تكاد أي قراءةٍ جدية للأشعرية، أن تنتهي إلى أن واقع
هيمنتها وسطوتها الواسعة في عالم الإسلام، لا ترتبط بكفاءة
خِطابها النظري واتساقه، بقدر ما ترتبط بشروطٍ تقع خارج حقل
النظر كليًّا، وأعْنِي في عالم الواقع الذي يكاد وحده أن يبرر
هيمنتها الكاملة، فالحق أن الخطاب النظري للأشعرية، يبدو
مسكونًا بما يرزح تحت وطْأَته، من ضروب الإرباك والتناقض، التي
نتجت، للمفارَقة، بتأثير ضغوط الخارج وتحديداته، وبحيث يبدو
وكأن تحديدات الخارج تعمل بالنسبة للخطاب الأشعري، لا كسياقٍ
يبنى فيه هيمنته فقط، بل وكمصدرٍ لما يسكنه من الإرباكات
أيضًا، وإذ يحيل ذلك إلى مركزية الخارج في بلورة كل من
الهيمنة والمأزق، فيما يتعلق بالأشعرية، في آنٍ معًا، فإنه
يلزم التنويه بضربٍ من التمايز بين «الخارج»، كأصلٍ لهيمنة
الخطاب الأشعري، وبينه كمصدرٍ لإرباكاته، ولكن مع ملاحظة أن
هذا التمايز لا يحيل إلى الانقطاع الكامل بين نوعين مختلفَين
من «الخارج»، حيث الأمر لا يتجاوز حدود مجرَّد التمييز
الإجرائي الذي تقتضيه القراءة.
وبالطبع فإنه إذا كانت الأشعرية قد صدرت عن مثل هذه
التجربة المضطربة، والمسكونة بهذا القدر الهائل من الشقاء
والمرارة، فإنه لن يكون غريبًا أن تشقى بكل ما كان عليها أن
تجابهه من ضروب الإرباك والتناقض، وإلى حد ما تكاد تنتهي
إليه هذه القراءة من أنها (أي الأشعرية) هي خطاب التناقض
بجدارة.
وحتى مع صرف النظر عن ضروب الإرباك والتناقض التي هي نتاج
ما يقوم وراء تبلوُر الأشعرية من الاضطراب والحصر النفسي،
فإنه يبقى أن تَعالِي الأشعري — أو دارسيه وكاتِبِي مناقبه
بالأحرى — بما يؤسِّس لأصول اعتقاده، من حلكة المكبوت إلى
قداسة الملكوت، إنما هو أحد تجليات اشتغال واحدة من أهم
الآليات النفسية التي تقف وراء ظهور الإبداع بأشكاله
المختلفة، وأعني آلية الإعلاء والتَّسامي التي كان لها أن تفتح
الباب أمامه، للإفصاح عن المكبوت والتحرر منه، ولكن ليس في
شكل إبداعٍ إنساني هو — في الأغلب — ما تنحل إليه، بحسب
التحليل النفسي، عقدة المكبوت، بل في صورة إلهامٍ رباني
يتنزل من فيض عالم الملكوت، وإذن فإنه التسامي بالأشعرية إلى
ما يقوم وراء الإنساني ويتعداه، على نحوٍ تستمد منه قداسة
وحصانة، ترتفع بهما فوق أي نقدٍ أو مُساءلة، وهو الضرب من
الارتفاع الذي يستحيل فهمه خارج القصد الإنساني إلى تأبيد
الهيمنة وتثبيت الحضور، ومن جهةٍ أخرى، فإن اشتغال هذه
الآلية النفسية لم يكن ليخفى، بل لعله يؤكد، حقيقة أن ما
يقوم وراء أصول الأشعرية، ليس شيئًا إلا المكبوت النفسي
يتخفى وراء الإلهام النبوي، وبما يعنيه ذلك كله من أن الشرط
الإنساني، لا سواه، هو ما يقف وراء انبثاق الأشعرية.
سيكولوجيا الانخلاع … من المُصرَّح به إلى المسكوت
عنه
ثمة روايتان ذائعتان عن انخلاع الأشعري من الاعتزال،
تتكشف قراءتهما، لا عن مجرد الاختلاف بين عناصرهما فقط،
بل عن دوران الواحدة منهما ضِمن فضاءٍ يغاير بالكلية ذلك
الذي تدور فيه الأخرى؛ إذ فيما تجري أحداثُ إحداهما في
فضاء المُفارَقة والتَّسامي الذي يرمي إلى المُخايَلة بعلو
وقداسة، سوف يُستفاد منهما — لا محالة — في تكريس
الهيمنة وتثبيت السيادة، فإن أحداث الأُخرى، وهي الأهم،
تنطلق مما يجري في دهاليز نفس تعاني جرحًا غائرًا وأزمة
دفينة يبدو أنها كان لا بد أن تَئُول إلى «الثورة» التي
أجْلَاها ذلك المشهد المحتدم للرجل على منبر المسجد ينخلع
من ثوبه في عنفٍ عارِم، لا ليعبِّر رمزًا — حسب الادعاء —
عن إرهاصات عقيدة تنتصر، بل ليتخفَّف من «مكبوتات» ظلَّت
لسنواتٍ مَقموعة، وقد آن أخيرًا أن تنفجر، وهكذا فإن
قراءة للروايتين تتجاوز سطحهما إلى ما يَعتَمِل تحته،
لتَتكشَّف عن أن «ثورة المكبوت» بما تنطوي عليه من دلالةٍ
نفسية، وليست أبدًا «حيرة المُرتاب الذي تكافأت عنده
الأدلة» بما تحيل إليه من دلالةٍ عقلية، قد كانت هي
الأصل فيما جرى للأشعري، وفي كلمةٍ واحدة، فإن ما جرى
للرجل لم يكن من قبيل «التطور» الذي يمكن إرجاعه إلى
مغامَرة «عقل»، بل كان من قبيل الانقلاب والتحوُّل الذي لا
تفسير له إلا في مكبوتات النفس.
تحكي إحدى الروايتين أن الأشعري: «كان أولًا قد أخذ عن
أبي علي الجبائي، وتبعه في الاعتزال، يُقال: أقام على
الاعتزال أربعين سنة، حتى صار للمعتزلة إمامًا، فلمَّا
أراده الله لنصر دينه، وشرح صدره لاتباع الحق، غاب عن
الناس في بيته خمسة عشر يومًا، ثم خرج إلى الجامع وصعد
المنبر، وقال: يا أيها الناس: مَن عرفني فقد عرفني، ومَن
لم يعرفني فأنا أُعرِّفه بنفسي: أنا فلان ابن فلان، كنتُ
أقول بخلق القرآن، وأن الله تعالى لا يُرَى بالأبصار، وأن
أفعال الشرِّ أنا أفعلها، وأنا تائبٌ مُقلِع، متصدٍّ للرد على
المعتزلة، مُخرِج لفضائحهم، معاشر الناس: إنما تغيَّبْت عنكم
هذه المدة؛ لأني نظرتُ فتكافأَتْ عندي الأدلة، ولم يترجَّح
عندي شيء على شيء، فاستهديتُ الله تعالى، فهداني إلى
اعتقاد ما أودَعْتُه في كتبي هذه، وانخلعتُ من جميع ما كنت
أعتقده كما أنخلع من ثوبي هذا، وانخلع من ثوب كان عليه
ورمى به، ودفع الكتب التي ألَّفها على مذاهب السُّنة إلى الناس.»
٦
ولعل نقطة البدء في تحليل تلك الرواية تنطلق من الوعي
بما تنطوي عليه، ككل رواية، من «حدث» تدور حوله من جهة،
و«سياق» يتأطَّر فيه هذا الحدث من جهةٍ أخرى، وأنهما
يتجاوبان في إنتاج ما تستهدفه الرواية من دلالة «الإقصاء
والإعلاء»، وإذا كانت عناصر «السياق» — الذي صنعه الراوي
— تتوزع على بداية الرواية ونهايتها، فإن ما يرد — في
البداية — من «أخذ (الأشعري) عن الجبائي المعتزلي،
واتباعه له على الاعتزال لمدة أربعين سنة» إنما يتجاوَب
مع ما أورده الراوي في نهاية الرواية من «انخلاعه عن
الثوب والرَّمْي به»، فإن الأخذ (بما يستنبطه من دلالة
الاحتياج بالمعنى المعرفي والنفسي) في البداية، إنما
يتبعه الرمي والإلقاء (بما يعكسه من دلالة الاكتمال وعدم
الحاجة) في النهاية، تمامًا بمثل ما إن الاتباع (بما
يحمله من دلالة الخضوع) سوف يتلوه الانخلاع (بما ينطوي
عليه من دلالة التحرُّر والانعتاق)، وبما يعنيه ذلك من
الربط بين الجبائي والاعتزال على العموم، وبين الثوب
(يُرْمَى ويُطوَّح به بعد الانخلاع منه)، ومن جهةٍ أخرى، فإن
ما أورده الراوي، في نهاية الرواية من «دفع (الأشعري)
لكتبه المؤلَّفة على مذهب السنة للناس» كقرينٍ لفعل
انخلاعه عن الثوب، إنما يتجاوَب مع ما أورده في بداية
الرواية من «أن الله قد أراده لنصر دينه» (وكأنه لم يكن
قبل ذلك ناصرًا لدِين الله، بل لدِين المعتزلة الذين ليسوا
على دِين الله تبعًا لذلك) وشرح صدره لاتباع الحق (بعد أن
كان على الباطل المعتزلي)، وبما يعنيه ذلك من الربط بين
مذهب السُّنة وبين دِين الله وطريق أهل الحق، وفي كلمةٍ
واحدة، فإن سياق الراوي يكاد يُكرِّس ما سيسعى الحدث إلى
ترسيخه وتوظيفه من الربط بين الاعتزال وبين الثوب (وقد
استحال إلى خِرقة تُرمَى بعد الانخلاع منه) من جهة، وبين
مذهب السُّنة (الأشعري) وبين دِين الله من جهةٍ أخرى.
وغنيٌّ عن البيان أن هذا الذي أنتجته عناصر السياق
التي تتوزع على بداية الرواية ونهايتها، هو ما سوف ينتجه
الحدث بدوره، ولكن على نحوٍ أكثر عمقًا بالطبع، ولعل
أكثر ما يلفت الانتباه في هذا الحدث الذي تدور حوله
الرواية هو فائض العنف الذي تطفح به تفاصيله، الذي لم
يقف عند حد الإعلان عن نفسه (قولًا) يرمي به الأشعري
خصمه، وأعْنِي عن طريق مفرَدات الصد والرد والفضح بالعصيان
والضلالة، بل وراح يحقِّق نفسه (فعلًا) عن طريق رمزية
الانخلاع من «الثوب» وتطويحه، فإن انخلاعًا من الثوب على
هذا النحو من الحِدَّة والعنف، لا يمكن أن يكون نتاج حيرة
أو تَردُّد انتهى إليه صاحبه بعد أن «نظر» فتكافأت عنده
الأدلة ولم يترجَّح شيء بقدر ما هو التجَلِّي الأقصى لجرحٍ
غائر في أعماق «نفس» طالت معاناتها مع تجربةٍ أليمة، وآن
لها أن تنعتق أخيرًا من ضغوط تفاعلاتها القاسية؛ إذ الحق
أن قراءة للحدث في ضوء ما هو معروف من سيرة الأشعري من
فُقدانه المبكِّر لأبيه، واقتران أُمِّه بشيخ معتزلة البصرة في
عصره، المُشار إليه في مطلع الرواية الذي صار للأشعري
منذئذٍ، لا مجرد إمام طريقة في الكلام تتعالَى «بالعقل»،
بل «وأبا بديلًا» تتفاعل تداعيات حضوره الجارح في
أعماق «النفس»، إنما يحيل إلى أزمةٍ دَفينة ظلتَّ تتفاقم
٧ حتى بلغت ذروتها في هذا المشهد الأخير، أعْنِي
مشهد انخلاعه من ثوبه على منبر المسجد، إنها أزمة «أو
بالأحرى عقدة احتلال مكان «الأب» الذي قام به
«الجبائي» بزواجه من «الأم»، التي ظلَّت تنطوي عليها دخائل
نفس الأشعري حتى بلوغه الأربعين التي تمكن عندها من
القتل الرمزي لهذا الأب الدخيل، ولعله ليس ثمة من تفسيرٍ
جدي لانخلاع «الأشعري» الأعنف عن الاعتزال بعد أن صار
إمامًا له بحسب الرواية، إلا بوصفه تمثيلًا لهذا القتل
الرمزي لذاك الأب الدخيل (الجبائي)، وهو تفسير يكتسب
قيمةً مضاعَفة من قدرته على استيعاب كل ما قيل من مبررات.»
