الكاتب الكبير
في الصف الأول وأنا واقفٌ تحت الضوء إلى جوار الإمام، والهتاف يدوِّي في أذني، وصواريخ العيد تُفرقع، لم يكن يفصلني عن مقعد العرش إلا جسد رئيس الأمن عن يميني، وجسد المُعارض الشرعي عن يساري، وأنا واقف بينهما كنقطة الوسط بين حبلَين مشدودين. إذا ارتخى اليمين مِلت برأسي إلى اليسار، وإذا اشتدَّ اليسار أرخيت عنقي ومِلت بجسدي إلى اليمين. وأنا واقفٌ مرفوع الظهر أرتدي بدلة العيد بلون البن المحروق من الصوف المستورد، دليل ولائي لليمين، وربطة عنق حمراء دليل تعاطفي مع اليسار، وفي يدي القلم أمسكه كالعصا من المنتصف، وأثبت قدمي في مركزٍ فوق الأرض بين حزب الله وحزب الشيطان، وأظل واقفًا في نقطة التعادل فوق قدم واحدة، أثبتها لا أحرِّكها، ومهما اهتزَّت الأرض لا أحركها؛ فالرجل منا إذا وضع قدمه في الصف الأول لا يتركه، وإن سقطت السماء على الأرض أو سقط وجه الإمام من فوق رأسه إلى تحت المقعد؛ فالأقدام كثيرة، والمكان ضيق، وما إن يُحرك الواحد منا قدمه حتى تحتلَّ مكانَه قدمٌ أخرى، وكل قدم تدفع القدم أمامها في كعبها، وكل كوع ينغرس في البطن خلفه كالمسمار، وأنا واقف في مكاني لا أتحرَّك، ورأسي مُتوازن مع جسدي، وجسدي في وضعٍ عمودي مع الأرض، ووجهي ناحية الإمام، والإمام وجهه الناحية الأخرى. لا ينظر إليَّ، وأنا أنظر إليه. وكان الوضع معكوسًا في المدرسة وهو جالس إلى جواري في الفصل، ينظر إليَّ وأنا أنظر إلى الناحية الأخرى، وكان ترتيبي الأول وهو من خلفي، وإذا مشيت يسير ورائي. سبحانك مُغيِّر الأحوال. جعلته يسير أمامي، واللهم لا اعتراض على البلاء، ولا يُحمَد على مكروهٍ سواك، وإن كنت أُومن يا رب أنك لا تخلق إلا الخير، والشيطان يخلق الشر. أستغفرك يا رب. فالشيطان ليس خالقًا، والخالق هو أنت لا شريك لك، لكن لماذا يا رب تضع سرك في أضعف خلقك، وتُعطي الحكم لمن لا يُفكر، وتُعطي الفكر لمن لا يحكم؟ وهذا هو البلاء، والبلاء شر. إذا جاء من عند الله فهو امتحان، وعلينا القبول والطاعة. وتذكر كلام الله وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً. وإذا جاء الشر من عند الشيطان وجبت المقاومة والعصيان، لكن كيف نعرف من أين يأتينا البلاء، من عند الله أم من عند الشيطان؟ اللهم لا اعتراض، ولا أحد سواك يجعل البلاء خيرًا، والخير بلاءً. سبحانك مغيِّر الأحوال. وكنت أنا بالأمس قويَّ الجسد ضعيف الروح، وأصبحت بعد النضوج ضعيف الجسد وروحي صعدت إلى السماء. ولم تعد زوجتي الشرعية الأخيرة تقرأ ما أكتب. ترفض قانون الطاعة والشريعة وتُجادلني في المقدسات. تضع رأسها برأسي وعقلها بعقلي. وهذه بدعة لم أعرفها مع زوجاتي القديمات الشرعيات وغير الشرعيات المُستديمات منهن والمؤقتات. لم يكن صوت الواحدة منهن يعلو على صوتي، وإذا ضحكت تضع يدها على فمها وتستغفر الله، وإذا ضربتها حسب الشريعة للتأديب لا تعرف الشكوى، وإذا تسلَّلت من فراشها إلى عشيقتي تتظاهر بالنوم، وإذا كانت نائمة أصلًا غابت في نومٍ أعمق، لكن هذه الزوجة الأخيرة تفتح عينها وهي نائمة، وسواد عينَيها أسود بلون وجه الشيطان، وتضحك بصوتٍ عالٍ أعلى من صوتي، وتُلقي برأسها إلى الوراء بحركة لم أصل إليها بعد، وتُقهقه بكل رئتَيها طاردةً الهواء من صدرها