وإذ يئُول ذلك إلى مكان التمييز بين ضربين من القداسة تكون
في أحدهما «هبوطًا من الأعلى»، حيث يضفي المقدَّس المتعالي
قداسته على كُتُبه ووصاياه ليهبها دوام الحضور وأبدية البقاء،
فيما تكون في الآخَر «صعودًا من الأدنى» حيث يخلعها التقديس —
كممارسةٍ داخل الثقافة — على ضروبٍ من الأفكار والأشخاص ليفك
روابطها مع التاريخ حتى تسكن خارجه في سكونٍ وثبات يستعصيان
على أي تجاوزٍ أو انكسار، فإنه يلزم التنويه بأن حدود
الانشغال هنا، لن تتسِع لما هو أكثر من تفكيك هذا النوع من
القداسة الذي تُنتجه الثقافة، وأعني المنتَج داخل الثقافة
الإسلامية بالذات؛ إذ الحق أن نصوصًا وتجارب وخطابات قد راحت
تتعالى في محيط هذه الثقافة، من حدود الإنتاج والتداول
التاريخي لتسكن فضاءً تستحيل فيه إلى «مُطلَقات وأصول» لا يقدر
الوعي على مقاربتها «تحليلًا ودراية»، بل يخضع لسطوتها
«تكرارًا ورواية»، وهو ما يعني أنها تستحيل من موضوعاتٍ
«للمعرفة والتأسيس»، إلى مطلَقاتٍ «للاجترار والتقديس».
وإذ يَتقنَّع التقديس في هذا الخطاب الذي يكاد أن يكون
بمثابة قلب الخطاب السُّنِّي ومركزه، خَلْفَ نوعٍ من التكريس (في
المجال المعرفي) لسلطة نموذج-أصل، هو ما يُعيِّن حدود القابل،
وغير القابل، للتفكير ومجاله، فإنه يبدو أن هذا القناع
المعرفي لم يكن، هو نفسه، إلا قناعًا لنوعٍ من التكريس (في
المجال السياسي) لسلطة الحاكم المستَبِد/الأب، الذي يُعيِّن
بدوره، حدود المسموح — وغير المسموح به — السياسي. والحق أن
جوهرية «الأصل» في هذا الخطاب قد بلغتْ حدود توظيفه في تسمية
الخطاب لنفسه، ومع الإدراك، بالطبع، لحقيقة أنه لم ينشغل —
كخطاب — بمجرَّد تعيين الأصل وحدود اشتغاله وعلاقته بغيره على
نحوٍ يجعل منه موضوعًا يبدأ منه الوعي سَيرُورة اشتغاله
مستوعِبًا ومتجاوِزًا، بل انشغل بتأسيس سلطته وتثبيتها، وترتيب
علائقه، مع الوعي بالذات، على نحوٍ يستعصي معه هذا الأصل على
أي تجاوز، وأعني أن مدار الانشغال في الخطاب، هكذا، لم يكن
إلا تأسيس سُلطة الأصل وإطلاقها إلى فضاءٍ تهيمن فيه على
الوعي على نحوٍ يَئول إلى إلغائه، بدلًا من صوغه وبنائه، وفي
كلمةٍ واحدة، فإن «الأصل» وقد استحال إلى موضوع، لا للمعرفة،
بل للتقديس؛ وذلك ليتم التغطية به على التقديس الذي كان
يتحقق في المجال السياسي.
وإذا كان التجاوز في سيرورة التقديس من «السياسي» إلى هذا
الأصل «المعرفي»، قد راح يتحقق عبر توسط «الديني»، فإنه يلزم
التنويه بأن واحدًا من عناصر «السياسي والمعرفي والديني»
المتضافرة في إنتاج وتأسيس «التقديس» لا يعمل منفردًا، ولا
يكتسب دلالته، إلا من خلال علاقته بغيره، وبالرغم من ذلك فإن
ما سيُكْشَف عن التحليل من أن «الواقع» لم يكن نقطة البدء فقط،
بل والقصد والمنتهَى أيضًا، في سيرورة التقديس الطويلة، كان
لا بد أن يجعل مِن رصْد إنتاج التقديس في «المجال السياسي»
بمثابة التوطئة لتأسيسه في «المجال المعرفي» كخطابٍ لن يفعل
إلا أن يعيد إنتاج التقديس أبدًا، وإذن فإنه فيما يكون
«السياسي» هو نقطة البدء في ممارسة التقديس، فإن «المعرفي»
يكون هو حقل إنتاجه الذي لا ينقطع بعد ذلك.
(١) التقديس في المجال السياسي
بالرغم مما يبدو من أن قداسة الديني لم تَطُل المجال
السياسي في الإسلام على نحوٍ مباشر، وأعني من حيث تَخلُو
نصوصه المؤسِّسة مما يمكن أن يقيِّد الممارَسة في هذا المجال
ويضعها تحت سطوته، فإنه يبدو أن كافة الممارَسات في مجال
السياسة — وخصوصًا مع ابتداء انبثاق هذا المجال — لم تَخلُ
من أي حضور أو مخايَلة بالقداسة أبدًا، لكنَّ القداسة لا
تُستَفد، في البدء، مِن الدِّين الذي يكشف تحليل الأحداث عن
محدودية دورِه في بناء الحدث السياسي بعد وفاة النبي
بالذات، وهكذا فإن الأمر لم يتجاوز، حينذاك، حدود أن
«مقدَّس الدِّين» قد كان عليه أن يتخلَّف قليلًا، ليفسح
المجال أمام «مقدَّس القبيلة» الذي سرعان ما أجبرَتْه
الأحداث، بعد ذلك، على أن يتخفَّى هو نفسه وراء مقدَّس
الدِّين، حين بدَا أن التطورات — على عهد معاوية بالذات —
قد راحت تُخلخِل بعض عناصر هذا المقدَّس، أعني مقدَّس القبيلة.
وهكذا فإن المجال السياسي في الإسلام قد تبلور تحت
سطوة القداسة المزدَوجة لكلٍّ من الدِّين والقبيلة، ولم
يحدث أبدًا أن تبلور بعيدًا عن أي حضورٍ للقداسة، وضمن
سياق هذا التبلور، فإنه يبدو أن العلاقة بين كِلا
المقدَّسَين (للدين والقبيلة) قد راحت تتأرجح بين التَّماهي
الكامل بينهما في البدء، حين راح مقدَّس القبيلة يحيل نفسه
إلى مقدسٍ إلهي، وبين التَّخفِّي اللَّاحق للواحد منهما (أو
مقدَّس القبيلة)، ولكن من دون أن تنفصم عُرى وحدتهما أبدًا،
بل إنه يبدو أن نفس المُراوَحة بين التماهي والتخفِّي تظل هي
التي تنتظم مسار العلاقة بينهما للآن، وأعني من حيث إن
مقدَّس القبيلة؛ متماهيًا مع مقدَّس الدِّين أو متخفِّيًا
تحته؛ يقبض — لم يَزل — على مصائر الممارَسة العربية
الراهنة، التي يفضح أيُّ تحليلٍ نزيه حقيقةَ ما تحمل من
ملامح عالَم القبيلة وسِماته.
إذ الحق أن التماهي بين المقدَّسَين، ولا شيء سواه، هو
ما يمكن قراءته وراء سطور الأقوال والروايات التي تضعها
المصادر التاريخية على ألسنة الفُرقاء المتنازِعِين على
خلافة النبي
ﷺ منذ ما قَبْل وفاته،
وليس يُقلِّل أبدًا من قوة دلالة هذه الروايات ما يُقال من
ظهور الانتحال والوضْع عليها؛ إذ الحق أن انتحال القول
ووضعه إنما يشير إلى قوة حضور دلالته في الواقع، وبحيث
يبدو أنه كلما كانت هذه الدلالة هي الأكثر حضورًا، من
الناحية الفعلية، جرَى وضع القول المُحقِّق لها، والدَّال
عليها على أَلسِنة ذوي السُّلْطة الرمزية، وحتى الفعلية،
الأعلى والأقوى، وهكذا فإنه لا مجال للتعليق، بالنسبة
لهذه المروِيَّات وغيرها، بشيوع الوضع فيها؛ إذ يبقى مجرد
وضعها دالًّا، أكثر من غيره، على الحضور الفاعل لدلاتها،
وبمعنى أن الوضع، هنا، لا ينتج أثره حضورًا في الواقع،
بل الحضور في الواقع، بالأحرى، هو الذي ينتج أثره وضعًا
لقول أو صوغًا لرواية.
وهكذا فإنه إذا كان ثمة من المصادر ما يقطع بأن عمر بن
الخطاب قد راح — في لجاجٍ مع ابن عباس — يُجابِه طموح آل
البيت لخلافة النبي
ﷺ بالقول: «إن
الناس قد كَرِهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة، وإن
قريشًا قد اختارت لنفسها فأصابت.»