٨ لهذا الانخلاع بوصفها من قبيل «المناسبات»
التي تطفو على سطح هذا العامل الحاسم الذي يحفزها في
العمق، فإذ تماهى «الاعتزال» في لاوعي الأشعري — وكان
ذلك لازمًا — مع هذا الأب (الجبائي) الدخيل، فإن ما
استخدَمه في خطبة انخلاعه عن الاعتزال (المتماهِي في اللاوعي مع مَن احتل مقام الأب)
من مفرَدات الفضح والوصم
والإدانة لم يكن إلا ضربًا من القتل القولي باللسان،
وليس الدَّموي الذي لم يكن ليقدر عليه، لهذا الأب المُقنَّع،
ولعل هذا القتل الرمزي يكتسب دلالته عن طريق تأكيد
الأشعري — الذي يفتقِد إلى مبرِّرٍ ظاهر — في نفس خطبته على
انتسابه لأبيه الأصيل (فلان ابن فلان)، فيما يبدو وكأنه
الإلحاح على إماتة الأب — الدخيل عن طريق هذا الاستدعاء
لأبيه الأصيل.
والحق أن هذه السيكولوجيا، أعْنِي سيكولوجيا القتل
الرمزي، هي ما يمكن أن يفسر كل عناصر رواية الانخلاع
الذي لم يقف — ودائمًا حسب الرواية — عند حدِّ الإعلان
بأنه تائبٌ مقلعٌ عن مذهب المعتزلة وكاشفٌ لفضائحهم، بل
وأضاف إلى ذلك انخلاعه من ثوبِه مُطوِّحًا به بعد أن قام
بتمزيقه، وهو الفعل الذي لا يمكن اعتبارَه مجانيًّا أو
خاليًا من المعنى أبدًا، إن معناه الكامن يتأتَّى من أن
ما يبدو فضحًا ووصمًا (وهو المعادِل للقتل القولي) لم يكن
كافيًا لإبراء الأشعري من جرحه الغائر الكامن، بل إن
رغبته الدفينة قد ظلَّتْ تَتوق إلى قتل «فعلي» لا يطيقه ولا
يقدر عليه، لكن ما لا يقدر عليه الوعي من القتل الفعلي
الدموي لا بد أن يجد لنفسه مخرجًا، ولو على نحوٍ رمزي،
ومن هنا ذلك الانخلاع من «الثوب» الذي يكاد أن يتبدَّى في
الرواية كمعادلٍ رمزي كامل «للأب»، وإذن فإنها
سيكولوجيا الإحلال ثانية، وأعني إحلال «الثوب» محل
«الأب» الذي كان قد تماهَى، بدوره، مع الاعتزال من قبل،
والحق أن هذا الإحلال التخْيِيلي للثوب محل الأب مما يبدو
ممكنًا وقابلًا للفهم تمامًا، وذلك مع الوعي بحقيقة
تماثلهما في أداء الدور الوظيفي نفسه، الذي يتمثل في
إشباع حاجات الستر والحماية على كلا المستويين النفسي
والجسدي، ومن هنا إمكانية أن يحل الواحد منهما محل
الآخر، وهي الإمكانية التي يسرت للوعي إشباع رغبة القتل
الفعلي الكامنة في اللاوعي، وأعْنِي أنه إذا كانت الرغبة
الكامنة هي القتل الفعلي للأب المعتزلي — الذي احتلَّ مكان
الأب الأصلي — فإن الوعي عبْر آلية الإحلال قد راح يتسامى
بهذا القتل الذي يريده قتلًا فعليًّا «باليد» بعد أن كان
من قبلُ قوليًّا «باللسان»، فاستبدل بالأب، الثوب الذي
كان عليه أن يصبح موضوعًا لفعل القتل باليد تمزيقًا
وتطويحًا، فبدا — هكذا — وكأن الوعي قد حقق القتل
فعليًّا باليد، لكنه راح يحققه رمزيًّا في الثوب، وليس
دمويًّا للشخص، وبهذا يكون الوعي قد فتح الباب لاكتمال
دائرة قتل الأب «قوليًّا» عبْر مُماهَاته مع الاعتزال،
و«فعليًّا» عبْر الإحلال الرمزي له في الثوب.
وإذ يبدو أن هذه السيكولوجيا الخَلاصِية التي اتَّسعت
لضروبٍ من القتل القولي والفعلي — الذي يبقى قتلًا
رمزيًّا على أي حال — قد اقتضت ضرورة التغطية عليها بما
يتسامَى على دَنَس اللاوعي المكبوت، بل ويتعالى إلى عالَم
القداسة والملكوت، فإن ذلك — بالضبط — هو ما تكفَّلَت به
تلك الرواية التي تحكي عن مبدأ رجوعه «أنه كان نائمًا في
شهر رمضان، فرأى النبي
ﷺ فقال له: يا
علي، انصر المذاهب المروِيَّة عنِّي؛ فإنها الحق، فلما استيقظ
دخل عليه أمرٌ عظيم، ولم يزل مفكرًا مهمومًا من ذلك،
وكانت هذه الرؤية في العشر الأول، فلما كان العشر
الأوسط، رأى النبي
ﷺ في المنام ثانيًا
فقال: ما فعلتَ فيما أمرتُك به؟ فقال: يا رسول الله، وما
عسى أن أفعل وقد خرجت للمذاهب المروية عنك محامل صحيحة؟
فقال لي: انظر المذاهب المروِيَّة عنِّي فإنها الحق، فاستيقظ
وهو شديد الحزن والأسف، وأجمع على ترْك الكلام واتباع
الحديث وملازَمة تلاوة القرآن، فلما كانت ليلة سبع
وعشرين، وكان من عادته سهر تلك الليلة، أخذه من النعاس
ما لم يتمالك معه السهر، فنام وهو يتأسَّف على ترك
القيام فيها، فرأى النبي
ﷺ ثالثًا،
فقال له: ما صنعتَ فيما أمرتُك به؟ فقال: قد تركتُ الكلام
يا رسول الله، ولزمتُ كتاب الله وسُنَّتك، فقال له: أنا ما
أمرتُك بترك الكلام، إنما أمرتُك بنصرة المذاهب المروية
عني، فإنها الحق، قال: فقلتُ: يا رسول الله، كيف أدعُ
مذهبًا تصورتُ مسائله، وعرفتُ دلائله منذ ثلاثين سنة،
لرؤيا، قال: فقال لي: لولا أني أعلم أن الله يُمِدُّك بمددٍ
من عنده لما قمتُ عنك حتى أبين لك وجوهها، فجِدَّ فيه، فإن
الله سيُمِدُّك بمددٍ من عنده، فاستيقظ وقال: ما بعد الحق
إلا الضلال، وأخذ في نصرة الأحاديث في الرؤية والشفاعة،
وغير ذلك.»
٩
والحق أنه وحتى مع صرف النظر عما تنطوي عليه هذه
الرواية من اضطرابٍ ظاهر يتكشف عنه ما يكاد أن يكون
تناقضًا بين إجماع الأشعري على ترْك الكلام بعد الرؤيا
الثانية، وجوابه على النبي — بالتالي — في بدء الرؤيا
الثالثة بأنه قد ترك الكلام بالفعل، وبين سؤاله للنبي في
نهاية هذه الرؤيا: كيف أتركُ مذهبًا تصورتُ مسائله وعرفتُ
دلائله؟ (وهو الاستفهام الذي لا ينطوي على مجرَّد
الاستنكار لترك الكلام، بل والاستصغار لشأن الرؤيا)، فإن
الدَّور الوظيفي الذي تلعبه هذه الرواية بامتيازٍ لافت في
إضاءة قراءة الرواية الأولى (حدثًا وسياقًا)، يجعل
حضورها مركزيًّا في سياق هذا التحليل؛ إذ يبدو —
وللمفارَقة — أن هذه الرواية قد راحت، من حيث تقصد إلى
التعالِي بأصل انخلاع الأشعري عن الاعتزال إلى تخوم
المفارِق أو عالَم الملكوت، تؤكد على نحوٍ كاسِح كفاءة
قراءة هذا الانخلاع بوصفه انعكاسًا لسيكولوجيا اللاوعي
المكبوت، وأعْنِي من حيث إن آلية الوعي في التحرر من
الإحساس بالخطيئة الناتج عن انفلاتات اللاوعي المراد
كبْتُه، لم تكن إلا إنتاج المزيد من التَّسامي والعلوِّ إلى حدِّ
المخايَلة ببلوغ مَقام النبوة.
والحق أن قراءة لهذه الرواية لتتكشف عن ضروبٍ من
المخايَلة تستهدِف تكريس التوازي كاملًا بين كلٍّ من
الأشعري والنبي، وذلك ابتداءً من ظهور النبي للأشعري
ثلاثًا في الرؤيا «التي هي — حسب حديث النبي — جزء من ست
وأربعين جزءًا من النبوة»، وفي شهر رمضان «الذي أنُزل
فيه القرآن»، وبما يسمح بتحقيق مُخايَلة التطابق مع تجربة
النبي نفسه حين تنزَّل عليه جبريل بالوحي لأول مرةٍ عند
اعتزاله في غار حراء، في حين جرى ذلك للأشعري وهو معتزِل
في بيته، فإذ ظل جبريل يسأل النبي ثلاثًا أن اقرأ، في
حين أن النبي، وقد أخذَتْه المفاجأة والدهشة، لا يجد ما
يردُّ به إلا: ما أنا بقارئ،
١٠ فإن النبي (وقد حل محل جبريل) قد راح يسأل
الأشعري (الذي أخذ مكان النبي) ثلاثًا أيضًا أن «انصر
المذاهب المروِيَّة عني فإنها الحق»، في حين أن الأشعري يردُّ
— مأخوذًا بالحيرة — «وما عسى أن أفعل؟» وبمثل ما أن
حيرة النبي قد زالت حين أجابه جبريل:
اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، فإن تردُّد الأشعري قد ارتفع
تمامًا حين طمأنه النبي بأن الله سيمده بمددٍ من عنده،
وبما يحيل إلى تماثُل حضور «الله» في تلك المخايَلة أيضًا،
ولكي تكتمل المخايَلة فإن كاتِبِي سيرة الأشعري قد أبَوْا إلا
أن يحققوا هذا الظهور النبوي للأشعري في تلك الرُّؤى التي
تُشبِه الوحي عند سِن «الأربعين»، بمثل ما أن الوحي قد تنزَّل
على النبي عند نفس اللحظة العمرية بالضبط، بل إن الأمر
يبلغ مداه حقًّا حين يلح هؤلاء على تكريس نفس المخايَلة
بين (عبد المطلب) جد النبي من جهة، وبين (أبي موسى) جد
الأشعري من جهةٍ أخرى، فإذ تلح مصادر السيرة على أن جد
النبي (عبد المطلب) قد كان موضوعًا لاختيار إلهي،
يُستفاد منه في التأكيد على الاصطفاء المسبق للنبي،
١١ فإن ذلك هو ما أصر عليه كاتِبُو مَناقِب
الأشعري بالمِثل، وذلك حين صاروا إلى أنه «لما نزلت
فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ قال رسول الله
ﷺ: «هم
قوم هذا»، وضرب بيده على ظهر أبي موسى الأشعري.»
١٢ وهكذا فإن الرجل، بل وقومه قد كانوا
موضوعًا لحبٍ إلهي مخصوص، وهو من نوع الحب الذي سيتوارث
في مَن «سيخرج من ذلك الظهر في تاسِع بطن، وهو الشيخ «أبو الحسن».»
