الفصل الحادي عشر
أمراض الحب والعشق
بالنظر إلى أن تراثنا العربي بكامله — من تقليدي كلاسيكي، وشعبي فولكلوري — يوغل في
الإغراق في المترادفات الوحدة المتوحدة للجبرية والدهرية والقدرية والوعيدية، كما سبق
لي
أن أفضت في طرح هذا الملمح الجوهري في معظم كتبي، عن فولكلور وأساطير العالم العربي،
والأساطير والفولكلور العربية، والحكايات العربية الشعبية، وعلمنة الدولة وعقلنة التراث
العربي.
لذا لا يستثنى — بالطبع — مأثوراته الشعرية وأغانيه التي هي موضوع هذا الكتاب، عن
شقيقاتها من حكايات وأمثال وسير وملاحم، من الإغراق في بحار الدهرية والغيبية، وأفعال
الزمن والدنيا والأيام والخطوب والليالي السود، ويكثر هذا الملمح بإفراط واضح في مأثورات
الموال الجنائزي الأحمر، لكنها تصبح أقل منها في نقيضه — الدنيوي — الأخضر، المتصل بطقوس
التجميع والإخصاب، بدلًا من الغياب والتفرق — أو ما يعرف بالفُرقة، بضم الفاء.
إلا أن مثل هذا التوغل الجبري الدهري، تتزايد حدته في المواويل والمأثورات التي مجالها
وقائليها المعلولين والمجروحين بالحب والعشق، وعلى كلا الجانبين أو النوعين، سواء أكان
المعلول رجلًا ذكرًا، أو أنثى، إلا أن المأثورات المعتلة بالعشق وأمراض الحب Love Sienes، ترد بكثرة منتسبة إلى قائليها
وجمهورها الذكوري، عنها في حالة الفتاة الأنثى.
ومن أمثلتها السابقة واللاحقة الحاجة إلى الإتيان بالحبيب والعشق، سواء عن طريق طبيب
المبالي والأوجاع، أو طبيب لجراح، أو البين وأهله وعائليه،
الذين كثيرًا ما ينكلون بضحاياهم — من المعلولين — عن
طريق إيقاعهم في أمراض العشق هذه:
يا مين يجيبلي حبيبي وياخد من عيوني عين
وياخذ نص التانية واشوفو بنص العين؟
ومثل:
أنا الذي ابتليت بالغرام وستي حامله في أمي
أي إن قائل المأثور السابق كتب عليه الدهر الموت عشقًا قبل أن تولد أمه أصلًا.
ومثل:
ما ظهرت الآه إلا من عليل الحب
ومثل:
وجرح العليل ما يطيب إلا إن نظر خله
ومثل:
ياما مجاريح عاشوا بطول العمر مطالوش
ماتوا بنار المحبة والحيا غالب
وكيف أن من كان له حبيب قصاد عينه ولم يطله، فإنه يظل يتوجع من قولة «آه» حتى ينسلي
ويموت.
فالمحبين والعشاق و«أولاد الغرام بدَّلوا غناءهم بالعديد والندب والبكاء»، وهو صحيح
إلى
حد كبير، إذا ما اعتبرنا مأثورات جرحى العشق بكائيات ذاتية أو جنائزية.
وكثيرًا ما تتمثل هذه المأثورات الشعرية بشخصيات تاريخية وأسطورية عاشقة، مثل: نعيمة،
وشفيقة، وعزيزة، وناعسة زوجة أيوب، وكذلك بشخصيات خرافية لقصص شعرية أو بالادا مندثرة،
وقد يكون كل ما تبقى منها، ومن ملامح ودفائن عشقها الجارف المميت، سوى مثل هذه المأثورات
التي عادة ما تدور حول شخصيات تدعى «ورد وسلبند»، وفي مأثورات شعرية أخرى ترد باسم «ورد
وإدريس»، منها هذا المأثور:
إدريس لقى وردة بتبكي
قاللها مالك؟
مالك ومال الغرام يا وردة
واخداه في بالك؟
قالتله وردة:
ببكي على شاب يا إدريس
كان في الحشا مالك
لو جوز عيون سود
إن فتحوا صبحوك في الحشا هالك
وكثيرًا ما يدور الحوار بين عليل الحب، أو العشيق المبتلى، وبين طبيبه، أو طبيب الجراح،
الذي — كما يرد في المأثور التالي — ما إن رأى مريض حتى بكت عينيه، وما إن كشف على علته
وجرحه بمبضعه ومرهمه، حتى بانت عينيه الجرح. وهنا سأله العليل — بالهوى — عن كيف أن نار
