الله مع الإمام
سمعت الطلقات بأذني وكنت رافعًا عيني نحو عرش السماء. هي لحظةٌ واحدة غفلت فيها عن عرش الأرض. انتهز غفلتي وأطلق النار. لم أرَ وجهه ولم أعرف من هو على وجه التحديد. واحد من أعضاء حزب الشيطان. أعرفهم وجهًا وجهًا وأعرف رئيسهم. كان مُهملًا منسيًّا، فأخرجته من الظلمة إلى النور. منحته الوجوه من العدم وأصدرت الأمر، فأصبحت رئيس المُعارضة الشرعية. قلت له: تُعارض كل القرارات إلا قراراتي؛ فأنا الحاكم الوحيد فوق الأرض والرئيس الأعلى لحزب الله، وأنت لك قصر في ميدان الحرية، ومعونة شهرية، وجريدة يومية، ومقعد في مجلس الشورى والبرلمان.
رأيته يبتسم ووجهه أشرق. كان زميلي في المدرسة، يُغمض عينَيه ويحلم بصورته منشورةً في الصفحة الأولى. حلمٌ يتكرر كل يوم، وأنا مِثله يُراودني الحلم ذاته، والصفحة الأولى لا تنشر إلا صور رؤساء الدول، أو رؤساء الأحزاب، أو صور السفَّاحين والسفَّاحات والحاملات السفاح. وفي المدرسة كان يجلس إلى جواري وسرواله من الصوف الغالي، وسروالي مثقوب من الخلف أُخفيه بيدي. أبي كان فلَّاحًا فقيرًا يراني في الحلم خفيرًا في بلاط الإمام. أبوه كان غنيًّا سافر للتعلم وراء البحار. عرف اللغات الأجنبية، وارتدى ملابس الأفندية. تزوَّج امرأة تؤمن بالمسيح ولا تعرف العربية، شقراء بيضاء الساق، يشفُّ بياضها من تحت اللحم كحوريات الجنة. أرمقها بعين محروم لم يعرف في حياته المرأة.
عرفت من النساء كثيرات، لكن الفقر يحوطني كجلدي، والخوف من الجوع يُلازمني، ومهما أكلت لا أشبع، ومهما أمنت المستقبل لا آمن، وكل يوم أرى صورتي منشورة في الصحف، معلَّقة في كل مكان تحت الأضواء، وأُغمض عيني ليُراودني الحلم القديم؛ أن أجلس على عرش الأرض والسماء. منذ الطفولة وأنا نائمٌ أرى الله. له وجه أبي مليء بالتجاعيد؛ خطوط الزمن والجدري القديم. فوق النني الأسود في عينه اليمنى نقطة بيضاء بقايا الرمد الصديدي. يرتدي جلباب الفلاحين وطاقية رأس منحولة الصوف. يُناديني بصوت أبي الجهوري: يا إمام. وأقول: نعم يا ربي. سأعطيك الرزق بغير حساب في الدنيا والآخرة بشرطٍ واحد، وأقول: ما هو يا ربي؟ يمدُّ يده نحوي قابضًا على شيء. أصابعه سمراء مشقَّقة كأصابع أبي. يفتح أصابعه وأرى المسبحة حبَّاتها صفراء، ثلاث وثلاثون حبة، إذا حرَّكت الحبة الواحدة ثلاث مرات يكون عددها تسعًا وتسعين. مع كل حبة اذكر اسمًا من أسمائي. هذا هو أمري، ومن لا يُطيعك عليك بهذا. ما هذا؟ وشدَّ من جرابٍ طويل في جلبابه سيفًا لامعًا، وكاد بوزه الحاد يدخل صدري. تراجعت إلى الوراء، وفي حركة التراجع فتحت عيني وصحوت من النوم. رأت أمي وجهي شاحبًا وفي قلبي رعدة. قالت: ما لك يا ابني وجهك ليس هو وجهك؟ قلت لها: رأيت الله. قالت: خير، فلماذا ترتعد؟ قلت: كان معه سيف، وكاد السيف يخترق صدري. بصقت في فتحة جلبابها الأسود وقالت: إنه الشيطان وليس الله. انهض واغتسل وصلِّ ليغفر الله لك.