١٣ ومن هنا أن الأشعري قد أصبح — بمثل ما كان
النبي أيضًا — موضوعًا للإشارة والبشارة،
١٤ وإذن فإنه التوازي بين النبي والأشعري،
سيرة وتجربة معًا، الأمر الذي يعني أنه التعالي في أعلى
صُوَرِه، يمارسه الوعي صعودًا من دَنس الكَبْت وظلمات اللاوعي
إلى مَعارج القدس وفُيوضات الرؤيا ومُخايَلات الوحي، وهكذا
فإن جذر هذه الرواية يكمن في أن الإحساس بالخطيئة، أعْنِي
خطيئة القتل الذي مارَسه الوعي (قوليًّا وفعليًّا) بحسب
الرواية الأولى، قد ظل يثقل على الضمير ويشقيه، ومن دون
أن تخفف من وطأة هذا الإحساس بالشقاء حقيقة أنه كان
قتلًا رمزيًّا، وبالطبع فإنه لم يكن للوعي أن يترك
الضمير يشقى بهذا الإحساس الثقيل، فراح يسعى إلى تحريره
من وطأته عبْر التسامي بفعل القتل (الذي هو رمزي في كل
الأحوال) من كونه خطيئة، إلى اعتباره اصطفاء وفضيلة
تتأتَّى من عالَمٍ علوي نوراني يُكرِّر — أو يكاد — تجربة
الوحي النبوي. والحق أن ثراء هذه الرواية، وهو الأصل في
مركزية حضورها في التحليل، إنما يتأتَّى من قدرتها
التفسيرية السخية التي تجعلها تتسع لما يبدو وكأنه السعي
إلى حجب الجذر الأعمق لانخلاع الأشعري عن الاعتزال
وستره، وإلى إبراء ضميره الذي يشقى بإحساسه المثقَل نتيجة
فعله، ثم إلى توظيف التماثل الذي تقيمه بين كلٍّ من
الأشعري والنبي، في تحقيق هيمنة الأشعرية وتثبيت سيادتها
التي لم تَزل تتمتع بها للآن، وذلك ابتداء من قداسة
(النبوي) تنسرب إليها.
وهكذا يَئُول التحليل إلى أن السيكولوجي (أو انفلاتات
اللاوعي)، وليس العقلي (أو تحوُّلات الوعي) هو الأصل في
انخلاع الأشعري عن الاعتزال؛ ولأن سيكولوجيا الكبت لا
تَعرِف إلا الانتقام والثأر، وليس أبدًا التوسط والفهم،
فإن عمل الأشعري اللاحق لانخلاعه لم يكن إلا نوعًا من
الانتقام بالفعل، ولسوء الحظ فإن كان ثأرًا من العقل
الذي استحال — بحسب آلية الإحلال — إلى رمز لرأس
الاعتزال الذي احتلَّ مكان الأب، وأعْنِي به أبَا علي
الجبائي، ولعل الأشعري لم يجد في سعيه وراء شيء ينتقم به
من هذا (العقل) إلا نقيضه الكامل، وأعْنِي به طريقة
الفقهاء والمحدِّثِين، أو ما أسماه بطريقة الاستدلال
بالأخبار، فراح ينسرب بها كاملة إلى علم الكلام.
من «سيكولوجيا الانخلاع» إلى انسراب «الإبستمولوجيا»
الفقهية إلى علم الكلام
إذا كان انخلاع الأشعري قد ارتبط — حسب ما تبدَّى آنفًا
— بسيكولوجيا تتحكَّم فيها الرغبة الدَّفِينة في الانتقام
والثأر من الاعتزال (ودائمًا لا من حيث هو مجال اشتغال
العقل، بل من حيث هو مَدار اعتقاد «الأب» المراد قتله)،
فإن ذلك قد حدَّد حقيقة كونه انخلاعًا ليس فقط عن «جميع ما
كان يعتقده من مذاهبهم، حسب تعبيره، بل — وهو الأهم — عن
طريقتهم الإبستمولوجية في الاستدلال أيضًا، ومن هنا
إمكان القول بأن ضغوط السيكولوجيا قد آلَت — على نحوٍ ما
— إلى اتساقٍ إبستمولوجي واضح، وأعني من حيث ما تأدَّت
إليه من استحالة الانخلاع عن عقائد الاعتزال إلى عقائد
السلف مع الاحتفاظ بطريقة الاستدلال المعتزلية في الوقت
نفسه، بل إن الأمر قد آل إلى ما يمكن اعتباره تأسيسًا
لطريقة السَّلف (وليس مجرد عقيدتهم) في علم الكلام، وعلى
النحو الذي أدَّى إلى الاتساق الكامل بين العقيدة
والطريقة، وهو الاتساق الذي لن يستمر طويلًا، وأعني من
حيث إن أَتْباع الأشعري سوف يجدون أنفسهم مضطرين لكسره،
ولكن تحت ضغوط الإبستمولوجيا هذه المرة.»
فإذ راح الأشعري «يدفع للناس — على قول السبكي — ما
كَتَبه على طريقة الجماعة من الفقهاء وأهل الحديث (أو
السلف)، فإنه قد بدَا منشغِلًا كليًّا في هذا الذي دفعه
للناس بالكتابة «على» الطريقة، وليس بالكتابة «عن»
الطريقة؛ إذ تكاد تخلو نصوصه، التي تُعَدُّ تأسيسية حسب
كثيرين، من طرحٍ مفصَّل ومنظَّم لطريقته في الاستدلال، وهكذا
فإن «الإبانة عن أصول الديانة» الذي يكاد — من مجرد
عنوانه — أن يكون نصه المؤسِّس في علم الكلام أو «أصول
الديانة» لا ينطوي على ما هو أكثر من «إبانة قول أهل
الحق والسُّنة»، وتمييزه عن «قول أهل الزيغ والبدع» (وهو
القول الذي سيكرِّس له نصه «اللمع»)، ومن دون أن ينطوي
أيٌّ من النَّصَّين على قول في إبانة «الطريقة» التي
سوف يدشن بها هذه الإبانة لقول أهل الحق والسُّنة، إن ذلك
يعني أن الأمر في كلا النَّصَّين يتعلق بتدشين القول في
«عقائد أهل الحق» مع السكوت عن القول في «الطريقة»
المؤسِّسة لهذا القول، وأعني أنها الكتابة «على» الطريقة،
وليس «عن» الطريقة.
وإذا كان الطابع التأسيسي للنصوص إنما يرتبط بما تنطوي
عليه من تدشين «طريقة» تؤسِّس لقولٍ مغاير في حقلٍ ما،
١٥ فإنه لا بد من المصير إلى أن نص الأشعري
المؤسِّس حقًّا، إنما هو ذلك الذي ينطوي على التفكير في
«الطريقة» التي دشَّن بها قوله المغايِر في العقائد … وإذ
يبدو أن الأشعري قد تجاوَز في نصه المغمور «رسالة إلى أهل
الثغر» حدود الكتابة في العقائد على طريقة السَّلف إلى
إبانة القول في تلك الطريقة نفسها، فإنه يمكن اعتبار هذا
النص — رغم كونه الأقل ذيوعًا بين نصوصه — هو نصه المؤسِّس
حقًّا، ولعل السعي في هذا النص إلى إبانة القول في
الطريقة التي يؤسس بها لعقيدته، إنما يتأتَّى من طابعه
البنائي وليس النَّقْضِي، وأعْنِي من حقيقة أن الأشعري قد
أفردَه لإبانة أصول ديانته أو عقيدته، ولكن من دون أن
يبلْوِر هذه الإبانة — كعهده في نَصَّيه الآنفَيْن — في سياق
المساجَلة مع الخصم والاستغراق في نقضه، ومن هنا أنه كان
مضطرًّا لأن يؤسِّس لعقيدته قوائمها التي تعتمِد عليها، بعد
أن كانت تقوم قبْلًا على مجرَّد نقْض قول الخصم ودَحْض ما يؤسِّس
لهذا القول، واللافت أن «طريقة» قول الخصم، وليس مجرَّد
مضمون قوله أو «عقيدته»، مثلما كان الأمر قبْلًا، سوف
تكون هي موضوع النقض في هذا النص، وبما يعني أنه القول
في «طريقته»، وفي طريقة الخصم أيضًا.
ولعل نقطة البدء في «الإبانة عن أصول الطريقة» — أعْنِي
طريقة الأشعري — تنطلق مما صرَّح به «السبكي» من أن كل ما
كتَبه «الأشعري» بعد واقعة انخلاعه، قد جاء على طريقة
الجماعة من الفقهاء التي يبدو أنه قد تبنَّاها كاملة،
كأصولٍ ومفاهيم، إذ يُلاحَظ أنه قد افتتح قوله المغايِر في
«الإبانة» بتسريبٍ صريح للأصول التي يفكر بها الفقهاء —
ضمن حدود حقلهم الفقهي — إلى حقل الكلام، ومن هنا ما رد
به على محاوره المتخَيَّل حين سأله: «قد أنكرتم قول
المعتزلة والجهمية والحرورية والرافضة والمرجِئة، فعرِّفُونا
قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون» بأن
«قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي بها ندين؛ التمسُّك
بكتاب الله ربنا — عز وجل — وبسُنة نبينا
ﷺ وما رُوي عن السادة الصحابة والتابعِين وأئمة
الأحاديث (الإجماع)، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول
به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل — نضر الله وجهه
ورفع درجته، وأجزَل مثوبته — قائلون، ولِمَا خالَف قوله مخالفون.»
١٦ وإذن فإنها أصول الفقهاء وقد استدعاها
الأشعري لتشتغل خارج حقلها، لكنه يبدو أن طبيعة الحقل
المعرفي الكلامي — المغاير ولو نسبيًّا لطبيعة الحقل
الفقهي — قد فَرضَت عليه أن يستدعي منها ثلاثة فقط، هي
الكتاب والسُّنة والإجماع، وأما الأصل الرابع، وأعْنِي به
الاجتهاد، فإنه قد غاب؛ لأن الأشعري لم يجد له مكانًا إلا
في «أصول الأحكام» وليس «أصول العقائد»، فإذ «لم تَجِد عن
أحدٍ من صحابته (أي النبي) خلافًا في شيءٍ مما وَقَف — عليه
السلام — جماعتهم (عليه من الحجج)، ولا نُقِل عنهم كلام في شيء من ذلك، ولا شك في شيءٍ
منه،
ولا زيادة على ما نبَّهَهم عليه من الحجج، بل نصُّوا جميعًا
على ذلك، وهم مُتفقون لا يختلفون في حدثهم، ولا في توحيد
المُحْدِث لهم وأسمائِه وصفاته، وتسليم جميع المقادير إليه
… لما قد ثُلِجت به صدورهم، وتبينوا وجه الأدلة التي
نبَّههم عليها … وإنما تكلَّفوا البحث والنظر فيما كُلِّفوه
من الاجتهاد في حوادث الأحكام عند نزولها بهم، وحدوثها
فيهم، وردها إلى معاني الأصول التي وَقَفهم عليها، ونبَّههم
بالإشارة على ما فيها، فكان منهم في ذلك ما نُقل إلينا
من طرق الاجتهاد التي اتفقوا عليها وطرق الاجتهاد التي
اختلفوا فيها.»
١٧ وإذ لا مجال — هكذا — لأي اجتهادٍ في أصول
العقائد، بل هو الاجتهاد في حوادث الأحكام بِردِّها إلى
معاني الأصول، فإنه لا مَحلَّ للدعوى بأن «ابن حنبل» هو
المُعادِل في نص الأشعري للاجتهاد؛
١٨ إذ الحق أن «ابن حنبل» لا يحضر في نص
الأشعري كصاحب اجتهاد، بل كصاحب موقِف تأدَّى به إلى أن
يكون ضحية سياسية لنفس الخصم القاسي (أي الاعتزال) الذي
كان الأشعري هو ضحيته السيكولوجية.
والحق أن الاجتهاد كان لا بد أن يغيب تمامًا عن أصول
الأشعري؛ لأنه إذا كان معنى الاجتهاد في المجال الفقهي
الذي خضع له الأشعري تمامًا بعد انخلاعه عن الاعتزال،
هو معنى «القياس» بحسب الشافعي، الذي «هو ما طُلب
بالدلائل على موافقة الخبر المتقدِّم، من الكتاب والسُّنة.»
١٩ أو بلغة الأشعري نفسه «ردُّ حوادث
الأحكام إلى معاني الأصول»، فإنه يستحيل تمامًا حضور مثل
هذا القياس في المجال الكلامي؛ لأنه لا مجال فيه لحوادث
تُرد إلى معاني الأصول، بل إن الأصول هي ما بدا — على
العكس — أنها هي التي تُرد إلى الحوادث فيه (أعْنِي في
الكلام)، وذلك فيما يُعرف بقياس الغائب على الشاهد، وإذ
يبدو هكذا أن القياس يشتغل في المجال الكلامي على نحوٍ
مغايِر تمامًا لاشتغاله في المجال الفقهي، وأعْنِي ردًّا
للأصول إلى الحوادث (أو قياس الغائب على الشاهد) وليس
العكس، فإنه قد بدَا للأشعري من قبيل الاشتغال الفاسد،
وذلك من حيث يَئُول إلى تأويلٍ للعقائد يجاوِز بها مضمونها
الذي يصرح به ظاهر الأخبار، فإن هذا الاشتغال للقياس
ردًّا للأصول إلى الحوادث وهو ما آل — بحسب الأشعري —
إلى «أن كثيرًا من الزائغِين عن الحق من المعتزلة وأهل
القَدَر (قد) مالت بهم أهواؤهم إلى تقليد رؤسائهم، ومَن مضى
من أسلافهم فتأولَّوا القرآن «والأخبار» على آرائهم
تأويلًا لم يُنزِل به الله سلطانًا، ولا أوضح به برهانًا،
ولا نقلوه عن رسول رب العالمين، ولا عن السلف المتقدِّمِين.»