الحطب قد تشابه لنار «خشب» الدوم؟ فأجابه الطبيب بأن نار الحطب تنطفئ، أما نار المحبة
فدائمة الاشتعال في صدر المحبوب «المبتلى» طبعًا:
طبيب لجراح
طبيب لجراح نضر جسمي بكت عيناه
كشف على الجرح بالمرهم بانت عيناه
قاللو أمانة يا طبيب
نار الحطب تشبه لنار الدوم؟
قاللو:
نار الحطب تنطفي يا ابني ونار المحبة دوم
أنا لا بسهر ارتاح ولا بنعس يجيني نوم
إذا لم أشاهد حبيبي وانتظر عيناه
•••
عيني رأت بنية حية من بلاد الغرب
لابسة توب أسود من جناح الغرب
شفقت بحالي وتاه الفكر عن بالي
شفقت بحالي وحملت الكتب ع الغرب
أنا قلت هيا بنا يا طبيب بالعجل نمشي
في باطني جرح يا طبيب بسهربو ولا نامشي
وفي المأثور السابق المجلل بالقتامة، حيث إن قائله ما إن رأى بفتاة «من بلاد الغرب»
بما
يوحي أنها غريبة، أو أنها أجنبية — غربية — كما أن الغرب دائمًا مرتبط في مأثورات —
وفولكلور — الجهات الأربع، أو أربعة أركان التابوت، بالجهة الموكل بها دفن الموتى، ولتكن
«بلاد المقابر»، أو الضفة الغربية للنيل حيث المقابر، وأهمها مقابر وادي الملوك بمصر
العليا.
بل وكثيرًا ما يعتل طبيب المحبين ذاته بالعلل والأوجاع، عندما تصرعه عيون المحبوبة
وبهائها، حين الكشف عنها ولو بالنظر:
إزاي انام يا طبيب وآهو تاه مني الكيف
علشان ظبا
١ ترك يا طبيب لحظة كيف حد السيف
قاللي يلَّا بنا يا عليل بالعجل يمه
نحققه بالنظر لم نختشي منه
راح الطبيب وجاني منطبق فمه
وقال يا ناس أنا شكل الجميل دا ماريت
الوجه زي القمر أما العيون دي ماريت
٢
أنا من يوم ما شفته وطبق الورد ما شفته
البيت عفته
٣ واحلى طعامنا ماريت
٤
•••
في باطني جرح يا قاضي الغرام غلايين
واحباب قلبي إن غابوا برضو هم غاليين
أنا الذي عند خصماتي حلفت يمين
أنا ماهبطل الغندرة ولا ادِّي للعدا واطي
وايش أوصف إن القوارب تشبه الغلايين
•••
آهين على وحدتي والوعد لسه بعيد
أنا ما كواني وخلاني في الخسس ما بزيد
ألقى حبيبي قصاد عيني مش قادر أقوللو نهارك سعيد
أنا ماكواني إلا العوازل بيبرشم في الكلام ويعيد
أنا ما بيدي ولا فيدي إلا منديلي لبيض
والقط كل دمعة بإيدي
دا اللي سعدهم زمانهم فنارهم من أول الليل بيايدي
لكن ولاد الغرام بدلوا الغنا بعديد
لامو عليه العوازل قالولي قوم يا مبتلى ابدل
القديم بالجديد
لحسن دا بكره العيد
أنا قلت خلي العيد لأصحابو
إيش يعمل العيد للي تفرق أصحابو
أنا عندي لمة أحبابي أحسن من ليالي العيد
صبح سلام اللي أحبه من بعيد لبعيد
آهين على وحدتي والوعد لسه بعيد
•••
جرا اللي جرا يا عين ما حد عزاني
وطلعت اعزي لقيت الندل عزاني
الوز مهوش ظفر دا القول على الضاني
أنا كنت أنزل الحرب واتباهى بعزالي
الحرب حربي وانا اللي جيتلو منجاري
أيوب لما ابتلى واحد ورا التاني
إحنا سمعنا مثل من الكبار قالوه
أهل البلدي خدولهم سبر طلعوا فيه
ما يعشقوا إلا قليل الأصل والزاني
•••
عاشرتكم ع النقا وإيش نابني منكم
إلا المسبه وتسويد الوجوه منكم
إنتو كان لكم باب من ساعة العشا يلكم
اتفندق الباب وبقي الندل يخطر فيه
وخصايل الندل آهي لاقت بخاطركم
•••
ما أصل يا عين دمعك على الخد ما ينزل
قلت على الصاحب اللي ربط ع الود ما ينزل
مضى زمانو على ضهر الخيل ما ينزل
