي اسمه منقوش بالذهب فوق كتاب لم يكتبه. ويدخل الإمام تفوح منه رائحة الخمر وعرق المرأة الأخرى، ولا أقول شيئًا؛ فأنا لست المرأة الوحيدة في حياته، وهو ليس الرجل الوحيد في حياتي. هربت إليه من الفقر، وهو يهرب إليَّ من الفشل والهزيمة. تسري في جوفي مرارة الحقيقة، ويحوطني الإدراك من كل جانب كالهواء الساخن، وذرَّات التراب تدخل أنفي، ومقعد العرش لا أعرف أين ذهب، وهو راقد إلى جواري يده ممدودة إليَّ يُحاول أن يُمسكني، ويدي ممدودةٌ نحوه أحاول أن أعانقه، والمسافة بيننا تتَّسع كلما نقترب؛ فإذا تلامسنا وتعانقنا أصبح أبعد مما كان، وأنا أبعد مما كنت. وأحوطه ويحوطني دون جدوى؛ فالمسافة قائمةٌ منذ أول عناق. وفي الفراش الناعم كنت أحب القراءة قبل النوم. يزحف نحوي وفي يده الكأس يحدِّثني عن أحداث اليوم. يقول شيئًا وأقول شيئًا، ويدور بيننا حوار لا يخلو من لذة. وحين يحوطني بذراعَيه تختفي اللذة. أفضِّل حديثه على عناقه، كأنما بين جسده وجسدي حوارٌ مقطوع أو لغةٌ غير مفهومة. وفي الحديث يفهمني وأفهمه، نتبادل الكلام ونأخذ ونُعطي. وفي العناق يختلُّ التعادل؛ فهو حركةٌ من طرفٍ واحد وهجوم مُباغت، وانسحاب مُباغت كأنما اللذة حرام، والشهوة عبءٌ يحمله فوق جسده يود الخلاص منه بخبطةٍ واحدة. وفي المرآة أراه راقدًا في السرير على شكل رجلين؛ أحدهما الإمام، والثاني صورة طِبق الأصل. وفي بهو القصر أراه سائرًا ومعه البودي جارد، وفي الليل حين يُعانقني يختلط عليَّ الأمر، وأقول: هل أنت الإمام أم البودي جارد؟ ويقول: أنا الإمام. وأقول: إنه يُشبهك تمامًا، ولا أكاد أعرف الأصل من الصورة. ويقول: أنا أقوى منه عقلًا، وهو أقوى مني جسدًا. وكلما تقدَّم بي العمر يكبر عقلي ويضعف جسمي، وأنت شابَّة في عمر ابنتي، وأخشى أن أعود من السفر كما عاد شهريار فأجد في فراشك البودي جارد. وقلت: من هو شهريار؟ قال: ألا تعرفين شهريار؟ ألم تقرئي كتاب ألف ليلة وليلة؟ قلت: لا. قال: أنت إذن لا تعرفين التراث، وهذا نقصٌ في الثقافة، وعليك بالقراءة. وغادَر السرير وسار بخطواتٍ بطيئة نحو المكتبة. وقف طويلًا أمام الكتب يقرأ الحروف فوق الأغلفة بصعوبة، ومن الانحناءة الخفيفة في ظهره تأكَّدت أنه الإمام وليس البودي جارد، وأدركت أنني أعرفه من ظهره أكثر مما أعرفه من وجهه، وأصابني الإدراك بصدمةٍ لا تخلو من لذة؛ فالإدراك وإن كان قاسيًا أفضل من الجهل، وخيرٌ لي أن أعرفه من ظهره من ألا أعرفه على الإطلاق. سِرت نحوه على أطراف أصابعي، وحوَّطته بذراعي من الخلف، أحبُّه من ظهره أكثر مما أحبه من وجهه، وأحبه أكثر وهو غائب.
واستدار مُبتعدًا عن الكتب وفي يده كتابٌ كبير يحمله بصعوبة إلى السرير. يُثبت النظارة فوق أنفه تتدلى منها سلسلةٌ ذهبية. يُغمض عينَيه حين يقرأ وينام والنظارة فوق رأسه، وفمه نصف مفتوح يرتِّل آية الكرسي يطرد الشياطين وأرواح الجان، والكتاب بين ذراعَيه يحتضنه كالمرأة يعشقها. وفي الظلمة يتسلل من الفراش ويذهب إليها. أراه من حيث لا يراني وهو يُعانقها. تُصيبني الرؤية بألمٍ لا يخلو من متعة؛ فالرؤية رغم قسوتها أفضل من عدم الرؤية، والاكتشاف كاللذة الآثمة أختلسها وحدي دون أن يراني. ولا أشعر بالغيرة أو الغضب، وإنما هو الإحساس بالذنب، كأنما أنا أخونه أكثر مما يخونني، وأستمتع بعناقه للمرأة الأخرى أكثر من عناقه لي.