٢٠
ولعل مثالًا لهذا التأويل الفاسد يتبدَّى في ما صار إليه
المعتزلة من أنه «لو كان (الله) تعالى يُرى بالبصر لوجب
أن يجوز أن يكون في جهة، إما بنفسه وإما بمحله، وذلك
مستحيلٌ عليه، يبين ذلك أن الواحد منا كما يحتاج إلى
حاسَّة البصر في الرؤية، فكذا يحتاج إلى أن يكون ما يراه
مقابلًا لحاسته، إما بنفسه وإما بمحله، وكذلك متى أراد
أن يُرَى ما لا يقابله يستعين بالمرآة، فتصير مقابلته لها
كمقابلته لبصره.»
٢١ فإن ذلك هو من قبيل رد أصل في العقيدة (وهو
هنا رؤية الله) إلى الحوادث (متمثلة في «رؤية الواحد منا
للشيء المرئي» الذي هو الأصل في قياسهم)، فتأوَّلُوه على
نحو «خالفوا معه — بحسب الأشعري طبعًا — روايات الصحابة
رضي الله عنهم عن نبي الله
ﷺ في رؤية
الله عز وجل بالأبصار، وقد جاءت في ذلك الروايات من
الجهات المختلفة وتواترَت بها الآثار، وتتابعَت بها الأخبار.»
٢٢ بل إن الأشعري قد مضى إلى أن الأمر لا يقف
عند مجرَّد مخالفة «أخبار» النبي، بل يتجاوز إلى التعدي
على دَوْره، وإلى حد إبطاله، وأعْنِي من حيث ما تأدَّى إليه
هذا الاجتهاد/القياس من «استئناف أدلة غير التي نبَّه
النبي عليها.»
٢٣ وبما ينطوي عليه ذلك من افتراض أن أحدًا
«أعلم من النبي»، وهذا مما «لا يدعيه مسلم»؛
٢٤ إذ من المستحيل أن يأتي بعد النبي (أي نبي)
أحدٌ بأهدَى مما أتى، أو يَصِلوا من ذلك (أي الأدلة) إلى ما
بَعُد عنه عليه السلام.»
٢٥ وبالطبع فإن تصوُّر إمكان ذلك (أي أن يأتي
أحدٌ بأهدى مما أتى به الأنبياء) إنما ينطوي — بحسب
الأشعري — على دفْع الرسل وإنكار الأنبياء، ومن هنا صار
إليه من أنه «إنما صار مَن أثبت حدَث العالَم والمُحدِث له من
الفلاسفة إلى الاستدلال بالأعراض والجواهر لدفعهم الرسل
وإنكارهم لجواز مجيئهم.»
٢٦ وإذ ينتهي الأشعري — هكذا — إلى التسوية
بين طريقة الاستدلال بالأعراض، التي يفكر بها المعتزلة،
وبين دفع الرسل وإنكار النبوات، فإنما ليوهم بالتساوي
بين «طريقته» البديلة في الاستدلال بالأخبار وبين طريق
الأنبياء، وبما يحيل إلى أنه «التقديس» لطريقته، مقابل
«التدنيس» لطريقة الأب-المعتزلي الضليل.
وأخيرًا فإن الأشعري قد أضاف إلى ما سبق من إنكار
الأنبياء ودفْع الرسل ما يراه من «خفاء» هذه الطريقة الذي
تستمده من انتسابها — بحسبه — إلى «الأعراض»، وذلك في
مقابل «وضوح» طريقة الاستدلال بالأخبار، الذي تستمده من
بيان الخبر ومباشرة دلالته، فإذ «الأعراض لا يصح
الاستدلال بها إلا بعد رتبٍ كثيرة يطول الخلاف فيها ويدق
الكلام عليها»، فإن «ما يُستدل به من أخباره عليه السلام
على سائر ما دُعِينا إلى معرفته مما لا يُدرَك بالحواس،
أوضح دلالة من دلالة الأعراض التي اعتمد على الاستدلال
بها الفلاسفة، ومَن اتبعها من القدرية وأهل البدع
المنحرِفِين عن الرسل.»
٢٧ وبالطبع فإن ما أضافه الأشعري من «الخفاء
المعرفي» لطريقة الاستدلال بالأعراض إلى ما كان قد خلعه
عليها من وصمة «الابتداع الديني»، لم يكن إلا توطئته إلى
طرد الاجتهاد المرتبط بها وإقصائه خارج المجال الكلامي
كليًّا، وبحيث لا يبقى من مجال إلا للاجتهاد الأوحد الذي
يمكن له أن يقبل به، وأعني به «اجتهاد الخَلَف في طلب
أخبار النبي
ﷺ والاحتياط في عدالة
الرواة لها، «باعتباره» واجبًا عندهم ليكونوا فيما
يعتقدونه من ذلك على يقين.»
٢٨ وهكذا يلوح أن نقض «الاستدلال بالأعراض» لم
يكن إلا توطئة الأشعري لتأسيس ما أسماه «الاستدلال
بالأخبار».
وقد انطلق الأشعري إلى تأسيس هذا «الاستدلال بالأخبار»
من ذات المفهوم المركزي الذي بلوره الشافعي في المجال
الفقهي، وأعني مفهوم «البيان»، ولكن بعد تكييفه بما
يتناسب وطبيعة المجال الكلامي بالطبع، والغريب أن توطئة
الأشعري «لتدشين «البيان» تكاد أن تكون استعادة لتوطئة
«الشافعي» إلى تدشين هذا المفهوم أيضًا، فإذ يبدأ الطريق
إلى «البيان والهدى» عند الشافعي من لحظة «الكفر والعمى»
التي كان عليها الناس عند بعث النبي،
٢٩ فإن ذلك هو ذات الطريق الذي انطلق فيه
الأشعري إلى البيان (في العقائد)، ومن نفس نقطة البدء
تمامًا، وأعْنِي من «إن الله بعث محمدًا
ﷺ إلى سائر العالمين وهم أحزابٌ مُشتَّتون وفِرَقٌ
متباينون … لينبههم على حدثهم، ويدعوهم إلى توحيد
المُحدِث لهم، ويبين لهم طرق معرفته بما فيهم من آثار صنعته.»
٣٠ وبالطبع فإن هذا النوع من «البيان» للحدوث
والمُحدِث، إنما يختلف عن «البيان» بحسب الشافعي، الذي هو
بيانٌ «لما أَحلَّ مَنًّا بالتوسعة على خلقه، وما حرَّم لِمَا هو
أعلم به من حظهم في الكف عنه في الآخرة والأولى.»
٣١ ولعل هذا التباين هو الأصل في الاختلاف بين
وصف الشافعي لما كان عليه القوم قبل بعثة النبي بأنه
«الكفر والعمى»، فيما هو «التشتت والتباين» بحسب
الأشعري؛ إذ فيما يلائم «الكفر والعمى» انشغال الشافعي
الفقهي «بالفعل والسلوك»، ومن هنا أن «بيانه» ينصرف إلى
الحلال والحرام، فإن «التشتت والتباين» يلائم انشغال
الأشعري الكلامي بالرأي والنظر، ومن هنا أن بيانه يتعلق
بطرق المعرفة، لكن الأمر — فيما يتعلق بالتباين بين نوعي
البيان — يتجاوز إلى ما هو أعمق، وأعْنِي من حيث إنه فيما
يكون البيان، في المجال الفقهي، إلحاقًا لنازلةٍ مستجدة
بالأصل الثابت بالخبر، وذلك ابتداء من أنه «ليست تنزل
بأحدٍ من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل
على سبيل الهدى فيها.»
٣٢ وبالطبع فإن البيان هنا «بيان الدليل من
كتاب الله على سبيل الهدى في تلك النازلة، فإنه؛ أي
البيان، يكون في المجال الكلامي، إقصاءً للأدلة
المستجدة عن الأصل الثابت بالخبر، وذلك انطلاقًا من أن
أحدًا لا يمكن أن يكون أعلم من النبي أو «يأتي بأهدى مما
أتى»، وبما يعنيه ذلك من أن البيان — بحسب الأشعري — هو
بيان «الاستغناء في العلم بصحة جميع الأصول، بالأدلة
التي نبه صاحب الشريعة عليها في وقت دعوته.»
٣٣ وهكذا فإنه فيما يكون البيان، في المجال
الفقهي، ممارسة مفتوحة ابتداءً من أن النوازل تَتجدَّد
أبدًا، وعلى نحوٍ يصح معه تصوره «بيانًا متأخرًا»، وهو
ما أدركه الأشعري حين مضى إلى «جواز تأخير البيان فيما
أجمله الله من الأحكام.»
٣٤ فإنه يكون، في المجال الكلامي، بيانًا تحقق
القول فيه واكتمل مع النبي، ولا مجال فيه لقولٍ جديد،
وبحيث لا يصح تصوُّره إلا «بيانًا متقدمًا»، وهو أيضًا ما
قطع به الأشعري حين صار إلى أنه «معلومٌ عند سائر
العقلاء أن ما دعا النبي
ﷺ إليه مَن
واجهه مِن أُمَّته مِن اعتقاد حدثهم ومعرفة المُحدِث لهم
وتوحيده ومعرفة أسمائه الحسنى، وما هو عليه من صفات نفسه
وصفات فعله، وتصديقه فيما بلغهم من رسالته مما لا يصح أن
يُؤخَّر عنهم البيان فيه.»
٣٥ والحق أن تجويز تأخير البيان أو القطع
بوجوب تقديمه وعدم تأخيره، كان لا بد أن يُحدِّد نوع
الفاعلية أو الآلية المؤسِّسة له، التي كان يلزم أن تكون «الاجتهاد» حال تجويز تأخيره
(حيث البيان يأتي «لاحقًا»
للأصل) فيما بدَا لازمًا أن تكون هذه الآلية هي «الإجماع»
ولا شيء سواه حال القطع بتقديمه وعدم تأخيره (وأعْنِي من
حيث قد تحقق أصلًا في «السابق»)
٣٦ إذ الحق أنه لا سبيل إلى «بيان» يتحقق في
«اللاحق» إلا «الاجتهاد»، ولو كان صوريًّا، تمامًا بمثل
ما أنه لا سبيل إلى «بيان» قد تحقق في «السابق» إلا
«الإجماع»؛ ولأن البيان في المجال الكلامي قد تحقق —
بحسب الأشعري — في «السابق»، فإن في ذلك تفسيرًا للحضور
المركزي للإجماع عنده، وإلى حد تأسيسه لكافة عقائده على
هذا الأصل تقريبًا؛ إذ الحق أن الأشعري لم يعرف شيئًا
يؤسِّس عليه بيانه «للأصول التي مضى الأسلاف عليها»، إلا
«الإجماع»، وإلى حد أنه (أي الإجماع) قد تجاوَز عندَه مجرَّد
كونه آلية معرفية تنتظم البناء الباطني للنص، إلى انتظام
بنائه الشكلي أيضًا، وعلى نحوٍ اتخذ معه هذا البناء شكل
التصنيف، لا إلى أبوابٍ وفصول، بل إلى «إجماعات» استهل
الأشعري كل واحدٍ منها بصيغته الأثيرة: «وأجمعوا».
