دليل البراءة
كان واقفًا ممشوق الظهر رأسه في السماء تحت الشمس، فوق جبينه علامة الإيمان، وفوق صدره نجمة النصر، وفي أذنه يدوِّي الهتاف «الله معك». يهتزُّ رأسه من شدة الدوي، ويرتخي وجهه، وينحني ليسقط بين قدمَيه وهو يخطب، وعن يمينه رئيس الأمن، وعن يساره المُعارض الشرعي وكاتبه الكبير، وصواريخ العيد تُفرقع. رأسه لم يعد عاليًا تحت الشمس، ووجهه يتَّجه ناحية الأرض وذرَّات التراب تدخل أنفه، ورئيس الأمن ينظر إليه في صمت كأنما لم يحدث شيء. يفتح فمه ليسأل قبل أن ينسى السؤال: إيه جرى في الكون؟ ويفتح رئيس الأمن فمه ليرد: ولا حاجة يا فندم كله تمام والله معك. ويرتجُّ جسده بالغضب. معي إيه يا أعمى ألا ترى؟ ويشدُّ رئيس الأمن جفنَيه ليفتح عينَيه ويشد النني من داخل العين، وينظر حوالَيه في الظلمة يلمحها تجري كالغزال، ويضم عضلات شفتَيه مطلقًا زمارة الخطر. تنشق الأرض عنهم جميعًا من حزب الله وحزب الشيطان. يأتون من جميع الأركان يتدافعون بالمناكب ويتراشقون بالاتهامات، ومن خلفهم كلابهم تنبح، وأمامهم رئيس الأمن يجري وفي يده الكشافات، وهم من خلفه يجرون. لا يعرفون لماذا يجرون، لكن الأمر صدر، وحين يصدر الأمر فلا سؤال ولا جدال؛ فالجدل بدعةٌ أجنبية لم ترد في التراث، ومن أحدث في أمرنا ما ليس في التراث فهو فتنة، والفتنة أشد من القتل، ولا يُجادل في ذلك إلا كافرٌ بالله خائن للوطن والإمام. وإذا صدرت الخيانة من الأنثى فهي تزيد عن الكفر وخيانة الوطن إلى الفاحشة وفقدان الشرف. والشرف عندنا هو الأرض، والأرض هي العِرض، ولا شيء أثمن عندنا من امتلاك أجساد نسائنا، فلا يتسرب الشك إلى قلوب الرجال في النسب. تظل الأبوة معلومة باليقين، ويتم الفصل بين الطفل الشرعي والآخرين المجهولي الأب. ولا يجوز لطفلٍ أن يكون ابن أبيه إلا باعتراف أبيه، وإذا أنكر الأب ابنه فليس للابن حق إلا الصلاة والصوم والتكفير عن الذنب. وذنب البنت ضعف ذنب الولد، وفي غير ذلك من الحقوق يكون للبنت نصف حقوق الولد.
•••
أقدامهم من خلفها تدبُّ بأحذيةٍ حديدية، وأنفاسهم تلهث، ومن خلفهم كلابهم تلهث. وهي تجري لا تعرف لماذا تجري، والظلمة داكنة. وفي الضوء البعيد ترى أمها واقفةً تنتظرها وصوتها يُناديها: بنت الله، تعالَي. ذراعاها ممدودتان نحوها لا يفصلها عنها إلا ثلاث خطوات. قفزت الخطوة الأولى والثانية، ولم تبقَ إلا الأخيرة. وتوقَّفت عند منعطف الطلعة بين البحر والنهر، تملأ صدرها برائحة المكان حيث وُلدت وحيث تموت. أصابتها الطعنة من الظهر، وقبل أن تسقط وتنسى الحروف استدارت وقالت: ما هي جريمتي وأنا عذراء لم يمسسني بشر؟ قالوا: الأنثى إذا ماتت وهي عذراء تدخل الجنة، ولن نُرسلك إلى العالم الآخر إلا وأنت غير عذراء.
•••
مسح رئيس الأمن العرق وهو يلهث بمنديلٍ حريري من أجود الأنواع، ومسح الطابور من خلفه العرق بمناديل أقل جودة. كلابهم من خلفهم مسحت العرق بكفوفها السمراء المشقَّقة دون مناديل. دوَّت أصوات السلاسل تُجلجل بصوتٍ عالٍ كدويِّ الهتاف في عيد النصر وجلاجل الضحك في يوم الزفاف، وهي بين السلاسل تزحف كخروف العيد، وعين السماء حمراء تحت الشمس، والملائكة في الأثواب البيضاء تُصفق. حزب الله على الدفة يضرب، وحزب الشيطان على الدفة يرقص. وهي مربوطة في الأرض. ذراعاها مفتوحتان، وقدماها مشدودتان؛ قدم إلى أقصى اليمين، والقدم الأخرى إلى أقصى اليسار، وفي نقطة الوسط حيث علامة الشيطان يقذفون الحجر وراء الحجر. وهي في مكانها ثابتة لا تتحرك. وجهها نحيلٌ شاحب، وعيناها واسعتان تتَّسعان لثبات العالم، والنني أسود بلون الليل، وعقلها صافٍ كماء النهر.
في الغرفة المظلمة في بطن الأرض ظلَّت عيناها مفتوحتين لا تكفَّان عن الرؤية، وذاكرتها واعية لا تفقد الوعي. وجه أمها كوجه الله لا يغيب، وصوتها الناعم في أذنها يُنادي: بنت الله، تعالَي. ترفع عينَيها إلى السماء، ويختفي وجه الله بين السحب، ويظهر وجه الشيطان، مليء بالشعر، وجلدة الرأس حمراء تحت الشمس. وتسمع صوت رئيس الأمن يقول: ما اسمك؟ قالت: اسمي بنت الله. قال: اسمك في حد ذاته جريمة كفر. من أعطاك هذا الاسم؟ قالت: كانوا يُنادوني في بيت الأطفال بنت الله، وكانت لي اخت اسمها نعمة الله ماتت وهي طفلة، وكان لي أخٌ اسمه فضل الله مات فداء الوطن، فهل لك أخت ماتت وهي طفلة أو أخٌ مات في الحرب؟ قال: ما اسم أخيك بالضبط؟ قالت: اسمه فضل الله. هز رأسه ومسحه بالمنديل الحرير مرتين، واستعاذ بالله ثلاث مرات، وقال: أنا أعرفه، وله عندي صورة في الملف، وليس له اسم في حزب الله أو حزب الشيطان، وهذا دليل على أنه ليس واحدًا منا، ومن ليس منا فهو تلبيس إبليس. قالت: مات أخي فداء الوطن، وحاربت معه في خندقٍ واحد، ورأيته بعيني وهو يُحارب الأعداء. قال: ماذا قلت؟ كنت معه في خندقٍ واحد؟ قالت: نعم. قال: أنتما الاثنان فقط؟ قالت: نعم. قال: إنها جريمةٌ أخرى، لا يجتمع رجل وامرأة في خلوةٍ غير شرعية إلا والشيطان ثالثهما. قالت: إنه أخي. قال: أنت أخته في الرضاع، وحبكما حرام. قالت: لم يكن لنا أم ولا مُرضعة، وشربنا لبن الجاموسة معًا في بيت الأطفال. قال: جاموسة أو امرأة سيَّان؛ فهي تُرضع ولها أثداء، وهو أخوك في الرضاع بأمر الإمام، وعقابك الرجم حتى الموت. قالت: أنا بريئةٌ عذراء ولم يمسسني أحد. قال: سنكشف عليك لنرى دليل العذرية؛ فلا براءة بغير دليل مادي.