٥ فإن مصادر أخرى — وللغرابة — قد راحتْ تضع
هذا القول نفسه لعمر، على لسان مَن خوطب به (وأعني ابن
عباس)، ولكن بعد أن أجرَت عليه تحويرًا دالًّا وملفِتًا
حلَّت فيه كلمة «الله» محل كلمة «الناس»، وهكذا أوردَت
هذه المصادر القول نفسه، على لسان «ابن عباس» يخاطِب به
«الحسين بن علي» إبان مسيره إلى الكوفة يطلب الأمر
لنفسه من يزيد: «والله يا ابن أخي ما كان الله (وليس
الناس) ليجمع لكم بين النبوة والخلافة.»
٦ وهكذا فإن ما كان مجرَّد مَطلب «للقبيلة»،
بحسب عُمر، قد بات مشيئة «لله» بحسب صيغة ابن عباس،
وبالرغم من ظهور الوضع وصراحته على هذه الصيغة المنسوبة
لابن عباس،
٧ فإنه يبقى أنها تُحِيل إلى ابتداء دورة إنتاج
«التقديس» واحتلاله لفضاء المَجال السياسي في الإسلام منذ
وقت مبكِّر، وأعْنِي عبْر هذا الإحلال لله محل القبيلة.
فإذ يكاد ينصرف مدلول لفظ «الناس» في القول على لسان
عمر، إلى قريش بالذات، وذلك ما يؤكِّده — على أي حال — شطر
قوله الثاني: «إن قريشًا قد اختارت لنفسها» فإن ذلك يعني
أنَّ التحول من أنَّ القبيلة أو قريش، هي التي تأبي الجمع لآل
البيت بين النبوة والخلافة، إلى أنَّ الله هو الذي يأبَى ذلك،
الأمر الذي يحيل — لا محالة — إلى ضربٍ من الإحلال «لله»
مَحل القبيلة إحلالًا يتكشَّف عن ضربٍ من التماهي المُطلَق
الذي يَتعالى فيه «مَطلب القبيلة» إلى أن يكون مَطلبًا
«لله» نفسه، وبما يعنيه ذلك من اكتساب قداسة الإلهي
وحصانته. والحق أن الأمر لا يتعلق — ضمن هذا السياق —
بأكثر من أن القبيلة، وبعد أن انتصرت في مواجَهة مُناوئيها
(ولو كان هؤلاء المناوِئون هم أحد بطونها)، قد انطلقتْ
تُكرِّس انتصارها رمزيًّا وتؤيده عبْر هذا التماهي مع الله،
ولعله يلفتُ النظر إلى أن القبيلة لم تقبلْ إلا وضع
الإقرار بهذا التماهي على لسان المنهزِم نفسه (وهم بنو
هاشِم، ينطق ابن عباس بلسانهم)، وذلك لتأكيد إخضاعه
والسيطرة عليه.
إذ الحق أن ترتيبًا للرواية وبِناءً للأحداث يرتَدُّ إلى
وقائع الخلاف على خلافة النبي قبل وفاته مباشَرة، ليكشف
عن أن تثبيت «نظام القبيلة»، وإلى حدٍّ ما بدَا وكأن
تقديسه، قد كان هو الشاغل الأهم للعديد من كبار الصحابة
الذين بدوا غير قادرين كليًّا على التفكير في أمور
الإمامة والرئاسة على الناس إلا في إطار نظام القبيلة السائد،
٨ وإلى حد أن بعضهم قد حال بين النبي وبين
كتابٍ يبدو أنه ارتأى أن يكتبه ليحدِّد أمْر خلافته من
بعده؛ حيث تَخوَّفوا من أن يجعلها «النبي» بكتابه وراثة في
آل البيت، فينكسر نظام القبيلة الذي لم يعرف الوراثة —
إلا نادرًا — كسبيل للرئاسة.
٩
فقد أورد ابن خلدون أن: «أهل البيت لما تُوفِّي رسول الله
ﷺ كانوا يرون أنهم أحقُّ بالأمر، وأن
الخلافة لرجالهم دون سواهم من قريش … وفي الصحيح أن رسول
الله
ﷺ قال في مرضه الذي تُوفِّي فيه:
«هلموا أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعدي أبدًا» فاختلفوا
عنده في ذلك وتَنازَعوا ولم يتم الكتاب، وكان ابن عباس
يقول: «إن الرزية ما حال بين رسول الله
ﷺ وبين ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم.» حتى لقد ذهب
كثيرٌ من الشيعة إلى أن النبي
ﷺ أوصى
في مرضه ذلك لعلي.»
١٠ وبالرغم من أن هذه الوصية لا تصح عند ابن
خلدون؛ استنادًا إلى إنكار السيدة عائشة لها، فإنه يبقى
أن رواية ابن خلدون تربط بين الكتاب الذي انْتَوى النبي
ﷺ كتابته وبين قضية خلافته التي
يبدو أن البعض قد تَخوَّف من أن يجعلها في آل البيت دون
سواهم من قريش، فحال بين النبي وبين كتابه، ولعل ما تصرح
به الرواية من نقمة ابن عباس (وهو الهاشمي) على مَن حال
بين النبي، وبين كتابه الذي انْتَوى، لَمِمَّا يُدعِّم القول
بالخشية من أن يخص النبي بني هاشم بأمر الخلافة.
وإذا كانت رواية ابن خلدون لا تحدد شخصًا بعينه، هو من
وقف وراء الحيلولة بين النبي وبين ما انتوى كتابته، فإن
رواية للشهرستاني — في سياق تعيينه للخلافات المُؤثِّرة في
تاريخ الأمة — تكشف عن أن هذا الشخص لم يكن إلا عمر بن
الخطاب، الذي ردَّ على طلب النبي للقرطاس والدواة معترضًا:
«إن رسول الله
ﷺ قد غلبه الوجع،
حسْبُنا كتاب الله، فكثر اللغط، وقال النبي: قوموا عني لا
ينبغي عندي التنازع.»
١١ والحق أن الأمر في وعي عمر، أو حتى لاوعيه، كان يتعلق بشيءٍ آخَر غير كتاب الله؛ لأنه
أن يطلب
النبي قرطاسًا ودواة ليكتب كتابًا فإن ذلك يعني، من جهة،
أن ما كان يَنْتَوي كتابته لم يَرِد عنه شيء في كتاب الله
أصلًا، أو أنه قد ورد مُجمَلًا، وشاء النبي أن يجعله
مفصَّلًا، وإلا ما كان النبي قد طلب أن يكتبه، ثم إن هذا
الذي انْتَوى كتابته هو، من جهةٍ أخرى، شيء في قوة كتاب
الله، وإلا ما كان قد جعله مما يُكتب، حيث لم يكن يُكتب
آنذاك إلا الوحي أو كلام الله، ومن هنا فإنه لا يصح
الاحتجاج بقول عمر: «حسبنا كتاب الله»؛ لأن الأمر يتعلق
بشيءٍ لم يَرِد في كتاب الله، ولكنه في مثل قوته؛ لأنه سوف
يُدوَّن مثله.
وهكذا فإن شيئًا غير «كتاب الله» هو ما يقف، حقًّا،
وراء اعتراض عمر على كتاب النبي، ولعل هذا الشيء لم يكن
إلا التقاليد التي تَرتدُّ بأصل السُّلطة إلى القبيلة بأسْرها،
«حيث لم يكن من حق شيخ القبيلة أن يعيِّن مَن يرأسها بعد
وفاته، ولا يتعدَّى على صلاحية مجلس شورى القبيلة.»
١٢ ومن حسن الحظ أن مسار الأحداث اللاحق، بل
وحتى قول عمر نفسه لابن عباس — حسب رواية ابن خلدون هذه
المرة: «إن قومكم ما أرادوا أن تجمعوا (يعني بني هاشم)،
بين النبوة والخلافة، فتحموا عليهم.»
١٣ — لَممَّا يؤكد على أن هذه التقاليد كانت هي
الأصل في الاعتراض على كتابٍ من النبي كان يمكن أن يَئُول
إلى تقويضها، وهي التقاليد التي تؤكِّد عبارة عمر— السابقة
الإشارة إليها «إن قريشًا اختارت لنفسها فأصابت» — أنها
هي التي غلبت وسادت، والحق أن ما يبدو، هكذا، من أن
«اختيار القبيلة» قد غلب وانتصر في مواجهة ما بدَا وكأن
النبي قد انتوى اختياره لا يكشف عن صلابة التقليد
القَبَلي ورسوخه فقط، بل يكشف — وهو الأخطر — عن تَعدِّيه
لسلطة النبي نفسها، وعلى نحو يبدو فيه التقابل دالًّا
وحاسمًا بين سُلطة النبي من جهة، وبين سُلطة القبيلة
وتقاليدها من جهةٍ أخرى، والمهم، أنه يبدو — هكذا — أن
الشيء الذي حال حقًّا دون كتاب النبي لم يكن كتاب الله
بقدر ما كان «تقاليد القبيلة»، ومن هنا فلعل عمر حين كان
ينطق «حسبنا كتاب الله» إنما كان يقصد «حسبنا تقاليد
القبيلة».
