الموال الأحمر ووهج الثورة المحبط
وتتبدى فواجع ومواجع شعوبنا غائرة الجروح والعلل إلى أقصى وأقسى مدى يمكن تصوره في الموال الأحمر، ذلك الذي مجاله الجوهري هنا هو البنية الاجتماعية الطبقية، في مجتمعات قائمة ومشادة — بالضرورة — على كل ألوان القهر وتصانيفه.
فهو يتحدث — على اعتبار أنه موال أحمر — عن ثورة متأجِّجة على الدوام، عن أناس، أو جدعان، مفتقدة للجاه وبالتالي النسب، لا موطن للهموم إلا داخل قلوبها:
وعن تصوره للحياة أو الدنيا بأنها كمثل خيال يسحب فريسته — الإنسان المعدِم — مكبلًا بالأغلال:
فمثل هذا الموال أقرب إلى بسطاء الناس من معدِمين و«هفايا» في التعبير عن قهرهم اليومي، وعللهم ومجمل آلامهم.
وعادة ما يكون لقائل هذا الموال الأحمر وجمهوره خصم، يتبدى في بعض النصوص أقرب إلى أن يكون خصمًا طبقيًّا:
وقائل الموال الأحمر يصبر على خصمه، حتى لو أنه ألقى أمامه — ككلب يقعي — بالسم، إلا أنه في بعض النصوص يصل به حقده على خصمه إلى حد:
كما أن قائل هذا الموال أو الأشعار عادة ما يكون مغتربًا، ليس ذلك الاغتراب المكاني — وإن لم يخل الأمر منه في حالة عمال التراحيل وما شابه — بل إنه اغتراب وجودي اجتماعي بحسب المنطق الصوري:
فهو هناك يجانس ما بين الغربة وبين المكتوب المفضي إلى الجبرية، موقنًا بالطبع بأن وضعه الاجتماعي، ولنقل قهره، مبعثه ذلك المكتوب الذي أراد له سلسلة اغتراباته وانحداراته، ولنقل أيضًا تقلباته من موقع الغالب المنتصر المتسيد، إلى أن أضحى مغلوبًا، مع الأخذ في الاعتبار المرادف اللغوي للغلب والغلابة والمغلوبين، من حَمَلة وجماهير الموال الأحمر.
إن «شعائر» الانتقالات من حالة لما يناقضها، ومن طبقة غالبة لأخرى مقهورة مغلوبة، هي ملمح جوهري لهذا الموال الأقرب في إيقاعاته من «العديد» أو المراثي الذاتية، وكذا البكائيات والقبوريات.
واتساقًا مع تراثنا العربي بكامله الموغل في القَدَرِية والدهرية والزمن ونكائده، يضرب هذا الموال على نفس الوتر بل والداء:
فهو عادة زمن جائر لا يُؤمَن له، ويحق الحذر منه ومن تقلباته وتراجمه وجوره:
والزمن هنا هو بعينه الدهر:
ولا حد ولا نهاية لمدى الجروح والعلل التي يحدثها ذلك الزمن الجائر وأفعاله ونكائده:
ففي معظم الحالات يتبدى ذلك الخصم أو العزول، أو العدو، أو الندل أقرب إلى أن يكون خصمًا طبقيًّا:
كذلك ففي بعض الحالات لا يبرأ من الهموم والجروح حتى إنسان غني قد يمتلك غليونًا ممتلئًا مصنوعًا من خشب الصندل المقدس:
وفي أحيان قليلة يأخذ الخصم و«العزول» دورًا جمعيًّا شاملًا كقطاع من المجتمع أو الكيان الصغير، الذي تعمل داخله وعلى أدنى وحداته التعارضات والتضاد الاجتماعي الطبقي:
وداخل رقعة هذا الموال الفلسفي الشعبي الفولكلوري، عادة ما يُشار إلى أن أولئك الخصوم والعواذل والأنذال يفتقدون الأصل، إنهم قليلو الأصل والمنابت داخل البنية القرابية:
•••
وبما أن هذا الموال مرتبط أكثر ببيئته الزراعية وحَمَلته من فلاحين وأُجَراء و«تملِّيَّة» وعمال تراحيل؛ فإن صوره الشعرية وتشبيهاته وتوسلاته التعبيرية عامة مزهرة نضرة كمثل حقول وبساتين متفتحة:
وعليه، فقائل هذا الموال الأحمر — وجمهوره — هو إنسان منسلب، والتعبير الشعبي له أنه «مسلوب» وجمعها مساليب، إنهم شباب ومراهقي الطبقات الكادحة التي لا تملك أكثر من قوة عملها بإزاء مستغليها من مُلَّاك ومقاولي أنفار عمال التراحيل، وهكذا.