٣٧
ولقد اتكأ الأشعري في تأسيس سُلطة الإجماع، في المجال
الكلامي، على تصوره إجماعًا على ما أبانه النبي من
الأدلة، وبما يَتْبَع ذلك من وجوب اختصاص هذا الإجماع
بالصحابة دون سواهم، ولعل ذلك يعني أن الأشعري قد راح
يتجاوَز ذلك الانشغال، في المجال الفقهي، بِالْتِماس «النص»
المؤسِّس لسلطة الإجماع إلى تصوره، هو نفسه، يستمد سُلطته
من كونه، ليس إجماعًا على رَأْي أو اجتهاد، بل إجماعٌ على
«بيان النبي» الذي يلزم تصوره — ككل ما يصدر عنه — من
قبيل النص، وبالطبع فإن قوة هذا النص/البيان — التي
تتأتَّى من أنه ليس صادرًا عن اجتهاد النبي ورأيه، بل عن
وحي الله وتوقيفه — كان لا بد أن تطال الإجماع بدوره،
وإلى حد ما بدَا من أن الأشعري يكاد بالفعل أن يرد
«الإجماع» إلى الله، وهكذا فإنه إذا كان قد ارتفع —
تمامًا كالشافعي قبله — ببيان النبي إلى مَقام الوحي من
الله، وذلك من حيث «إن ما دل على صدق النبي
ﷺ بعد تنبيهه لسائر المكلَّفِين على حدثهم ووجود
المُحدِث لهم، قد أوجب صحة أخباره، ودل على أن ما آتى من
الكتاب والسُّنة (التي هي بيان النبي) من عند الله معًا.»
٣٨ فإنه قد مضى إلى أن الله «قد جعل ما حفظه
من ذلك (البيان) وجمع القلوب عليه، حجة على من تَعبَّد بعده
— عليه السلام — بشريعته، ودلالة لمن دُعي إلى قبول ذلك
ممن لم يشاهد الأخبار.»
٣٩ وبما يعني أنه ليس «بيان النبي» فقط هو ما
يكون من الله، بل إنَّ حفظ هذا البيان وجَمْع القلوب عليه
(أو الإجماع) يبدو من الله أيضًا، والملاحَظ أن الأشعري
قد مضى إلى تقرير ذلك صراحة، وأعْنِي حين صار إلى أنه «لما
جعل الله أخبار نبيه
ﷺ طريقًا إلى
المَعارف بما كلَّفَهم إلى آخر الزمان، حَفِظ أخباره — عليه
السلام — في سائر الأزمنة ومَنَع مِن تَطرُّق الشبه عليها، حتى
لا يروم أحد تغيير شيء منها، أو تبديل معنى كلمة قالها
(النبي) إلا كشَفَ الله عز وجل سِرَّه، وأظهر في الأمة أمْرَه
حتى يَرُد ذلك عليه العربي والعجمي، ومن قد أُهل لحفظ ذلك
من حملة علمه — عليه السلام — المُبلِّغِين عنه.»
٤٠ بل إن الأشعري يجاوز إلى حد اعتبار حفظ
الله لأخبار نبيه
ﷺ هو تمامًا «كحفظه
كتابه حتى لا ينطق (لعلها لا يقدر) أحد من أهل الزَّيغ على
تحريك حرف ساكن، أو تسكين حرف مُتحرِّك إلا تبادَر القُراء في
رد ذلك عليه مع اختلاف لغاتهم وتبايُن أوطانهم لما أراده
الله عز وجل من صحة الأداء عنه.»
٤١ وبالطبع فإن هذا القِرَان بين «الأخبار»
و«الكتاب» في الحفظ من الله إنما يَهَب هذه «الأخبار» قوة
«الكتاب» وسُلطته التي كان لا بد أن تنسرب إلى مفهوم
«الإجماع» بدوره، وأعْنِي من حيث أصبح — بحسب ما قيل آنفًا
— حجة على مَن تَعبَّد بعد النبي — عليه السلام — بشريعته،
ودلالة لمن دُعي إلى قبول ذلك ممن لم يشاهد الأخبار»،
وإذ الدلالة لمن شاهد الأخبار لم تكن إلا «المعجزة» —
التي «أزعجت قلوب سائر من أُرسل إليه النبي
ﷺ على النظر في آياته بخَرْق عوائدهم له، وحلول
ما يَعِدُهم من النِّقَم عند إعراضهم عنه ومخالفتهم له.»
٤٢ فإن ذلك يعني أن دلالة «الإجماع» لمن لم
يشاهد تلك الأخبار تقوم مقام دلالة «المعجزة» عند من
شاهدها، وبما يعني أنه التعالي — هنا — بالإجماع إلى مقام
المُعجزة، والحق أن هذا التعالي المزْدَوج، أعْنِي بأخبار
النبي وبيانه إلى مقام «الكِتاب» من حيث حفظ الله لهما
(أولًا)، وبالإجماع إلى مَقام المعجزة من حيث كونه دلالة
على صِدق تلك الأخبار (ثانيًا)، هو ما يؤسِّس لسلطة كل من
البيان والإجماع عند الأشعري على نحوٍ كامل، وهي السُّلطة
التي لعل الأشعري قد قصد تسريبها إلى «طريقته» حين بناها
متكئًا على هذين المفهومين بالأساس.
ولقد كان لزامًا أن تستمد هذه «الطريقة» سُلطة مضاعفة
ابتداءً من كونها — بحسب قوله — «طريقة الصحابة» الذين
«لا تجد عن أحدٍ منهم خلافًا في شيءٍ مما وقف — عليه
السلام — جماعتهم عليه، ولا شك في شيءٍ منه، ولا زيادة
على ما نبههم عليه من الحجج، بل نصُّوا جميعًا على ذلك،
وهم متفقون لا يختلفون في حدثهم، ولا في توحيد المُحدِث
لهم وأسمائه وصفاته، لما قد ثلجت به صدورهم، وتبينوا وجه
الأدلة التي نبههم — عليه السلام — عليها عند دعائه لهم.»
٤٣ وبالطبع فإن كونها «طريقة الصحابة» إنما
يعني أن تُضاف إليها سلطتهم التي ردَّها الأشعري إلى أنهم
«أئمة مأمُونون غير مُتَّهَمين في الدِّين، وقد أثنى الله
ورسوله على جميعهم، وتعبَّدَنا بتوقيرهم وتعظيمهم
وموالاتهم، والتَّبرِّي من كل مَن ينتقص أحدًا منهم.»
٤٤ والحق أن هذه السُّلطة للصحابة التي بلغ بها
الأشعري حدَّ التعبُّد بتوقيرهم وتعظيمهم لا تتأتَّى فقط من
مجرَّد ثناء الله والرسول عليهم، بل ومن حيث ما نُقل — من
أبي زرعة — من أن الرسول
ﷺ حق،
والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة.»
٤٥ وإذن فإنها سُلطة الصحابة تقترن بسلطة
الكتاب والسُّنة، وعلى النحو الذي سيجعل الأشعري اللاحق،
أعْنِي الغزالي، يقطع بأن «إجماع الصحابة» هو «أعظم أصول
الدين (لأنه هو) الذي يُحكَم به على كتاب الله وعلى السُّنة المتواترة.»
٤٦ مُكرِّسًا بذلك سُلطة لا سبيل إلى منازعتها
أبدًا، وبالطبع فإن الأشعري، عبْر تأسيسه لسلطة هذه
الأصول التي أقام طريقته عليها — وأعْنِي بها سُلطة البيان
يوازي — في حفظه — الكتاب، وسُلطة الإجماع يعادل — في
دلالته — المُعجِزة، وسلطة الصحابة كأصلٍ «يُحكَم به على
كتاب الله والسُّنة المتواترة» — إنما كان يؤسِّس لسُلطة
طريقته، التي يبدو أن طبيعة هذه الأصول المؤسِّسة لها قد
فرضَت عليها أن تكون — فيما أدرك هو نفسه — طريقة في
الاستدلال بالأخبار، ولعل مركزية «الخبر» في هذه
الطريقة، وإلى حد نسبتها إليه، إنما ترتد إلى حقيقة أن
هذه الأصول تكاد تتمحور بأسرها حول «الخبر»، وأعْنِي من
حيث إن «البيان» هو في حقيقته خبر النبي الذي أجمع عليه
الصحابة ونَصُّوا عليه إلى مَن بعدهم من الخَلَف الذين كان لا
بد أن يقتصر اجتهادهم على طلبه والاحتياط في عدالة
الرواة له، ولعل ما يؤكد تصور الأشعري لبيان النبي كخبرٍ
هو ما صار إليه من أنه «إذا ثبت بالآيات (المعجزات)
صدقه، فقد عُلم صحة ما أُخبر النبي
ﷺ
عنه، وصارت أخباره أدلة على سائر ما دعانا إليه من
الأمور الغائبة عن حواسنا وصفات فعله، وصار خبره — عليه
السلام — من ذلك سبيلًا إلى إدراكه (أي الغائب عن الحس)،
وطريقًا إلى العلم بحقيقته.»
٤٧ ولعله يلزم التنويه — هنا — بأن الأشعري
يكاد يقتفي خُطى الشافعي، الذي إذا كان قد قطع بأنه «ليس
لأحدٍ أبدًا أن يقول في شيءٍ حَلَّ ولا حَرُم إلا من جهة
العلم، وجهة العلم هي الخبر.»
٤٨ فإن الأشعري يؤكد بعده — بالمثل — لأنه ليس
لأحدٍ أن يقول في «الغائب عن الحس» إلا من جهة الخبر؛ إذ
الحق أنه لا يكتفي بجعل «الخبر» طريقًا إلى العلم
بالغائب عن الحس، بل ويقطع بأنه لا سبيل أبدًا إلى ذلك
العلم سواه، ليس فقط «لأن آياته (أي النبي) والأدلة
الدالة على صدقه محسوسة مُشاهَدة قد أزعجت القلوب، وبعثت
الخواطر على النظر في صحة ما يدعو إليه، وتأمل ما استشهد
به على صدقه، والمعرفة بأن آياته من قبل الله تدرك بيسير
الفكر فيها، وأنها لا يصح أن تكون من البشر لوضوح الطرق
إلى ذلك.»
٤٩ بل — والأهم — لأنه (أي النبي) «لم يَدَع
لسائر من دعاه إلى توحيد الله حاجة إلى غيره، ولا لزائغ
طعنًا عليه، ثم مضى محمودًا بعد إقامة الحجة، حتى لم
يحوج أحدًا من أُمَّته إلى البحث عن شيءٍ أغفله هو مما ذكره لهم.»
٥٠ وهكذا تتأسس مركزية «البيان» — كخبر — لا
على مجرَّد صدقه، بل وعلى اكتماله وتمامه على نحوٍ يلزم
معه الاستغناء عما سواه؛ إذ الحق أن الله (قد) أكمل —
بهذا البيان — لجميعهم طُرق الدِّين، وأغناهم عن التطلع
لغيرها من البراهين، ودل على ذلك بقوله عز وجل:
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ
دِينًا، وليس يجوز أن يخبر الله عز وجل عن إكمال الدين
مع الحاجة إلى غير ما أكمل لهم الدين به، وبيَّن النبي
معنى ذلك في حجة الوداع بقوله: «اللهم هل بلَّغت؟» فلو
كنا نحتاج مع ما كان منه — عليه السلام — في معرفة ما
دعانا إليه، إلى ما رتَّبه أهل البدع من طرق الاستدلال لما
كان مُبلغًا؛ إذ كنا نحتاج في المعرفة بصحة ما دعانا
إليه إلى علم ما لم يبينه لنا من هذه الطرق التي ذكروها،
ولو كان هذا كما قالوا، لكان فيما دعا إليه وقوله
(بإكمال الدين) بمنزلة اللغو،
٥١ وإذن فإنه لا مجال البتة لقولٍ مغاير
للخبر، بل هو الخبر ولا شيءٍ سواه، وإلا فإنه الانتقاض
للاعتقاد في كمال الدِّين وتمامه الذي تأكد بالخطاب
الإلهي-النبوي، وإذ أضاف الأشعري إلى ذلك «أن طريق
الاستدلال بأخبارهم — عليهم السلام — على سائر ما دعينا
إلى معرفته مما لا يُدرَك بالحواس، أوضح من الاستدلال
بالأعراض — حيث الأخبار «أقرب إلى البيان على حكم ما
شوهد من أدلتهم المحسوسة، مما اعتمدت عليه الفلاسفة ومن
اتبعهم من أهل الأهواء.»
٥٢ — فإنما لِيَقْرن «الوضوح» بالصدق والاكتمال؛
ترسيخًا للأولوية المُطلَقة للبيان، وذلك في مقابل «الكذب
والنقص والغموض» يعتور كل ما سواه مما تبلور لاحقًا،
والحق أنها نفس فكرة اكتمال المتقدِّم وأفضليته في مقابل
نقص المتأخِّر ودونيَّته التي تنتظم الخطاب التاريخي الأشعري،
٥٣ وعلى نحوٍ يتبدَّى فيه التجاوب بين كافة
العناصر الجزئية المكوِّنة للخطاب الأشعري بأسره.