وإذ يحيل ذلك إلى نوعٍ من الإحلال المراوِغ لكتاب الله
(المنطوق به على لسان عمر) محل تقليد القبيلة (وهو محرك
الأحداث المسكوت عنه دومًا)، فإن ذلك يعني إكمال دائرة
التماهي بين مقدَّس الدِّين ومقدَّس القبيلة، وذلك بعد ما سبق
من الإحلال المُعلَن «لله» (ما كان ليجمع لبني هاشم بين
النبوة والخلافة) على لسان ابن عباس، مَحلَّ «القبيلة» —
هي التي أبَتْ هذا الجمع — على لسان عمر بحسب ما أوردَت
المصادر، ولعله كان لزامًا أن يبلغ هذا التماهي ذروته
فيتجاوز إلى المُخايَلة بأن آلية القبيلة في تداوُل السُّلطة
عبْر ما يمكن اعتباره شورى الشَّوكة والمغالَبة قد كانت هي
نفسها شورى النص؛ أو الاختيار والمبايَعة، وبما يعنيه
ذلك من تخفِّي «القَبَلي» وراء «الدِّيني»، فإذ تكاد تُجْمِع
كافة المصادر السُّنِّية على أن الشورى كانت هي المُوجِّه لأمر
الخلافة بعد النبي
ﷺ فإنها تتجاهل
أي تمييزٍ بين ما يمكن اعتباره شورى القبيلة من جهة وبين
شورى النص أو العقيدة من جهةٍ أخرى، وذلك بالطبع لكي
تُخايِل بتماهيهما ونفْي أي اختلافٍ بينهما، والحق أنه يلزم
التمييز بين هذين الضربين من الشورى رفعًا لأي التباسٍ
قد يوحي بتماهيهما، الذي يكتسب فيه أحدهما (وهو القبَلي)
قداسة الآخَر (الذي هو الدِّيني).
فإذ تنبني شورى القبيلة على الشوكة والمغالَبة؛ حيث
«الرياسة لا تكون إلا بالغَلب، والغَلب إنما يكون بالعصبية
كما قدمناه، فلا بد في الرياسة على القوم أن تكون من
عصبيةٍ غالبة لعصبياتهم واحدة واحدة؛ لأن كل عصبيةٍ منهم
إذا أحسَّت بغلب عصبية الرئيس لهم أحسُّوا بالإذعان والاتباع.»
١٤ وذلك على نحوٍ يبدو معه وكأنَّ الأمرَ طوعٌ
وشورى، وليس مغالبة وإذعانًا، وإذن فإن الرياسة تكون
للأقوى مغالبةً وشوكة، فيما تكون من الأدنى إذعانًا
وبيعة، هي ما تمثل بنية شورى القبيلة التي أدرك فيها
الغزالي جوهر ما جرى في الإسلام منذ ما بعد وفاة النبي،
١٥ والتي لم تَزَل تحكم فضاء الممارَسة السياسية
العربية للآن، وبالطبع بعد أن أُضيفت إلى شوكة القبيلة أو
قريش قوة الجيش،
١٦ والحق أنها تُغايِر بحسب هذا البناء شورى
النص أو العقيدة بكل ما قيل: إنها تفترضه من وجوب
الاختيار والمبايَعة، وهكذا فإنه إذا كان نظام القبيلة في
تداول السُّلطة قد راح يجد ما يدعمه في نصوص الشورى (في
القرآن)، فإنه يلزم التأكيد أولًا على أن ذلك لا يعني
أبدًا أن هذه النصوص كانت هي التي وجهت ما حدث في مجال
الممارسة بالفعل، بل إنه يبدو، للمفارَقة، أن شورى
القبيلة كانت هي الموجِّهة لشورى النص، وليس العكس، ولعل
ذلك ما ينطق به صريحًا ما أورده ابن خلدون من ارتباط
الشورى في السياسة، بمبدأ العصبية الذي ينتظم وجود
القبيلة، وذلك حين مضى إلى أنه إذا كان النبي «قد قال
ﷺ: «العلماء ورثة الأنبياء»، فاعلم أن
ذلك ليس كما ظنه، وحُكم المُلك أو السلطان إنما يجري على
ما تقتضيه طبيعة العمران، وإلا كان بعيدًا عن السياسة،
فطبيعة العمران في هؤلاء (يعني العلماء) لا تقضي لهم
شيئًا؛ لأن الشورى والحل والعقد لا تكون إلا لصاحب عصبية
يقتدر بها على حل أو عقد أو فِعْل أو تَرْك، وأما من لا
عصبية له ولا يملك من أمْر نفسه شيئًا ولا من حمايتها،
وإنما هو عيال على غيره، فأي مَدخل له في الشورى أو أي
معنى يدعو إلى اعتباره فيها، إلا شوراه فيما يعلمه من
الأحكام الشرعية، (وهي) موجودة في الاستفتاء خاصة؟ وأما
شوراه في السياسة فهو بعيد عنها لفقدانه العصبية.»
١٧ وهكذا ترتبط الشورى في السياسة بالعصبية
ارتباطًا لا انفكاك له، وإلى حدِّ أن أي حديثٍ عنها في حال
فُقدان العصبية، يكون من غير معنًى، وبما يكاد يحيل إليه
ذلك من أن الشورى تكون للأقوى فقط.
وبالرغم من أن الأشعرية الضاغطة على ابن خلدون قد
جعَلَته يحاول استثناء حقبة الخلافة الراشدة من التبلور
بحسب هذا الارتباط بين الشورى والعصبية، حيث «الأمر كان
في أوله خلافة، ووازع كل أحد فيها من نفسه هو الدين»،
فإن ما صار إليه من أن «الحكمة في اشتراط النسب القرشي
ومقصد الشارع منه، لم يُقتَصر فيه على التبرُّك بِوَصْلة
النبي
ﷺ كما هو في المشهور، وإن كانت
تلك الوَصْلة موجودة والتبرُّك بها حاصلًا، لكن التبرُّك ليس
من المقاصد الشرعية كما علمت، فلا بد إذن من المصلحة في
اشتراط النَّسب وهي المقصودة من مشروعيتها، وإذا سبَرْنا
وقسَّمْنا لم نجدها إلا اعتبار العصبية التي تكون بها
الحماية والمُطالَبة، ويرتفع الخلاف والفُرقة بوجودها لصاحب المنصب.»
١٨ لا يكشف، فحسب، عن استحالة هذا الاستثناء
لحقبة الخلافة الراشدة من التبلور بحسب قانون العصبية،
بل ويكاد يَئُول إلى أن القَبَلي هو ما يقف وراء النصي
ويحدده، ولعل هذا الكشف الخلدوني لِتخفِّي القَبَلي (أو
العصبية) وراء النصي (الأئمة من قريش)، هو أحد أقنعة
التخفِّي الأكبر لِمقدَّس القبيلة وراء مقدَّس الدِّين، الذي
يُظهِر، في هذا السياق بالذات، تخفِّيًا لشورى القبيلة
وراء شورى النص.
وإذا كان يبدو، هكذا، أن استمرار التقليد الخاص بتداوُل
السُّلطة عبْر شورى القبيلة، التي تنبني بحسب مبدأ
المغالَبة، قد آل حسب كل ما سبق إلى وجوب التماهي بين
مقدَّس الدِّين ومقدَّس القبيلة، فإنه كان لا بد أن يَئُول كسْر
هذا التقليد بالذات، والتحوَّل إلى الوراثة مع معاوية، إلى
ضربٍ من التحوير في العلاقة بين كلا المقدَّسَين راح فيه
الواحد منهما (أو مقدَّس القبيلة) يتخفَّى وراء الآخَر (أو
مقدَّس الدِّين)، وذلك بدلًا من تماهيهما المراوِغ أو
الصريح، ولعل هذا التحوير، بما يعنيه من دوام العلاقة —
رغم التَّخفِّي — بين كِلا المقدَّسَين، وليس نفيها، إنما يرتبط
بحقيقة أن نظام القبيلة لم يكن أبدًا بسبيل الانهيار
والتحلُّل، بقدر ما كان يتَّجه إلى طورٍ من التخفِّي والتحوُّل؛
إذ الحق أن مصائر السياسة والثقافة في الإسلام، لن تفلت
أبدًا — وحتى الآن — من قبضة التوجيه الحاسم لهذا
النظام، أعني نظام القبيلة، وهكذا فلعل الأمر مع معاوية
لم يتجاوز حدَّ أن تحولًا كان لا بد أن يطرأ على أحد عناصر
هذا النظام الخاص بتداول السُّلطة بالذات، على نحوٍ يلائِم
التحوُّل إلى دولةٍ امبراطورية أوسع بما لا يُقاس من حدود
القَبيلة؛ وأعْنِي أن رُقعة الدولة قد اتسعتْ على نحوٍ يُجاوِز
قدرة القبيلة على أن تظل تحكم وتتداول السُّلطة
بأساليبها المحددة القديمة.
