نداء الأم
في طفولتي وأنا نائمةٌ كان الله يزورني، وله صوتٌ حنون كصوت أمي. وحين سمعت دويَّ الطلقات ورأيت صورة الإمام تسقط بدأت أجري. لم أكُن أخاف الموت؛ فالموت أمره سهل إذا حدث في لحظةٍ خاطفة؛ فصل الرأس عن العنق بضربة سيف، اختراق الرصاصة القلب بطلقةٍ واحدة. أما الموت البطيء فهو الرعب الحقيقي؛ يربطونني بالحبال داخل حفرة في الأرض، يقذفونني بالحجارة حجرًا وراء حجر، يومًا وراء يوم، خمسين يومًا أو مائة أو ألفًا، وإن مات جسمي فلن تستسلم روحي. يُرهقهم الرجم بالأحجار قبل أن أموت، تنزف أيديهم الدم قبل أن تفرغ شراييني، تمتصُّ روحي ذرَّات التراب والرمل، يتحول جسدي إلى صخرةٍ يرتد عنها الحجر. ومن بعيدٍ أرى الصخرة مُنتصبةً فوق الهضبة بين البحر والنهر، واقفة في الظلمة تنتظرني، منذ ولدتني وهي واقفةٌ تنتظرني، عشرون عامًا وهي لا تزال منتصبة وظهرها مرفوع، صوتها كالهمس، كحفيف الهواء والشجر، كالنداء الخافت ينبعث من بطن الأرض: بنت الله، تعالَي. كانوا يُسمونني بنت الله، وكلبي اسمه مرزوق، رافقني منذ ولدتني أمي، ظل معي حتى النهاية، لا يعرف القراءة ولا الكتابة، لم يقرأ كلمة الله، لكنه الوحيد الذي يعرف الحقيقة، يعرف أنني بريئة من دم الإمام. وكيف أقتله وهو أبي المجهول، ولولاه (بالإضافة إلى أمي المجهولة) ما كان وجودي؟ لم يعرف أحدٌ أنني ابنته إلا أمي ومرزوق. رآها وهي راكعة فوق الأرض تنشج ببكاءٍ مكتوم، ورآه وهو يخرج هاربًا في الظلمة. عرف وجهه وحفظ ملامحه، أصبح كلما رأى صورته معلَّقة في الجو ينبح بصوتٍ عالٍ. لم يفهم الناس نباحه؛ فالناس لا تعرف لغة الكلاب، لكن الكلاب تفهم لغة البشر، ولها مثل البشر ذاكرة تحفظ التاريخ. وظل مرزوق يحفظ شكله وهو يخرج هاربًا. جرى خلفه وأمسكه من الخلف. مزَّق سرواله من فوق الإلية اليسرى، واستقرَّت قطعة من القماش الدمور بين نابَيه. لونها كاكي كملابس عساكر الجيش، ورائحتها عرق وعطر رخيص. ترك القطعة وراءه وانطلق يجري خائفًا من الكلب، قدماه وهو يجري لهما وقعٌ مسموع، في كعب حذائه حدوةٌ من الحديد. لم يكفَّ عن الجري ووجهه نحو السماء، أمله في الله كبير، انصرني يا رب على أعدائي وحقِّق لي آمالي. عيناه الجاحظتان مملوءتان بالآمال العريضة. شفتاه سميكتان فيهما نهمٌ لامتلاك الكون. عرشٌ في السماء وعرشٌ في الأرض. قصرٌ يُطل على البحر في الصيف، وقصر الشتاء في الجنوب، وقصرٌ في الجنة تجري من تحته الأنهار وغلمان وحور. طرف لسانه جافٌّ وظمؤه شديد. فمه مفتوحٌ يلهث ويجري بلا توقف. حرمانه قديم منذ الطفولة لا يهدأ، ورغبة الامتلاك كالمرض المُزمن لا تشبع، والأمل في الله بغير حدود. علامة الإيمان فوق جبهته دائرة محفورة مرسومة، في يده اليمنى مسبحةٌ حبَّاتها صفراء، فوق ردفه الأيمن الجراب الطويل داخله السيف، يده اليسرى فوق الردف الأيسر تُخفي الثقب في السروال.
