انتظار الأم
كان الصوت يدوِّي في أذني كالصمت، وأنا واقفٌ تحت لهيب الشمس ورأسي عارٍ. ألمٌ غامض في صدري كالجرح أو الثقب الغائر حتى القلب، وباب العالم الآخر مغلق، والعالم الأول والثاني والثالث والرابع كلها تسير بدوني، وجماهير الناس تهتف لغيري، وصواريخ العيد تُفرقع، وحارس الجنة لا زال ينظر في جواز سفري، عيناه تفحصان صورتي من تحت نظارة سوداء، يسألني السؤال وراء السؤال. قلت: معي توصية من النبي، وأريد لقاء الله. وسألني: هل عندك موعدٌ سابق؟ قلت: لا، ولكنه سيعرفني حين يرى وجهي. وسألني: أهي مقابلةٌ شخصية أم لمصلحةٍ عامة؟ قلت: لمصلحةٍ عامة. وسكت عن الكلام، لم أعرف ماذا أقول. قال: المصلحة العامة لا تكون سرًّا. يرمقني من تحت النظارة السوداء بنظرةٍ مُتشككة، كرئيس الأمن يتدخل فيما لا يعنيه. تركني أمام الباب أنتظر طويلًا، وأمسك في يده سماعة التليفون، وانهمك مع امرأةٍ في حديثٍ هامس، يضحك ويُقهقه بصوتٍ عالٍ ويُخاطبها بلغة المذكر. انتظرت صامتًا لا أعكِّر عليه صفوته، وحين انتهى رآني واقفًا وقال: أتزال هنا؟ قلت: أرجوك دعني أقابله. قال: لماذا تريد أن تُقابله؟ قلت: لأطلب تأجيل موتي عامًا واحدًا. قال: عامٌ كامل؟ يا لك من مُفترٍ. قل شهرًا أو شهرين. قلت: يا سيدنا رضوان لن يكفيَ شهر لإعادة تسليح الجيش، وتسديد الديون، ومقاومة الهزيمة في نفوس الناس. لا أريد هذا العام من أجل لذائذ الحياة الدنيا، ولكن من أجل الله والوطن.
دقَّ جرس التليفون، وبدأ الحديث مع امرأةٍ أخرى بصوتٍ عالٍ حادِّ النبرة، وأنهى الحديث بسرعة، وعرفت أنها زوجته الشرعية. قلت قبل أن يدقَّ التليفون مرةً أخرى: لا زلت أنتظر أمرك يا سيدنا رضوان. وكان قد انهمك في قراءة الأوراق فوق مكتبه، ورفع إليَّ عينَيه من تحت النظارة السوداء، وقال: فوت علينا بكرة. وأسعفتني تجاربي الماضية في مثل هذه المواقف مع حراس الأمن، وأخرجت من جيبي شيئًا على شكل الهدية، وقلت: خذ هذه هبة مُضاعفة قدِّمها لسيدك، واستعجله كي يُقابلني اليوم؛ فأنا وقتي ضيق، وعليَّ أن ألحق بالطائرة. نظر رضوان في الساعة وهو يدس الهبة في جيبه، وقال: لم يبقَ على الطائرة إلا دقائق، ويمكنك الإسراع، وسأرسل إليك استدعاءً بالبريد إذا تركت لي عنوانك. ورمقته بنظرةٍ مُتشككة، لكني عدت وتذكَّرت أنه سيدنا رضوان، ولا يمكن أن يكذب، وإذا وعد فلا بد أن يفيَ بوعده. وتركت له عنواني وصرت أجري إلى المطار، وفي أعماقي إدراك أنه لن يرسل إليَّ شيئًا، وتجاوزت مرحلة اليأس وأبطأت السير، ولم يعد يهمُّني أن تفوتني الطائرة، وجلست مُرهقًا، وما إن وضعت رأسي على الأرض حتى نِمت، ولم أسمع صوت الطائرة حين هبطت ثم أقلعت بدوني، وصحوت وأنا أعرف أن لا شيء سيأتيني، ولن يبعث إلي رضوان بالرسالة، وأنا أيضًا لم أتوقَّعها، وإذا رأيته قادمًا نحوي ومعه الرسالة فلن أصدِّق أنها لي أنا، وإذا كانت لي فلا بد أن هناك خطأً في حسابات الله، وإن رأيته قادمًا وفي يده الرسالة فلن أمدَّ يدي لآخذها، وسأقول له: استمِرَّ في طريقك؛ فأنت تبحث عن رجلٍ آخر غيري، ولا يمكن أن تكون الرسالة لي؛ فأنا لا أستحقها. وابتسمت في راحةٍ هانئة زاهدة في كل شيء حتى لقاء الله، وقلت: يا ربي أريد حقي فقط دون زيادة أو نقصان، وقد امتلكت الشجاعة لأعلن على الملأ تطبيق شريعتك، ونفَّذت أحكامك كلها، وحدود الزنا والسرقة وإلقاء الخمور في النهر، ولم يملك أحدٌ شجاعتي ممن يتقرَّبون إليك وعيونهم تُبربش، وأصواتهم تهمس، فلا أحد منهم يقف إلى جوارك بمثل ما وقفت، ولا يُطبق شريعتك بمثل ما طبَّقت.
