الفصل الثاني
الشافعي وتأسيس الأصول
من تقديس الأب إلى تقديس الأصل
«ولا يقول بما استحسن، فإن القول بما استحسن شيءٌ
يحدثه لا على مثال (أو أصل) سبق.»
الشافعي
اعلم أن نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنِسبة أرسطو إلى علم
المنطق … وذلك لأن الناس كانوا قَبْل أرسطو يستدلون ويعترضون
بمجرَّد طباعهم السليمة، لكن لم يكن عندهم قانون في كيفية
ترتيب الحدود والبراهين؛ ولهذا كانت كلماتهم مُشوَّشة مضطربة …
فلما رأى أرسطو ذلك اعتزل عن الناس مدةً طويلة واستخرج علم
المنطق، ووضع للناس قانونًا كليًّا يرجعون إليه في معرفة
ترتيب الحدود والبراهين، فكذلك كان الناس قبل الإمام الشافعي
يتكلمون في مسائل أصول الفقه ويستدلون ويحتجُّون، ولكن من غير
قانونٍ كلي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة، فاستنبَط
الشافعي أصول الفقه، ووضع للخَلْق قانونًا كليًّا يُرجَع إليه
في معرفة أدلة الشرع، فثبت أن نسبة الشافعي إلى علم الشرع
كنسبة أرسطو إلى علم العقل.»
١
إذا كان «الرازي» لم يقصد من استدعاء أرسطو لتوظيفه في
مُماثَلة مع الشافعي، إلا الإقرار للشافعي بوضع المؤسِّس لعلم
الأصول، وأعْني من حيث لا يمكن لأحدٍ أن يماري في دور أرسطو
المؤسِّس «لعلوم العقل»، فإنه يبدو وكأن الدور الرائد للشافعي
إنما يتجاوز مجرد التأسيس «لعلوم الشرع»، إلى تدشين «فعل
معرفي تأسيسي»، لم يقف، في اشتغاله، عند حدود هذا العلم
(الفقهي)، بل راح يتجاوزه إلى الاشتغال داخل الثقافة بأسْرِها،
إن ذلك يرتبط بحقيقة أن الأمر يتعلق — حسب الرازي نفسه —
«بقانونٍ كلي» يُرجَع إليه في المعرفة، التي لا يؤثر تحديد
الرازي لمضمونها بأنها المعرفة بالشرع، على إمكان اتساعها
لما يتجاوز هذا المضمون المحدَّد، وهو ما جرى، على أي حال، حين
راحت المعرفة تنبني داخل حقول معرفية لُغوية وعقائدية بحسب
قانون الشافعي الكلي، والفعل المعرفي الذي دَشَّنه، وإذ يَئُول
ذلك إلى أن الأمر يتجاوز مضمون المعرفة ومحتواها (الفقهي)،
إلى الفعل المعرفي المؤسِّس لنظامها ومبناها (بالمعنى الأعم)،
فإنه يلزم التنويه بأنه لم يكن إلا فعل التفكير بالأصل الذي
لم تزل فعاليته نشطة ومؤثِّرة داخل الثقافة للآن؛ وأعْني من حيث
لا تَعرِف هذه الثقافة، خلاصًا لواقعها الفوات، إلا عبْر
الالتياذ بنموذجٍ أو أصل جاهز من الآخَر (غربًا أو سلفًا).
وإذا كانت السِّمة الجوهرية لأي فعلٍ تأسيسي أنه لا بد أن
يقطع على نحوٍ ما، مع ممارَسةٍ تسبق عملية تبلْوُره داخل حقْلِه،
فإنه يبدو أن تأسيس الشافعي لعلم الأصول (وتدشينه للفعل
المعرفي المصاحِب لهذا التأسيس) قد ارتبط — جوهريًّا — بالسعي
الحثيث إلى القطع — كليًّا — مع الاختلاف، وإقصائه، ومعه
الرأي، من الحقل الفقهي، الذي يبدو أنه كان — قبل الشافعي —
ساحة مفتوحة لكلٍّ من الرأي والاختلاف، ويبدو أن حضورهما قد
بلغ حدًّا من الهيمنة، على النحو الذي صارَا معه موضوعًا
للشكوى داخل المجال الفقهي، وذلك فضلًا عمَّا استشعره
المشتغِل في الحقل السياسي من خَطرِهما الداهم على استقرار
السُّلطة، فَراح يُحرِّض رجل السُّلطة على استئصالهما، وللمفارَقة فإن
الشكوى، من الاختلاف والرأي، داخِل الحقل الفقهي قد جاءت من
فقيهٍ اقترن اسمه بالرأي، وأعني «ربيعة الرأي» الذي ردَّ،
حين عاد إلى المدينة، على سائله: «كيف رأيتَ العراق وأهلها؟
فقال: رأيت قومًا حلالُنا حرامُهم، وحرامُنا حلالُهم، وتركتُ بها
أكثر من أربعين ألفًا يكيدون هذا الدين.»
٢ وهنا فإنه إذا كان رجُل الفقه قد ربط الاختلاف
بالكيد للدِّين، فإن رجل السياسة السلطانية قد أدرك فيه نوعًا
من الكيد للسُّلطة؛ لأنه يهدد الإجماع على رأيها بحسب ابن
المقفَّع، ومن هنا دعوته لرجل السُّلطة: «أن يأمر بهذه الأقضية
والسِّيَر المختلفة، فتُرفع إليه في كتابٍ ويُرفع معها ما يحتج
به كل قومٍ من سنة أو قياس، ثم ينظر أمير المؤمنين في ذلك،
ويُمضي في كل قضية رأيه الذي يُلهمه الله ويعزم له عليه، وينهى
عن القضاء بخلافه ويكتب بذلك كتابًا جامعًا، لَرجَونا أن يجعل
الله (وليس أمير المؤمنين) هذه الأحكام المختلطة الصواب
بالخطأ، حكمًا واحدًا صوابًا، ورَجَونا أن يكون اجتماع السير
قربة لإجماع الأمر برأي أمير المؤمنين وعلى لسانه.»
٣ ورغم أن رجل السُّلطة (أبو جعفر المنصور) قد راح
يستجيب لناصحه، ولكن من غير أن يكتب بنفسه هذا الكتاب
الجامع، بل لجأ الرجل الفقه مالك، يسأله أن «ضع هذا العلم،
ودوِّن به كتبًا، وتجنَّب شدائد ابن عمر، ورُخَص ابن عباس،
وشَواذَّ ابن مسعود، واقصد إلى أوسط الأمور لتحمل الناس على
كُتُبك وعلمك.»
٤ فإن الغريب حقًّا أن الفقيه قد أجاب، بما يكشف
عن وعيه بمشروعية الاختلاف وضرورته في الفقه، «إن أهل العراق
لا يرضون عِلْمَنا ولا يَحتمِلون رأْيَنا.»
٥ وإذ يُحِيل جواب مالك إلى أن الممارَسة داخل الحقل
الفقهي قد اتَّسعت، فيما قَبْل الشافعي، للاختلاف والرأي، فإن
سَعْي الشافعي إلى إقصائهما من المجال الفقهي كليًّا، يُدنيه،
تمامًا، من موقِع رجُل السُّلطة، الذي ردَّ على مالك بضرورة أن
يُحمل أهل العراق على العمل بفقهه قسرًا، ولو بلغ الأمر حد
قتالهم.
ولسوء الحظ، فإن هذا الإقصاء لكل من الاختلاف والرأي إنما
يمثل إهدارًا كاملًا لمبدأَيِ العقل والواقع (وأعني واقِع
التنوع الإنساني)، اللذَين راح يزيحهما الشافعي استحضارًا
للفاعلية المطلَقة للنص/الأصل، الذي يفرض نفسه عليهما.
فإذ أدرج الشافعي الاختلاف والرأي ضمن دائرة الاستحسان؛
لأنه «لو جاز لكل مفتٍ أو حاكم أو مجتهد أن يستحسن فيما لا
نص فيه، لكان الأمر فرطًا، ولَاختَلَفت الأحكام في النازلة
الواحدة على حسب استحسان كل مُفتٍ، فيقال في الشيء ضروب من
الفتيا والأحكام، وما هكذا تُفهَم الشرائع، ولا تُفسَر الأحكام.»
٦ فإنه قد خصص — في سعيه لإقصائهما من المجال
الفقهي — كتابًا في «إبطال الاستحسان»، مؤسِّسًا لهذا الإبطال
على أن «القول بما استحسن شيء يحدثه (المرء) لا على مثالٍ سبق.»
٧ وإذ تَنحَلُّ دلالة الاختلاف والرأي والاستحسان،
إلى الإحداث (أو الإبداع) على غير أصل أو مِثال مُعطًى وجاهِز،
فإن إقصاءها جميعًا هو، في الآن نفسه، إقصاء للعقل كفعالية
متحرِّرة من سُلطة المعطَى المسبَق، وللواقع الذي لا يعرف، حال
حضور هذا المعطَى الجاهز، إلا الجمود، وأعني من حيث يصبح
موضوعًا للإكراه والفرض القسري، وهكذا تتكشف دلالة الإقصاء
للاختلاف والرأي من المجال الفقهي، بأنه الإقصاء لما هو
إنساني (عقلًا وواقعًا)، وذلك لحساب المثال/الأصل.
وهكذا فإنه لن يكون غريبًا — والحال كذلك — أن تُبْتَدأ
سيرورة التقديس كخطاب (وأعْنِي كخطابٍ في الثقافة بتأسيس على
تثبيت سُلطة الأصل، بعد أن كان مجرَّد ممارَسة في السياسة،
تستهدف تأييد حضور السلطان-الأب)، ضمن فضاءات حقول أو علوم
لم تَعرِف مجرَّد التفكير بالأصل فقط، بل وأخذَتْ منه تسميتها
أيضًا، وإذ يُشار هنا إلى علم الأصول بالذات، وبجناحيه
الفقهي والعقيدي معًا، فإنه يلزم التأكيد على أن الأمر، في
كلا العِلْمين (أعني أصول الفقه وأصول الدين)،
٨ لم يتجاوز حدود تأسيس سُلطة الأصل وتثبيته
كحضورٍ متعالٍ وخارج عن أي سيطرةٍ للوعي، وبمعنى أنه يتجاوز
حدود أي سعيٍ للوعي للانطلاق من هذا الأصل كنقطة ابتداء
تَتبلوَر منها سيرورة اشتغاله مستوعِبًا ومُستدمِجًا له ضمن
بنائه، ومحيلًا له — بالتالي — إلى تركيبٍ يَسعُ العالم ويتَّسع
به، ونافيًا عنه، لا محالة، حضوره كمُعطًى مطلَق، ليس للوعي أو
العالم بإزائه إلا التلاشي والجمود، ولعل ذلك يعْنِي أن أساس
«التقديس» لا يقوم في الأصل بمجرَّده، بل في الثقافة بالأحرى،
وأعْنِي في كيفية إنتاجها للأصل على نحوٍ ينطوي على النفي
للعالَم والإزاحة للوعي، ولا يتكشَّف إلا عن سطوة هذا الأصل
كاملة عليهما معًا، وإذ يبدو هكذا، أن هذه الكيفية في إنتاج
الأصل هي تمامًا كآلية التداول النَّقْلي للنص المؤسِّس-القرآن،
التي لم تكن بدورها من إنتاج النص، بقدر ما كانت من إنتاج
الثقافة، فإن ذلك يعني أنها، مثلها أيضًا، تَرتدُّ إلى ذات
البِنية الأقدم، التي تتجاوز الإسلام إلى عالَم القبيلة
الأسبق، والحق أن كلا الآليتين هما مجرد وجهين لعملةٍ واحدة
ليس إلا.