فقائل هذا الموال وجمهوره، وكما يتضح بوضوح كافٍ من النصوص المنشورة، هو إنسان ممزق بعمق، يفتُّ فيه الانسلاب المتوارث، والخرافة الغيبية، منذ عصور موغلة في القدم، ويمكن القول بأن الكم الأكبر للنصوص المنشورة هنا لا تبعد بنا كثيرًا عن أشعار ومراثي ونصوص توابيت موتى متواترة بالحفظ، منذ الدولة الوسطى — ٥ آلاف عام — بنصوصها وتمزقاتها.
فالبروليتاريا منذ وجود الإنسان المستهدف للعقل هي هي بذاتها، إنها العنصر العيني في هذا المجتمع، وجانبه الموجود الخلَّاق وحقيقته الكبرى. لكن حقًّا ما العمل بإزاء انسلابها، بإزاء محنتها؛ من طبقية وفلسفية أو روحية، عبر عمليات التضليل التاريخية، والتي هدفها طبعًا افتقاد جماهير هذا الموال لقواها الكامنة، والتقبل طائعة لأغلال انسلابتها السالفة والآنية، وإسلام زمام أمورها لقوى غيبية — أو منتجات روحية — تقف جاثمة؛ من قدر ودهر وزمن والبين الباطش، الذي ستطالعنا نماذجه هو وابنته وعياله بكثرة شديدة، لدرجة دفعتني لأن أفرد لها فصلًا خاصًّا داخل رقعة الموال الأحمر، وما ينتظم تحته من موضوعات متحددة عن ذلك البين الباطش، والزمن أو الدهر ونكائده، والتمثل بالجمال وأحمالها والإفراط في العلل وذوي المواجع، كذا المواويل والمأثورات الشعرية عامة، التي تتحدث عن الرديء أو الردي، وكذا ثنائية الخسيس والأصيل ونشدان الصداقة إلى حد التقديس، بالإضافة إلى الأشعار الدينية، وأخصها أغاني ومربعات التخمير، وأخيرًا الندب والعديد أو البكائيات والمراثي؟
وكثيرًا ما يرد في ثنايا الموال الأحمر ما يشير إلى أسماء آلهة فرعونية وسامية مندثرة، والقسم بآلهة وثنية وبنيها، أو وأهل بيتها وقبيلتها.
كذلك يورد هذا الموال الكثير من الرموز والشارات الموغلة في القدم، من ذلك الجلبة أو الحلبة التي كان يُباع فيها العبيد قديمًا، وكذا أسواقهم، لكن دون إفراط.
فملامح العبيد في هذه المأثورات الشعرية تبدو ضنينة «فلم يثبت وجود العبودية في السجل الأركيولوجي لمصر في ما قبل التاريخ، وحتى في العصور التاريخية المبكرة، برغم استخدام الأسرى كعبيد» كما يشير جوردون تشايلد.