وبطنها، ويرنُّ صوتها في أذني أكثر انطلاقًا من صوتي حين أقهقه، وأدرك أن في أعماقي هواءً مكبوتًا منذ الطفولة أحاول أن أطرده دون جدوى، وصوتها وهي تضحك وتُقهقه يُثير فيَّ الغيرة أكثر مما يُثير الشهوة، وأتركها فوق السرير عارية وأجري إلى عشيقتي. تُحاول أن توقظ ذكورتي دون جدوى بالخضوع والاستماتة وهي تحتي، وتقول لي إنها الشيخوخة وقوة الروح، أو موات الجسد ويقظة العقل. وأعارضها وأقول بل هو غياب الدين والأخلاق وخلع النساء برقع الحياء. وتُطلق بأنفها صوتًا كحشرجة الشخير أول النوم، وتستدير فيصبح ظهرها ناحيتي ووجهها ناحية السماء. أرتدي سروالي وأعود إلى زوجتي فلا أجدها في الفراش، وأرقد وحدي أحملق في السقف، وأرى وجه أبي معلَّقًا داخل البرواز فوق الجدار. وجهٌ مُستدير مليء باللحم مُشرَب بالدم والحياة كوجهي، وأنفه مُستقيمٌ عاقل يُشبه أنفي، يؤكِّد دون شك أبوَّته لي وإخلاص أمي له. رأسه مُتزن مع جسمه في وضعٍ عمودي كرأسي دون انحراف إلى اليسار أو اليمين. خير الأمور الوسط يا ابني. لكنه لم يعرف الوسط مع أمي، يضربها بالنهار وفي الليل تضربه. أسمعها تئنُّ طول اليوم، وفي ظلمة الليل أسمعه يئن، ويقول: يا ابني، الرجل منا مع المرأة ضارب أو مضروب، عابد أو معبود، ولا وسط بينهما. وتقول أمي: يا ابني، المرأة منا مع الرجل إما زوجة محترمة غير مرغوبة، أو عشيقة مرغوبة غير محترمة، ولا وسط بينهما. وتطفو فوق وجهها سحابةٌ رمادية بلون الشبورة، وتنام ووجهها للحائط، وأبي ينام ووجهه ينام ناحية الله في السقف، وأنا بينهما فوق السرير العريض أتكوَّر حول نفسي كالجنين، وأسمع صوت أبي يقرأ كتاب الله قبل أن ينام، ويردِّد آية الكرسي ثلاث مرات يطرد الشياطين وأرواح الجان. وإذا غلبه النوم مدَّ يده تحت الوسادة ووضع كتاب الله إلى جوار المسدس، هدية من العيد من أبيه وهو طفل، يتحسَّسه بأطراف أصابعه وهو نائم إذا سمع نباح الكلب. وإذا تحرَّكت غدة الشيطان تحت سرواله وهو نائمٌ مدَّ إليه يده اليمنى، ويده اليسرى تمتدُّ إلى أمي من تحت الملابس، وتلمح أمي طرف المسدس من تحت الوسادة فتخلع ملابسها وهي تستغفر الله، وتستعيذ بالله من الشيطان والإثم، وتتوضأ خمس مرات بالماء والصابون، وتصلِّي لله سبع ركعات قبل أن تنام، وتلفُّ رأسها بالحجاب وتُغمض عينها وتروح في النوم كالملائكة الأطهار. وأغيب أنا في نومٍ عميق كالأطفال، لا أسمع ولا أرى إلا الأشباح وأرواح الجان، ويغمرني الخوف من كل جانب كالهواء البارد، وأثبت جسدي في منتصف السرير لا أتحرَّك إلى اليمين أو إلى اليسار، وأبتعد عن جسد أبي وجسد أمي، أخافهما، هما الاثنان، ومع الخوف تتسرَّب الكراهية إلى جسدي تحت الغطاء في الهواء. ومهما عانقتني أمي أبتعد، ومهما أحبَّني أبي لا أحبه. وكان أبي شيخ طريقة يكتب للنساء الأحجبة في الغرفة المظلمة. مهنةٌ فرضها عليه أبوه ليحقِّق في عالم الدين ما لم يحقِّقه في مزرعة الأرانب والفراخ. يعلِّق في رقاب النسوة كلام الله داخل حجاب تتدلى منه خرزةٌ زرقاء. يدخل إلينا باللحم والخضار، وفي جيوبه القروش تفوح بعرق النساء. وأغلق الباب على نفسي أذاكر دروسي، ويوم الامتحان أتذكَّر الصلاة، أسجد لله ثلاث ركعات وأطلب منه النجاح، يسمع الله دعائي وأنجح العام وراء العام.