والحق أنه ليس غريبًا أن تجد آلية التفكير بالأصل، وكآلية
النقل تمامًا، ما يؤسِّس لحضورها اللَّاحِق والمهيمِن داخل
الثقافة، في بناء عالَم القبيلة ولوازمه، وذلك من حيث بلغَتْ
مركزية الأصل في هذا العالَم حدَّ أن تكرِّس القبيلة أحدَ أهم
علومها (وهي بالطبع قليلة) من أجْلِه، وأعْنِي به عِلْم النَّسَب الذي
كان «للعرب في الجاهلية مَزيد اعتناء بضبطه ومعرفته؛ لأنه أحدُ
أسباب الأُلفة والتَّناصر، وهم كانوا أحْوَج شيء إلى ذلك؛ حيث
كانوا قبائل متفرِّقِين، وأحزابًا مختلِفِين، لم تزل نيران الحرب
مُستعِرَة بينهم … فحفظوا أنسابهم ليكونوا مُتظافرِين به على
خصومهم؛ لأن تَعاطُف الأرحام وحمية القرابة يبعثان على التناصر والأُلفة،
ويمنعان من التخاذل والفرقة، أَنفَة من استعلاء الأباعد على
الأقارب، وتوقيًا من تسلط الغرباء الأجانب.»
٩ وإذ أدرك ابن خلدون أن «العرب كانوا أحوج شيء
إلى ذلك لأسبابٍ تتجاوَز مجرَّد الاستعلاء والتسلط إلى ما
اختصوا به من «نكد العيش وشظف الأحوال وسوء المواطن»، فإنه
قد كان ينتقل، على هذا النحو، من اختصاص العرب بنمطٍ مُعيَّن في
العيش إلى اختصاصِهم بعِلم الأنساب نفسه، حيث «إنما هذا
(العلم) للعرب فقط» قال عمر رضي الله تعالى عنه: «تَعلَّمُوا
النسب ولا تكونوا كنَبَط السواد، إذا سُئِل أحدهم عن أصْلِه قال من
قرية كذا.»
١٠ وبالرغم من هذا الإلحاح على وجوب تَعلُّم النَّسب
الذي لم يَنْس عمر — في إشارةٍ بالِغة الدلالة — أن يُماهِيه مع
الأصل، فإن ثَمَّة من سعي في الإسلام (ولعلهم كانوا من غير ذَوِي الأنساب)
١١ إلى خَلْخَلة مركزية هذا العلم احتجاجًا بأنه «عِلمٌ
لا ينفع وجَهالة لا تضر إلى غير ذلك من الاستدلالات»، وعندئذٍ
فإن الكثيرين، قد تَصدَّوا لتثبيت مركزيته — لا ضمن عالَم
القبيلة هذه المرة — بل وضمن عالَم الإسلام أيضًا، وذلك
انطلاقًا من أن الحاجة تدعو إليه في كثيرٍ من المسائل
الشرعية، مثل تَعصِيب الوراثة وولاية النكاح، والعاقِلة في
الدِّيات، والعلم بنَسب النبي
ﷺ، وأنه
القرشي الهاشمي الذي كان بمكة، وهاجَر إلى المدينة، وأن هذا من
فروض الإيمان، ولا يُعذَر الجاهل به، وكذا الخلافة عند مَن
يشترط النَّسب فيها، وكذا مَن يُفرِّق في الحرية والاسترقاق بين
العرب والعجم، فهذا كله يدعو إلى معرفة الأنساب، ويؤكد فضل
هذا العلم وشرفه، فلا ينبغي أن يكون ممنوعًا.»
١٢
ورغم ما يبدو من أن أمْرَ النَّسب قد راح، هكذا، يتجاوز شرط
الارتباط بواقع القبيلة إلى شروط إعمال الشريعة، فإن ذلك لا
يعني أكثر من مركزية النسب/الأصل، إنما تعيد إنتاج نفسها
ضمن شروطٍ مغايِرة، وبحيث لا يتجاوز الأمر حدود تثبيت هذه
المركزية على نحوٍ يكشف عن دوام الهيمنة لما يخص عالَم
القبيلة الذي بدَا من المرونة بحيث راح يَتشكَّل، متخفِّيًا، ضمن
عوالم الدين والثقافة، وحتى رغم غياب شَرْطه في الواقع، وإلى
حدِّ ما سيبدو لاحقًا من أن القبلية Tribalism سوف تعيش من غير
قبيلة Tribe، وأعني في إطار دولة الخلافة … بل وحتى دولة
الحداثة!
إذ الحق أنه إذا كانت ضروب من التَّحوُّل قد طرأت على جهة
النَّسب منذ منتصف القرن الثاني الهجري، حيث «كان لون النَّسب
الجنس والقبيلة، فأصبح لونُه الدين، والقرب أو البعد من
الرسول، وكان اللونُ الأول يشوبه الفخر والحمية، فأضيف إلى
اللون الثاني، على توالي الأيام، نوعٌ من التقديس والبركة،
١٣ فإن هذا التحول قد كان بمثابة التوطئة لتحوله
الأهم إلى الاشتغال في عالَم الثقافة تفكيرًا بنموذج-أصل
هذه المرة، ولكن مع دوام نفس طابع التقديس والبركة، فإذ يبدو
أن هذا التمركز للنَّسب حول النبي (قربًا وبُعدًا)، إنما يعني
أن لحظات الزمن بدورها سوف تكون موضوعًا للشَّرَف والقيمة، بل
وحتى القداسة، قُربًا أو بُعدًا من الرسول أيضًا، فإن ذلك يعني
أن مركزية لانسب لم تتأدَّ فقط إلى هيمنة تصور للتاريخ سقوطًا
— لا يرتفع أبدًا — من لحظة — أصل (أو نموذج) إلى ما دونها
فضلًا وقيمة، بل وإلى تكريس نوع من مركزية الماضي في الثقافة
بأسْرِها، التي لم تَزل تحضر للآن تفكيرًا بنموذج أصل،
١٤ وإذن فإنه التحول مِن النَّسب-الأصل (في
القبيلة) إلى النموذج-الأصل (في الثقافة)، ودائمًا عبْر
وساطة، أو بالأحرى قداسة، النبي/الأصل، نَسبًا وزمنًا
وعِلمًا، التي تَتأتَّى من فضاء العقيدة.
وإذا كان لزامًا أن يحضر هذا التحول، وبكافة عناصره
المؤسِّسة من القبيلة والعقيدة والثقافة، وأعْنِي من دون أن يغيب
أحدُها أو يتخفَّى كما سيحدث لاحقًا، في فضاء البدايات
وإرهاصاتها، فإن في ذلك تفسيرًا لما يسود فضاء النص المؤسِّس
في علم الأصول — وأعْنِي نص الرسالة للشافعي — من أن تكريس سُلطة
الأصل وتثبيت آلية التفكير به (في الثقافة) يتحقَّق في ارتباطٍ
جوهري وصَميم مع تثبيت النَّسب-الأصل (في القبيلة)، وعبْر توسط
القداسة المستمَدَّة من النبي نَسبًا وعِلمًا، ومن هنا دلالة
الاستهلال لهذا النص بإثبات النسب الذي لا معنى له بمعزلٍ
عما سيترتب عليه لاحقًا من تثبيت مركزية القبيلة، الذي
يتجاوز أمْره حدود مجرد الإثبات الشكلي في المفتَتَح إلى لعب
دور بالِغ الجوهرية في بناء النص وصَوغ بِنيته.
والغريب حقًّا أنه فيما انشغل القدماء، وخصوصًا من مؤلِّفِي المناقب،
١٥ بقراءة دلالات هذا الإثبات واكْتِنَاه مَعانيه،
كجزءٍ من سعيهم إلى تثبيت هيمنة الشافعي (نَسبًا ومذهبًا)،
فإن أحدًا من دارسيه المَحدَثِين لا يكاد يلتفت إلى الدور
المركزي الذي لعبه هذا الإثبات للنسب في بناء نصه وترتيب
نظامه، وأعْنِي من حيث إن إثبات النسب-الأصل في المُفتتَح، لم
يكن إلا نقطة البدء إلى نَسقٍ فقهي ينبني على الإزاحة المطلَقة
لكل ما سوى الدليل-الأصل، وهو النص.
ولعل سعيًا إلى اكْتِناه الدور المركزي للنَّسب في نَسق
الشافعي ونَصه، إنما ينطلق من حقيقة أنه إذا كان قد ثَبت
بالتواتر — حسب الرازي — افتخار الشافعي بنَسَبه الذي يَصِله
بالرسول، مباشرة، عند بني عبد مناف
١٦ فإنه قد بدَا أن الأمر إنما يتجاوز مجرَّد هذا
الفخر بالنَّسب الخاص إلى مركزية «علم الأنساب» في وَعيه على
العموم. وهنا فإنه إذا كان عِلم الشافعي بالأنساب يتبدَّى في
رَده على الرشيد يسأله: «كيف عِلْمك بالأنساب؟» قائلًا: «يا أمير
المؤمنين، ذلك عِلمٌ لم يَسعْنا جهْلُه في الجاهلية، مع تَحمُّط
الكُفر، وتغَمُّط الحق، ليكون عونًا على التعارُف، ومعرفة
الأكْفَاء، وإني لأعرف جماهير الأقوام، وأنساب الكرام ومآثر
الأيام، وفيها نسب أمير المؤمنين، ونسَبِي، ومآثر آبائه وآبائي.»
١٧ فإن مركزية هذا العلم، في وعيه، تَتأتَّى من حقيقة
«أنه كان في ابتداء أمْره يطلب الشعر وأيام العرب (والناس)
والأدب، ثم أخذ في الفقه (بعد ذلك).»
١٨ الأمر الذي يعني أن «أخْذَه في الفقه» كان
مسبوقًا بضربٍ من التبلْوُر المعرفي المتمركز ضِمْن حقول الشِّعر
والأدب وأيام العرب والناس (أو التاريخ والأنساب)، التي هي
أدنى ما تكون إلى علوم القبيلة،
١٩ وبالطبع فإنه ورغم ما يبدو — هكذا — من أن
سيرورة وعْي الشافعي إنما تنطوي على التحوُّل من علوم القبيلة
إلى علوم الشريعة، فإنه يبقى أنَّ وعي القبيلة قد ظل — عن طريق
التبلور المعرفي الأول — كامنًا يعمل عنده في خفاءٍ مِن تحت
رداء الشريعة.
فإذ الفخر (وهو أحد بقايا عالَم القبيلة المنهِي عنها) قد
انسرَب عند الشافعي إلى النَّسب (وهو أحد علومها المُوصَى بها)،
فإن ذلك قد راح يُنتِج نفسه داخل بنائه الفقهي، وذلك من حيث
إنه إذا كانت إضافة الفخر إلى النَّسب إنما تنطوي على نوعٍ من
القصد المجاوِز «للتعرُّف» إلى «التَّرفُّع»، أعْنِي مُجاوَزة مجرَّد
التعرُّف «على الأنساب»، إلى التَّرفُّع — على قوله — بأنساب
الكرام على جماهير الأقوام، وهو الأمر الذي تأكد تمامًا مع
إثبات ابن حجر كتابًا للشافعي في «فضائل قريش.»
٢٠ فإن الشافعي قد راح يُعيد إنتاج هذا الضرب من
الترفُّع بقريش داخل نَسَقه الفقهي، لا على صعيد مضمونه فقط بل —
والأهم — على صعيد بِنْيته ونظامه، وأعْنِي أن الأمر يتجاوز مجرَّد
التعالي بها، كقبيلة، داخل نصه، إلى أن يصبح هذا التعالي
بها، هو أحد وُجوه التعالي البنيوي بالنص/الأصل داخل نَسَقه.
حيث الملاحَظ أن الشافعي قد مضى، وعبْر توسُّط مركزية النبي،
يترفَّع بقريش إلى مَقام القبيلة/الأصل، وذلك عبْر جعْلِها —
ابتداءً من مقدِّمة نَصه الرسالة — موضوعًا لخطابٍ إلهي صريح،
فقد انطلق يبني على أن النبي
ﷺ هو
«المفضَّل على جميع خَلْقه، وأنه أفضل خَلْقه نفسًا.» أنه أيضًا
«خيرهم نَسبًا ودارًا.»
٢١ منتقلًا هكذا من الترفُّع به (خُلقًا ونفسًا) إلى
الترفُّع به (قومًا ونَسبًا)، وهو الترفُّع الذي كان لا بد أن
يرسخ تمامًا مع اختصاص القوم بخطاب إلهي أدركه مجاهد في
الآية
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ، حيث يُقال:
«مِمَّن الرجل؟ فيقال من العرب، فيُقال: من أي العرب؟ فيقال: من قريش.»