اختفى في الظلمة يُتمتم بآيات الحمد لله. أنفاسه تفوح بالخمر وعرق امرأة فقيرة. ارتفع نباح مرزوق في الليل، لم يسمعه أحد. كانت صواريخ العيد تُدوي في الآذان، والإمام يخطب في مُكبرات الصوت. يبدأ باسم الله وينتهي بالصلاة على النبي. يتفرقون بعد الخطبة ويختفون في البيوت، في رءوسهم نشوة النصر، وفي حلوقهم مرارة الهزيمة. يظهر في الشوارع رجالٌ يحملون السكاكين، كلٌّ منهم يُنادي بصوتٍ عالٍ: جزَّار. ويعمُّ الصمت والوجوم، ثم يرتفع من كل بيت صراخ الضحية، ودخانٌ كثيف، ورائحة شواء اللحم. بعد الأكل يرتدون الملابس الجديدة، وأحذية في كعبها حديد كالحدوة. يدبُّون فوق الأرض حامدين الله على النِّعم. في اليد اليسرى مسبحة، وفي اليد اليمنى حجر. حان موعد رجم الشيطان.
ربطوها بالحبال، صنعوا من حولها دائرة، تسابقوا في الرماية وإصابة الهدف، نقطة الوسط فوق علامة الشيطان، الفائز الأول له وسام الشرق وقصرٌ صغير بجوار قصر الإمام وحوريات.
الأرض من تحتها باردة، رائحة تراب في أنفها، مربوطة في الأرض، صدرها مكشوف، الركبتان والذراعان مفتوحتان، في أذنَيها صوت الطبول، صواريخ العيد، ضحكات الأطفال والبالونات الملونة. تفتش في وجوه الأطفال عن وجه ابنتها، تلمح الوجه الصغير الشاحب، تُلوح لها بيدها وتُنادي بصوتٍ كالحفيف: بنت الله، تعالَي.
منذ ولدتني أسمع نداءها مع حركة الهواء وأوراق الشجر. صوتها في ذاكرتي نقشٌ فوق الحجر. واقفة في الظلمة بلا حركة، صخرة على شكل تمثال، مُتشحة بغلالةٍ سوداء تُخفي معالم الجسم. من حولها دائرة ضوء مجهولة المصدر. يداها الكبيرتان فوق صدرها، تُخبئان شيئًا عن الكون. أصابعها مُنقبضة على موضع القلب. ملامح الوجه ثابتة في ارتخاء. وهبَت حياتها دون مقابل. ألم الاكتشاف في العينين. الصدمة راحت ولم يبقَ إلا الحزن، كالضوء أو الرؤية الجديدة للكون. جسمها نحيل بريء من اللحم، كالروح أو الخيال، بلا حاجة إلى حركة أو لغة. ملموسة باليد داخل كتلة من الهواء. رأسها مرفوع. فقدت كل شيء ولم تخسر نفسها، على شفتَيها ابتسامة. عرفت السر وهتكت حُجُب السماء. عذابها محفورٌ فوق عظام الوجه. عيناها واسعتان مملوءتان بالبريق، ترقبان انطفاء الضوء الأخير.
وأغلق حارس الإمام آخر أبواب القصر. تمتم بآية الكرسي يطرد الشياطين وأرواح الجان. دبَّ السكون في الليل. نام الإمام ونامت عيونه، الشياطين نامت، والملائكة نامت، والآلهة نامت، وأوراق الشجر نامت، وهي لا تزال واقفة تتلفَّت حولها. لا أحد يراها. انثنى جسمها وكاد رأسها يُلامس الأرض. انتزعت من صدرها الشيء المخبوء. ساوت الأرض بكفها الكبيرة الحانية مثل كف الله. أبعدت قِطع الطوب والحصى. فرشت الأرض بترابٍ ناعم كصدر الأم، وأرقدتني.
كنت نائمة. وجهي شاحب يُطل من فتحة ثوب أبيض. عيناي مُغمَضتان. صدري يعلو ويهبط في أنفاس الأطفال العميقة. يدي تُطل من فتحة الكم مفتوحة الكف. ابتهال في النوم كالنداء الصامت. خلعت شالها الصوفي الأسود وحوَّطتني. لامست يدي إصبعها فأمسكته بأصابعي الخمس لا أتركه. تركت إصبعها في يدي طويلًا بطول الليل، بطول النفس العميق في صدر الأم، ثم بدأت تسحبه شيئًا فشيئًا، والدم ينسحب من قلبي قطرةً قطرة. ارتجَّ جسدي لحظة الانفصال، وصحوت من النوم. رأيتها واقفة تُطل عليَّ، رأسها في السماء وعيناها نجمان يلمعان في الليل، ثم استدارت، ظهرها مرفوع، خطوتها واسعة، لا سريعة ولا بطيئة، تُحرك ذراعَيها في الهواء كأنما تملك الهواء. ابتعدت شيئًا فشيئًا ثم اختفت دون أن ينقص حجمها.