مع الأخذ في الاعتبار أن غياب «العبيدية» من البنية الطبقية الجوهرية للمجتمع المصري منذ عصوره المبكرة، لا يعني استبعاد العلاقات والتركيبات العبودية؛ ذلك أن فلولها موجودة منذ أقدم العصور ممثلة في الأسرى والنوبيين حتى أسرة محمد علي، سوى أنها غير مؤثرة في البنية الاقتصادية المصرية، بالقدر الذي تشكله مثلًا في بقية الأجزاء والكيانات والحضارات العربية، خاصة الجزيرة العربية وما بين الرافدين والسودان، وهو ما تعكسه حكاياتها وأشعارها الفولكلورية.
يُضاف إلى هذا أن بنية المجتمع المصري تشير بوضوح، في ما يعكسه فولكلوره ومأثوراته الشعرية، إلى ما هو أفدح من العبودية، وهو نظام السخرة الذي عبرت عنه قوة العمل المعجزة التي أقامت «حضارة السخرة» الحجرية الإنشائية؛ من أهرامات ومعابد ومقابر على طول وادي النيل، فهي قوة عمل جماعي تقودها أسواط المشرفين وتُستخدم في قطع الأحجار الجلمودية الجرانيتية ونقلها من أقصى مصر العليا إلى الوسطى — الجيزة وأهناسيا والفيوم — بل وحتى فاروس أو الإسكندرية القديمة، أي بدءًا من أسوان حتى الإسكندرية.
أما الفرعون أو الملك فهو في كل الأحوال تجسيد للطوطم والآلهة، وبذا تحول العمل الاختياري — في العشيرة البربرية — إلى سخرة إجبارية من أجل الدولة المشخَّصة في فرد أو الكل في واحد، مما دفع بالفرعون لأن يأخذ مكان «الطوطم» السلف المقدس أو الإله.
فلقد كان الفرعون بالطبع إلهًا منذ ما قبل التاريخ، ومنذ أول فراعين مصر «زير» و«زيت» في مقابر البداوي منذ الأسرة «صقر»، التي اكتشفها «ديزير» في أبيدوس، ومكانها اليوم العرابة المدفونة.
فلعل المكانة المتميزة إلى أقصى حد لفرعون ما قبل التاريخ، ووضعه المحاط بهالات التقديس والتابو فوق المجتمع المصري؛ لعب أخطر الأدوار على طول تاريخ مصر الاجتماعي والسياسي إلى اليوم.
إنها بمثابة «شعيرة» واصلت سريانها تحت الجلد — أو السطح — لذلك السلف العشائري سليل الطوطم إلى أيامنا للدولة المشخَّصة في فرد، كما أنها تبدَّت بوضوح كافٍ في الفولكلور المصري بعامة في إطاره العربي القومي.
فلعل جدلية هذا الموال الأحمر تتبدى في المحل الأول في مدى ما يعتمل فيه وداخله من تناقض، ويمكن القول تناقضات؛ أولًا في ما بين شكله وإحكامه البنائي وجمالياته وقدرته على الإيحاء والتركيز وبين مضمونه ومحتواه، الذي قد يصب في نهاية المطاف مجمعًا مجمل روافده لينتهي إلى تأكيد مقولات ومضامين موغلة في الانسلاب والانهزامية والاستسلام «الدهري» المتسق مع ركائز وميكانزمات العقل الغيبي.
ذلك برغم واقعيته المنكشفة حتى العظم ما بين تناوله للأوضاع الاقتصادية الطبقية المتقلبة، وبين الإفاضة في التعبير عن علل ومواجع حقيقية، أو هي فيزيقية، لأمراض تبدأ بالطبع من سوء التغذية، مرورًا بكل داءات البلهارسيا والجذام والعجز والشيخوخة المبكرة، وما ينتج عن هذه الأمراض الجسدية من عُصاب ويأس مفضٍ إلى التراخي والاستسلام، وكل عطب المخيلة والذهن القدري بانغلاقاته وضيق أفقه، والاستكانة — لمخدرات ومسكنات — للصبر، وكافة منتجات العقل الجبري المحبط بكل مخاوف وانتكاس.