أغاني التخمير الصوفية والمخاواة
ورغم أن الكثير من النصوص والمأثورات التي يضمها هذا الكتاب الانطباعي عن آدابنا الفولكلورية، ما بين بكائيات ومواويل خضراء وأغاني مسرح الأفصال، قد أكون جمعتها من أفواه حملة هذا التراث المتوارث منذ ما قبل الثلاثين عامًا الأخيرة، وظلت حبيسة لديَّ أتحين فرص حفظها بالنشر.
برغم أن معظم هذه النصوص قد لحقتها أيدي النسيان والاندثار، ذلك أني لحقتها بالجمع والتدوين آنذاك، قبل أن يتعاظم دور الأجهزة الثقافية الإلكترونية، وأخصها هنا الترانزستور، كوسائل ثقافية بديلة؛ لا بد أن تضعف وتذوي سابقتها ربما إلى حد التلاشي شبه الكامل.
إن حلقات ومسلسلات رواة السير والملاحم الشعبية، وشهرتهم الطاغية بإزاء مسلسلات الراديو والتليفزيون، حتى داخل رقعة فلاحينا الأميين، منذ تلك الحقبة القريبة على أيامنا المعاصرة هذه.
ولقد ساعدني بالفعل عدم الاكتفاء بالجمع الميداني «البارد» الذي لا يسمح لي بالتدخل ولو بإعادة الصياغة اللغوية، بل الاهتمام أيضًا بتدوين الملاحظات على رواة المأثورات ذاتهم؛ من ندَّابين ومدَّاحين وحَكَوَاتيَّة ومغنين وممثلين شعبيين، بتسجيل أبرز ملاحظات عنهم وعنهن: الأسماء، الأعمار، العمل أو الكار، علاقتهم بما يحملونه من مأثورات.
من ذلك مثلًا كيف أن من يتعرض لأن يؤدي دور شخصية شريرة كالبين، أو الزوجة الخائنة التي تدفع زوجها إلى العماء والقهر، كما هو الحال مع زوجة «القائد الأعمى»، يتعرضون لسخط الجمهور ومحاولات الاعتداء الجسدي عليهم بالضرب والافتراس من جانب الجمهور المشارك، الذي تستفزه أفعال البين والمرأة «الحية» وكل أفعال سالبة أو شريرة.
وكيف أن راوي حكايات خرافية دأب معي كل مساء أزوره — عقب صلاة العشاء — على قص حكايات ومأثورات تتغنى وتعلي من كل قيم المرأة المحبة الوفية، حتى في غياب زوجها عنها مواسم وسنين طويلة، حيث إنه يمتهن ويعمل مسامرًا للملوك في أرض الشام، حين أعطته زوجته قبل سفره وردة بيضاء نضرة — تابو — لا تذبل وتموت إلا في حالة خيانتها له بالاضطجاع ومجامعة رجل آخر غير زوجها مسامر الملوك المحب.
وكنت أربط بين الراوي الكهل وبين زوجته الحضرية اللَّدِنة المفرطة الجمال والإثارة، وهي إلى جانبنا تصنع لنا الشاي أدوارًا إثر أدوار في ساعات جمعي لمأثوراته وأشعاره التي تصب بكاملها في منحنى متوحِّد المغزى هو وفاء الزوجة.
والأمر هنا ليس بشاقٍّ طالما أن الراوي ذاته يعمل في تجارة الحُصر والمنتجات الخوصية بالعاصمة البعيدة عن بلدته، وحيث لا توجد زوجته الحسناء الشابة ويتغيب عنها بالشهور.
كذلك من ملاحظاتي على الآداب الدينية والشعائرية وجمهورها من الحرفيين بأكثر من الفلاحين المرتبطين بالأرض والزرع، بل إن من العمال الزراعيين والأُجَراء والمعتوهين والصنع مَنْ يتخذ طريقه مباشرة إلى بحار الدَّرْوَشة والإغراق في الطرق الصوفية، وحلقات الأذكار والأوراد والزار، وجلسات التخمير والمخاواة.
بما يمكن أن يشكِّل إحدى ظواهر الشعائر — أو الطقوس — الهامشية الأقرب إلى أن تصبح شعائر تجميع تنتهي بالقطع إلى مدلولات سياسية.
وكيف أن المصابين بأمراض عشق المخاواة — أو الإنسي بالجِنِّيَّة — يفرطون في الميل إلى حفظ الأغاني والمأثورات والأهازيج الدينية التي تُعرف ﺑ «أغاني التخمير»، ويلاحظ الاشتقاق اللغوي وعلاقته بالخمر وأنهم عادة ما يقيمون فرادى أو عزاب في أماكن مظلمة أو لم تدخلها الكهرباء بعد. مع ملاحظة أن «المخاواة» ليست بقاصرة تمامًا على الشخص الأعزب، بل هي تلاحق أيضًا المتزوجين، وعادة ما تتسبب في الطلاق والانفصال أو في نشوب ذلك الصراع بين كلا الجِنِّيَّة والإنسية، أو الزوجة المخاوية ساكنة تحت الأرض أو أعماق البحار وضرتها البشرية الفعلية الواقعية في الطبيعة، بل وفي ملف المحاكم الشرعية آلاف الحالات التي يرد فيها ذكر الزوجة الجِنِّية المخوية باسمها وسماتها، وينشب الصراع الضاري.