•••
كنت أعيش النجاح لا أعرف الفشل ولا الهزيمة. يتساقط الكاتب وراء الكاتب وأنا في مكاني إلى جوار الإمام ثابت. لا أكفُّ عن الكتابة ولا أقرأ ما أكتبه، وأنظر إلى صورتي داخل البرواز. والنهار أقضيه كمساحة من العمر بين الحلم والحلم، والليل طبقات من النوم أقضيها في السهر مع الإمام، نشرب نخب الصداقة القديمة، ونتسلل في الظلمة معًا إلى بيت السعادة. وفي الحفلات والأعياد أقف إلى جواره أسمعه وهو يُتهته تحت الشمس، وعين السماء مفتوحة بألوان الطيف والناس تهتف، وأدرك أن في الكون إرادةً فوق إرادة الشيطان تدفعني إلى دخول حزب الله والهتاف مع الناس، وأتلفَّت حولي وأنا واقفٌ تحت الضوء أبحث في الكون عن هذه الإرادة فوق إرادتي. لا أعرف من أين تأتي؛ فهي تأتي من مكانٍ خارج كياني، من قبة السماء أو من بطن الأرض، من الشوارع أو الأزقَّة والحواري، من البيوت كالقبور ومن فوقها الدخان، من عيون الناس المكسورة، من وجوه الأطفال يُغطيها الذباب، من العَلم المرفوع يوم الهزيمة، من صواريخ العيد تدوِّي في أذني كطلقات الرصاص، وأنا واقف إلى جوار الإمام وقدمي فوق الأرض ثابتة لا أحرِّكها. أخشى إن حرَّكتها أن يضيع مكاني. وأرى عين السماء فوق الرءوس ترعاها. وحين سقط وجه الإمام من السماء إلى الأرض تظل السماء كما كانت، والهتاف يدوِّي وصواريخ العيد تُفرقع، وأنا راقد إلى جواره أخفي وجهه في الأرض كأنما لم أرَ شيئًا، وكأنما الإمام الجديد ليس هو القديم؛ فالوجه هو الوجه ولم يتغير إلا الجسد، وهو إلى جواري راقد، وأمام عيني سحابةٌ شفَّافة كالضباب، وذرَّات تراب تدخل أنفي، ورأسي لم يعد مُتوازنًا مع جسدي، وجسدي لم يعد في وضعٍ عمودي مع رأسي، وقدمي دفعتها قدمٌ أخرى واحتلَّت مكاني. عيناي تتحركان من تحت الجفون المغلقة ناحية اليمين واليسار، ولا أثر لأحد من حزب الله أو حزب الشيطان، وجسد الإمام أيضًا اختفى، وأنا راقدٌ وحدي تحت عين السماء، وملمس الأرض تحت صدري بارد، وصوت أبي يدوِّي في أذني كصوت الإمام، وأنا أمدُّ إليه بصري لكن بصره ممدود إلى الناحية الأخرى، ويسري الفشل في عروقي كالدم البارد، وأغمض عيني في راحةٍ أبدية. أستنشق التراب على مهل لا أتعجَّل الموت، وفي عنقي مفتاح الجنة لا أتعجل السعادة أو الفردوس، وفي خيالي سبع وسبعون حوريةً شقراء وسمراء لا أعرف كيف أختار، وفي حلقي يسري الموت بطيئًا لا يخلو من اللذة، أرشفه على مهلٍ رشفةً رشفة كالخمر. أوله مر، وآخره حلو. وأضحك بصوتٍ عالٍ وأقهقه طاردًا الهواء من صدري وبطني، ويرنُّ صوتي في أذني أكثر انطلاقًا من صوت زوجتي الأخيرة. لم يعد في أعماقي هواءٌ مكبوت منذ الطفولة، ولا شيء يُثير فيَّ الغيرة أو الشهوة. شبعت من شهوات الدنيا حتى الزهد، ولم يبقَ على وجهي إلا بسمة الملاك.
•••
حملوه في الصندوق المُزركَش إلى زوجته الأخيرة، وعلى ظهر الصندوق اسمه بالبنط العريض، وصورة داخل برواز يبتسم فيها كالفتاة العذراء. وظلَّت هذه الابتسامة في ذاكرة الزوجة الأخيرة تكشف لها عن أعماق زوجها الحزينة، وعن ظهر قلب حفِظتها كدليلٍ مادي على أنه قادر على الحزن. لم تكن تسمعه إلا وهو يضحك ويُقهقه، وجمعهما الحزن وهو غائب كالحب. كان يغيب العام وراء العام وهي تذكره. وفي كل لقاء تحوطه بذراعَيها فينزلق من بينهما كالسمكة. تُحاول الإمساك به دون جدوى. تُخرج يدها من البحر خاويةً ولا ترى منه إلا الصورة داخل البرواز، وحروفه المطبوعة فوق الصحيفة لا تقرؤها ولا هو يقرؤها، ولا أحد يقرؤها إلا الإمام. وفي الليل تراه راقدًا مفتوح العين يرمق أنف الطفل النائم بعيونٍ يملؤها الشك. الأنف ليس أنفه ولا أنف أبيه ولا جده. يُمسك أنف الطفل بين أصابعه كمن يقبض على دليل الخيانة. يفتح الطفل في الظلمة عينَين واسعتين تتَّسعان لخوف العالم، يُغمضهما على الفور حين يرى عين أبيه حمراء كعين الشيطان. وسمع أباه يسأل أمه: ابن من هذا؟ قالت أمه: ابن الحب. وأدرك وهو طفلٌ أنه ليس ابن أبيه. أغمض عينَيه ونام في سعادة حتى الصباح.