أمسكت وجهي بيدي وعيناي تدمعان، ولم أسمع الصوت من خلفي يأمرني بصوتٍ عالٍ: انهض وارفع ذراعَيك إلى أعلى. ولم ألتفت ورائي مُدركًا أن لا أحد يُخاطبني بهذه اللهجة الآمرة إلا من هو أعلى مني. ونهضت رافعًا ذراعي غير مُستدير مُنتظرًا الطعنة في ظهري، لكن الصوت أمرني بأن أستدير، ولم أصدِّق أن أحدًا حين يرى عدوه من ظهره يُعطيه الفرصة للاستدارة؛ فالاغتيال من الظهر أسفل من الاغتيال من الوجه، ولا يعني الأمر بالاستدارة إلا الاستهانة بالرجل، والاستهانة بالرجل العادي أشد من الإهانة، فما بال الإمام؟! ولم أستدِر ولم أعطِه وجهي؛ فأنا أريد أن أموت إمامًا مُغتالًا وليس إمامًا مهزومًا. وبقيت في مكاني واقفًا رافعًا عيني وذراعي إلى فوق، ثم سقطت مُنكفئًا على وجهي وفوق شفتي ابتسامة المُقاتل حتى آخر رمق، والزاهد في شهوات الدنيا حتى الموت. سمعت حفيف الشجر في أذني، ونقيق الضفادع كاللحن الراقص، ونسمة الليل رطبة مُنعشة محمَّلة برائحة البحر، وأنا ثابت في مكاني لا أجري ولا ألهث؛ فالوقت ليس ضيقًا، ولن يفوتني شيءٌ هام أو غير هام، ولا أشعر بألم ولا يأس، ولا أفكِّر في حزب الله أو حزب الشيطان، ولا أرى أحدًا إلا نفسي حين كنت طفلًا وأمي تُرضعني، واللبن دافئٌ ناعمٌ يسيل من زاوية فمي، وفجأةً تُصيبني الشرقة، وتصدر عني الشهقة. أفتح فمي وأغلقه، وأرفس بيدي وقدمي في الهواء، ووجهي أزرق مُختنق، وأكاد أموت في تلك اللحظة، فلا يكون في الدنيا إمام ولا خليفة الله في الأرض، لولا أن أمي تضربني بكفها المشقَّقة الكبيرة فوق ظهري، وتطرد اللبن من قناة الهواء، أو تطرد الهواء من قناة اللبن، ويعود الدم إلى وجهي، ويعود إليَّ الوعي، فأرى وجه أمي وتعود ذاكرتي فجأةً، وأدرك أنني لم أرَها منذ عشرين عامًا. أنهض فوق قدمي أسدُّ الجرح بيدي أمنع نزيف الدم، وأسير في الطريق القديم أعرفه لا أُخطئه. أدقُّ بابها الخشبي الداكن، وأسمع الصرير كالساقية العتيقة، ومن وراء الباب أسمع صوت بطن قدمها تزحف فوق الأرض، وصوتها في أذني أعرفه لا أخطئه: مين؟ وأقول: أنا. ومن وراء الخشب أسمع قلبها يدقُّ، وأنفاسها تلهث، ويدها الكبيرة ترتعد وهي تفتح الباب، ودموعها كالسحابة البيضاء فوق عيون تُبربش بغير رموش، وظهرها محني. كانت رموشها طويلةً حين رأيتها في آخر لقاء، وظهرها مرفوع، وقالت تحوطني بذراعَيها ودموعها تُبلل البدلة الرسمية من الصوف الغالي: عشرون سنةً يا بُني لا أراك؟ وقلت: مشاغل يا أمي، ومشاكل بغير حل لا يقدر عليها إلا سبحانه. قالت: وجهك مخطوف يا ابني كأنك لم تأكل منذ عشرين عامًا؟ وسارت إلى المطبخ بخطواتها السريعة القديمة وظهرها القديم المرفوع، وجسمها خفيف لا تكاد قدماها تُلامسان الأرض، وعادت تنظر إليَّ بعيونٍ تلمع بالفرح، أهدابها طويلة، وفوق يدَيها تحمل الصينية عليها الفطير وعسل النحل وحليب الصباح. أقبلت نحوي تسير وأنا جالسٌ فوق الكنبة القديمة بجوار النافذة، حيث كنت أجلس وأنا طفل، أرقب النجوم وأرى وجه الله بين السُّحب كوجه أبي. وسمعت ضربات قلبها وهي تقترب مني، وعيناها تلمعان بالفرح، ويداها تهتزَّان، والصينية فوق يدَيها تهتز، ولم يبقَ بينها وبيني إلا ثلاث خطوات، ورأسها من الفرحة يدور، والدنيا تدور به، وخطت الخطوة الثانية، ولم تبقَ إلا الخطوة الأخيرة، ومدَّت قدمها إلى الأمام لكن قدمها لم تمتد. رأيت جسمها يسقط وهي واقفةٌ أمامي، لا تبعد عني إلا امتداد الذراع. ومددت ذراعي لأمسكها لكن يدي لم تمتد، والمسافة بيننا تمتد. وكلما أمدُّ ذراعي لأحوطها تزداد بيننا المسافة، وتصبح هي أبعد مما كانت، وأنا أبعد مما كنت.