٢٢ وإذ أدرك مجاهِد دلالة القوم، هكذا، في قريش
خاصَّة، وليس في العرب على العموم، وأكَّد الشافعي على أن «ما
قاله مجاهد من هذا بيِّنٌ في الآية، مُستغنًى فيه بالتنزيل عن التفسير.»
٢٣ فإنه — أي الشافعي — سرعان ما راح يُنتِج هذا
الترفُّع داخِل القبيلة نفسها (أو قريش)، حيث «الله جل ثناؤه قد
خصَّ قومه وعشيرته الأقربِين في النِّذَارة، وعمَّ الخَلْق بها بعدهم،
ورفع بالقرآن ذِكْر رسول الله، ثم خص قومه بالنِّذَارة؛ إذ بعثه
فقال
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وزعم بعض
أهل العلم بالقرآن أن رسول الله
ﷺ قال: يا
بني عبد مَناف: إن الله بعثني أن أُنذِر عشيرتي الأقربِين، وأنتم
عشيرتي الأقربون.»
٢٤ وإذ هو التدرج، هكذا، في الترفع من القبيلة إلى
العشيرة، أو بني عبد مَناف التي يلتقِي عندها النَّسب الخاص
بكلٍّ من النبي والشافعي مباشَرة، فإنما ليخايل بنوعٍ من
الترفُّع بشخصه من وراء ذلك كله، وهي المخايَلة التي كان لا بد
أن تتأدَّى بكُتَّاب المناقب إلى وجوب «كون الشافعي متبوعًا لغيره
من العلماء والمجتهدِين، وأن يكون غيره أتباعًا له مُطلَقًا»،
بل وإلى حد القطع «بوجوب الصلاة عليه (يعني على الشافعي للغرابة).»
٢٥ وذلك دلالة على التسوية الكاملة بينه وبين
النبي.
وهكذا تبدأ مسيرة الترفُّع، الذي يبلغ حدَّ التقديس، بالشخص
(وهو النبي)، وتنتهي أيضًا بالشخص (الذي هو الشافعي)، وعبْر
توسُّط القبيلة والعشيرة، الذي بدَا وكأن البعض يسعى إلى
الارتفاع فوقهما، منتِجًا للتماهي الكامل بين كلٍّ من النبي
والشافعي، وإلى حدٍ أمكن معه أن تتواتر الرواية عن البعض
بأنه رأى ليلة مات الشافعي، قائلًا يقول: «الليلة مات النبي
ﷺ.»
٢٦ بل إن الرازي قد راح يتجاوز مجرَّد ذلك، إلى
المخايَلة — ترتيبًا على النَّسب القرشي للشافعي — بأن تخطئته
والرَّد عليه تكاد تبلغ مقام التخطئة والرَّد على الله نفسه،
وذلك قياسًا على قول النبي: «ألا من آذَى ورد على قرابتي، فقد
آذاني، ورد عليَّ، ومن آذاني (ورد عليَّ) فقد آذى (ورد على) الله.»
٢٧ فبدَا وكأنه الانتقال من مجرَّد التماهي مع النبي
إلى التماهي مع الله نفسه؛ حيث الرَّد على الشافعي هو — عبْر
وساطة الرَّد على النبي — ردٌّ على الله، ومن هنا ما قطع به
الرازي من أن «من تعرَّض لمنازَعته (يعني الشافعي)، فقد جعل
نفسه هدفًا لعذاب الله تعالى؛ من حيث إنه إهانة لقريب رسول
الله
ﷺ.»
٢٨ التي هي — بدلالة ما سبق — إهانة للرسول، ثم
إهانة بالتالي لله نفسه، وهنا فإنه، ومع إمكان الإحلال
بالطبع للقبيلة (الكل) محل القريب (الفرد)، فإن الباب ينفتح
واسعًا أمام إنتاج القبيلة كأصلٍ أول، وأعْنِي من حيث تصبح
منازَعة القبيلة، قياسًا على منازَعة القريب المنتمي إليها، من
قبيل «المنازَعة لله».
وهكذا تتبدَّى الدلالة كاملة لما سيبدو نوعًا من التسوية
أقامه الشافعي بين كلٍّ من الله والنبي، وإلى حد «مشارفة
آفاق التوحيد بين الإلهي والبشري بما يستتبعه ذلك من إهدار
خصوصية الرسول وبَشريَّته بوصفه مبلِّغًا للوحي وشارحًا له.»
٢٩ وأعْنِي من حيث إن مشارَفة الشافعي لآفاق التوحيد
بين الإلهي والبشري (الذي هو النبي)، إنما تقوم دلالتها في
تلك المشارَفة لآفاق نفس التوحيد بين الإلهي والبشري، التي
بلغها الرازي (ولكن مع ملاحَظة أن دلالة «البشَري» عنده إنما
تقع على الشافعي، حين عدَّ الرد عليه كالرد على الله)،
وأيضًا فيما يمكن المصير إليه من مُشارَفة آفاق التوحيد ذاته
بين الإلهي والبشري (الذي يتجاوَز الشخصي إلى القَبَلي هذه
المرة)، وهكذا يُنتِج الخطاب ضروبًا من الإحلال والتماهي،
صريحة ومضمَرة، بدأها الشافعي «بإنتاج التماهي» بين الله
والنبي، ثم جاء مَن أحَلَّ (القبيلة والشافعي) مَحلَّ النبي، وذلك
تثبيتًا لسلطة أصلٍ مُجاوِز تستحيل البتة منازعته.
والحق أن هذا التثبيت الكامل لسُلطة الأصل ومركزيته (نصًّا
وشخصًا وقبيلة)، هو ما يوجِّه عملية تأسيس الشافعي للأصول
وترتيبه لها على نحوٍ جعَله يتعالى بسُنَّة النبي إلى مقام النص
الإلهي، كالقرآن تمامًا، فإذا مضى البعض يؤسِّس لحضور «سُنَّة
النبي»، بوصفها اجتهادًا يعكس حدود خبرة النبي وواقع تجربته،
وهو التصور الذي سوف يبلغ بالبعض (من الصحابة أنفسهم) حدود
إمكان تجاوزها،
٣٠ فإن الشافعي قد مَضَى في المقابِل، إلى تثبيت هذا
الاجتهاد كأصلٍ مطلَق وذلك عبْر التعالي به من حدود النتاج
البشري المشروط إلى مقام الوحي الإلهي اللامشروط الذي لم
يكن لِيجعل للنبي فقط سُلطة أن «يسن فيما ليس فيه بعينه نص
كتاب، (بل وأن) يُلزِمنا اللهُ اتباعه في كل ما سَن» (سواء ما سنَّ
مع كتاب الله مبيِّنًا ومكمِّلًا، أو فيما ليس فيه نص كتاب)،
وجعل في اتباعه طاعته (أي الله)، وفي العنود عن اتباعها (أي
السُّنة) معصيته (أي الله) التي لم يعذر بها خلقًا، ولم يجعل
له من اتباع سنن رسول الله
ﷺ مخرَجًا، لما
وصفت، وما قال رسول الله.»
٣١ وأما ما وصف الشافعي مِمَّا يؤسِّس عليه لزوم هذا
الاتباع، فإنما يتمثل فيما عقَدَه مِنَ الربط والقِرَان بين الله
والرسول في «الطاعة والإيمان»، ثم ما ينبني عليه من قِرَان
«السُّنة والقرآن»، فإذ مضَى الشافعي إلى «إن الله وضع رسوله من
دِينه وفرض كتابه الموضِع الذي أبان جل ثناؤه أنه جعَله عَلمًا
لدِينه، بما افترضه من طاعته، وحرَّم من معصيته وأبان من
فضيلته، بما قرن من الإيمان برسوله مع الإيمان به.»
٣٢ مستدلًّا على ذلك بنصوصٍ شتَّى تحتشد بها رسالته،
٣٣ فإنه قد راح ينتقل من هذا القِرَان بينهما (الله
والرسول) في «الإيمان»، إلى قِرَان «الكتاب» — وهو القرآن — مع
الحكمة التي «سمعتُ (والكلام للشافعي) مَن أرضَى مِن أهل العلم
بالقرآن يقول: «الحكمة» (هي) سُنَّة رسول الله» مستدلًّا أيضًا
بحشدٍ من النصوص التي تتجاوز مجرَّد الجمع بين «الكتاب
والحكمة» إلى اعتبار تلك الحكمة (أو السُّنَّة) من قَبيل القول
الإلهي وذلك عبْر كونها من الوحي إلقاءً في الروع.
٣٤
وبالطبع فإنه لا بد أن يترتب على إثبات الإلهية للنبي
(نصًّا) — وأعْنِي به نص السنة — أن تنسرب إليه (شخصًا)، وذلك
حسب ما يبدو من إلغاء الشافعي أي تمايُز بين النص والشخص،
٣٥ وإذ يبدو أن انسرابَها إليه (شخصًا) لا بد أن
يَئُول إلى انسرابها إليه (نَسبًا) كذلك، وأعني بحسب منطق
الإحلال والإزاحة الذي يشتغِل مُضمَرًا داخل الخطاب، فإن ذلك
يتجاوَب — على نحوٍ كامل — مع ما سبق للشافعي إنتاجه من تكريس
مركزية القبيلة والعشيرة حين جعلهما موضوعًا لخطابٍ إلهي،
وأعْنِي من حيث المُخايَلة، هنا، بانسراب الإلهية من (السُّنَّة) إلى
(القبيلة)، ابتداءً من أن النبي هو الأصل-المركز فيهما
(السنة والقبيلة) معًا.
ولعل ما يؤكد على أن مركزية السُّنة عند الشافعي، هي نوعٌ من
إعادة إنتاج مركزية القبيلة (عبْر وساطة صاحب السُّنة الذي
ترتبط مركزية قبيلته بمركزيته) داخل نَسَقه الفقهي، وبما يترتب
على ذلك كله من تثبيت لمركزيته (أي الشافعي) الخاصة،
٣٦ هو ما سيمضي إليه الشافعي من إعادة إنتاج نفس
المركزية للقبيلة داخل نَسَقه عن طريق اللغة بعد السُّنة، فإذ
ينطلق المشروع الفقهي للشافعي بأسْرِه مِنَ السؤال: «كيف
البيان؟» وبما يحيل إلى تمحوره الكامل حول البيان، فإن ذلك
ينطوي، لا محالة، على تأكيد مركزية اللغة داخله، وذلك من حيث
يكاد يَنحَلُّ البيان إلى مجرَّد اللغة، حيث «البيان هو المنطِق
الفصيح المُعرِب عما في الضمير.»
٣٧ وهنا فإن ما يبدو من أن لفظ، المنطِق قد ينطوي
على ما يجاوُز اللغة سوف يجعل ابن كثير يَمضي إلى أن المنطِق
هنا إنما يعني «النطق، وهو الأحسن والأقوى؛ لأن السياق في
تعليمه تعالَى للقرآن وهو أداء تلاوته، وإنما يكون ذلك بتيسير
النطق على الخَلْق، وتسهيل خروج الحروف من مواضعها من الحرف
واللسان والشفتين على اختلاف مخارجها وأنواعها،
٣٨ وبما يَئُول إلى انحلال البيان إلى مجرد «اللغة واللسان»، وبأدَق معانيهما، أي نُطقًا
وكلامًا فقط، وليس
فصاحةً أو بلاغة سوف تأخذ كامل تسميتها من البيان بدورها،
حين تصبح عِلم البيان.
وليس من شكٍّ في أن هذا التمركز للفقه حول اللغة، وأعْني من
حيث يَنْحل — حسب الشافعي — إلى بيانٍ يكاد يستحيل معه (أي
الفقه) إلى نوعٍ من التفكير باللغة وفيها، إنما ينطوي على
نوعٍ من التثبيت لمركزية القبيلة-الأصل (قريش)، وأعْنِي من
حيث يمضي الشافعي إلى «إن أوْلَى الناس بالفضل في اللسان، مَن
لسانُه لسان النبي.»