وإذا كان ابن خلدون قد ظل يرى في الوراثة رغم كل شيء
أحد تَجلِّيات حضور القبيلة «إذ بنو أمية يومئذٍ لا يرضون
سواهم، وهم عصابة قريش، وأهل المِلَّة أجمع، وأهل الغَلَب منهم.»
١٩ وبما يعني أنها — أي الوراثة — قد أصبحت
أداة الغلبة مع الأمويين، بعد أن كانت الشورى (الخاصة
بالقبيلة والمتخفِّية وراء شورى النص) هي أداتها قبلهم،
فإنه يبقى أن هذا التحول إلى الوراثة قد ظل يُمثِّل كسرًا
لأحد العناصر المستقِرَّة في نظام القبيلة؛ ولهذا فإن كافة
الاعتراضات على هذا التحوُّل قد اتخذت شكل اعتراض القبيلة،
ولم يحدث أبدًا أن احتج أحد بالدِّين والعقيدة، الأمر الذي
يعني أن أحدًا لم يُدرِك في هذا التحول خروجًا على مقتضَيات
الدين والعقيدة،
٢٠ بقدر ما أدرك فيه الكافَّة خرقًا لقانون
القبيلة، وهكذا فإن رصدًا لكافة الاحتجاجات على ما أحدث
معاويةُ لا يتكشف عن شيءٍ يُجاوِز حدود ما قاله عبد الله بن
الزُّبير يحتج على معاوية: «إن هذه الخلافة لِقريش خاصة،
تتناولها بمآثرها السَّنِيَّة، وأفعالها المَرْضية، مع شرف
الآباء وكرم الأبناء، فاتقِ الله يا معاوية، وأنصِف من نفسك.»
٢١ وبما يعنيه ذلك من أن الأمر لا يتجاوز حدود
أن القبيلة تحتج على استئثار أحد بطونها بما كان
اختصاصًا لمجموعها.
والغريب حقًّا أن يأتي الاعتراض، على ذلك أيضًا، من
بني أمية أنفسهم، وهم عصبية معاوية الغالبة والمخصوصة
بالأمر، وهو ما يعني أن الأمر حين يتعلَّق بما يتهدد نظام
القبيلة فإنه ليس ثمة مِن فارقٍ بين أموي داخِل في الأمر
وغير أموي خارج عنه؛ وذلك انطلاقًا من سيادة وعي القبيلة
عند الكافَّة، ولعل في ذلك تفسيرًا لما حدث حين كتب معاوية
إلى مروان بن الحكم (الأموي) وكان عامِلَه على المدينة
يذكر «الذي قضى الله به على لسانه من بيعه يزيد»، فإن
مروان بن الحكم لمَّا قرأ كتاب معاوية «أبَى من ذلك وأَبَتْه
قريش (وبما يعني أن الأموي لم يختلف عن القرشي في
الرفض)، فكتب لمعاوية: إن قومك قد أبَوْا إجابتك إلى بيعَتِك
ابنك … بل وراح يتهدده: فأقمِ الأمر يا ابن أبي سفيان،
وأهدئ من تأميرك الصبيان، واعلم أن لك في قومك (يعني
قريشًا أو حتى الفرع المرواني من بني أمية) نظرًا، وأن
لهم على مُناوأتك وزرًا.»
٢٢ وهكذا فإن الخدعة لم تنطلِ على الأموي
المُراوِغ مروان الذي أدرك — فيما يبدو — أن جعلْ معاوية
من بيعته ليزيد شيئًا قضى الله به على لسانه، وبما يعنيه
من القصد إلى إخفاء قضائه الخاص وراء قضاء الله الذي لا
يُرد، لا ينطوي على أكثر من سَعيه الخفي إلى إزاحة
القبيلة وإخراجها من الأمر كليًّا؛ ولذلك فإنه يُلحُّ على
تذكير معاوية: إن لك في قومك نظرًا، وإن لهم على مناوأتك
وزرًا، ولكن ولأن معاوية كان قد أجمع أمْرَه، ولم يكن
شيءٌ من المناوأة أو غيرها، مما يمكن أن يُثنيَه ويَردَّه
عما أراد من توريث ابنه، فإنه — وحين أدرك أن شيئًا من
قبيل ما كانت تُردِّده بطانته من «إن يزيد أعظمنا حلمًا
وعلمًا، وأوسعنا كنفًا، وخيرنا سلفًا، وقد أحكمته
التجارب، وقصدت به سبل المذاهب.»
٢٣ ليس مما يجدي في مواجهة القبيلة المُحتجَّة —
لم يجد إلا أن يُعلن: «إن أمر يزيد قضاء من القضاء، وليس
للعباد الخيرة من أمرهم.»
٢٤ وبحيث بدَا وكأنه لا يكتفي، بأن يخفي قضاءه
الخاص وراء قضاء الله فقط، بل وينطق صراحة بالقصد من ذلك
إلى إزاحة الناس (أو العباد حسب تسميته) — وليس القبيلة
فقط — عن الأمر تمامًا، ولعله كان يكشف بذلك عن أن
التقديس في المجال السياسي إنما يستهدف التعالي بالسياسة
إلى ذروةٍ لا تتسع معها، إلا للمستَبِد وزُمرته.
وإذ يبدو، هكذا، أن القضاء من الله قد كان سلاح معاوية
في كسر اعتراضات القبيلة أو حتى العشيرة، فإنه يلزم
التنويه بأن الأمر، هنا، لا يتعلق بما هو أكثر من كسر
اعتراض القبيلة على مبدأ التوريث للسُّلطة (الذي يبدو أن
النبي نفسه لم يقدِر على كسره بعد أن حالتِ القبيلة بينه
وبين كتابه الذي انْتَوى كتابته)، وليس أبدًا كسر نظامها،
فالحق أن هذا النظام — أعني نظام القبيلة — يتميز
بمرونةٍ فائقة جعلَتْه يستمر فاعلًا رغم هذا الانكسار،
الذي جرى، لآليته في تداوُل السُّلطة، وهكذا فإن الأمر
حقًّا لم يتجاوز حدود ما سبق الإلماح إليه من أن تحولًا
كان يطرأ على أحد عناصر هذا النظام على نحوٍ يتسع به
لتحولات الواقع، ومن هنا أن ما استعصى على الانكسار مع
النبي قد أمكن كسْرُه مع معاوية؛ لا لأن سُلطة معاوية كانت
أقوى من سُلطة النبي، بل لأن ما لم يتقبَّله الواقع المحدود
لدولة النبي في المدينة، قد اقتضاه الواقِع المتمدِّد
الواسع لدولة معاوية في الشام وما وراءها؛ ولهذا فإن ما
كان يحدث بالفعل هو أن هذا النظام (وأعني نظام القبيلة
الذي راح يتسع، انصياعًا لحركة الواقع لمَّا لم يَتَّسع له
قبْلًا) قد كان يتخفَّى، هذه المرة، وراء مقدَّس الدِّين الذي
يستحيل كسْرُه، وذلك بعد أن كان يتماهى معه قبْلًا، ولكن من
دون أن ينكسر هذا النظام أو يتزحزح، والحق أن هذا التخفِّي
قد راح يمثل تدعيمًا لنظام القبيلة على نحوٍ ما، وأعني
من حيث ابتدأت به سيرورة التقديس لسلطة الحاكم-الأب
الذي لم يفارقه البتة ملامح رَب القبيلة وشيخها بكل ما
تحمله هذه الملامح من أبويةٍ طاغية هي الأصل في نظام
القبيلة، ومحور بنائها، وأعْنِي من حيث باتت سلطته تحققًا
للقضاء من الله، بما يعنيه ذلك من أصلها المجاوُز، وليست
نتاج الشورى (ولو كانت شورى المغالَبة أو القبيلة، وليست
شورى العقيدة) بما تحيل إليه من الأصل الإنساني للسلطة،
وهكذا فإنه إذا كان ما مُورِسَ قبْلًا من إحلال الله (في
الظاهر) مَحل القبيلة (في الباطن) قد آل — عبر ما رسَّخَه
هذا الإحلال من التماهي بين الإلهي والقَبَلي — إلى ضرورة
خلْع قداسة الإلهي وجلاله على القبيلة، فإن ما فرضه
الواقع من وجوب اتِّساع نظام القبيلة لآليةٍ في تداول
السُّلطة مُغايِرة لتلك التي عرَفَها على مدى تاريخه، قد آل،
بدوره — وعبر ما اقتضاه هذا الاتساع من إخفاء القَبَلي
وراء الإلهي — إلى التعالِي بالسلطان، وبأصل سُلطته، إلى
تُخوم الإلهي، وبما يعنيه ذلك من اكتسابه قَداسة الإلهي
وحَصانته، إن ذلك يعني أن الانتقال من علاقة التماهي بين
القَبَلي والإلهي إلى علاقة التخفِّي للقَبَلي وراء الإلهي،
إنما يحيل إلى تخفِّي تقديس النظام، وأعني دومًا نظام
القبيلة، وراء تقديس السلطان، ولعل الأهمية القصوى لهذا
التحول إلى تقديس السلطان تتأتَّى مِمَّا ينطوي عليه من
دلالة الانتقال من «التقديس ينتج نفسه في السياسة» إلى
«التقديس يؤسس نفسه في الثقافة»، وأعْنِي من حيث راح هذا
التقديس للسلطان يتبلور، لا كمجرَّد ممارسة سياسية فقط، بل
كفعلٍ معرفي في الثقافة، بَلْوَر — حين كان هو نفسه يَتبلْوَر
— آليات وطرائق في إنتاج المعرفة، كان لا بد أن تتحقق
لها السيادة داخل الثقافة ابتداءً من هذا الارتباط
بالسُّلطة.