أمي كانت تُصلي الفجر قبل أن تذهب إلى الحقل، وتعود بعد المغرب لتُصلي العشاء. أبي لم أرَه يركع ركعةً واحدة، وفي رمضان يأكل ويشرب ويُدخن الشيشة، ويُوزع لياليه بين أربع زوجات بغير عدل، يُعطي الزوجة الأخيرة ثلاث ليالٍ، وأمي ليلةً واحدة، وأسمعه يقول: يغفر الله الذنوب جميعًا إلا أن نُشرك به. إلهٌ واحد في السماء هو الله، وحاكمٌ واحد فوق الأرض هو الإمام. قبل أن يموت زار قبر الرسول في مكة، ثم عاد يرتدي عباءةً بدل الجلباب، وسمعته يقول: زيارة قبر النبي تمسح الذنوب ولا يبقى منها شيء. ومات أبي طاهرًا بغير ذنوب. وقبل أن تموت أمي قلت لها: لماذا لا تزورين قبر الرسول لتلحقي بأبي في الجنة؟ قالت: باع أبوك المحصول ولم يُعطني شيئًا، ليس معي ثمن التذكرة إلى مكة. ولم تمسح أمي ذنوبها. مسحت دموعها بكفها وقالت: إذا فتح الله عليك يا ابني أبواب الرزق، فاشترِ لي تذكرة إلى قبر النبي. قلت: هذا وعد يا أمي لن أنساه. ونسيت الوعد ونسيت وجه أمي. مضت السنة وراء السنة، عشرون سنة دون أن أراها. كانت تسكن في بيتٍ بعيد في أقاصي الجنوب، وأنا أرفع رأسي ناحية السماء، لا أرى إلا الله وأعضاء حزب الله. نسيت أن هناك حزبًا آخر هو حزب الشيطان، ولولا أمري ما كان له وجود ولا شرعية. قلت لنفسي: إذا لم يكن هناك شيطان بين الناس فلن يكون هناك خوف، وإذا لم يكن هناك خوف فلن يبقى حاكم ولا إمام فوق العرش، وهو يلعب في مجلس الشورى دور المعارضة. يقول لا أمام الناس، وفي أذني يقول نعم. ورث عن أبيه الأرض والمال ولم يبقَ أمامه إلا الشهرة ودخول التاريخ. زار الرسول في قبره وأطلق على نفسه اسم الحاج. قلبه خالٍ من الإيمان، وزوجته لا تعرف التوحيد. ترسم الصليب على صدرها وتركع للثالوث، الأب والابن والروح القدس، بيضاء كالشهد، ممشوقة كالغصن، تتكلم سبع لغات. يتفاخر بها أمام الناس، وتجلس إلى جواره في الحفلات. زوجتي كنت أُخفيها تحت الحجاب، وفي الشارع تمشي ورائي. لا تكتب ولا تقرأ كتاب الله. ناقصة العقل مملوءة بالشحم. رأسها صغير وردفها ثقيل. مخلوقة من ضلعٍ أعوج بلا حسب ولا نسب. تزوَّجتها قبل أن يفتح الله لي أبواب الرزق، جمعنا الفقر كالرباط المقدَّس، وبعد اعتلاء العرش لم تعد الزوجة القديمة تُناسب حياتي الجديدة. وفي مجلس الشورى قالوا: الإمام له الحق في بيتٍ جديد، وزوجةٍ جديدة، وعباءةٍ جديدة من أجود الأنواع. وجاءوا لي بالصوف المستورد الغالي، وزوجة مستوردة من أجود الأنواع، بيضاء كالشهد، وعيون بلون البحر، تتكلم لغات الأرض. قالوا: هذا حق الإمام؛ فهو أفضل الرجال، وزوجته أفضل النساء، لا تعلو عليها امرأة في جمال أو علم أو مال. تُصاحبني في رحلاتي وتنوب عني في الافتتاحات. ترتدي الزي الرسمي وتهتف مع الجماهير في الحفلات. وفي أعياد النصر تتلقى فوق صدرها الوسام، وفي الهزائم تلبس زي الممرضات، تُقدَّم لمشوَّهي الحرب «البونبون»، وتُغني مع أرامل الشهداء والشهيدات. ومن فوق أقواس النصر تُرفرف صورة الإمام، وعيناي مرفوعتان نحو السماء، رأيت الله وانكشف عني الحجاب. أُتمتم بآيات الحمد وبين الشفتَين ابتسامةٌ تتَّسع لحب الشيطان، وتُدوي في أذني الهتافات فأحرك يدي اليمنى في الهواء، وتنحني شفتي السفلى فوق ذقني بتواضع الأنبياء، وأنا واقفٌ فوق المنصة ممشوق القوام مُرتديًا وجه الإمام. فوق جبهتي علامة الإيمان، وفوق صدري وسام النصر. عن يميني رئيس الأمن، وعن يساري كاتبو الكبير ثم مُعارضو الشرعي. ومن خلفنا صفوف الوزراء ومندوبو القوى العظمى والكبراء.