٣٩ ولأن أحدًا قد يصير إلى أن القصد من لسان
النبي، هنا، هو لسان العرب على العموم، فإن الشافعي يتدارَك
فيخصص اللسان المقصود بالفضل بأنه «لسان قومه (يعني النبي) خاصة.»
٤٠ وبالطبع فإنه وإذ سبق التنويه بأنه يَصرف دلالة
القوم إلى قريش بالذات، وذلك حسب تفسير ابن مجاهد، الذي
تبنَّاه كليًّا لآية
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ،
فإن ذلك يعني أن اللسان الأفضل، والحال كذلك، هو لسان قومه
قريش. وإذا كان لا بد — مع تفاضل الألسنة — أن يكون بعضهم
تَبعًا لبعضهم، وأن يكون المفضَّل في اللسان المتَّبَع على
التابع … فإنه «لا يجوز أن يكون أهلُ لسانه أتباعًا لأهل لسانٍ
غير لسانه في حرفٍ واحد، بل كل لسان (هو) تبعٌ للسانه، وكل
أهل دِين قَبْله فعليهم اتباع دينه.»
٤١ ولعل ما يبدو من قياس الشافعي للاتباع في اللغة
أو اللسان على الاتباع في الدِّين، إنما يندرج في إطار سَعْيه
إلى إكساب اللسان (وهو هنا لسان قريش) قداسة الدِّين وهيبته،
وإذ يبدو — على أي حال — أن تثبيت المركزية يتكشف عن تكريس
الاتباعية، فإن ما يبدو من أنه الاتباع في الدِّين واللسان هو
فقط ما يُرتِّبه الشافعي على مركزية القبيلة-الأصل-اللسان،
سوف يتَّسع عند الرازي إلى نوعٍ من الاتباع المطلَق يُسنِده إلى
«قوله
ﷺ: «الناس تبعٌ لقريش في هذا الشأن،
مسلمهم تبعٌ لمسلمهم، وكافرهم تبعٌ لكافرهم.» وقوله
ﷺ في هذا الشأن ليس المراد به الخِلافة (أو الدِّين)؛
لأن قوله: «كافرهم تبعٌ لكافرهم» ينفي حمل اللفظ على الخِلافة.»
٤٢ أو الدِّين بالطبع، بل هو الاتباع مطلَقًا وأبدًا،
وإذ تقوم الدلالة القصوى لاتساع الرازي بحدود الاتباع على
نحوٍ مطلَق، في سعيه إلى أن يُرتِّب على تثبيته لمركزية الشافعي
«وجوب كونه متبوعًا لغيره من العلماء والمجتهدِين، وأن يكون
غيره أتباعًا له مطلقًا.»
٤٣ فإن ذلك يحيل، لا محالة، إلى انسراب «المركزية
والاتباع» من القبيلة إلى الشخص، وبما يعني أن الاتباعية
للقبيلة تؤسِّس الاتباعية للشافعي، والعكس، لكن ما يبدو وكأنه الاتباع، هنا لمجرد
القبيلة أو حتى الشخص، سرعان ما سيتجاوز تلك السياقات
المحدَّدة، إلى تكريس الاتباع المعرفي على العلوم، الذي
سيترتب، بقوة، على الانعكاس البنيوي لمركزية القبيلة داخل
النَّسق الفقهي للشافعي، وهو النَّسق الذي أثَّر تأثيرًا تأسيسيًّا
في الثقافة بأسْرِها.
فإذ سيبلغ إنتاج الشافعي لمركزية القبيلة ذروة اكتماله
وتمامه، عبْر إعادة إنتاجه لهذه المركزية عن طريق النِّظام
البنيوي لنَسَقه الفقهي بأسْرِه، الذي يبدو أن تَمحوُره حول ما
يكاد يمثل ثابِتَ بنيته الأعمق، أو الدليل-الأصل، هو أحد
أشكال إنتاج القبيلة-الأصل، فإنه كان يمضي إلى ترسيخ ثوابت
الاتباعية في الثقافة على نحوٍ كامل؛ إذ الحق أن الثقافة لن
تتوقَّف بعده أبدًا عن إنتاج هذا الدليل-الأصل، وتثبيت سُلطته
— وبالتالي اتباعيته — في كافة حقولها المعرفية تقريبًا.
فقد مضى الشافعي يُمحوِر جهده الفقهي كله حول بناء وتكريس دليل-أصل يَستحيل الخروج
عليه أو الانحراف عنه مطلقًا،
وذلك ابتداءً من «إن الله لم يجعل لأحدٍ بعد رسول الله أن
يقول إلا مِن جهة عِلْم مَضى قبله، وجِهة العلم بعد (هي): الكتاب
والسُّنَّة والإجماع والآثار وما وصفتُ من القياس عليها.»
٤٤ ولأن ما وَصَف من القياس عليها لا يُجاوِز البتة
حدود «ما طُلب بالدلائل على موافقة الخبر المتقدِّم، من الكتاب
والسُّنة؛ لأنهما علم الحق المفترض طلبه.»
٤٥ فإن ذلك يعني أن جهة العلم هي الكتاب أو السُّنَّة،
أو النص (الذي هو عِلم إحاطة في الظاهر والباطن) أو ما يطلب
بالدلائل منه (وهو عِلم الظاهر دون الباطن)،
٤٦ وهنا يُشار إلى أن مفهوم النَّص عند الشافعي قد
راح ينبني عبْر استراتيجيةٍ تعتمد آلِيَّتَي التوسع والإلحاق،
وأعْني التوسع بالأعلى مما أشار إليه كجهاتٍ للعلم لِيتسنَّى
إلحاق الأدنى به، وإلى حدِّ اعتباره جزءًا منه، وهكذا فإن ما
سبق من توسُّع الشافعي بمفهوم (الوحي) ليبتلع السنة،
٤٧ سوف يُنتِج نفسُه توسُّعًا بالسنة لإلحاق الإجماع
بها كمجرد جزء منها، وبما يعنيه ذلك من مقارَبَته لتُخوم الوحي
بدوره.
ولقد تبنَّى الشافعي آلِيَّة في الاتساع بالسُّنة تنبني على
مُماثَلتها باللغة وإلحاقها باللسان في الاتساع واستحالة
الإحاطة، وذلك استنادًا إلى قاعدتِه المؤسِّسة والحاكمة في أن
«يُلحق (الشيء) بأولى الأشياء شَبهًا به.»
٤٨ وهكذا فإنه وإذ مضى إلى أن «لسان العرب أوسَعُ
الألسنة مذهبًا وأكثرها ألفاظًا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه
إنسانٌ غير نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامَّتها، حتى لا
يكون موجودًا فيها مَن يعرفه»، فإنه راح يبني على ذلك «أن
العلم به (أي اللسان) عند العرب كالعلم بالسُّنة عند أهل
الفقه، لا نعلم رجلًا جمع السُّنَن فلم يذهب منها عليه شيء.»
٤٩ ولقد كان لزامًا أن يترتَّب على هذا التماثل
بينهما من جِهة العلم، وأعْني من حيث «لا نعلم رجلًا (بمفرده)
جمع (اللغة والسُّنة) فلم يذهب منهما عليه شيء»، الذي يتأتَّى
بالطبع مِن تماثُلهما في «الاتساع واستحالة الإحاطة» أن تكون
السُّنة بدورها لا نعلهما يحيط بجميع عِلْمها إنسانٌ غير نبي،
ولكنه لا يذهب منها شيء على عامَّة أهل العلم، حتى لا يكون
موجودًا مَن يعرفها (بمفرده) … وتبعًا لذلك «فإنه لا سبيل إلى
الإتيان على كافَّة السُّنَن إلا إذا جُمع علم عامة أهل العلم بها
(الذين) إذا فُرِّق عِلم كل واحد منهم، ذهب عليه الشيء منها، ثم
كان ما ذهب عليه منها موجودًا عند غيره.»
٥٠ وهكذا فإنه إذا كان لا يُتصَوَّر وجودُ مَن يعرف
(اللغة) كلها بمفرده، فإنه لا يُتصَوَّر أيضًا وُجودُ مَن يعرف
(السُّنَّة) كلها بمفرده، «فيتفرَّد (لذلك) جُملة العلماء بجمعها.»
٥١
ولعل هذا التصور للسُّنة على هذا النحو من الاتساع الذي
يستحيل معه أن يحيط بعلمها إنسانٌ غير نبي، وبحيث لا يبقى مِن
سبيلٍ للعلم بها إلا عبْر الجمع لمَا تفرَّق منها عند كل واحد،
هو ما يؤسِّس كليًّا لمفهوم الشافعي عن «الإجماع»، فإذ مضى
الشافعي يَبْنِي الحُجَّة في «اتباع ما اجتمع الناس عليه، مما ليس
فيه نص حكم لله، ولم يحكوه عن النبي.»
٥٢ منطلقًا من نوعٍ من التمييز فيما اجتمعوا عليه
بين ما «اجتَمَعوا عليه فذكروا أنه حكاية عن رسول الله، فهذا
كما قالوا: إن شاء الله (أنه حكاية)، و(بيْن) ما لم يَحْكُوه،
فاحتمل أن يكون قالوا حكايةً عن رسول الله، واحتمل غيره، ولا
يجوز أن نعده له حكاية.»
٥٣ فإنه سرعان ما راح يُلاشي أيَّ تمايُزٍ بين المحكي
(عن النبي) وغير المحكي (عنه)، ليطويهما معًا تحت المظلة
الهائلة للسُّنة، وعلى نفس قاعدة اتساعها التي تجعلها —
وكاللغة تمامًا — «لا تَعزُب عن عامَّتِهم، وقد تَعزُب عن بعضهم.»
٥٤ وإذ يُضاف ذلك إلى ما «نعلم من أن عامَّتهم لا
تجتمع على خلافٍ لسنة رسول الله»، فإن ما أجمَعوا عليه ولم
يَحْكُوه (عن النبي) لا يكون — على قاعدة استحالة الإجماع على
خلاف السُّنن التي قد تَعزُب عن البعض، ولكنها لا تَعزُب عن الكل —
من قَبيل غَير المخالِف للسُّنة فحسب، بل من قَبيل السُّنة التي لا
تَعزُب عن الكل، أو حسب تسمية الشافعي «السُّنة المجتمع عليها.»
٥٥ التي يُميِّزها عن السُّنة المحكية بالتواتر، أو حتى
عبْر خبر الواحد الذي أجْهَد الشافعي نفسه تمامًا في تثبيت حجته.
٥٦
والعجيب أن تمييز الشافعي، هنا، بين السُّنة «منقولة أو
مَحْكِية (عن النبي)» وبين «السُّنة المجتَمَع عليها» إنما يتجاوَب
تمامًا مع تمْيِيزه — الذي أَلْحَق عن طريقه السُّنَّة بالوحي — بين
الوحي المَتلُو (أو القرآن) وبين وحي الإلقاء في الروع (أو
السُّنة) الذي لا يُتلى، فإذ الوحي — التلاوة يُقابِل السُّنة —
الحكاية، فإن وحي الإلقاء في الروع (الذي لا يُتلى) يُقابِل
سنة الإجماع (التي لا تُحكى)، وبما يعني أنها ذاتُ
الاستراتيجية في التوسُّع والإلحاق — التي ألحق عن طريقها
الشافعي السُّنة بالوحي — تَعمَل هنا إلحاقًا للإجماع بالسُّنَّة.
والحق أن مجرَّد البلوغ بقياس الشافعي للسُّنة على اللغة، في
الاتساع واستحالة الإحاطة، إلى منتهاه، لِممَّا يَئُول — بدوره —
إلى إلحاق الإجماع بالسُّنة حتمًا، وأعْنِي من حيث إنه إذا كان
اتساع الشافعي باللسان العربي — إلى حد اعتباره أوسع الألسنة
— قد أمكنه أن يُلحق به ما يُقال بأنه أعجمي ليس منه، فإن
اتساعه بالسُّنَّة سوف يكون — بالقياس — أداته في أن يُلحق بها
ما يقال إنه ليس منها؛ لأنه لم يُحكَ منطوقًا، بل اجتُمِع عليه
فقط.