(٢) التقديس … من السياسي إلى الثقافي
لعله يلزم التنويه — منذ البدء — بأنه إذا كان الثقافي
في الإسلام قد تحدَّد بالسياسي وضِمْن سياقه، وذلك عبْر
توسُّط الديني أو الإلهي، فإن هذا التوسط للديني بالذات
كان لا بد أن يطلق الثقافي من قبضة السياسي والتاريخي،
ويتعالى به إلى فضاء راح يخايل فيه، هو نفسه، بقداسة
مارَس معها هيمنة مطلَقة وغير مشروطة على التاريخي، وإلى
حد تَحوُّله — عبر هذا التوسط — من التحدد بالسياسي
والتاريخي والتأثر بهما إلى تحديدهما والتأثير فيهما،
ومن هنا جوهريته في بناء تجربة التقديس كلها، لا من حيث
استحالته إلى ساحة الحضور والفاعلية لكل من الديني
والسياسي، بل ومن حيث أصبح — وهو الأهم — ساحة تتقاطع
فيها القداسات جميعًا، وأعني قداسة الديني والسياسي
والمعرفي، وبالطبع فإن ذلك يعني إمكان تفكيك تجربة إنتاج
«التقديس» وترسيخه عبر الانحصار في فضاء قراءة هذا
الثقافي وتفكيكه.
وهنا فإنه إذا كان إنتاج التقديس في السياسة، قد راح
يتحقق عبر استراتيجية يتعانق فيها التَّماهي والتَّخفِّي لكل
من القَبَلي والدِّيني، فإن تأسيسه — في الثقافة — قد راح
يتحقق، بدوره، عبْر استراتيجية يتجاوب فيها النَّقْلي مع
العقلي، وأعني من حيث إن ما تواتَر في النَّقْل من المروِيَّات
عن تقديس السلطان/الأب تحديدًا (سواء جاءت هذه المرويات
على لسان النبي
ﷺ أو كانت من إنتاج
الثقافة) قد تضافَر في تأسيسه للتقديس مع نظامٍ معرفي
يؤسس، في العقل، لسلطة النموذج/الأصل، وذلك بالطبع عبْر
التوسط الدائم للدِّين؛ حيث القداسة/الأصل، أعني قداسة
الرب. وإذن فإنه الانتقال من قداسة السلطان/الأب (في
السياسة) إلى قداسة النص/الأصل (في الثقافة)، وذلك
بتوسُّط قداسة الرب (في العقيدة)، ولعل المهم هنا أن مفهوم
الأصل قد استحال في الثقافة إلى قناعٍ للقداسة، وأعني
من حيث استحال إلى سلطةٍ تستعصي على التجاوز، وبما يؤهِّله
لأن يكون قناعًا لسلطة حاكِم لا يقبل الغياب أبدًا؛ إذ
الحق أن ثقافة تَنبَني على تأسيس الأصل كمجرد سُلطة، وليس
كموضوع لمعرفةٍ حقة، لا يمكن أن تَئُول إلا إلى بلورة عقل
— والعقل يتشكل دومًا داخل الثقافة وبحسب قواعدها — لا
يفكر إلا خاضعًا لسلطة، لا يقدِر على الانفلات من سطوتها،
وضمن سياق هذا الخضوع، فإنه ليس من فارِقٍ بين كل من
الأصل (في الثقافة) والسلطان (في السياسة) كسلطةٍ لا
سبيل للعقل بإزائها إلا أن يذعن وينصاع.
ولعل نقطة البدء في تفكيك «نظام ثقافي» يتمحور حول
تأسيس سُلطة الأصل وتثبيتها على نحوٍ مطلَق إنما تنطلق من
ضرورة مقارَبة آليته الرئيسة في إنتاج سُلطة هذا الأصل/النموذج، التي لا يمكن أن تكون
إلا «النقل» الذي يبدو
أنه وحده — وليس أي آلية سواه — ما يتجاوب مع القصد إلى
ترسيخ الأصل وتثبيت سلطته، ومن هنا فإن مركزية النقل، في
الثقافة العربية الإسلامية التي تكاد أن تكون قد تبلورت
كليًّا ضمن سياقٍ نَقْلي خالص، لا بد أن تكون هي نقطة
البدء في تفكيك التقديس الذي يبدو أن ترسيخه وتأييده قد
ارتبطَا بتلك المركزية للنقل كآليةٍ معرفية من جهة،
وكمضمونٍ معرفي من جهةٍ أخرى، ولعل ابتداء تمركُز النقل —
كآليةٍ ومضمون — إنما يتأتَّى مما يمكن ملاحظته من أن علم
الحديث يكاد أن يكون بمثابة الأب لجملة العلوم التي
ابتدأت الثقافة سيرورة انبنائها وتشكُّلها من الاشتغال بها
أساسًا؛ حيث «كان الحديث هو المادة الواسعة التي تشمل
جميع المعارف الدينية (وغيرها) تقريبًا، فهو يشمل
التفسير، ويشمل التشريع، ويشمل التاريخ (وكلها بمثابة
التشكيلات والانتظامات الأولى في تاريخ انْبِناء الثقافة
في الإسلام)، وكانت كلها مُمتزِجة بعضها ببعض تمام
الامتزاج، فراوي الحديث يروي حديثًا فيه تفسير لآيةٍ من
القرآن، وحديثًا فيه حكم فقهي، وحديثًا فيه غزوة من
غزوات النبي
ﷺ، وحديثًا فيه شرح حالة اجتماعية زمن
النبي أو الصحابة أو التابعين … وهكذا فمنزلة الحديث
بالنسبة للعلوم الدينية (ولم يكن ثمة من علوم غيرها
آنذاك)، كمنزلة الفلسفة للعلوم العقلية.»
٢٥
ولعل القصد هنا أنه بمثل ما كانت الفلسفة هي أم
العلوم في الثقافة اليونانية، فإن الحديث قد كان بمثابة
الأب للعلوم في الثقافة الإسلامية، وبما يعنيه ذلك من أن
مركزية «العقل» في إحدى الثقافتين، إنما تحيل إلى مركزية
«النَّقْل» في الأخرى، والحق أنه لا مجال للادعاء بأن هذا
«التمركز النَّقْلي» قد تَسيَّد الثقافة مع ابتداء تشكُّلها
فقط؛ لأنه يبقى الأكثر حسمًا في مسار انبنائها اللاحق
كله، وأعني من حيث كان لا بد للطابع النَّقْلي لآلية
الاشتغال في لحظة الابتداء والتشكل، أن يتجذر في قلب
الثقافة، ويترسخ في التجاويف العميقة لنظام لاوعيها
المعرفي، الذي لم يزل يحدد ويتحكم في وعيها المعرفي حتى
الآن.
وإذا كان ثَمَّة مَن راح يرد هذا التمركز النَّقْلي للثقافة
إلى عالَم البداوة — كاشفًا عن حضور القبيلة — حيث «الملة
في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة لمقتضى أحوال
البداوة، وإنما أحكام الشريعة كان الرجال ينقلونها في
صدورهم، وقد عرفوا مأخذها من الكِتاب والسُّنة بما تَلقَّوه من
صاحب الشرع وأصحابه، والقوم يومئذٍ عرب لم يعرفوا أمر
التعليم والتدوين، ولا دعتهم إليه حاجة إلى آخر عصر
التابعين، وكانوا يُسَمُّون المختصِّين بحمل ذلك ونقْله
«القُرَّاء»، فهم قُرَّاء لكتاب الله سبحانه وتعالى، والسُّنَّة
المأثورة التي هي في غالب موارده تفسير له وشرح.»