الله معك. دوَّى الهتاف من حناجر الرجال والنساء وتلاميذ المدارس بزيِّ الكشاف، والبنات بملابس الممرضات، والجنود بالسراويل الكاكي، والعمال بالبدل الزرقاء، والفلاحين بالجلاليب والطواقي، وفِرق الفنون الشعبية بالراقصات والصاجات. يرتفع الهتاف والأناشيد ودقات الطبول وصواريخ العيد تملأ الدنيا بآلاف الألوان. تنطلق في السماء حمائم السلام، تتلوها الطائرات حاملات القنابل من نوعٍ انتهى مفعوله منذ مائة عام، وفي أذنَيه يسري الهتاف «الله معك»، وعيناه نحو الله تسألان: إذا كنت معي يا رب، فلماذا الهزيمة، ولماذا تحجب عني سر القنبلة النووية؟ لماذا تُعطي السر لأعدائنا الكفار وتحرم عبيدك المؤمنين المخلصين؟ أستغفرك فأنت لا تُسأل عن الحجج والعلل، هذه إرادتك وليس لي أن أعارضك؛ فالمعارضة ضررها أكثر من نفعها. وكنت أظن أن هذا الشيطان الواقف إلى جواري سيلعب دور المُعارض الشرعي في حدود إرادتي العليا، ويضع على صدري وسام الحرية والديمقراطية، لكنه افترى وتكبَّر وملأ الصحف بصورته فوق صورتي. يبتسم في وجهي كالملاك، ومن الخلف يُصوب لي الضربات. يقف إلى جوار القوى العظمى في الحفلات، ويُصوب إلى شرفة الحريم النظرات.
زوجتي الجديدة درست علم السياسة وراء البحار، ولها نظرية في الحكم وترويض الرجال. قالت: امسك العصا من الوسط ولا تضرب طول الوقت. أربِّت على الكتف مرة بحنان الأم، والمرة الثانية أضرب فوق الرأس. وأنا وأنت نتبادل الأدوار؛ فإذا ضربت أنت جئت أنا باسمة كالملاك، وإذا تهاونت أنت أو تنازلت أمسكت أنا العصا واللجام. قلت لها: عليك بالمعارضة وأعضاء حزب الشيطان. قالت: سأروِّض الرجال منهم؛ فالرجل طفلٌ بريء وإن رفع راية العصيان، والمرأة هي الحية والشيطان وإن تلفَّعت بالحجاب ودخلت حزب الرحمن. قلت: أعدائي كلهم رجالٌ يُضمرون الحقد منذ الطفولة، وبين النساء ليس لي أعداء إلا اثنتان؛ زوجة قديمة خلعتها عني مع جلبابي القديم، وابنة غير شرعية جاءت في نزوة طيش مع الخمر. قالت: زوجتك القديمة مكسورة الجناح وليس منها خطر، لكن ابنتك تُضمر لك السوء، ولن يشفيَ غليلَها إلا القتل. قلت: لا تقتل البنت أباها وإن اغتصبها كالذئب، وهي تُحبني وتعترف لي بالولاء. قالت: أنت تُحبها والحب أعمى، وأنت واقفٌ تحت الضوء، وهي خلف الصفوف في الظلمة تنتهز الفرصة لتُصوب الضربة. قلت: لن يضربني إلا عضو من حزب الشيطان، أو مأجور من الأحزاب السرية، أو عدو من خارج البلاد. قالت: أعداؤك كثيرون، وكلما رفعك الله زاد أعداؤك، ولا تخرج إلى الشارع بدون قميص الوقاية. قلت: الواقي هو الله. قالت: الله وحده لا يكفي إذا انطلق الرصاص. قلت: أستغفر الله العظيم. يا لك من كافرة لم تنزعي عن صدرك الصليب، ألا تثقين في قدرة الله على حمايتي؟ ألا تؤمنين بالله والنبي محمد؟ قالت: منذ ليلة زفافنا أخرجت من قلبي المسيح، وآمنت بك وبالله والرسول، ولكني أخاف عليك من أعدائك، والوقاية خير من العلاج. قلت: لست ذاهبًا للقاء الأعداء، سألتقي بشعبي الحبيب وجنودي الأعزَّاء، قلوبهم تفيض بالحب والولاء، وأصواتهم تهتف بحياتي إلى الأبد، ألا تسمعين الهتاف يا امرأة؟