لكنه يبدو أن كل ما كرَّسه الأشعري للبيان من صفات الصدق
والاكتمال والوضوح، لم يكن ليكفي في جعْلِه حُجة بذاته، بل
إن حُجِّيَّته قد ظلَّت تأتيه من خارجه، وأعْنِي من أن ثَمَّة من «قد
ثُلِجت صدورهم به، وامتنعوا عن استئناف الأدلة فيه، وبلغوا
جميع ما وقفوا عليه من ذلك، واتفقوا (أي أجمعوا) عليه
إلى مَن بعدهم.»
٥٤ وهنا فإنه إذا كانت حُجِّية البيان عند هؤلاء
الذين «ثُلِجت صدورهم به» إنما ترتبط — في الجوهر — «بما
شاهَدُوه من آيات الدلالة على صدقه.»
٥٥ فإن «إجماعهم» سيصبح، هو نفسه، «حُجَّة على من
تعبَّد بشريعة النبي بعده، ودلالة لمن دُعي إلى قبول ذلك
ممن لم يشاهد الأخبار.»
٥٦ وإذن فإنَّ البيان تثبت حجته، حال وجود
النبي، بالمعجزة، في حين تثبت بعده بالإجماع، وبما يعني
أنه رغم كل ما أضافه إليه الأشعري يبقى قاصرًا عن أن
يقوم حجة بذاته، بل أنه يستفيد حجتيه من خارجه، وأعني من
«المعجزة» ثم من «الإجماع» الذي يقوم مقامها،
٥٧ وبالطبع فإنه إذا «كان عُذْر الصحابة فيما
دُعوا إليه من ذلك، مقطوعًا بما نبههم عليه النبي
ﷺ من الدلالة على ذلك، وما شاهدوه من آيات
الدلالة على صدقه، فإن عذر سائر مَن تأخر عنه (أي النبي)
مقطوعٌ بنقلهم (أي الصحابة) ذلك (الذي أجمعوا عليه)
إليهم، ونقل أهل كل زمان حجة على من بعدهم، ومن غير أن
يُحتاج — أرشدكم الله — في المعرفة لسائر ما دعينا إلى
اعتقاده إلى استئناف أدلة غير الأدلة التي نبه النبي
ﷺ عليها، ودعا سائر أمته إلى تأملها.»
٥٨ وهنا فإنه إذا كان عذر الصحابة قد انقطع
بالمعجزة، وانقطع عذر من تأخر عنهم بالنقل عنهم، فإنه لم
يكن أمام هؤلاء الخلف المتأخر إلا «الاجتهاد في طلب
أخبار النبي
ﷺ والاحتياط في عدالة
الرواة لها، وكان ذلك واجبًا عندهم، ليكونوا فيما
يعتقدونه من ذلك على يقين.»
٥٩ وإذن فإنَّ اليقين يُستفاد من الاجتهاد في
طلب الأخبار، أو «النقل»، وليس أبدًا من «العقل» هو آخر
ما تنتهي إليه طريقة الأشعري.
ولقد كانت هذه الطريقة في الاستدلال بالأخبار التي
تنبني بأسرها على تأسيس حجية البيان أو الأخبار على
المعجزة (من الله) والإجماع (من الصحابة) والنقل (من
الخلف)، هي — على قول الأشعري — ما أخلد إليه السلف ومن
اتبعهم من الخلف، فأعرضوا عما صارت إليه الفلاسفة ومن
اتبعهم من القدرية وأهل البدع من الاستدلال (بالأعراض)
على ما كُلفوا معرفته، لاستغنائهم بالأدلة الواضحة في
ذلك عنه، وإنما صار من أثبت حدث العالم والمحدث له من
الفلاسفة إلى الاستدلال بالأعراض والجواهر لدفعهم الرسل
وإنكارهم لجواز مجيئهم.»
٦٠ ولعل هذا الذي انتهى إليه الأشعري من رد
الاستدلال بالأعراض إلى دفع الرسل وإنكارهم، إنما يتجاوز
مجرَّد السعي إلى تفضيل طريقة في الاستدلال على أخرى، إلى
ما يبدو وكأنها «ضغوط السيكولوجيا» وهي تمارس اشتغالها
تعاليًا بطريقته — عبْر تأسيسها على البيان يوازي — في
حفظه — القرآن، والإجماع يعادل — في دلالته — المعجزة،
والصحابة يحكم بهم على الكتاب والسُّنة — إلى مقام «التعبُّد
والتقديس»، وتنزلًا بطريقة الخصم (المراد قتله) — عبْر
ردها إلى دفع الرسل وإنكارهم — إلى حضيض «الانحطاط
والتدنيس»، وبما يعني أن «ضغوط السيكولوجيا» تبقى حاضرة
بقوةٍ في بناء طريقته.
من ضغوط «السيكولوجيا» إلى ضغوط
«الإبستمولوجيا»
لعل قراءة لما كتبه الأشعري على الطريقة التي بناها،
أعْنِي «طريقة الاستدلال بالأخبار»، تكشف عن أن ضغوط
السيكولوجيا كانت أعجز من أن تَئُول إلى الإقصاء الكامل
لطريقة الاستدلال بالأعراض، التي لم يستطع الأشعري — رغم
انحطاطه بها إلى حضيض «التدنيس» — أن يتحرَّر منها تمامًا؛
إذ الحق أن حضيض «التدنيس» — أن يتحرر منها تمامًا؛ إذ
الحق أن للإبستمولوجيا، بدورها، ضغوطها التي بدَا أن
السيكولوجيا لم تفلح إلا في تحييدها، وعلى نحوٍ جزئي
فقط، وكان ذلك عند الأشعري تحديدًا، وأما عند اتباعه فإن
الأمر قد تجاوز «التحييد» إلى استعادة طريقة الاستدلال
بالأعراض كاملة.
فقد ظلَّت أصداء هذه الطريقة الآثمة المُزاحة تتردَّد في
بعض أنحاء البناء العقائدي للأشعري، وفي سياق إثباته
للصفات الإلهية بالذات، الذي اضطر فيه إلى توظيف آلية
«رد الأصول إلى الحوادث» أو «الاستدلال على الأمر الغائب
عن حواسنا (الذي هو الأصل بالمعنى العقائدي) بالمُشاهد
(الذي هو الحادث بالطبع)»، وهي التي تمثل جوهر «طريقة
الاستدلال بالأعراض»، والمُلاحظ أن هذا التوظيف لآلية
«الاستدلال بالأعراض» قد راح يتصادم بوضوح مع ما يسعى
الأشعري إلى تثبيته مستدلًّا بالأخبار، يؤكد ذلك أنه إذ
انطلق إلى إثبات الصفات من «الأخبار» أو «مما أجمَعوا
عليه (من) أن صفته عز وجل لا تشبه صفات المحدثين.»
٦١ فإنه لم يجد سبيلًا — للمفارَقة — لإثبات
هذا «الإجماع» إلا عبْر التشبيه بصفات المحدثين، يقول
الأشعري: «واستدلُّوا على ذلك بأنه لو لم يكن له عز وجل
هذه الصفات لم يكن موصوفًا بشيءٍ منها في الحقيقة، (من
قبل) أن من ليس له حياة لا يكون حيًّا، ومن لم يكن له
علم لا يكون عالمًا في الحقيقة، ومن لم يكن له فعل، لم
يكن فاعلًا في الحقيقة، ومن لم يكن له إحسان لم يكن
محسنًا، ومن لم يكن له كلام لم يكن متكلِّمًا في الحقيقة،
ومن لم يكن له إرادة لم يكن في الحقيقة مريدًا، وأن من
وُصف بشيءٍ من ذلك مع عدم (وجود) الصفات التي توجب هذه
الأوصاف له لا يكون مستحقًّا لذلك في الحقيقة، وإنما
يكون وصفه مجازًا أو كذبًا … فإذا كان الله — عز وجل —
موصوفًا بجميع هذه الأوصاف في صفة الحقيقة وجب إثبات
الصفات التي أوجبت هذه الأوصاف له في الحقيقة، وإلا كان
وصفه بذلك مجازًا، وتبيين هذا أن وصف الإنسان بأنه مريدٌ
وسارِق وظالِم مُشتَق من الإرادة والسرقة والظلم، فإذا وصف
بذلك من ليس له هذه الصفات في الحقيقة كان وصفه بذلك
تلقيبًا (ومجازًا).»
٦٢ وهكذا فإن الإثبات في ما «لا نرى أو الغائب
(وهو الأصل)» مردود بالكلية إلى الإثبات في ما «نرى في
الشاهد (وهو الحادث)» أو أنه — بعبارةٍ أخرى — تبيين
«وصف الله» عن طريق «وصف الإنسان».
وبصرف النظر عن أن ذلك هو بعينه ما كان قد صار إليه المعتزِلة،
٦٣ الذين أراد الأشعري بطريقته في «الاستدلال
بالإخبار» الانتقام منهم «عقيدة وطريقة» معًا، فإن
المفارَقة هنا تتأتَّى من أنه يبدو وكأن ما أثبته
«الإجماع» من عدم المشابَهة في الصفات بين الله والحوادث،
لم يثبت إلا عبْر توظيف آلية تفترض المشابهة، وأعْنِي مِن
حيث تِنبَنِي على ردِّ الغائب إلى الشاهد، ولعل هذه المفارَقة
تمثِّل أولى تجلِّيات المأزق الذي سوف تنتهي إليه «طريقة
الاستدلال بالأعراض» حين جرى توظيفها كاملة بواسطة أتباع
الأشعري للاستدلال بها على المضمون العقائدي الذي سعى
الأشعري — قَبلًا — إلى ترسيخه مستندًا إلى الأخبار، والذي
هو مغايِر بالكلية للمضمون العقائدي المعتزلي الذي تبلورت
هذه الطريقة للاستدلال عليه أصلًا، فإذ تبلورت هذه
الطريقة، في المجال الكلامي، ضِمن سياق الخطاب العقائدي
للمعتزلة الذي يكاد ينبني بأسْرِه بحسب العقل، فإنها —
وابتداءً من التجاوب بين مضمون الخطاب وأداته — قد
استفادت منه طابعها العقلي الغالب، الذي كان لا بد أن
يلازمها — بالطبع — حين استدعاها أتباع الأشعري
للاستدلال بها على مضمونٍ عقائدي يجاوز — ابتداءً من
انبنائه على مجرَّد الخبَر — العقل أو حتى يُضاده، والمهم
أنه قد انبثق من هذا الانفصام الذي كرَّسه أتباع الأشعري
بين مضمون الخطاب وأداته، ذلك الانفصام الذي لا يزال
يَشقَى به الخطاب العربي للآن بين مضمونه وأداته كذلك،
وليس من شكٍّ في أن هذا الانفصام قد ظل — بالأَوْلَى —
ملازِمًا للأشعرية على مدى تاريخها، وإلى حد أن حامِلي
لوائها المعاصرِين قد راحوا يلتمسون في النظرية العلمية
المعاصرة تأسيسًا لمنظومتهم العقائدية، غير مدرِكين أن
هذه النظرية المعاصرة لا تعرف أبدًا مبدأ اليقين الذي
تتأسَّس عليه عقيدتهم، بل إنها تنبني على القابلية للتكذيب
وإمكان الخطأ، لكنه الانفصام الذي يجعل البرهنة
بالفيزياء الذرية المعاصِرة وما بعدها، على ما ينتمي إلى
ما قبل العلم — أو حتى ما يُجاوِزه — أمرًا مقبولًا
وممكنًا، والغريب أن سيرورة هذا الانفصام قد بدأتْ مع
الباقِلَّاني، ومن توظيفه للفيزياء الذرية أيضًا بالذات
(ولكن مع الأخذ بعين الاعتبار أنها كانت الفيزياء الذرية
الفلسفية الكلاسيكية التي كانت الأرقى بمعيار العصر)
لتبرير عقيدة الأشعري بكل ما تنطوي عليه من المجاوَزة
للعقل، بل والتَّضاد معه أحيانًا.
إذ بدَا أن ضغوط الإبستمولوجيا، أو أغراض الحِجَاج
والمدافَعة بتعبير ابن خلدون، هي ما يقف وراء لجوء أتباع
الأشعري إلى تدعيم «استدلاله بالأخبار» بطريقة الاستدلال
بالأعراض العقلية، وذلك من حيث إن «الأئمة من أهل السُّنَّة
إنما احتاجوا إلى الأدلة العقلية حين دافَعُوا (المُلحِدة
والمبتدِعَة) ونصروا (مذهبهم في مواجَهة بِدعَتِهم طبعًا).»