كما أن من سمات المصابين بهذا العشق الإنسي للجنية ارتباطهم أكثر بما يسود من غيبيات في مجتمع أُمِّيٍّ جبري، فهم لا يبعدون كثيرًا عن جماهير الأذكار والطرق الصوفية وحفلات الزار ومنشدي دلائل الخيرات والأَوْراد في شكل كورس يرددون غناءً جماعيًّا دينيًّا أو شعائريًّا محيطين بنعش المتوفَّى. وتشير كثرة أعدادهم بملابسهم «الفقهية» واتساع شهرتهم وأصواتهم كصيِّيتة أو منشدين إلى مهابته — الميت — ومركزه الاجتماعي وعلوِّ شأنه، بل وخوف الأحياء أنفسهم من سطوة الميت وتهجمه على الأحياء عبر لحظات متوترة مصاحبة لخروج تابوت الميت أو نعشه وتخطيه لعتبة داره، والطواف به على طول الطريق المؤدي إلى المقبرة، حيث قد تتعرج هذه الطرقات تبعًا لزيارات الميت وما يبديه لحَمَلة جثمانه الأربعة من كرامات وقدرات، تتضاعف تبعًا لسطوته بين أقرانه من الأحياء وعلى مستويات عدة؛ من مادية اجتماعية وشعائرية أو دينية، كأن يكون مريد طريقة أو وليًّا أو شقيًّا أقرب إلى ما يُعرف ﺑ «الأبضاي».
فتبعًا لما أسماه الفولكلوري الإثنوجرافي الفرنسي «فان جنب» ﺑ «شعائر الانفصال» أو الغياب بالموت والأسفار، تشتد حاجة الأحياء إلى الحماية لحظة الجنازة والدفن، سواء بإحداث الإيقاعات والتراتيل الدينية والأصوات العالية الجماعية أو إطلاق الأعيرة النارية، التي هدفها إضفاء أكبر قدر من التحمل والالتئام والهلع من جانب الأحياء بإزاء الميت كلما علت هامته.
وعادة ما يعقدون حلقات إنشادهم في المقابر والاحتفالات الموسمية الدينية وطرق تغسيل الموتى وأساليب الدفن والتلقين، وما يجب أن يرد به الميت ثابتًا في مواجهة محكمته أو محاكمته حين يزوره المَلَكان ليستجوبانه في قبره عن ربه ودينه، وكاره وذنوبه، وتوبته، وربما الطريقة التي كان ينتمي إليها، وأي عهد أخذ وعلى مَن مِن الأولياء، وشيوخ السجادة من أوليائه، بل ويصل الأمر إلى حد الإشارة والإنقاذ من جانب الملقنين للتحايل على الذنوب والخطايا.
كما أنهم يوجدون بدورهم — المنشدين — داخل محاريب المساجد وأماكن العبادة، ويكثر وجودهم وسمرهم وغناؤهم، الذي امتد إلى أجهزة الإعلام الإلكتروني من راديو وتليفزيون، في شهر رمضان، وما تزال لسوريا والأردن الصدارة في هذا اللون الإنشادي.
وبالمقابل يُحتفَى بهم إلى حد كبير حتى أيامنا في المغرب العربي وتونس، ويصل بعض حفظة هذه التراتيل الغنائية الكورالية إلى أقصى درجات الشهرة والهيمنة والقدرات الصوتية في السعودية وتونس، فهم عادة ما يتغنون — طبعًا — بجمال النبي الجسدي ومعجزاته:
•••
•••
•••
ها هو مريد الطريقة يستجيب لندائها متوسلًا ومقْسِمًا، لكن بمن؟ بسر تربة «نبي طيبة».
•••
ويلاحظ توحُّد «الله» أو الجلالة بالعروسة الأنثى في المأثور السالف: «لقوا العروسة الجلالة.»
وكثيرًا ما تفرط مثل هذه المأثورات في كيف أن كثيرًا من القتلة وقطَّاع الطرق واللصوص قد أصبحوا بين عشية وما يعقبها من مريدي الطريقة وجلساء الأنبياء والأولياء، كذلك فهناك أناسٌ لصوص ونشَّالون يفتحون ويقتحمون ويتهجَّمون على المنازل والناس عنهم «غفلانين»، ورغم ذلك يحرسهم الأنبياء والأولياء، بل ولهم في الجنة آلاف الأفدنة:
•••
•••
وتصاحب الأناشيد الدينية دقات الدفوف العنيفة أو «الطار»، ويهتز على وقعها الرجال ذات اليمين وذات اليسار، كما في حالات الأذكار وجلسات التحضير والتخمير والزار وإنشاد وتلاوة النصوص الشعائرية بعامة.