وإذ ينطوي إلحاق الشافعي للإجماع بالسُّنة، على ما يحيل إلى
انتزاعه من سياق كونه التعبير الحي عن الخبرة التاريخية
للجماعة بكل ما تتسع له من ضروب التراكم والتطور، والتعالي
به إلى مَقام النص المقدَّس الذي يجري تثبيته على نحوٍ مطلَق،
فإنه يُلاحظ أن الشافعي قد راح يضع الإجماع كنصٍّ مُطلَق الحضور
والهيمنة، فإذ مضى إلى أنه «لا يجوز الإجماع إلا على ما وَصفْتُ
من أن لا يكون مُخالِف.»
٥٧ ثم راح يحدِّد بأنه لا يكون مُخالِف مع الرأي «لأن
الرأي إذا كان، تُفُرِّقَ (يعني اختُلِفَ) فيه»، فإنه كان لا
بد أن يقطع بأن «الإجماع لا يكون عن رأي.»
٥٨ وبالطبع فإنه إذ لا يكون عن «رأي»، فإنه لا
يبقى إلا أن يكون عن «نص»، وإذن فإنها المخالَفة التي يُقصِيها
الشافعي ولا يَسمَح لها بأي حضورٍ ضِمْن حدود النص، فيما يَسمَح
لها بنوعٍ من الحضور التافِه وغير المُنتج ضِمْن حدود الاجتهاد
فقط، هي ما يتأسَّس عليها أو على غيابها بالأحرى، نَصِّيَّة
الإجماع، ذلك «أن ما كان لله فيه نَصُّ حُكْمٍ، أو لرسوله سُنَّة،
وللمسلمين فيه إجماع، لم يَسعْ أحدًا عَلِمَ من هذا واحدًا، أن
يَخالفه، وما لم يكن فيه من هذا واحد كان لأهل العلم الاجتهاد
فيه في طلب الشُّبهة (يعني التشابه) بأحد هذه الوجوه الثلاثة،
فإذا اجتهد مَن له أن يجتهد وَسِعَه أن يقول بما وَجَد الدلالة
عليه، بأن يكون في معنى كِتاب أو سُنَّة أو إجماع، فإن وَرَد أمر
مُشْتَبه يَحتمل حُكْمين مُختلفَين فاجتهد فخالَف اجتهادُه اجتهادَ
غيره، وَسِعَه أن يقول بشيءٍ وغيرُه بِخلافه، وهذا قليل.»
٥٩ وإذ تبدو المخالَفة، هكذا، هي علامة الشافعي
الفارقة بين النص والاجتهاد فإن إقصاءها عن محيط «الإجماع»
لا يعني مجرَّد وضعه «كنَصٍّ» فقط، بل وينطوي على تأكيد افتراقِه عن
«الاجتهاد» الذي يتنزَّل به الشافعي إلى مجرَّد لاحقةٍ للنص، وكذا
عن «الرأي» الذي يُدِينه ويُقْصِيه تمامًا خارج حقل التداول.
والحق أن تأكيد افتراق «النص» عن «الاجتهاد» قد راح ينعكس
كليًّا على استراتيجية الشافعي في بناء الاجتهاد مقابِل النَّص،
إذ فيما اعتمد في بنائه لمفهوم النص/الأصل آلِيَّتَي التوسع
والإلحاق، فإنه سوف يعتمد في بناء الاجتهاد — على عكس ذلك —
آلِيَّتَي التضييق والإهدار، وأعْنِي تضييق الاجتهاد إلى مجرَّد
القياس؛ لأنه «لا يكون أبدًا إلا على طلب شيء، وطَلَب الشيء لا
يكون إلا بدلائل، والدلائل هي القياس.»
٦٠ ثم الإهدار الكامل لكلٍّ مِنَ الرأي والاستحسان؛
لأن «من قال هذين القولين قال قولًا عظيمًا؛ لأنه وضع نفسه
في رأيه واستحسانه على غير كتاب ولا سُنَّة مَوضِعَهما (يعني موضع
الكِتاب والسُّنة)، في أن يُتَّبَع رأْيُه كما اتُّبِعَا، وفي أن رأيه
أصلٌ ثالث أُمِرَ الناس باتباعه، وهذا خلاف كتاب الله عز وجل؛
لأن الله تبارك وتعالى إنما أمَر بطاعتِه وطاعة رسوله، وزاد
قائلُ هذا القول رأيًا آخَر على حياله بغير حجة له في كتابٍ
ولا سُنَّة ولا أمْرٍ مُجتَمَع عليه ولا أثر.»
٦١ وبما يحيل إلى استحالة القول على غير أصلٍ
أبدًا، وبالطبع فإن هذه الاستحالة هي الأصل في تَضييق الشافعي
لحدود الاجتهاد إلى حدٍّ لا يكاد يَتمايَز معه عن النص البتة.
وهكذا فإن القصد مما صار إليه الشافعي من أن الاجتهاد «ليس
بعين قائمة (أي ليس نصًّا)، وإنما هو شيء يُحدِثه (المجتهد) من نفسه.»
٦٢ لم يكن أبدًا تأسيس الاجتهاد كأصلٍ مُستقِلِّ
الحضور، ولو في الحد الأدنى، بِقَدْر ما كان هو إلحاقه «بالنَّص»
على نحوٍ لا يكاد يتميز عنه، وأعْنِي من حيث راح الشافعي يُرتِّب
على أن «الاجتهاد ليس بعين قائمة (أو نَص)، وإنما هو شيء
يُحدِثه (المجتهد) من نفسه «أن المرء» لم يُؤْمَر باتباع نفسه،
وإنما أُمِرَ باتباع غيره؛ (ولهذا) فإحداثُه على الأصلين
اللذين افترض الله عليه أَوْلَى به من إحداثه على غير أصلٍ
أُمِرَ باتباعه وهو رأي نفسه.»
٦٣ وإذ ينحل الاجتهاد، هكذا، إلى نوعٍ من «الإحداث
على أصل»، لأنه لا يكون إلا على مطلوب، والمطلوب لا يكون
أبدًا إلا على عينٍ قائمة تُطلَب بدلالة يُقصَد بها إليها،
أو تَشبيه على عينٍ قائمة … والخبر — من الكتاب والسُّنَّة — عين،
يتآخَى (يتوخَّى) معناها المجتهد ليصيبه.»
٦٤ فإنه (أعْنِي الاجتهاد) يكون، على هذا النحو، قد
انْحلَّ — أو كاد — إلى النَّص، وأعْنِي من حيث يَضِيق إلى الحد الذي
لا يَتَّسِع لقولٍ على غير أصلٍ أبدًا.
والحق أن ما يبدو هنا من إلحاق الشافعي للاجتهاد بالنص،
عبْر هذا التضييق، هو ما تأدَّى إلى أن «يمتنع بعض أهل العلم من
أن يُسمِّي هذا قياسًا (أو اجتهادًا)، ويقول: هذا معنى ما أحل
الله وحرَّم، وحَمِدَ وذَمَّ؛ لأنه داخلٌ في جملته، فهو بعينه، لا
قياس على غيره.»
٦٥ وهكذا فالاجتهاد-القياس داخِل في جملة النَّص، أو
هو بِعَينه نص، لا قياس على غيره، وبالرغم من أن الشافعي —
وحين بدَا أن ما يعتبره «أقوى القياس»،
٦٦ هو أدنى إلى النص — قد راح «يمنع أن يُسَمَّى
القياس إلا ما كان يحتمل أن يُشَبَّهَ بما احتمل أن يكون فيه
شبهٌ من مَعْنَيَين مختلفَين، فصرَفه على أن يقيسه على أحدهما دون الآخَر.»
٦٧ وبما يعني أنه لا يستحق اسم القياس إلا «إذا
ورد أمرٌ مشتبهٌ يحتمل حُكمَين مختلفَين، فاجتهد (المجتهد)
فخالَف اجتهادُه اجتهاد غيره، فإنه يَسعُه أن يقول شيئًا وغيره بخلافه.»
٦٨ فإنه يلاحَظ أنه سرعان ما راح يتدارك بأن «هذا قليل.»
٦٩ كاشفًا عن طبيعة رؤيته للاجتهاد-القياس، إما
كنص أو مجرَّد هامِش تافِه وضئيل على نصٍّ بالِغ الاتساع والإحاطة.
والملاحَظ أن استراتيجية الشافعي في إلحاق الاجتهاد بالنص
على هذا النحو، إنما تَنبنِي على نفس آليات استراتيجيته في
بناء النَّص عبْر التوسُّع بالأعلى مقابِل تضييق الأدنى، ليتسنَّى
إلحاقه به، وهكذا فإنه إذا كان الشافعي قد اتَّسع بالوحي (وهو
الأعلى) ليتسنَّى إلحاق السُّنة به (وهي الأدنى)، وذلك عبْر
تضييقه لها، بحيث لا تَتَّسع لما يكشف عن وعيٍ مستقِلٍّ أو تجربة
خاصَّة للنبي، يحضران بمعزلٍ عن تجربة الوحي، ثم اتَّسَع بالسُّنة-الوحي (وهي الأعلى)
ليتسنَّى إلحاق الإجماع بها (وهو الأدنى)،
وعبْر ذات التضييق للإجماع، بحيث لا يتَّسِع لوعي الجماعة
وخِبرتها الحية، فإنه قد راح، بالمثل، يتَّسع بالنص — كتابًا
وسُنةً وإجماعًا — (وهو الأعلى) ليتسنَّى إلحاق الاجتهاد به
(وهو الأدنى)، وعبْر ذات التضييق له بحيث لا يتَّسع لأيٍّ من
ضروب الرأي والاستحسان، وفي كلمةٍ واحدة فإنه التضييق
للإنساني، وإلى حد إهداره، مقابِل الاتساع بالمجاوُز والنَّصي
ليبتلع هذا الإنساني في جوفه.
وهكذا فإنه لا اعتبار لرأيٍ أو استحسانٍ أو مصلحةٍ وواقِع،
أو حتى تاريخ مُتحقِّق، بل راح الشافعي يُقصِي ذلك كله خارج
السياق تمامًا، إفساحًا للفاعلية المطلَقة للنص، ولا شيء
سواه؛ ولهذا فإنه إذا كانت الممارَسة الفقهية السابقة عليه قد
اتَّسعتْ لكل هذه الضروب (من الفاعلية الإنسانية) في بنائها
لأنظمتها الفقهية، فإن الشافعي قد راح يَقطع معها على نحوٍ
كامل، فإذ «الرأي تَفَرُّق، فإنه ليس لأحدٍ أن يقول بما استحسن
(أو رأَى)، فإن القول بما استحسن شيء يحدثه لا على مثال (أو
أصل) سبق، (ولهذا) فإنما الاستحسان تَعسُّف وتلذُّذ أو قول بالهوى
… (وإلى حدِّ قوله) مَنِ استحسن فقد شرع.»
٧٠ وليس من اعتبارٍ لواقع أو تاريخ، حتى ولو تحقَّقت
وقائِعُه، بل إنه الإهدار لها، مع تُحقُّقِها، ما دامت تَشِي بما
يبدو وكأنه الانحراف عن النص، وهنا يُشار بالذات إلى واقعة
فتح مكة التي يكاد ينفرد الشافعي بروايةٍ أنها فُتِحَت صلحًا
مهدرًا «إجماع أهل العلم، ومن له أدنى عِلْم بالسير والفتوح؛
كالبلاذري وابن تيمية والسرخسي والكرخي والشوكاني وغيرهم على
أنها قد فُتحت عنوة لا صلحًا.»
٧١ والغريب أن إهدار الشافعي لإجماع أهل العلم على
رواية الفتح عنوة وانفراده برواية الفتح صلحًا لا يتأتَّى مِن
تحقيقه لروايته تاريخيًّا،
٧٢ بقدر ما يتأتَّى من استدلاله عليها (فقهيًّا)،
وبحيث بدَا وكأنه يجعل (الفقهي) هو — للغرابة — ما يُعِيد بناء
(التاريخي) ويوجِّهه.