٦٤ فإن ذلك ما يبدو أنه لم يحدث قبل الباقِلَّاني
الذي «تصدَّر للإمامة في طريقتهم وهذَّبَها ووضع المقدِّمات
العقلية التي تتوقَّف عليها الأدلة والأنظار، وذلك مثل
إثبات الجوهر الفرد والخلاء، وأن العَرَض لا يقوم بالعَرَض،
وأنه لا يبقى زمانين، وأمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم،
٦٥ وفقط يحتاج هذا النص إلى إضافة أن
«الباقِلَّاني» لم يكن هو الواضع لهذه المقدِّمات العقلية
بإطلاق، بل هو الواضع لها في المذهب الأشعري، أو الناقل
لها إليه بالأحرى، فقد استقرت هذه المقدِّمات، وجرى
تداولها على نحوٍ واسع في علم الكلام المعتزلي، وبدليل
إلمام «الأشعري» العميق بها، الذي ينعكس في سعيه إلى
إقصائها خارج المجال الكلامي كليًّا بتأثير ضغوط
السيكولوجيا، فإذا مضى الأشعري إلى «أن الأعراض لا يصح
الاستدلال بها إلا بعد رتبٍ كثيرة يطول الخلاف فيها،
ويدق الكلام عليها، فمنها ما يُحتاج إليه في الاستدلال
على وجودها والمعرفة بفساد شبه المنكرين لها، والمعرفة
بمخالفتها للجواهر في كونها لا تقوم بنفسها، ولا يجوز
ذلك على شيءٍ منها، والمعرفة بأنها لا تبقى، والمعرفة
باختلاف أجناسها، وأنه لا يصح انتقالها من مجالها،
والمعرفة بأن ما لا ينفك عنها فحكمه في الحدث حكمها،
ومعرفة ما يوجب ذلك من الأدلة، وما يفسد به شبه
المخالِفِين في جميع ذلك حتى يمكن الاستدلال بها على ما هي
أدلة عليه عند مخالِفِينا الذين يعتمدون في الاستدلال على
ما ذكرناه بها.»
٦٦ فإنه لم يكشف فقط عن درايةٍ عميقة بتلك
المقدِّمات التي قيل إن الباقِلَّاني هو واضعها، بل وعن كونها
تبلور طريقة الاستدلال المعتمَدة عند مخالِفِيه، الذين هم
المعتزلة.
ولعل تَبيُّن المصائر التي آلَت إليها هذه المقدمات
العقلية ضمن المجال الكلامي الأشعري الذي نُقلت إليه،
إنما يرتبط — جوهريًّا — بتلك المخالَفة التي أكَّد عليها
الأشعري بين كلا المجالين الأشعري والمعتزلي، فقد آلَت
هذه المقدمات العقلية، ضمن المجال الأشعري إلى ما بدَا
وكأنه الإهدار الكامل للعقل، وأعْنِي من حيث جرى توظيفها،
لا في إثبات مجرَّد حدوث العالم، بل — والأهم — في إثبات
دوام حدوثه، أو استمرار خَلْقه، عبْر تجديد خلق الأعراض
التي لا تبقى أبدًا لزمانين، وهكذا فإن العالم لا يستمر
في الوجود عن طريق قانونٍ ذاتي ينتظم حركته وعلاقات
ظواهره، ولو مع تصور هذا القانون تجلِّيًا لحكمة الله
وعلمه، بل عن طريق التدخُّل المباشر لله في العالم في كل
لحظة، ومن غير وساطة لأي قانونٍ أو قاعدة، تجديدًا
للأعراض التي لا تتعلق — صدورًا وتخصيصًا — بشيءٍ خارج
مطلَق إرادته، وإذ يقضي العقل الصريح — حسب الشهرستاني —
بأن ما يخص كل واحدٍ من أجزاء العالم، واجب أن يخص مجموع
العالم بأسره ضرورة، فإن ذلك يعني ضرورة تصور العالم
بأسره يتعلق حضوره بمطلق الإرادة، وبما يحيل إلى خلوه
التام من أي قانونٍ ينتظم وجوده وظواهره، حيث القانون
يحيل إلى افتراض «ضرورة» من نوعٍ ما، وهو ما لا يمكن
للأشاعرة أن يقبلوا به أبدًا لأنه يغل مطلق الإرادة التي
تقتضي «تطرق وجوه الجائزات إلى العالم بأسره.»
٦٧ ومن هنا تصورهم «أن الإمكان، الذي تتلاشى
معه إمكانية تصور العالم ينطوي على أي ضرورة، «واجب»
للعالم ضرورة.»
٦٨ وتبعًا لذلك، فإن كل ما في العالم إنما
يقبل الفوات والخرق، وأعْنِي من حيث لا ضرورة لشيء بل هو
«الإمكان» لا تتأثر سطوته بالتحقق الوجودي للظواهر في
العالم على نحوٍ ما، حيث يظل «الإمكان» لتحققها على نحوٍ
آخر قائمًا أبدًا، وإذن فإنه الإهدار الكامل للضرورة
الذي كان لا بد أن يَئُول إلى إهدار «العقل»؛ لأن
«الضرورة» تعني «قانونًا» يتفرَّع عنه الإقرار «بعقل» يقدر
على اكتشافه، حتى ولو كان هو قانون «اللاتَعيُّن» أو اللاضرورة، ومن هنا مُفارَقة الضرورة
التي تبدو لازمة للتفكير
حتى في اللاضرورة.
والحق أن هذا الإهدار للضرورة هو ما يقف وراء احتفاء
الأحفاد المعاصرِين للأشعري، بأسلافهم الغابرِين، وإلى حد
اعتبارهم «روادًا ممتازِين للعلم الحديث.»
٦٩ ابتداءً مِن تراجُع الدور المهيمن لمبدأ
الضرورة في إطار فيزياء الطاقة والموجة (أو
الميكروفيزياء) المعاصِرة، عما كان عليه في إطار فيزياء
الكتلة النيوتونية (أو الماكروفيزياء)، لكنه يلزم
التنويه بأن الأمر لا يتعلق — ضمن السياق العلمي —
بإهدار الضرورة، بقدر ما يتعلق بتحديد المجال الذي تكون
فاعِلَة فيه، وذلك الذي لا تظهر فيه فعاليتها كاملة،
وبالطبع فإن ذلك لا يعني أن الواحد من المجالَيْن يمكن أن
يلغي الآخر بحقائقه وقوانينه، بقدر ما هو التبايُن بين
مجالَين يظلَّان ينتميان إلى حقل العلم معًا، وذلك رغم
احتفاظ كل واحدٍ منهما بمنظومة قوانينه ومفاهيمه التي
تنتظم ما يقع ضمن نطاقه، وتبعًا لذلك فإنه لا يصح القول
بأن فيزياء الطاقة (أو الميكزفيزياء) قد طردت فيزياء
الكتلة (أو الماكروفيزياء)، بكل ما تنطوي عليه من
قوانينٍ تشتغل ضمن نطاقها كالضرورة وغيرها، إلى خارج حقل
العلم، بل إن هذه الفيزياء (أعني فيزياء الكتلة) تبقى
جزءًا من العلم — وليس مجرد تاريخه — وتظل قوانينها
فاعلة وغير قابلة للإلغاء، ولعله يمكن فقط القول بأنها
قد تقبل التعليق والإرجاء، وأعْنِي خارج المجال الذي تعمل
فيه بالطبع، بل إنه وحتى حين بدَا أن تغييرًا قد طال هذه
القوانين داخل مجال اشتغالها نفسه، فإنه كان من الصغر
بحيث لم يكن ذا أهمية عملية، وإلى حدٍّ يمكن معه إهماله،
٧٠ ومن هنا فإنه ليس لأحدٍ الادعاء بأن
الأشاعرة كانوا — بإهدارهم للضرورة — روادًا للعلم
الحديث؛ لأن كل ما جرى للضرورة، في سياق هذا العلم، هو
تحديد مجال اشتغالها، وليس أبدًا طردها أو إهدارها،
فالأمر يتعلق بتطورٍ في موضوع البحث من اللامتناهي في
الكبر إلى اللامتناهي في الصغر على نحوٍ استلزم مفاهيم
وفروض إجرائية لا تقبل الاشتغال ضمن حدود اللامتناهي في
الكِبَر، تمامًا بمثل ما إن قوانين هذا الأخير لا تقبل
الاشتغال ضمن حدود اللامتناهي في الصِّغر.
ومن جهةٍ أخرى، فإنه إذا كانت النظرية العلمية
المعاصرة قد اتسعت لاستيعاب فروض شبه متيافيزيقية بقصد
تفسير دينامية العناصر المتناهية الصِّغَر التي لا تخضع
لمبادئ الماكروفيزياء، فإن أحدًا لا يمكن أن ينازع في أن
ثمة فارقًا جوهريًّا بين الانطلاق من تصوُّر المبدأ
المتيافيزيقي الأول (الله) على نحوٍ ما (من أنحاء
التصور)، إلى تصوُّر الطبيعة قابِلَة للخَرْق والفوات، وبين
ظواهرٍ فيزيائية يقتضي تفسيرها افتراض فروض إجرائية، أو
حتى ميتافيزيقية، مُعيَّنة، ثم إن هذه الفروض ليست نهائية
أبدًا، بل إنها ترتبط بالتطور الراهن للعلم ووسائله،
وبما يَئُول إلى إمكان تجاوزها الذي يُستفاد أيضًا من
حقيقة أن النظرية العلمية المعاصِرة تنبني على إمكانية
التكذيب والقابلية للخطأ، وهكذا، فحتى إذا أمكن التجاوز
عن الفارق الجوهري بين «الممارسة العلمية المعاصرة» في
اتساعها للميتافيزيقي تفسيرًا لبعض الظواهر الفيزيائية،
وبين «الممارسة الأشعرية» في بنائها الأنطولوجي للفيزيقي
بحسب تصور ما للمتيافيزيقي — وبما يعني أنها الحركة من
«الفيزيقي» إلى «المتيافيزيقي» «علميًّا»، فيما هي
الحركة من «المتيافيزيقي» إلى «الفيزيقي» أشعريًّا —
فإن المفارَقة تبقى زاعقة مع ذلك، أعْنِي مفارَقة السعي
الأشعري إلى تأسيس «اليقين» على ما ينبني على إمكانية
التكذيب والقابلية للخطأ، وإذ تعكس هذه المفارَقة
انفصالًا عميقًا بين «اليقين المراد تثبيته» من جهة،
وبين «النظرية العلمية» المراد تثبيته عليها — التي لا
تقبل الثبات بطبيعتها — من جهةٍ أخرى، فإنها تردد بذلك
أصداء الانفصام القديم الذي عرفَتْه الأشعرية حين سعى
أتباع الأشعري لاستدعاء «العقلي» للاستدلال به على
«الخبري» الذي يجاوز بمضمونه العقل أو حتى يضاده، وإذا
كان هذا الانفصام هو ما يؤسس — في العمق — لأزمة الخطاب
العربي الحديث الذي لم يزل يتخبط شقيًّا بين ضروبٍ من
الثنائيات عاجزًا عن أن يدرك وحدته في تخبطه اليائس بين
أطرافها المتضادة، فإن مثالًا لما يَئُول إليه هذا
الانفصام في الواقع يتبدَّى فيما يشهده المجال السياسي
العربي الراهن، من أشكالٍ «ديمقراطية» يتم استعارتها
كهياكل وقوالب فارغة، لتعمل كقناعٍ لممارسةٍ استبدادية
راسخة تضرب بجذورها في عصر ما قبل الدولة الحديثة.
٧١
والحق أنه، وحتى مع صرف النظر عما آلَت إليه هذه
الممارَسة الأشعرية من الانفصام الكامن في بنية الخطاب
والسياسة السائدين في العالم العربي الآن، فإنه يلزم
الوعي بما آلَت إليه، على صعيد الخطاب الأشعري نفسه، من
ضروب التناقض والمُحال التي لم يقدر الخطاب على الفكاك
منها أبدًا، ولقد كان المعتزلة هم الأقدَر — بالطبع —
على الإمساك بكل ضروب التناقض والمُحالات العقلية التي
انتهى الأشاعرة إليها، ومن هنا تحتشد به نصوص القاضي عبد
الجبار (الذي كان للمفارَقة أشعريًّا، ثم تحوَّل إلى
الاعتزال، تحت وطأة الضغوط الإبستيمولوجية الناشئة عن
تمزقه كأشعري بين أداةٍ «عقلية» فُرض عليه أن يفكر بها،
وبين مضمونٍ «لا عقلي» يجري السعي لإثباته بهذه الأداة)
من إلزامياتٍ اضطر معها الأشاعرة إلى القبول بمحالاتٍ
بلغت حدَّ تجويز الكذب على الله، فإذا انتهى المعتزلة إلى
إلزام الأشاعرة القول بأن الله يفعل القبيح — وذلك
ابتداءً مما صارُوا (أي الأشاعرة) إليه من أن الله «هو
المالك في خلقه يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، فلو أدخل
الخلائق بأجمعهم الجنة لم يكن حيفًا، ولو أدخلهم النار
لم يكون جورًا … فهو المالِك المُطلَق، فلا يُتصور منه
ظلم، ولا يُنسب إليه جور.»