يقف واحد أمام الصف، أو السطر كما يدعونه، ويأخذ في الإنشاد والترتيل، وأحيانًا ما يكون ممسكًا بعصا من الحديد أو النحاس وسبحة كهرمان، يوقع كلامه بطرق السبحة بالعصا، واللافت أن هذه العملية البسيطة تُحدث ألحانًا وإيقاعات جيدة.
وغالبًا ما يكون مع المنشد صبيان صوتهما جميل ليقوما بدور الكورس، فيرددان مقاطع النشيد.
وأغلب الأناشيد الدينية تتحدث كلها عن النبي وسيرته، وبهائه، ومعجزاته، وأقاربه، وكل ما اتصل به من بعيد أو قريب.
وأحيانًا ما تصفه الأغنية أوصافًا لافتة، مثل: بعيون كحيلة، وخد النبي نور:
مثل تعدد أوصاف النبي، كالآتي:
وعادة ما يرد ذكر المرضعة «حليمة» في هذه المأثورات الطقسية بكثرة:
قصيدة طويلة في مدح النبي
أغاني تخمير دينية
•••
•••
•••
•••
يقول جمهور الأغاني الدينية إن التوحيد والتخمير يحبه الجن، وإن ما يحرك الإنسان ويجعله يتلَّوى «حضور العفريت أو الجني اللي عليه» هو جمال الصوت، وخصوبته، وعمقه. وتقال أغلب تلك الأغاني مصحوبة بدقات الدفوف المجنونة، ويرقص على دقاتها «من عليهم أسياد من الجن».
وعندما استمعت إلى تلك الأغاني عند مصادرها، أي عندما يغنيها أصحابها، أحسست بأنها تهز أعصاب المرء فعلًا، فهي تلحن بطريقة قوية، والرجل الذي كان يقولها، وهو شيخ عجوز، له لحية بيضاء ويرتدي «أبيض في أبيض»، وعندما سألته عن سبب هذا قال: أصل الأسياد و«ولاد الجن» بيحبوا اللون الأبيض!
•••
وفي الأغنية الدينية التالية يتضح مدى التداخل، ويمكن القول التوارث ما بين التراثين القبطي المسيحي والإسلامي، ذلك أن الأغنية هنا تتبدى كحوار بين «المريد» وبين ذلك الرمز للإلهة الأنثى، التي يتغنون بها مرة تحت اسم أو شعار أو رمز «عروسة الزار» و«عروسة السهران» وليلى أو «الليليث» أو حواء الأولى، ومرة كما يتضح من النص التالي يدعونها ﺑ «حنونة بنت سمعان»، التي بيدها مفاتيح الأديرة و«المعنات» أو الحكمة.
وينتهي الحوار بين المريد وحنونة بنت سمعان بإعلان المريد بأنه عاشق للنبي صاحب العلمات:
•••
والأغاني الدينية لا تتعدى الحديث عن الضعف الإنساني، وحاجة المخلوق إلى الخالق، ثم تربط كل هذا ﺑ «الخير والراحة» التي ينشدهما الإنسان في نهاية المطاف في الجنة.
وهي في سبيل ذلك تسترحم الأقطاب الأربعة والأولياء وكل المقربين من الله، فهي طريقة من طرق التغيير والتقرب من الله لدخول الجنة.
وفي أغاني المديح والأناشيد الدينية تنشط «الميثولوجيا» لتصور النبي «اللي تسلم عليه الشمس كل صباح» وقالت له: يا حبيبي إنت مرادي وبغيتي … واللي عشق النبي عدى على الجنة، حيث «صجر الرمان»، والتفاح، وعتبة الديوان من ذهب، وحيث الراحة الطويلة تلك التي ينشدها الإنسان.
•••
•••
•••
•••
•••
وتقال الأناشيد الدينية في الأذكار، أما أغاني التخمير فتقال في جلسات الأرواح، وهي المعروفة بجلسات «تحضير الأسياد والجن»، و«الزار» عند العامة، فيطلقون على الجني والعفريت «سيدي»، ولا يذكرون اسمه إلا مسبوقًا ﺑ «الله يجعلهم راضيين علينا!»
وهناك تقاليد طويلة تتَّبع مع أولاد الجن، فمثلًا عندما يتعثر إنسان فيسقط على الأرض لا بد أن يفاجئه من يراه بقوله: «حوش اللي وقع منك»، وذلك لكي يربكه ويطرد عنه الخوف، فمن الشائع أن «اللي يخاف من عفريت ينط يركبه».
وعندما يلقي إنسان بحجر على الأرض، فعليه أن يسبق ذلك بقوله: «بسم الله الرحمن الرحيم»، وذلك حتى لا يبطح جنيًّا فيؤذيه الجني أو يركبه.
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••