فإذا تقطع أحكام النصوص بأن كل ما فُتِح عنوة «يجب قِسمَته،
فإن تركه الإمام ولم يَقسِمه، فوقَفه المسلمون أو تركه لأهله،
رُد حُكمُ الإمام فيه؛ لأنه مخالِف للكتاب ثُم السُّنَّة معًا، فإن
قيل: فأين ذُكِرَ ذلك في الكتاب؟ قيل: قال الله عز وجل
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلهِ
خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ (الحشر: ٤١)، وقسَّم رسول الله
ﷺ الأربعة الأخماس على مَن أوجف عليه
بالخيل والركاب مِن كلِّ ما أوجف من أرضٍ أو عمارةٍ أو مال.»
٧٣ ولأن شيئًا من ذلك الذي قضى به الكِتَاب والسُّنة
(أو النص) لم يحدث بعد فتح مكة ولم يقدر الشافعي على تصوُّر أن
يكون قضاء النص قد تعطَّل استثناء في مكة «مَنًّا على أهلها»
على قول الشوكاني — أو تشريفًا لها، وهي على قول النبي
ﷺ نفسه، أحب بلاد الله إلى قلبه، فإنه قد راح
يستدل من «الفقه» على «التاريخ»، قاطعًا بأنها قد «فُتحت
صُلحًا لا عنوة»؛ لأنها وإذ لم تقسم بين الفاتحِين يكون قد جرى
عليها حكم الفيء الذي لا يُقسم، وليس الغنيمة التي تُقسم،
وبالطبع فإنها إذ تكون «فيئًا» تكون قد «فُتِحَت صُلحًا لا
عنوة»؛ لأن ما فُتح صلحًا من غير قتالٍ هو ما يجري عليه فقط
حكم الفيء، وإذن فإنها الواقعة في «التاريخ» يُعاد بناؤها في
ضوء ما جري به «الفقه»، وحتى لو اقتضى الأمر إنكارها كليًّا،
وذلك على الرغم من تحققها فعليًّا.
٧٤
وبالطبع فإنه لا مجال ضمن سياق هذا الإقصاء لكل ما يخص
الإنسان (عقلًا وواقعًا وتاريخًا) إلا لتكريس سُلطة الدليل-الأصل من جهة، وتثبيت وجوب
اتباعه من جهةٍ أخرى، حيث لا يبدو
مِن فعل للإنسان بإزاء هذا الدليل الأصل، على مدى النص
الشافعي بأسره، إلا مجرد الاتباع، ولا شيء سواه، وإذا كان قد
بدا أن بناء الدليل-الأصل هو ذروة الإنتاج للقبيلة-الأصل
ضمن بنية النسق الفقهي «والمعرفي»، فإن وجوب الاتباع المعرفي
لذلك الدليل-الأصل (أو النص) هو بدوره من قبيل الإنتاج لما
سبق للشافعي تكريسه من وجوب اتباع القبيلة-الأصل (قريش)،
ولما سيلحق، عند كَاتِبي مَناقِبه، من وجوب اتباع الشخص
(الشافعي)، وبما يحيل إلى اكتمال دورة إنتاج الأصل، ووجوب
اتباعه (نصًّا وقبيلةً وشخصًا)، وبالطبع فإنه، وعبْر هذه
الدورة من إنتاج الأصل وتثبيت اتباعه (نَسبًا ونصًّا وشخصًا)
تتسرب القداسة، عن طريق ضروب الإحلال والمبادَلة، من الواحد
منها إلى الآخر.
والحق أن قراءة تتجاوز نص الشافعي إلى شخصيته هذه المَرَّة،
لتكشف عن أن تأسيس كل هذه الضروب من التقديس (نَسبًا ونصًّا
وشخصًا)، إنما يبدو وكأنه مجرَّد أداته في أن يُعوِّض (بالمعنى
النفسي الفرويدي) بُؤسه وانسحاقه الشخصي، متعاليًا إلى مَقام
ينقاد له فيه علماء الدِّين وأكابر السلف،
٧٥ فقد تواتَر عن الشافعي ما يكشف عن أن شيئين قد
تلازَمَا في وعْيه منذ صغره، ولم يفارقاه أبدًا، وأعْنِي ذلك
التلازم بين نَسَبه وفقْره؛ فإذ يروي الشافعي بنفسه «كان أبي
رجلًا من تبالة (قرية بالحجاز)، وكان بالمدينة، فظهر فيها
بعض ما يكره، فخرج إلى عسقلان فأقام بها، ووُلِدتُ بها، ثم مات
أبي، فقدم عمي من مكة إلى عسقلان، وحملني إلى مكة، وأنا ابن
سنتين … (وفي الرواية) فلما أتى عليَّ سنتان حملتني أمي إلى مكة.»
٧٦ فإن ثمة من راح يَردُّ حمْلَه إلى مكة توًّا ورَدَّه
إلى أهله إلى أن أمه «كانت تريد أن تستعين على تكاليف العيش
بما ينال الطفل من سَهْم ذوي القربى باعتباره مُطَّلبيًّا.»
٧٧ حيث كان أبوه فقيرًا، أو على قول ابن بنت الشافعي «قليل ذات اليد.»
٧٨ وهكذا فإنه لا شيء إلا سِيرَة أب فقير وشِبْه طريد
وأُمٍّ منكسِرة، لا تجد ما تستعين به على العيش إلا ما ينال
الطفل من نَسَبه المُطَّلبي، وهو ما يبدو وكأنه قد تَرسَّب واستقر في
أعماق الشافعي، ولم يفارِقه أبدًا بعد ذلك، بل ظل كامنًا في
الأعماق يفعل من تحت أقنعةٍ شتَّى، أهمُّها القداسة، وعبْر آليات
الإعلاء والتسامي بالطبع، إذ ليس من شكٍ في أن ذروة التقديس
التي انتهى إليها الشافعي، عبْر تثبيت مركزية الدليل الأصل
(في الفقه) الذي تحرم مقاربته إلا انصياعًا واتباعًا وليس
استيعابًا وإبداعًا، التي تحضر كقناعٍ لمركزية النَّسب-الأصل
(في القبيلة)، إما ترتدُّ إلى تلك الأغوار السحيقة، التي استقر
فيها منذ البدء قيمة نَسَبه وإمكان توظيفه — كما تَعلَّم من تجربة
أمه — في مُغالَبة انسحاقه وفَقْره، ولعل مركزية القبيلة، في
الوعي، إنما يُستفاد من حقيقة أنه إذا كان وجود الفرد،
بالمعنى المعنوي والميتافيزيقي، لا يقوم خارج واقعة انتمائه
إلى قبيلةٍ ما، فإن ذلك يحيل إلى أن القبيلة ليست واقعة
عارِضة، يمكن إقصاؤها من سيرورة تشكيل الفرد (وجودًا ووعيًا)،
بل إنها تستحيل إلى شرطٍ يتعذَّر أن يقوم خارجه وعي أو وجود،
وإذ يكشف ذلك عن استحالتها إلى ما يبدو وكأنها أصل وجود
الفرد، فإن هذا التبدِّي قد جعل الانتقال ممكنًا من أن تكون
أصلًا لوجودٍ ما، إلى أن تكون هي الوجود الأصل بالمطلَق.
وبالطبع فإن التعالي بالقبيلة إلى مَقام الأصل بالمطلَق، لا
يرتبط بمجرَّد ما ترتَّب على الانتماء إليها، في حال الشافعي، من
مغالبَة الفاقَة والفقر، بل وبما سوف يخلعه هذا الانتماء على
شخصه من تعالٍ وسمو؛ لأن فِعل التعالي يُنتج أثره مزدوجًا،
وأعْنِي للقبيلة والفرد، وهكذا فإن الشافعي نفسه، سوف يرتفع
إلى مقام السُّلطة شِبه المقدَّسة في الإسلام، عبْر تعاليه بقريشٍ
إلى مقام القبيلة الأصل، وهو التعالي الذي أفرخ ضروبًا من
القداسات تتخفَّى وراءها سُلطته، إن ذلك يعني أن سُلطته شبه
المقدَّسة، إنما تتكئ على ضروب المركزيات المتعدِّدة التي
أنتجها، وأعْني مركزية القبيلة/الأصل، التي تؤسِّس لمركزية
الفقه/الأصل،
٧٩ الذي يقوم، بدوره، على مركزية الدليل/الأصل.
وضمن سياق هذه المركزيات المتجاوِبة، فإنه وبمثل ما كان
الفقْر هو ما يقف وراء سعْيه إلى تثبيت مركزية نَسَبه الأصل،
فإنه يقوم كذلك وراء سعْيه إلى تثبيت مركزية الفقه «في
الثقافة»، ثم مَركَزَة الفقه نفسه حول ثابت الدليل-الأصل، الذي
يعمل، في الخطاب، كقناعٍ للنسب-الأصل الذي يشتغل في التجربة
الحية خارجه، فإذ يُلاحَظ أن مركزية النَّسب في وعيه، قد كادت —
بحسب ما سبق — أن تجعله يَغرَق كليًّا فيما يمكن اعتباره علوم
النَّسب-القبيلة، من أدبٍ ولغة وتاريخ وأنساب، وهي التي
استوعبت تَشكُّلَه المعرفي ما قبْل الفقهي كله، فإنه يبدو كذلك أن
نفس فقْره وفاقَتِه سوف يُجبِرانه على أن ينتقل من الاشتغال بتلك
العلوم غير النافعة إلى الاشتغال بما يعينه على التكسُّب، فجاء
تحوُّله إلى الفقه، ومع الوعي بأنه قد نقل معه إلى الفقه
انشغاله بنَسبه الذي يبدو أنه لم يفارِقْه البتة ابتداءً من درس
أُمِّه، وأعني من حيث تبدَّى له النسب منذئذٍ بوصْفِه دَرْب خلاصه.
وإذ بدَا وكأن الشافعي — عبْر هذا التحول— إنما يستعيد تجربة
سلَفِه المباشر أبي حنيفة، فإن تحوُّلَهما معًا إنما يعكس ملامح
تجربة القرن الثاني الهجري، الذي عاشَا فيه، التي تتكشف عن
حقيقة تُبدِي الفقه بوصفه الأداة الفاعلة في إنجاز الحراك
الاجتماعي فرديًّا وجماعيًّا، حتى لقد استوقَف البعض أنه «لما
انقرض عهد الصحابة ما بين تسعين ومائة من الهجرة وجاء عهد
التابِعِين انتقل أمْر الفتيا والعلم بالأحكام إلى الموالي إلا
قليلًا»، عن عطاء قال: «دخلت على هشام بن عبد الملك، فقال: هل
لك عِلم بعلماء الأمصار؟ قلت: بلى، قال: فمَن فقيه المدينة؟
قلت: نافع مولى ابن عمر، وفقيه مكة عطاء بن رباح المَولَى،
وفقيه اليمن طاوس بن كيسان المَولَى، وفقيه الشام مكحول
المَولَي، وفقيه الجزيرة ميمون بن مهران المَولَى، وفقيه البصرة
الحسن وابن سيرين المَولَيان، وفقيه الكوفة إبراهيم النخعي
العربي … قال هشام: لولا قولك عربي لكادَت نفسي تخرج.»
٨٠ ولعل ذلك يرتبط بإدراك الموالي أن سعيًا إلى
تغيير وضعِيَّتهم كجماعةٍ مَسحوقة في زمن الأمويين، لم يكن
ليتحقق إلا عبْر امتلاك ناصية الفِقْه، فاحتكروا الاشتغال به
باستثناء عربي واحد.