٧٢ وهو ما يعني بحسب طريقة المعتزلة في
الاستدلال — التي لا بد أن يخضع لها المجال الأشعري بعد
استعارتها للاشتغال داخله — نسبة القبح إلى الله؛ لأنه
«أليس أحدنا قد يفعل في ملكه ما يقبح بأن يقتل عبده
ويضربه لا لذنب؟ فيجب لو فعل (الله) تعالى تعذيب الأطفال
أن يكون قبيحًا وظلمًا.»
٧٣ وبحسب القاضي عبد الجبار فإن مشايخ
المعتزلة قد «أوردوا وجوهًا من الإلزام على القول بأنه
تعالى يفعل القبيح، بلغت حد تجويز الكذب على الله تعالى،
فكان منهم (أي الأشاعرة) من جوَّزه (بالفعل) … وهو العطوى
من أصحاب الأشعري، ولقد مرَّ على القياس واحتج عليهم بأن
قال: ألستم قد جوَّزْتم على الله تعالى الظلم والقبائح،
فكيف لا يجوز عليه الكذب، وليس الكذب بأعظم من الظلم
وغيره من القبائح.»
٧٤ ولعل أهم ما ينبغي ملاحظته أن الأشاعرة
كانوا مُضطرِّين حتمًا لقبول هذا الإلزام بسبب استعارتهم
لطريقة «الاستدلال بالأعراض» أو رد الأصول إلى الحوادث
بتعبير الأشعري للاستدلال على مضمونٍ يصعب الاستدلال
عليه بغير «الأخبار»، ولو جاوز افتراض أنهم لم يستعيروا
هذه الطريقة للتفكير بها، لما كانوا قد اضطروا إلى قبول
هذا الإلزام أبدًا، ولكانوا قد رَدُّوا على المعتزلة بأن
هذا الإلزام إنما يصح على أصلكم في رد الأصول (أو
الغائب) إلى الحوادث (أو الشاهد)، وأما على أصْلِنا في
الاستدلال بالأخبار، فإنه ليس للعقل مدخل في الأمر، بل
هو الخبر ولا شيءٍ سواه، وهكذا فإن الإلزام قد صح واضطر
الأشاعرة لقبوله، لاشتغال العقل عندهم على نحوٍ صوري
محض، وفي انفصالٍ كامل عن «المضمون» المراد إثباته.
فإذ يبدو الإلزام مجرد هامش على قضية العدل، فإنه
وفيما يتسق المضمون الأشعري للعدل الذي هو «أن الله
تعالى عدل في أفعاله، بمعنى أنه متصرف في مُلكه وملكه،
يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.»
٧٥ مع طريقة الاستدلال بالأخبار، فإنه يتعارض
كليًّا مع ما تستلزمه طريقة الاستدلال بالأعراض، أو رد
الأصول (الغائب) على الحوادث (الشاهد)، من تصور «العدل
ما يقتضيه العقل من الحكمة، وهو إصدار الفعل على وجه
الصواب والمصلحة.»
٧٦ وبما يعنيه ذلك من أن تصور العدل في
«الشاهد» هو الأصل في تصوره في «الغائب»، وبالطبع فإن
المأزق يتأتَّى من استعارة هذه الطريقة، التي تستلزم
تصوُّرًا للعدل مغايرًا بالكلية لتصوره الأشعري،
للاشتعال ضمن إطار التصور الأشعري الذي يتعذر الاشتغال
عليه إلا بالخبر؛ لأنه «لا يجب عليه شيء من قضية العقل.»
٧٧ وإذا كان هذا التصوُّر الأشعري للعدل يتبلور
في المُطلَق، وأعْنِي من غير وساطة الحضور الإنساني، قد آل
إلى أن «حكم الآلام — وهي مما يستقبحه العقلاء بتأكيد
الشهرستاني الأشعري — هو الحُسن على مذهب الأشعري سواء
وقعت ابتداءً أو وقعت جزاءً من غير تقديرٍ سبق استحقاق
عليها، ولا تقدير جلب نفع، ولا دفع ضرر أعظم منها، بل
المالك متصرفٌ في ملكه كما شاء، سواء كان المملوك بريًّا
(بريئًا) أو لم يكن بريًّا.»
٧٨ — وهو ما يتعارض كليًّا مع يَئُول إليه التصور
المعتزلي للعدل، الذي يتأسس على طريقة الاستدلال
بالأعراض من أن «الآلام مما يأباه العقل، وإذا اضطر إليه
رام الخلاص منه، فدل ذلك على قبحه (أي الآلام).»
٧٩ — فإن الأشاعرة قد اضطروا أيضًا إلى قبول
هذا الذي انتهى إليه المعتزلة بحسب طريقتهم، حتى لقد
أقرُّوا «ونحن لا ننازعهم في أن الآلام ضرر وتأباه النفوس
وتنفر منه الطباع.»
٨٠ ورغم أنهم كانوا يحاولون التغطية على هذا
الإقرار من جانبهم بما انتهى المعتزلة، حين صاروا إلى أن
كثيرًا من الآلام مما ترضاه النفوس، وترغب إليه الطباع
إذا كان ترجو فيها صلاحًا هو أولى بالرعاية مثل الحجامة
والصبر على شرب الدواء رجاء للشفاء.»
٨١ فإنهم قد اضطروا — حين أدركوا أن ذلك لا
يمكن أن يزحزح ما انتهى إليه المعتزلة من قُبْح الآلام في
ذاتها — إلى الالتياذ بما يقطع طريق السؤال من أن المالك
المتصرف في ملكه له التصرف مطلقًا كما شاء يفعل ما يشاء
ويحكم ما يريد.»
٨٢ وبما يعني أنهم حين لا يجدون مَخرجًا من
المآزق، يلوذون بالمُطلَق طلبًا للخلاص.
والحق أن هذا التفكير بالمُطلَق، هو ما كان لا بد أن
يفرض ضربًا من الحضور الصوري للعقل، وعلى نحوٍ يكون معه
غير مرتبط بما يدخل في تركيبه من قوانين العالم الإنساني
والطبيعي، بل منفكًّا تمامًا عن الارتباط بأي شيءٍ خارج
إطار بنيته الصورية المحضة، ولسوء الحظ فإن هذا النوع من
العقل الذي لا يتحدد بأي شيءٍ خارجه، كان هو العقل الذي
يفكر به الأشاعرة؛ إذ في حين ألح المعتزلة على ربط العقل
— حتى عندما يكون الله موضوعًا له — بحدود ما أسموه
«بالحكمة الموجبة»، التي تتسع عندهم لقوانين العالمين
الإنساني والطبيعي، فإن الأشاعرة — في المقابل — قد
أصروا على ضرورة فك أي ارتباطٍ للعقل — عند اشتغاله على
الله بالذات — بحدود هذه الحكمة؛ لأنها تؤثر في تصوره
«المُطلَق»، وذلك من حيث توجب (هذه الحكمة) تصوره (أي
الله) بحسب ما تتسع له قوانين العالَمَين الإنساني
والطبيعي فتتحدد بها «إطلاقيته» التي أرادها الأشاعرة
منفلتة من أي تحديد.
وبالطبع فإن مثل هذا العقل المنفك عن قوانين الحكمة
كان لا بد أن يَئُول بالأشاعرة إلى كل ما صادفوه والتزموه
من ضروب التناقض والمُحال؛ إذ العقل حين ينفلت من قوانين
عالمه لا يعرف إلا التخبط في فوضى التناقض، والغريب أن
ذلك هو ما بدَا وكأن الشهرستاني قد أدركه حين مضى إلى أن
«كل ما يقتضيه العقل من جهة الحكمة الموجبة، فإنما يقتضي
نقيضه من وجهٍ آخر.»
٨٣ (غير وجه هذه الحكمة بالطبع)، وإذن فإنه
الإدراك لحقيقة أن العقل حال انفكاكه عن قوانين الحكمة،
التي هي قوانين العالم، إنما يَئُول إلى نقيض ما تقتضيه
هذه الحكمة بقوانينها، وبما يعني أنه يصبح — كالعقل
الكانطي خارج حدود التجربة — مجرد فضاء للفوضى والتناقض.
وهكذا يلوح، في النهاية، أن المأزق الأشعري قد تأتَّى من
استعارة المقدِّمات العقلية للمعتزلة التي تتبلور منها
«طريقة الاستدلال بالأعراض»، للاستدلال بها على مضمون
«مُطلَق»، لا يتحدد — كالحال عند المعتزلة — بجهة الحكمة
التي تتسع لقوانين الإنساني والطبيعي، وبعبارةٍ أخرى،
فإنه إذا كانت طريقة الاستدلال بالأعراض إنما تنبني على
رؤيا مُضمَرة في ضرورة اعتبار الإنساني والطبيعي عند النظر
في الإلهي، وأنها بذلك ليست مجرد أداة يمكن فصلها عن هذه
«الرؤيا» التي تتماهى معها، فإن الأشاعرة قد صاروا لا
إلى مجرد السعي إلى فصلها عن تلك «الرؤيا»، بل وسَعَوْا إلى
توظيفها للاستدلال على «رؤيا» نقيضة تتلخص، لا في مجرد
عدم اعتبار الإنساني والطبيعي، بل وإهدارهما كليًّا، عند
النظر في الإلهي، ومن هنا المأزق الذي لا تزال الثقافة
الأشعرية السائدة تعيد للآن إنتاجه، وذلك عبر فصل مفاهيم
الفيزياء الذرية المعاصرة عن الرؤيا الكامنة خلفها، التي
تنبني جوهريًّا على مبدأ القابلية للتكذيب وإمكان الخطأ،
لكي يبرهنوا بها — للمفارَقة — على يقينهم المطلَق الراسخ
الذي لا يتزعزع.
ومن المفارَقات أنه إذا كانت طريقة الاستدلال بالأعراض
قد تأدَّت بالأشاعرة إلى هذا المصير الذي لم يكن إلا
القبول بالتناقض، أو قبول دعوى الخصم المعتزلي، فإن
المصير التي تأدت إليه بهم «طريقة الاستدلال بالأخبار» —
التي دشن الأشعري الاشتغال بها في المجال الكلامي،
وتابعه تلاميذه في التفكير بها رغم استعارتهم للاستدلال
بالأعراض من المعتزلة — لم يكن أقل بؤسًا أبدًا، وأعْنِي
من حيث تأدَّت بهم هذه الطريقة بدورها إلى ما يكاد أن يكون
ترجيعًا كاملًا للمنطق الموجه، في العمق، للمنظومة
الشيعية، وبالذات فيما يتعلق بالإمامة التي تمثل مركز
هذه المنظومة ومحيطها، لكنه وإذا كان المأزق فيما يتعلق
بطريقة الاستدلال بالأعراض، قد تأتَّى من اشتغالها عند
الأشاعرة في انفصالٍ كامل عن المضمون الذي أعطاه لها
المعتزلة كما سبق البيان، فإن المأزق مع طريقة الاستدلال
بالأخبار قد تأتَّى، في المقابل، من أنها كان لا بد أن
تنتج مضمونها الذي يتمحور حول «الخبر/النص»، الأمر الذي
تأدَّى بالأشاعرة أو كاد إلى تخوم البناء الشيعي للإمامة،
وهو ما يحتاج إلى مزيد بيان.
وهنا يُشار إلى أنه إذا كانت القراءة قد كشفت، بوضوحٍ
كافٍ، عن الاشتغال الكثيف لآلية الإعلاء، بما تعنيه من
التسامي بالأشعرية عن الانبثاق عن حلكة اللاوعي
المكبوت، إلى الصدور عن نورانِيَّة عالَم الملكوت، فإن
اشتغال هذه الآلية — ذات الأصل النفسي — يتجاوب، على
نحوٍ مدهش، مع اشتغال آلية التغطية بالمتعالي على
التاريخي، التي يكاد القول الأشعري في الإمامة أن ينبني
بحسبها كليًّا.