٢٦ — فإنه يبدو أن الأمر يتجاوز إلى ما هو
أعمق، وأعني إلى أن آلية النقل إنما تحمل ملامح عالَم
القبيلة على نحوٍ لافت؛ حيث يمثل النقل كآليةٍ معرفية
انعكاسًا كليًّا لطريقةٍ في العيش تتميز بها القبيلة،
ولا تعرف فيها إلى مجرد الاستيلاء والسطو على ما في أيدي
الآخرِين؛ «ولهذا نجد أوطان العرب وما ملكوه في الإسلام
قليل الصنائع بالجملة حتى تُجلَب من قطرٍ آخر.»
٢٧ وإذ النقل للجاهز والمُعطَى هو آلية القبيلة
في بناء حياتها، فإنه سيكون آليتها في بناء ما يمكن
اعتباره معرفتها وثقافتها، ومن هنا إمكان الانتقال
بدلالة عبارة ابن خلدون الآنفة من حقل الأشياء والصنائع
إلى فضاء العلوم والمعارف، حيث النقل كنمطٍ في التفكير
إنما يتجاوب مع النقل أو الجلب كنمطٍ للعيش،
٢٨ والحق أن نظرة إلى ما جرى اعتباره علوم
القبيلة، من قَبِيل الأنساب وأيام العرب وغيرها، لَممَّا تقطع
بأن آلية النقل والرواية قد هَيمنَت، على نحوٍ شبه مطلَق،
على أي اشتغال معرفي للقبيلة.
والحق أن ما يلوح من وراء ذلك، من أن مركزية ما يخص
عالم القبيلة وينتمي إليه، بناء التقديس، إنما يتجاوز
السياسة (حيث الأب المطاع) إلى الثقافة (حيث الأصل
المنقول المُحتذَى)، لما يؤكد على أن تجربة التقديس
انْبِناءً (في السياسة) وتأسيسًا (في الثقافة) لا يمكن أن
تنفصل البتَّة عن أنماطٍ في الحياة والتفكير ترتد إلى
أشكال الوجود الإنساني الأسبق والأقدم، وبالطبع فإن
إعادة إنتاج التقديس إنما تحيل إلى أن هذه الأنماط،
وخصوصًا تلك التي تتعلق بالتفكير بالذات، قد ارتفعت إلى
مستوى النظام العَمِي المتخفِّي في تجاويف اللاوعي المعرفي
للثقافة، الذي يُعاد إنتاجه رغم غياب شرطه أو قرينه،
وأعني به نَمَط العيش المصاحِب له.
وإذا ظل «النَّقْل» يعتد آلية «التداول الشفاهي» حتى
تضخَّمت المعارف وانشعبت على نحو صار معه التحول إلى
«التدوين الكتابي» لازمًا، فإن انشغال ثقافة ما، منذ
البدء، بصيرورة هذا التحول من «الشفاهي» إلى «الكتابي»
كان لا بد أن يجعل سُلطة القابِضِين على الرأسمال الشفاهي
للجماعة (من الحفَّاظ والرواة والنَّقلة) هي السُّلطة العليا
آنذاك، ومن هنا ما يُلاحَظ من أن لَقَب «الحافظ» قد عُدَّ —
داخل الثقافة — من ألقاب السيادة والهيمنة، حتى قد راح
الكثيرون يتطلعون اجتيازه والفوز بشرف التلقُّب به؛
التماسًا، بالطبع، لامتلاك أسباب السُّلطة والسطوة، ولو
حتى الرمزية، ولسوء الحظ، فإنه يبدو أن سُلطة هؤلاء
الحُفَّاظ لم تتزحزح أبدًا، حتى الآن؛ إذ الحق أنه إذا
كان العقل قد راح يبحث لنفسه، فيما بعد لحظة التَّشكُّل
والانْبِناء الأُولى، عن مكانٍ يُمارِس فيه سُلطة ما، داخل
الثقافة التي سادت في الإسلام، فإنه يبدو أن هذه
الممارسة للعقل قد ظلت أبدًا مقيدة بسلطةٍ تحددها
وتعوقها، من خارج العقل نفسه، بل إنه يبدو، وتتدعم مع
انفتاح الثقافة على العقل وعلومه، وذلك من حيث ظَلَّ النقل
هو آلية اشتغالها ضمن هذا السياق أيضًا،
٢٩ بل إن آليتها في ترسيخ هيمنة النقل من خلال
تكريس سُلطة الأصل الذي لا يمكن الانحراف عنه، بل لا بد
من تكراره أبدًا، قد راحت تعيد إنتاج نفسها حال اشتغالها
بالعقل وعلومه،
٣٠ ولعل ذلك مثلًا ما يتكشف عنه سعي ابن رشد
(وهو الرائد الكبير في الانشغال بعلوم العقل) إلى تكريس
سُلطة «أرسطو» كأصلٍ لا سبيل إلا إلى تأَسِّيه واحتذائه،
وذلك باعتبار مُنجَزه هو — على قوله — منتهَى ما بلغَتْه العقول
الإنسانية، وبما يَئُول إليه ذلك من ضرورة استعادته
أصليًّا ونقيًّا خالصًا مما تَصوَّرَه ضروبًا من الانحراف
والفهم المُجاوِز، الذي بدا — بحسب آلية التفكير بالأصل
التي اشتغل بها العقلاني الكبير — أنه كان موضوعًا له
عند شارحيه القدماء، وبالطبع فإن هذا التثبيت لأرسطو
كأصلٍ نهائي مُطلَق إنما يحيل إلى ما يبدو وكأنه «التقديس»
الرشدي له، والمهم أنه بدا وكأن آلية النقل قد راحت،
هكذا، تعيد إنتاج نفسها عند العقلاني الأكبر، في شكل
تفكير بالمأثور أيضًا، لكنه المأثور العقلي هذه المرة،
بعد أن كان قبلًا مجرد مأثور سلفي/نقلي فقط، وهكذا فإن
المضمون العقلي الذي أخذه العقل مع ابن رشد، لم يُؤثِّر في
حقيقة أنه يفكر بحسب الآلية التي استقرَّت داخل الثقافة،
وبما يعنيه ذلك من المضمون «اليوناني» قد جرى استيعابه
بحسب قواعد النظام الخاص بالثقافة التي كان ابن رشد فكَّر
داخلها.
وإذا كان لا بد أن تَئُول هذه المركزية «للنقل» إلى
مركزية آلية التفكير بالمأثور أو المنقول سلفيًّا أو
عقليًّا (وهي الآلية التي تمثل السلف المباشر لآلية
«التفكير بالنموذج» التي تسود فضاء الخطاب العربي
المعاصر)، فإنه يلزم التأكيد على أن قوة «التفكير
بالمنقول» قد بلغت حد أن الثقافة كانت حين لا تجد
منقولًا «سلفيًّا أو عقليًّا» تُفكِّر به، فإنها كانت تضعه
وتنتجه؛ ومن هنا شيوع الانتحال والوضع ليس فقط للمأثور
السلفي (على لسان النبي والصحابة والتابعين وهم رموز الدين)،
٣١ بل وحتى للمأثور العقلي (على لسان رموز
العقل من كبار الفلاسفة)،
٣٢ ويعني الوضع، هنا، أن شيئًا في الواقع
يمتلك قوة حضور تبلغ حدًّا من المركزية كان لا بد معه أن
يكون ثَمَّة مأثور أو منقول يمنح هذا الحضور قُوَّته الرمزية،
ولكن عدم وجود مثل هذا المأثور على نحوٍ فعلي يدفع
الثقافة إلى وضْعِه، وكما سبق القول فإن القوة الرمزية لمن
يُرَد إليه هذا المأثور ويُوضَع على لسانه، لا بد أن تتوازى
مع الفاعلية المتحقِّقة لهذا المأثور في الواقع، وقد تكون
هذه الفاعلية «هيمنة» متحقِّقة، وتسعى إلى تثبيت حضورها،
أو «جرحًا» نازفًا في قلب أمة أو جماعة، ولا سبيل إلى
التخفُّف من وطأته إلا عبْر هذا الانتحال الذي يُمكِّن الوعي
من تعويض بؤس الحاضر بوعود المستقبل.