أنا اللي من صغر سني في الهوا طالع
ربي أتاني بعزول قطف زهري وأنا طالع
عمل معايا عمايل الصبح وأنا طالع
في وسط شارع ترش الملح ما ينزل
•••
ما أصل يا عين دمعك على الخد بداره
قالت على الصاحب اللي خطر لم بيدارى
أنا اللي رسبت في حيكم وقيمه ومزيه
وفتحت بابي على كيفي بشم نسيم
ولما لقيت عليه العوازل آهم جايين
قفلت باب الإثارة عنهم وبدارى
ينسب هذا المأثور — أحيانًا — لشخصية «بالاد» خرافية ورد وحبيبها سلبند، وسنتعرض لها
تباعًا:
سلامات م الغيبات مد إيدك وشابكني
ياللي غرامك طحن قلبي وشابكني
لك جوز عيون سود كما السنار شابكني
إن اسبلم جرحوا وان فتحوا صابوا
دا انا اللي خايف على العمر يفنى وانت شابكني
وكثيرًا ما يتمثل تنكيل وعذابات ذلك الكائن الخرافي — البين — بضحاياه عن طريق الحب
وأمراض الغرام:
فات شهرين وراح شهرين وجه شهرين
نص السنة فاتت ما انطبقلي رمش جوا عين
البين وعم البين وخال البين
البين ركبلي عن الخدين دولابين
وكل دولاب بستاشر قنا تجري
بينزحوا دم من مغرم كواه البين
•••
شعبان ورمضان وشهر العيد ومحرم
لربع هلالات على نومهم جرم
لا بسهر ارتاح ولا بنعس يجيني نوم
ولا أكل باكل ولا ليَّا جلد للصوم
وآدي خليِّ البال راقد لم يتحرك
ويبدو أنها واحدة من أغاني ومأثورات العمل لمهنة النساجين، وعثر على أغاني عملهم في
الفولكلور الأوروبي بكثرة:
ياللي انت نساج إحنا الكل نساجين
تبرم على مين واحنا الكل برامين
وسر تربة نبي بالسيف شهر الدين
حليوة خطر ع الباب قوم ننضر اللي برا مين
•••
يا نجمة الصبح طلي وارجعي روحي
وسلميلي على اللي مهنياه روحي
٥
وسر من أنزل القرآن في اللوحي
حابكي على الناس ولا أبكي على روحي
ويتضمن المربع التالي لغزًا شعائريًّا لذلك الطير الرابض في كبد السماء لحمه حرام
أكله
على عكس من دهنه:
رق عن اهل العشق يا مالك
وأدري بأن مذهبي مالك
عيني رأى طير
٦ في كبد السما بارك
لحمه حرام ودهنه حلله المالك
•••
يا مين يجيبلي حبيبي وياخد من عيوني عين
وياخد نص التانية واشوفو بنص العين
الحلو قابل حبيبه في نهار اتنين
قعدم يعيدو الكلام بكيم سوا لتنين
اتنين في اتنين يا قاضي الغرام أربعة واتنين
اتنين في حط، واتنين في بيت، واتنين في بحر
واتنين في غيط، واتنين في قصر، واتنين في مصر
واتنين في اصطمبول
اتنين في حيط دي عقدة ودي صره
واتنين في بيت دي قحبه ودي حره
واتنين في غيط دي حلوه ودي مره
واتنين في بحر دي لفشه ودي بنه
واتنين في قصر أنا ومحبوبي بنسكر في أوان العصر
واتنين في اصطمبول سبحان من يعزل ودا يولي
يا مين يجيبلي حبيبي وياخد من عيوني عين
•••
ما تحسب اللي بيضحك دايمًا مشروح
ضحكة يكيد بها العدا ودايمًا الفؤاد مجروح
أهل المحبة تملي لونهم مخطوف
ولا يذوقوا المنام إلا خطوف خطوف
آدي مدة سنين وأنا راقد ع الفراش مطروح
وآدي سنة حول والطببة تيجي وتروح
وف طلعة الروح داخله العاهرة بتشوف
•••
حخس عقلي وآجي تاني أعاتبكم على اللي راح
ولَّا أسامح وياما جه وياما راح؟
لما لقيت مسككم عند العوازل فاح
لاكف قدمي واقول البر أحسنلي
وافطر ببصلة واستغنى عن التفاح
•••
إزاي قلبي يريدك ومعروفي معاك ضايع؟
القلب شاريك لكن انت يا ردي بايع
ياما بنسمع كلام الناس بوجايع
وكل كلمة أقسى من السيف علشانك
وقعدت أحقق لقيت حقي معاك ضايع