٨١
ولعله ليس أصرح من أبي حنيفة في الإقرار بأن ما يقف وراء
تحوُّله إلى الفقه ليس شيئًا إلا التكسُّب والرياسة في الدنيا،
فقد أورد عنه تلميذه الأكبر أبو يوسف قوله: «لما أردتُ طلَب
العلم جعلتُ أتخيَّر العلوم وأسأل عن عواقبها (في الدنيا طبعًا)
فقيل لي: تعلَّمِ القرآن، فقلتُ: إذا تعلَّمْت القرآن وحفظْتُه، فما
يكون آخره؟ قالوا: تجلس في المسجد ويقرأ عليك الصبيان
والأحداث، ثم لا تلبث أن يخرج فيهم من هو أحفظ منك أو يساويك
في الحفظ، فتذهب رياستك، قلتُ: فإن سمعتُ الحديث وكتبتُه، حتى
لم يكن في الدنيا أحفظَ مني؟ قالوا: إذا كبرتَ وضعفت حدثت
واجتمع عليك الأحداث والصبيان، ثم لم تأمن أن تغلط فيرموك
بالكذب، فيصير عارًا عليك في عَقِبك، فقلت لا حاجة لي في هذا،
ثم قلتُ: أتعلَّمُ النحو، فقلتُ: إذا تعلمتُ النحو والعربية
ما يكون آخر أمري؟ قالوا: تقعد مُعلِّمًا وأكثر رزقك ديناران
إلى ثلاثة، قلتُ: وهذا لا عاقبة له، قلتُ: فإن نظرتُ في
الشِّعر، فلم يكن أحدٌ أشعر مني، ما يكون من أمْري؟ قالوا:
تمدح هذا فيَهَب لك ويحملك على الدابة أو يخلع عليك خلعة، وإن
حرمَك هجوتَه، فصرتَ تقذف المحصَنات، فقلتُ: لا حاجة لي في هذا،
قلتُ: فإن نظرتُ في الكلام فما يكون آخره؟ قالوا: لا يسلم مَن
نظر في الكلام من شنعات الكلام فيُرمى بالزندقة، فإما أن
يُؤخَذ فيُقتل، وإما أن يسلم فيكون مذمومًا، قلتُ: فإن
تعلمتُ الفقه؟ قالوا: تُسأل وتفتي الناس وتُطلَب للقضاء إن
كنتَ شابًّا، فقلتُ: ليس في العلوم شيء أنفع من هذا، فلزمتُ
الفقه وتعلمته.»
٨٢ وإذن فإنه التنقل بين علوم العصر كافة من
القرآن والحديث إلى النحو واللغة والشعر، إلى الكلام ثم
أخيرًا إلى الفقه، الذي لا شيء يدفع فقيهًا، بقدر أبي حنيفة
إلى الاشتغال به إلا ما وراءه من النفع والتكسُّب وغيرها من
العواقب في الدنيا، التي بدا وكأنها محصورة في الفقه، ولا
شيءٍ سواه.
والحق أن ذلك ما تتكشف عنه حقيقة أن الشافعي بدوره، قد راح
يتنقل بين معارف وعلوم عصره حتى استقر على الفقه، وعلى نحوٍ
يبدو معه أن تجربة الشافعي في الاستقرار على الفقه بعد
تَطوَافه المعرفي على علوم عصره، تكاد تحمل نفس ملامح تجربة
أبي حنيفة الأسبق؛ حيث كان في ابتداء أمْره يطلب الشعر وأيام
العرب والأدب، ثم أخذ في الفقه، وبما يلوح من أنَّ النفع هو
ما كان يسعى وراءه مثل سلفه، وعلى نحوٍ مَا تؤكد نصيحة نسيب له
رآه يطلب العلم، فقال له: «لا تعجل بهذا، وأقبل على ما ينفعك
(يعني التكسب).»
٨٣ لكنه قد راح يخفي مُبرِّر هذا التحول إلى الفقه
وراء المتعالي (الذي يبدو وكأنه الوحي) ومن دون أن يردَّه إلى
شَرْطه في الواقع (الذي هو النفع)، حيث يروي مُبرِّرًا تحوُّله
«كنت أنظر في الشعر فارتقيتُ عَقبة بمِنًى، فإذا صوت من خلفي
يقول: عليك بالفقه.»
٨٤ ومن دون أن يحدد مصدر هذا الصوت المُبهَم؛ ليرسخ
المخايَلة بأن الغيبي والمُفارِق هو الأصل في تحوُّله إلى الفقه،
وليس شيئًا من العواقب في الدنيا، وبما يَئُول إليه ذلك من أن
تحوَّلَه مشروط بما يفرضه المقدَّس، وليس المدنَّس، وبالطبع فإنه
كان يرسخ هنا أحَدَ أهم ثوابته في التفكير بالمتعالي وإهدار
الواقعي، وهو الثابت الذي اشتغل كليًّا أثناء بنائه لنصه، ثم
راح يستعيده هنا لترسيخ المُخايَلة بقداسة شخصه أيضًا، وأعْنِي
من حيث ما تَئُول إليه الرواية من جعْل شخصه موضوعًا لخطابٍ
مُتعالٍ، وبكيفيةٍ تكاد معها تجربة الصوت المُبهَم يأتيه من خلفه
على عقبةٍ بجبل منًى، أن تكون ترجيعًا لنفس تجربة الصوت
المبهَم يأتي بالوحي إلى النبي على الجبل كذلك، ولعل مما
يتجاوب مع تلك المخايَلة، على نحوٍ كاملٍ أنه إذا كان الصوت
المبهَم قد جاء يتنزل على النبي بالرسالة، فإن الشافعي قد أبى
إلا أن يجعل مِن نفسه صاحِبَ رسالة بالمِثْل، وذلك حين مضى يمنح
نَصَّه المُهم في الأصول، اسم «الرسالة»، التي أبَى البعض إلا أن
يرتفع بها — كرسالة النبي — إلى مَقام الصدور عن المُفارِق،
ولعل ذلك — لا محالة — هو ما تقطع به دلالة قول الترمذي:
«تفقَّهتُ لأبي حنيفة، فرأيت النبي
ﷺ في
منامي، وأنا في مسجد مدينة النبي
ﷺ، عام
حججت، فقلتُ: يا رسول الله قد تفقَّهتُ بقول أبي حنيفة، أفآخذ
به؟ فقال: لا، فقلتُ: آخُذُ بقول مالك بن أنس؟ فقال: خذ منه ما
وافق سُنَّتي، قلتُ: أفآخُذ بقول الشافعي؟ قال: ما هو له بقول،
إلا أنه أخَذ بسُنَّتي وردَّ على ما خالفها.»
٨٥ وهكذا تمضي الرواية، في سياق تكريسها لأفضلية
الشافعي على أبي حنيفة ومالك، إلى التعالي بقوله الفقهي إلى
حدِّ اعتباره ليس قولًا له على الحقيقة، بل هو قول النبي
منطوقًا به على لسانه. وإذ هو التماهي، هكذا، بين قول النبي
وما ينطق به الشافعي، فإن ذلك يَئُول إلى المخايَلة بأن دلالة
ما هو مشهور من أن النبي «لا ينطق عن الهوى»، لا بد أن تتسع
لتستوعب، أيضًا، قول الشافعي، وهنا يُشار إلى أن تسمية
«الرسالة» — ذات الدلالة — لا تكتفي بأن تُيسِّر للشافعي إنتاج
مُخايَلة التماهي مع النبي فقط، بل وتشير إلى الطابع التأسيسي
لعملِه الأصولي.
والعجيب أن هذه التجربة نفسها، سوف تتكرَّر مع الأشعري، بعد
موت الشافعي بأكثر من قرن، وذلك حين يأتِيه التوجيه بصوت
النبي، صريحًا هذه المرة، بضرورة أن يتحول عن الطريقة التي
كان عليها (في العقيدة)، ليؤسِّس طريقته التي سوف تتحقَّق لها
السيادة، بتأثير ما تعكسه تلك التجربة من الانْبِناء بحسب
توجيه المُفارِق وأمْره، ولعل ذلك يعكس حرص الآباء المؤسِّسين
لخطاب الثقافة السائدة في الإسلام على فكِّ تجربتهم مما يحدِّدها
في الواقع، والتَّعالي بها إلى الصدور عن المُفارق والمتعالي،
كيما تكتسبَ قداسته وحصانته.
وهكذا فإن التجربة الأولى والأهم في «تأسيس التقديس» ضمن
الثقافة، عن طريق تكريس سُلطة الأصل وتثبيتها، وبكل ما
يلازمه، فيؤسِّس له أو يتأسَّس به من تكريس سُلطة النَّسب/الشخص/الأب وتثبيتها، إنما
تجد القدر الأكبر مما يؤسِّسها في الأغوار
السحيقة للنفسي والاجتماعي، بل وحتى السياسي الذي يبدو
قارًّا تحت سطح نص الشافعي، يتأسَّس عبْر ما يكرسه من التثبيت
لسُلطة الأصل، دليلًا أو نصًّا «في الفقه» وأبًا حاكمًا «في
السياسة»، ثم تثبيته للعلاقة مع هذه السُّلطة اتباعًا وخضوعًا
فقط، إن ذلك يعني أن النظام الفقهي يؤسِّس رمزيًّا لثوابت
النظام السياسي، ونمَط العلائق وطبيعتها داخله، وليس يُؤثِّر في
قوة هذا التأسيس أن يكون الشافعي قد أظهر عزوفًا عن الانخراط
في أي ممارَسةٍ سياسية، بل وسعَى إلى وضع نفسه خارج سياق
السياسة كليًّا؛ لأن الأمر يتجاوز النوايا والمقاصد الواعية،
إلى التجاوُب البنيوي بين الفقهي والسياسي، وهو الحاسم في أي
تحليل.
والحق أن الأمر يتجاوز مجرَّد هذا الحضور الرمزي للسياسي في
خطاب الشافعي، إلى ما يبدو من أن «رسالة» الشافعي، تكاد —
بحسب نص أسبق منها ويحمل، وهو أمر له دلالته، نفس عنوانها،
وأعني «رسالة الصحابة» لابن المُقفَّع — أن تكون تحقيقًا لأحد
المَطالب السياسية الصريحة للدولة العباسية، وأعني به مَطْلب
توحيد السُّلطة الفقهية، فإذ أدرك ابن المُقفَّع (وهو المنظِّر
الأيديولوجي الكبير للدولة العباسية) الخطورة السياسية
البالغة لاختلاف وتناقُض الأحكام الفقهية بين الأمصار
والنواحي الخاضعة لسلطة الدولة، «والتي بلغ اختلافها أمرًا
عظيمًا في الدماء والفروج والأموال، فيُستحل الدم والفرج
بالحيرة، وهما يُحرَّمان بالكوفة، ويكون مثل ذلك الاختلاف في
جوف الكوفة، فيُستحل في ناحيةٍ منها ما يُحرَّم في ناحيةٍ أخرى.»
٨٦ — فإنه قد راح ينصح بضرورةٍ توحيد السُّلطة
الفقهية، مخاطِبًا الخليفة العباسي: «فلو رأى أمير المؤمنين
(يعني أبا جعفر المنصور) أن يأمر بهذه الأقضية والسِّيَر
المختلفة، فتُرفع إليه في كتاب، ويُرفع معها ما يَحتجُّ به كل
قومٍ من سُنَّة أو قياس، ثم نظر أمير المؤمنين في ذلك، وأمضى في
كل قضيةٍ رأيه الذي يُلهِمه الله ويعزم له عليه، وينهى عن
القضاء بخلافه، وكَتَب بذلك كتابًا جامعًا، لرجونا أن يجعل
الله هذه الأحكام المختلِطة الصواب بالخطأ حكمًا واحدًا
صوابًا، ورجونا أن يكون اجتماع السير قُرْبة لإجماع الأمر برأي
أمير المؤمنين، وعلى لسانه.»
٨٧ وفضلًا عن أن ما بدَا لابن المُقفَّع وكأنه من قبيل
الفوضى الفقهية، المهدِّدة للوحدة السياسية للدولة، هو بعينه
ما يكاد يقف وراء إبطال الشافعي للاستحسان، وذلك انطلاقًا من
أنه «لا ضابط له، ولا مقاييس يُقاس بها الحق من الباطل، فلو
جاز لكل مفتٍ أو حاكم أو مجتهِد أن يستحسن فيما لا نص فيه،
لكان الأمر فرطًا، ولاختَلَفت الأحكام في مُنازَلة (النازلة)
الواحدة على حسب استحسان كل مفتٍ، فيُقال في الشيء ضروب من
الفتيا والأحكام، وما هكذا تُفهم الشرائع، ولا تُفسَّر الأحكام.»