وإذا كان هذا التمركز النَّقْلي للثقافة قد لعب دورًا
جوهريًّا في إنتاج التقديس وتأسيسه، فإن ما يبدو من
إمكان التمييز، ضمن بناء النَّقل، بين «آلية» تنتجه، وبين
«مضمون» يكون موضوعًا لها، إنما يكشف عن تجاوبهما في هذا
التأسيس على نحوٍ كامل؛ فإذ تحيل آلية النقل إلى تثبيت
سُلطة ما في الماضي كأصلٍ ثابت وخالِد، ومكتمِل ومطلَق، حتى
ليستعصي على أي تخطٍّ أو تجاوُز، وليس من سبيلٍ بإزائه إلا
التكرار والترجيع، وبما يعنيه ذلك من أن الوعي لا يعرف —
بحسب هذه الآلية — إلا أن يتهاوى في قبضة موضوعه خاضعًا
لأبويته وسلطانه على نحوٍ مُطلَق، فإن ذلك يحيل إلى موقف
للوعي بإزاء هذا الموضوع لا يجاوز البتة حدود «التوقير
والإجلال» التي تُمثِّل جوهر العلاقة مع المقدَّس، وغنيٌّ عن
البيان أن ذلك يتجاوَب على نحوٍ كامل، مع مضمون ما تزخر
به مأثورات النَّقل المتواترة من لزوم الانصياع والطاعة،
وبالطبع فإن كون موضوع «النقل» يتحدد بحسب آلية «النقل»،
على هذا النحو من الإطلاق والثبات والمفارَقة، وإن علاقة
الوعي به تَتحدَّد بحسب الآلية نفسها، انصياعًا وخضوعًا
لسطوة أبويته وسلطانه، إنما يحيل أن هذه الآلية تكاد لا
تفعل حقًّا، إلا أن تنتج كل ملامح المقدَّس وسماته، وهي
الملامح التي ينتجها المضمون أيضًا.
والحق أنه لن يكون غريبًا أن يتجاوب النقل «كمضمون» مع
ما تَئُول إليه هذه الآلية من تأسيس التقديس على نحوٍ
كامل، بل إنه قد راح يحققها تمامًا، ولكن مع ملاحظة أنه
إذا كان النقل «كآلية» قد راح يؤسِّس للتقديس على العموم،
فإنه قد راح «كمضمون» ينتجه ضمن سياقاتٍ محددة، يبدو
الأبرز والأكثر إلحاحًا منها إنتاجه ضمن سياق السياسة
بالذات، وذلك من حيث بدا — وللغرابة — أن مضمون المرويات
إنما يتجاوب بالذات مع ذلك التخفِّي، الذي سبق التنويه بأن
القبيلة قد أنجزته مع معاوية تحديدًا، لتقديس النظام
(أعني نظام القبيلة) وراء تقديس السلطان.
فإذا تواترتِ المرويات، عديدة وشَتَّى، عن فضل السلطان
وحقه، تكريسًا لسلطةٍ لا يمكن مناوأتها وتثبيتها لهيمنةٍ
يتعذَّر ردُّها، فإن ثمة من هذه المرويات ما راح يتعالَى
بالسلطان إلى مقامٍ يتماثل فيه مع الله، تماثُلًا لن تفعل
الثقافة بعد ذلك؛ وأعني كنظامٍ معرفي يُكرِّس سُلطة الأصل،
إلا أن تنتجه خطابًا يتعالى بالسلطان، عند عديدٍ من
المتكلمين وفقهاء السياسة، إلى مقام الأصل الذي يُقاس
عليه الله كفرع؛ حيث «الحضرة الإلهية لا تُفهم إلا
بالتمثيل على الحضرة السلطانية» على قول الغزالي، وهنا
فإنه إذا كان المأثور الأشهر عن «السلطان هو ظل الله في
الأرض» الذي يكاد، لكثرة تداوُله، أن يكون أحد مُسلَّمات
عالَم السياسة في الإسلام، يكتفي بأن يقارِب بين الله
والسلطان، ولو إلى حدود المشابَهة بينهما تَشابُه الشيء مع
ظِلِّه، وذلك ابتداءً مما تحمله كلمة الظل من معنى الدُّنو والمشابَهة،
٣٣ فإنه يُبقِي أن ظِل الشيء هو غيره، وأن
السلطان، هكذا، هو مجرَّد ظِل لحضور أصل؛ ولهذا فإن مسافةً
ما تظل قائمة بينهما رغم أي دُنو أو مشابَهة. ومن هنا
تبايَن هذا المأثور عن مروياتٍ أخرى راحت تُلاشِي المسافة
وتلغيها بين الأصل والظل على نحوٍ كامل، وبمعنى أنها
راحت تُنتِج تماثلَهما كاملًا، وأعني ذاتًا وصفةً وفعلًا،
أو أداةً يتحدد عن طريقها شكْل فِعْل الله في العالم.
ولعل حالة نموذجية يتضافر فيها المأثور «عن النبي» مع
المأثور «من الثقافة» في إنتاج التماثل الكامل بين كلٍّ
من الله والسلطان ذاتًا وحضورًا، تتبَدَّى في أن ما أورده
البخاري (مأثورًا عن النبي) «لا تَسُبُّوا الدَّهر، فإن
الدَّهر هو الله.»
٣٤ قد راح ينعكس مأثورًا في الثقافة، ينهَى،
هذه المرة عن سبِّ الزمان؛ لأن الزمان هو السلطان.»
٣٥ ولعل معاوية، الذي كان — بإقراره من نفسه —
أول الملوك، هو أول من دشن هذا المأثور في الثقافة، حيث
تنسب إليه المرويات قوله: «نحن الزمان»، وبالطبع فإن
كونه الأول «تفردًا بوصف الملك» في السياسة، والأول
«تدشينًا للمأثور عن الزمان كملك أو سلطان» في الثقافة،
مما له دلالته القصوى في تأكيد التضافر في إنتاج
التقديس بين السياسة والثقافة.
وبالرغم مما يبدو، هكذا، من أن التصور المستقر في
الثقافة قد راح يُنتِج مأثورًا تنعكس على مرآته المماثَلة
الكامنة، أو — بالأحرى — المتحقِّقة فعلًا، في الواقع «بين
الله والسلطان»، فإن ذلك لا يعني إمكان تجاهل هذا
المأثور، المنتَج ثقافيًّا، وإهماله، وذلك من حيث يفتقر
إلى القوة المستمَدَّة من سُلطة النبي؛ إذ الحق أنه يستمد
قوة حضوره من سُلطةٍ لا تقل سطوة، وأعني سُلطة الواقع التي
بلغت سطوتها حدَّ توظيف سُلطة النبي ذاتها لحسابها، وذلك
حين راحت تضع على لسانه أحاديث لم يَقُلها، ومرويات ليست
له، كي تستخدمها في حسْم الصراعات التي دارت على ساحتها،
وإذن فإنه المأثور يَستمِد قوَّته، لا مِن سَندِه المرفوع إلى
النبي، بل مِن تفاعُلِه وتجاوُبه مع التصور المهيمن والأكثر
فعالية في كلٍّ من الواقع والثقافة.
وبالطبع فإن التصور (المستقر في الثقافة عن تماثُل الله
والسلطان مثلًا) إنما ينتج المأثور لكي يُعاد إنتاجه، هو
نفسه، عن طريق هذا المأثور في دورة إنتاج يعيد فيها
الواحد منهما إنتاج الآخر ويدعمه، وعلى أي الأحوال، فإنه
يبقى أن كلا الأثرين (النبوي والثقافي) يتضافران
ويتكاملان في إنتاج التصور المهيمِن في الثقافة لعلاقة
الله والسلطان ودعمه، وذلك بدءًا من اللغة التي تعكس
تطابقًا أسلوبيًّا دالًّا وكاشفًا، وكذلك المضمون الذي
يطابِق أيضًا بين الله والسلطان حين يجمع بينهما في النهي
عن السبِّ وعن عدم الطاعة، وإذن فإن التطابق ينتجه
الأثران على صعيد الشكل والمضمون معًا.
وهكذا فرغم ما يبدو أن التقابل بين الدهر والزمان يُنتِج
نفسه تقابلًا بين الله والسلطان، فإن ما يبقى قائمًا
بينهما حقًّا هو التماثل والتطابق؛ إذ الحق أنه إذا كان
ثَمَّة تقابُل أو فارِق بين الزمان والدهر، انطلاقًا من كون
أحدهما (وهو الدهر) باقيًا، والآخر (وهو الزمان) زائلًا
وفانيًا، فإنه يبقى فارقًا خارجيًّا محضًا؛ لأنه لا
يتعلق بنوع حضور الواحد منهما وكيفيته، بقدر ما يتعلق
بامتداد هذا الحضور وكميته؛ ولهذا فإنه من نوع الفارق
الذي لا ينال البتة من طبيعة الحضور المتماثل لذات كل من
الله والسلطان، إنه فقط يتناهى بالسلطان؛ إذ يربطه
بالزمان فيما يطلق الله خارج حدود التناهي حين يربطه
بالدهر، ولكن من دون أن يُؤثِّر أي من التناهي أو الإطلاق
على طبيعة الحضور المتماثل لذاتهما أبدًا، وأعني أن هذا
التبايُن يتأتى فقط — حسب دلالة هذه المرويَّات — من أن
أحدهما، وهو الله، ذو وجود مُمتَد، في حين أن الآخَر، وهو
السلطان، يكون ذا وجود منقطِع، وأما فيما يتعلق بماهية
الحضور الذاتي لكلٍّ منهما (وهو الأهم على أي حال)، فإنه
لا شيء إلا التماثل الذي يمكن منه المصير إلى تَصوُّر الله
هو السلطان الباقي، وتَصوُّر السلطان هو الإله الفاني أو
غير الباقي، وإذ يبدو هكذا أن ما يطرأ على السلطان من
الفناء إنما يقطع امتداد حضوره فقط، ولكن من دون أن يُغيِّر
هذا الانقطاع في طبيعة حضوره وماهية ذاته، فإن ذلك يعني
أنه يتماثل ذاتًا وماهية حضور مع الله تمامًا، وذلك في
مدة بقائه المنقطع على الأقل، وحتى هنا فإنه إذا كان
حضور السلطان الفاني/المنقطِع، إنما يتجدد في آخَر باقٍ/ممتَد، وهكذا دواليك، فإن هذا
التجدُّد ينطوي على نوعٍ من
قهْر التناهي، الذي لا بد أن يخايل بالتماثل تامًّا، حيث
الحضور المتجدِّد للسلطان يوازي، لا محالة، الحضور الممتد
لله.