٨٨ فإن قراءةً لرسالة الشافعي، بما تنطوي عليه من
مَركَزة الأصول الفقهية حول سُلطة النص، على نحوٍ تختفي معه أي
إمكانية للاختلاف بما هو، بحسبه، نتاج للقول بالرأي الذي هو
قرين الهوى لا محالة، لتكاد تَئُول إلى أنها مجرَّد تجسيد لنصيحة
ابن المُقفَّع لأمير المؤمنين العباسيي ولكن بعد التغطية بالنص-الأصل على الأمير-الأب،
وإذ يتكشف نص الشافعي، على هذا
النحو، عن دلالةٍ سياسية صريحة، فإنه لا يؤثر في حضور تلك
الدلالة أن يكون قصد الشافعي — بحسب البعض من دارسيه
٨٩ — هو ضبط وتقنين الفقهي وتحريره من هيمنة
السياسي، وليس وضعه في خدمته بحسب ما أراد ابن المُقفَّع، فحتى
مع صرْف النظر عن أن موضوعية الدلالة تتجاوز ذاتية القصد،
فإنه يبقى أن السعي إلى تقنين الفقهي وتحريره من قبضة
السياسي هو بذاته عمل ذو دلالة سياسية أيضًا، وأعْني من حيث
يتعلق الأمر «بمصطلَحاتٍ تمس، في خاتمة التحليل، الحقل
السياسي، وتقترب منه.»
٩٠ وبما يحيل إليه ذلك من أن الدلالة السياسية
للفقهي (مصطلحًا وبنية) تبقى حاضرة، حتى حال تعلق الأمر
بالسعي إلى مُخاصَمة السياسة والتحرر من قبضتها.
والغريب حقًّا أنه لن يكاد يمر قرنٌ بعد الشافعي، إلا
وتُستعاد تجربته في تأسيس التقديس كاملة، ضمن سياق الجناح
العقيدي لعلم الأصول، وأعْنِي علم «أصول الدين»، وعن طريق
الأشعري، الذي سوف يكرِّس الحضور الكامل للأصل وهيمنته على
نحوٍ مطلَق في الثقافة بأسرها، والحق أن خطاب الأشعري يكاد أن
يكون بأسره تنظيرًا أكثر شمولًا واتساعًا للمسكوت عنه
والمُضمَر الذي يتأسس عليه خطاب الشافعي كله، ومن هنا أن
الخطاب الفقهي الشافعي إنما يجد (ورغم أسبقيته التاريخية) ما
يؤسِّسه في الخطاب العقيدي الأشعري (الذي وإن كان اللاحق
«تاريخيًّا»، فإن أوليته تتأتى من كونه الخطاب المؤسِّس
معرفيًّا)، تمامًا بمثل ما أن الخطاب الأشعري سوف يجد في
الخطاب الشافعي أحد تحققاته أو تَعيُّناته الأسبق تاريخيًّا.
والحق أنه، ومع إمكان صرف النظر عن هذه الأسبقية (تاريخية
أو معرفية) للواحد منهما على الآخَر، فإن التجاوب بينهما،
سواء على صعيد ما يمارسانه وينتجانه، أو حتى حين يكونان
موضوعَين لممارَسة، يكاد يبلغ حد التماثل الكامل، فإذ انطلق
الشافعي يبلور خطابه ضمن سياق الممارسة الفقهية التي ابتدأت
مع الصحابة حتى بلغت أصحاب المذاهب السابقة عليه، واتسعتْ لكل
ضروب العقلي والتاريخي والواقعي، وإلى حد استدماج هذه الضروب
التي تتكشف عن الفاعلية الكاملة للإنساني، ضمن بناء الأدلة
الفقهية ذاتها (رأيًا وأعرافًا وتقاليد وخبرات محلية
وغيرها)، ثم راح الشافعي يُحدث انقطاعًا داخل هذه الممارَسة
تحوَّلَت بمقتضاه من الاتساع للإنساني، وإلى حدِّ استِدْمَاجه ضمن
بنائها، إلى إهداره، والاستغراق فقط في بناء الدليل-النص،
كأصلٍ لا سبيل إلا إلى احتذائه والتفكير به، فإن الأشعري،
بدوره، لم يفعل إلا أن راح يمارس هكذا، وأعْنِي أنه أيضًا قد
راح يَقطع مع ممارَسةٍ عقائدية انفتحَتْ خلالها الفِرَق المتصارعة
على ضروبٍ من التاريخي والواقعي راحَت تنعكس على الأبنية
العقائدية لهذه الفِرَق التي تتكشف مجرَّد تسمياتها (خوارج
ومعتزلة ومرجئة وشيعة) عن الاتساع للتاريخي إلى حد أن تأخذ
منه اسمها ذاته، ليتعالى — وهو الذي كان جزءًا من هذه
الممارَسة المنفتحة — إلى حدِّ التَّنكُّر لهذا الواقعي والتاريخي
(وهو ما يتكشف عنه ما جرى معه من التحول — فيما يتعلق بمجرَّد
تسمية فرقته «الأشعرية» — من التاريخي إلى الشخصي، بكل ما
يهيم حول شخص الأشعري بالذات من أطياف المُتعالي ومُخايَلاته،
وذلك على الضِّد من «السياسي» الذي يحيل إليه التاريخي الذي
ارتبطت به الفرق الأسبق)، ومستغرقًا في ضربٍ من التفكير بما
نُصَّ عليه، أو رُوي عنه، أو بما أُجْمِع واتُفِقَ عليه.
٩١
ومن هنا فإنه إذا كانت تنظيرات الفِرَق قبله قد اتسعت، إبَّان
تحليلها للممارَسة السياسية اللاحقة على وفاة النبي
ﷺ، للوعي بفاعلية «منطق القبيلة» الذي راح يعمل في
صوغ الأحداث عن طريق مبدأ الشوكة أو الغلبة، حتى وإن تزركشت
بالشورى، فإن الأشعري قد راح يهدر كل ذلك، ليؤسِّس ما جرى من
تلك الممارَسة على مجرد الدليل من «النص أو الإجماع»، رغم أنه
لا وجود لأي منهما في أحداث تلك الحقبة بحسب أي تحليلٍ نزيه،
ولعل الأصل في ذلك هو الرغبة في التعالي بتلك اللحظة في
الماضي إلى فضاءٍ تكتسب فيه قداسة (النص والإجماع) التي لا
بد أن تنسرب، لا محالة، إلى سياسة الحاضر بوصفها مجرد امتداد
لتلك اللحظة في الماضي، وإذن فإنه السعي إلى تقديس الحاضر هو
ما يؤسِّس لتقديس الماضي بوصفه الأصل لهذا الحاضر، وبالطبع
فإنه يبقى أن هذا التفكير الأشعري بالأصل (نصًّا أو
إجماعًا)، والإهدار للتاريخي والواقعي، إنما يتجاوب على نحوٍ
كامل مع ما سبق الإلماح إليه من إهدار الشافعي للتاريخ
(المتعلق بفتح مكة) لحساب الأصل الفقهي.
بل إنه — وحتى حين — أصبح الواحد منهما موضوعًا لممارسةٍ
خَطابية، فإن تماثلهما قد أبى إلا أن ينتج نفسه كاملًا أيضًا،
فإذ تعالَى كاتِبُو مَناقِب الشافعي (متابعِين له) بقومه وعشيرته
إلى حدٍّ جعلهما موضوعًا لخطابٍ إلهي، فإن كاتب سيرة الأشعري
قد أبى، بدوره، إلا أن يتعالى بقومه (أي الأشعري) أيضًا، إلى
مقامٍ صاروا فيه موضوعًا لخطابٍ نبوي، بل وإلهي،
٩٢ ومن جهةٍ أخرى فإنه إذا كان الربط بين الشافعي
والنبي (وهو رأس قومه) قد تجاوز مجرَّد الربط بينهما نسبًا إلى
الربط بينهما فكرًا، فإن الأمر نفسه قد جرى فيما يتعلق
بالأشعري حيث تجاوَز الربط بينه وبين الصحابي أبي موسى
الأشعري (ولاحِظِ المخايَلة بالصحابي هنا) مجرَّد الربط بينهما
نسبًا، إلى الربط بينهما فكرًا أيضًا،
٩٣ وبما يعني تماثُل الواحد منهما مع الآخَر فيما
يتعلق بإعادة إنتاجه لسلفه «نبي أو صحابي»، بل إن الأمر قد
راح يتجاوز، مع الأشعري، مجرَّد الارتباط بالصحابي إلى مخايَلة
الارتباط بالنبي، ليس نسبًا، بل فكرًا وتجربة؛ إذ الحق أن
تحليلًا للرواية المتداوَلة عن تجربة التحوُّل التي مرَّ بها
الأشعري إنما تتكشف، بلا أدنى مواربة، عن السعي إلى التماثل
الكامل مع النبي تجربةً وفكرًا، والمدهش أن التجاوب بين
الخطابين (الشافعي والأشعري) في تأسيس التقديس إنما يتجاوز
ذلك كله، إلى التماثل على صعيد التجربة الحية القارة وراءهما
أيضًا، وأعني من حيث إن تجربة الأشعري إنما ستجد، بدورها، ما
يؤسِّسها كاملًا في ذات الأغوار السحيقة للنفسي والاجتماعي،
وحتى السياسيين، ولكن على نحوٍ أكثر مراوغة وتعقيدًا.
٩٤
فإذا كان تحليل نص الشافعي قد تكشَّف عن أن كافة المركزيات
المنتِجة للتقديس في خطابه، إنما تدور وتنبثق من مركزية
النسب/الأصل، فإنه يبدو أن تحليل هذا التمركز الشافعي حول
النسب/الأصل، إنما يقتضي الانتقال إلى ضربٍ من التحليل يكاد
يتعارض كليًّا مع آلية تحليل الخطاب المتداولة في هذه
الدراسة، وأعْنِي من حيث اقتضى الأمر ضرورة تجاوُز تحليل النص
(وهو الوحدة الصغرى في الخطاب) إلى تحليل الشخص، تجربة
ومسيرة، وهنا فإن تحليلًا أوليًّا قد آل إلى إمكان القراءة
الفرويدية للشافعي/الشخص (وليس النص)، وأعْنِي من حيث إنه قد
عاش تجربةً مؤلِمة لم يجد سبيلًا للتخلُّص من تداعياتها
المريرة، إلا عبر الالتياذ بنسبه القرشي، الأمر الذي جعله
يتعالى بهذا النسب إلى مرتبة النسب/الأصل/المركز الذي راح
يؤسس لنمطٍ من التفكير تحققت له السيادة كاملة داخل الثقافة
هو نمط التفكير بالأصل (سواء كان هذا الأصل نصًّا، شاع
التفكير به تراثيًّا، أو نموذجًا جاهزًا ومكتملًا يشيع
التفكير حداثيًّا)، وضمن نفس السياق، فإنه يبدو أن الرغبة
المكبوتة في قتل الأب المعتزلي البديل (وأعني «زوج» أم
«الأشعري») كانت أحد أهم الدوافع الخفية وراء تحولات الأشعري
وقفزاته العقائدية التي يكاد ينتظمها ثابت الإعلاء والتسامي.
وبالطبع فإنه كان لا بد مع اكتمال تأسيس التقديس عن طريق
الأشعري وأفراد سلالته الكبيرة،
٩٥ وانسرابه إلى بناء الثقافة، بل واستحالته إلى
أحد أهم ثوابت نظامها العميق، أن لا تتوقف الثقافة عن إنتاجه
أبدًا في صورٍ وأشكالٍ شتَّى تتضافر كلها في إضفاءٍ للتقديس
وخلْعِه على «أنظمة وأفكار ومذاهب وأشخاص»، وعلى نحوٍ راح
يتيسر معه التعالي بالحُكَّام (الذي سيتكشف الخطاب لاحقًا، ومع
الغزالي والرازي بالذات، عن أنهم هم موضوع التقديس وقصده)،
إلى مقام الآلهة أو حتى أنصافها،
٩٦ وبالمبشرين بهم وحاملي صولجانهم إلى مصافِّ
الأنبياء، وحتى بالأيديولوجيين وخادمي البلاط إلى حضرة
الأولياء الذين ليس لأحدٍ أن يقاربهم سؤالًا واعتراضًا، وإلا
فهو «التكفير» جزاء من يخرق أستار التقديس فتنكشف عورات أحمق
تعيس، ويسقط القناع عن جلالة الرئيس.