والحق أنه لن يكون غريبًا أن يتجاوز هذا التوازي، عبْر
تعويض الحضور الممتد بالحضور المتجدِّد، حدود الذات، إلى
إنتاج نفسه — وعبْر ذات الامتداد والتجدد — على صعيد
الصِّفة أيضًا، فإذ القرآن هو كلام الله أو صِفته التي ليست
مجرَّد صفة كغيرها، بل تكاد أن تكون هي الصفة الأهم لله،
حيث «مسألة القرآن (أو كلام الله) هي أهمها.»
٣٦ فإن المرويات لم تقبل إلا المَصِير إلى: «إن
الله يَزَع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.» سعيًا إلى
المخايَلة بالطبع بأنه إذا كان الوازع في القرآن لم يَعُد —
رغم امتداد فعاليته — يتجدد بسبب إكمال الدين وتمام
الوحي، فإن ذلك لا يعني انقطاعًا كاملًا ونهائيًّا لتجدُّد
هذا الوازع الممتد، بل إن تجدُّده سوف يدوم ويستمر، ولكن
عبْر السلطان هذه المرة، الأمر الذي يعني أن الوازع
الممتَد في القرآن إنما يستحيل إلى نوعٍ من الوازع
المتجدِّد بالسلطان، وعلى نحوٍ يصح معه اعتبارهما معًا
(القرآن والسنة) صفة لله، وذلك من حيث إنه إذا كان
القرآن — أو الوازع المُمتَد — هو صفة لله بالفعل، فإن
السلطان بدوره — وابتداءً من كونه وازعًا أيضًا (ولو أنه
من قبيل الوازع المتجدِّد) — لا بد أن يقارِب حدود أن
يكون صفةً له أيضًا.
والعجيب أن الأمر لم يقف عند حدود هذه المماثَلة
للسلطان بالقرآن، التي تكاد تجعله مثله صفة لله، بل
ويتجاوز إلى أن يكون فعله، أو أداة يتحدد عن طريقها، على
الأقل، شكل فعل الله في العالم، حيث السلطان، ليس فقط
«ظل الله في الأرض»، بل هو أيضًا «رمحه»، حسب مأثور يجمع
للسلطان بين كونه الظل والرمح لله،
٣٧ وإذ الرمح هو فعل الله — أو بالأحرى ذاته —
في مَجال الحياة والموت، فإن ثَمَّة مأثورًا راح يجعل من
السلطان أداة الله في مجال العطاء والقَبْض عن طريق كونه
قفله، وذلك على قول «أبي جعفر المنصور» أول خلفاء
العباسيين: «أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه،
أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وأنا خازِنه على فَيْئه، أعمل
بمشيئته وأقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه، قد جعلَني الله
عليه قُفلًا، إذا شاء أن يفتحني لأُعْطِياتكم وقَسْم فيئكم
وأرزاقكم فَتحَنِي، وإذا شاء أن يقفلني أقفلني.»
٣٨ وهكذا يتحدد فِعل السلطان في أهم ما يخص
البشر في إطار دولة الغزو (موتًا وحياةً)، والفيء (قبضًا
وعطاءً) بوصفه فعل الله، وبالرغم مما يحيل إليه ذلك من
أنها دولة الغزو والفيء، التي لا يعرف فيها السلطان إلا
أن يكون رمحًا (في الغزو) وقُفلًا (في الفيء) وهي تخفي
ممارسته الباطشة وراء الله، فإنه يبقي — من وراء ذلك كله
— أن ثمة التداني بالسلطان إلى حدود أن يكون فعل الله أو
أداته في الفعل.
والغريب أن هذا التماثل بين الله والسلطان (ذاتًا
وصفةً وفعلًا) قد راح يَئُول إلى نوعٍ من التسوية، أو
التماثل، في إطلاق الوصف نفسه على حال من يجهل الواحد
منهما، وهكذا فإنه إذا كانت الثقافة قد أَحدثَت وصف
الجاهلية وأطلقته على مَن يجهل الله، ويظن به غير الحق،
حيث الجاهلية «هي اسم حدَث في الإسلام للزمن الذي كان قبل
البعثة ومنه
يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ
الْجَاهِلِيَّةِ.»
٣٩ فإن المروِيَّات قد أحدثَتْه، بدورها، على حال
مَن يجهل السلطان هذه المرة، وضمن هذا السياق فإنه إذا
كان من مات من غير أن يعرف الله لا بد أنه قد مات مِيتةً
جاهلية، فإنه بات لازمًا أن «من مات ولم يعرف السلطان
مات ميتةً جاهلية.»
٤٠ أيضًا.
وهكذا كان لا بد أن يتأدى التماثُل بين الله والسلطان
(ذاتًا وصفةً وفعلًا) إلى تماثُل الموقف منهما جهلًا وخروجًا
٤١ يَئُول بصاحبه إلى الجاهلية والضلالة، أو
معرفة (وطاعة) تَئُول به إلى الإيمان لا محالة، وإذ يكشف
حضور نفس المأثور عند الشيعة، ومع استبدال لفظ الإمام
بلفظ السلطان
٤٢ عن شيوع دلالته بين الكافَّة، أعني سلطة
ومعارَضة، فإنه يبقى أن هذا التحديد للمواقف من السلطان،
أو الإمام، ضمن ثنائية الجاهلية والإيمان، إنما يكمل
دائرة تماثله مع الله تمامًا.
وإذ يبدو، هكذا، أن النقل كآليةٍ تنطوي على تثبيت
سلطةٍ ذات حضور خالد تنبثق منها المعرفة اجترارًا، إنما
يتكامل — في إنتاج التقديس — مع النقل كمضمونٍ يعين هذه
السُّلطات ذات الحضور الخالد (في السلطان) ضمن مجال
السياسة بالذات، فإن الأمر سوف يتجاوز إلى تأسيسه، أعني
«تأسيس التقديس»،
٤٣ كخطابٍ يتخفَّى في البناء الأعمق — أو حتى
اللاواعي — للثقافة في شكل نظامٍ معرفي يُكرِّس على الدوام،
لسلطة النموذج/الأصل، الذي لن تتوقف الثقافة عن إنتاجه
أبدًا ضمن كافَّة حقولها تقريبًا، وبكيفيةٍ لا مجال فيها
للتعلُّق بمضمون الأصل ونوعه، وهنا يُشار إلى أن مركزية
النَّقل كآليةٍ معرفية سائدة كانت لا بد أن تتأدَّى إلى
مركزية الأصل، وبما يعنيه ذلك من أنه الانتقال من النقل
إلى الأصل، حيث «النقل يستند بأسره إلى الخبر عن الواضع
الشرعي، ولا مجال فيه للعقل إلا في إلحاق الفروع من
مسائلها بالأصول؛ لأن الجزئيات الحادثة المتعاقِبة لا
تندرج تحت النقل الكلي بمجرد وضعه، فتحتاج إلى الإلحاق
بوجهٍ قياسي، إلا أن هذا القياس يتفرَّع عن الخبر بثبوت
الحكم في الأصل، وهو نقلي، فرجع هذا القياس إلى النقل
(أو الأصل) لتفرُّعِه عنه.»
٤٤ وإذ يبدو، هكذا، أنه التماهي — في العمق —
بين النَّقل والأصل، فإن ذلك يُحيل إلى أنَّ تثبيت النقل
لهيمنته داخِل الثقافة، قد راح يُحقِّق عبْر إخفائها وراء
نظام خطاب لا يعرف إلا التفكير بالأصل، وبالطبع فإنه
يبقى إمكان المصير إلى أن تقديس الأصل، قد انبثق للتغطية
على تقديس الأب، الذي تتبدَّل خلف قناعه، ولم تزل، ملامح
الوجوه الكالحة لسلالة المستبدِّين القابضِين، بالغلبة
والعسف، على مصائر عوالم العرب.