من بين الفِرَق التي عدَّدها مؤلِّفو الفرق، حتى بلغوا بها ما
يتجاوز السبعين عددًا، فإن ساحة الإسلام تكاد لا تعرف اليوم
إلا الانقسام الكبير بين الشيعة وأهل السُّنة، وهو الانقسام
الذي يتفجر الآن، فتنةً وعنفًا دمويًّا في بعض مناطق العالم
الإسلامي الملتَهِبة، حتى بلغ حدَّ الاقتتال الطائفي المهدِّد
لوحدة الأمة، التي ليست في حاجةٍ إلى أي مصدرٍ إضافي
للتهديد، بعد أن باتت تَنُوء بما يتهدَّد محض وجودها الفيزيقي،
وليس فقط وحدتها التي تبقى اسمية، أو معنوية، على أي حال،
وقد ردَّ مؤلِّفو الفرق هذا الانقسام، الذي اتخذ شكل المواجهة
بين نظامين عقائديين متقابلين، إلى ما جرى من الاختلاف حول
الإمامة، الذي ابتدأ — في واقع الممارسة — تصارعًا عليها
بالسيف بحسب ما أجمع مؤرخو الفِرَق الكبار، وانتهى — على صعيد
النظر — تخاصمًا بين تصوُّرَين، التصق بالشيعة أحدهما الذي يرى
الإمامة نصبًا من الله بالنص، وشاعت نِسبة الآخَر الذي يراها
تعيينًا — من الناس — بالبيعة والعقد إلى أهل السُّنة، فبدَا
وكأن الانقسام حول الإمامة التي يرتَدُّ بها فريقٌ إلى الله،
ويجعلها الآخَر من الناس، هو ما يؤسِّس للانشطار العقائدي
القائم حتى الآن بين الشيعة وأهل السُّنة.
والحق أن هذا الانقسام في التاريخ النظري، أو حتى المتخيل،
للإمامة، هو انعكاسٌ لاحق لانقسام أَوَّلِي يكمن في تاريخها
الفعلي المتحقِّق، وبالطبع فإن ذلك يَئُول إلى أن نقطة البدء في
فهم التاريخ النظري للإمامة (والذي بلغ حدود الميثولوجيا
أحيانًا)، إنما تقوم في التاريخ المتحقِّق، وليست أبدًا خارجه،
وبحسب هذا الضرب من التاريخ المتحقِّق، فإن الإمامة كانت — من
بعد وفاة النبي مباشرة — موضوعًا لصراعٍ بلغ حدَّ الدموية
أحيانًا كثيرة، وهو صراع ترتبط دمويته بما ظل يحمل من بصمات
عالَم القبيلة السابق على الإسلام، ورغم أن هذا الصراع قد
اتَّسع أحيانًا لفُرَقاء من غير قريش، فإن احتدامه بين القرشيين
بالذات يبقى هو المَلْمَح المحدِّد لتاريخ الإمامة في الإسلام.
والحق أن هذا التعالي الشيعي-الأشعري بالإمامة إلى أن
تكون من الله، إنما يرتبط — بحسب ما جرت الإشارة قبلًا —
بموقف كل منهما من الإنسان في العمق، فإذا اضطر الشيعة،
يأسًا من الناس الذين تنكروا لإمامهم المأمول المرتضى
وخذلوه، إلى مخاصمتهم والتعالي بالإمامة؛ لذلك، إلى أن تكون
شأنًا إلهيًّا لا دخل للناس فيه أبدًا، فإن الأشاعرة كان لا
بد أن يطردوا الناس من مجال الإمامة أيضًا، ولكن ليس يأسًا
منهم، بل استبدادًا عليهم، وأعْنِي على نحوٍ يتجاوَب مع سعيهم إلى
نزع الفاعلية الحقَّة عن الإنسان بالكلية في المجال السياسي
وغيره، ولكن عبْر نوعٍ من المخايَلة بضربٍ من الفاعلية الهشَّة
التي لا تجاوز إطار المجاز، ولعل ذلك يتجاوب مع ما سبق
الإلماح إليه من أن التاريخ (تحققًا أو إمكانًا) هو ما يحدد
كيفية وقوع الإمامة، نصًّا أو فعلًا، من الله، وبالطبع فإنه
يبقى أن إقصاء الناس كنتاجٍ للإحساس باليأس منهم، هو أمرٌ
يختلف جوهريًّا عن إقصائهم كتوطئةٍ للاستبداد بالأمر دونهم.
والحق أن الأمر لا يقف عند مجرَّد تعالي الأشاعرة بالإمامة
إلى أن تكون فعلًا لله في الحقيقة، وللإنسان في المَجاز، بل
ويتعدَّى إلى مفارَقةٍ أنَّ رائدهم الأكبر، أبو الحسن الأشعري قد
اضطر إلى القول فيها بالنص من الله، وذلك انصياعًا لضغوط
طريقته الجديدة في الاستدلال بالأخبار، التي بلورها مجبرًا
للانتقام بها من أبيه المعتزلي الضَّلِيل، وهكذا كان الانتقام
المعتزلي من الأشعرية قاسيًا حقًّا، وأعْنِي من حيث ألزموهم —
حين قالوا بحسب طريقة المعتزلة في الاستدلال بالأعراض —
بقدرٍ من التناقضات لم يقدروا على الانفكاك منه، ثم أجبروهم
— حين بلوروا طريقتهم البديلة في الاستدلال بالأخبار — على
قولٍ في الإمامة ينبني كليًّا ضمن فضاء القول الشيعي فيها.
فالحق أن الاستدلال بالخبر على الإمامة كان لا بد أن يَئُول
إلى القول فيها بالنص، لا محالة، وهو الأمر الذي سوف يتجلَّى
صريحًا في شروح واحد من أهل السُّنة المتأخِّرِين، لنصٍ ينتمي إلى
نفس اللحظة التي كان الأشعري يكتب فيها نصوصه، فقد مضى أبو
العز الحنفي (في القرن الثامن الهجري) يسرد — في شرحه
للعقيدة الطحاوية المكتوبة في القرن الثالث/الرابع الهجري —
ما بدَا وكأنها نفس عبارات الأشعري من أنه لا سبيل للاستدلال،
على الأمور الاعتقادية والعبادية وحتى السياسية، إلا بالخبر
عن الرسول، وأن «كل مَن طلب أن يحكم في شيءٍ من أمر الدين
بغير ما جاء به الرسول، ويظن أن ذلك حَسن، وأن ذلك جمعٌ بين
ما جاء به الرسول وبين ما يخالفه، فله نصيب من تلك المخالَفة،
بل ما جاء به الرسول كافٍ كامل، يدخل فيه كل حق، وإنما وقع
التقصير من كثيرٍ من المنتسبِين إليه، فلم يعلم ما جاء به
الرسول في كثيرٍ من الأمور الكلامية الاعتقادية، ولا في
كثيرٍ من الأحوال العبادية، ولا في كثيرٍ من الأمور السياسية.»
٥ وبحسب هذه المقدِّمة التي تكاد تمثل ترجيعًا
كاملًا لأفكار الأشعري ولغته، من أن أخباره — عليه السلام —
صارت أدلة على صحة سائر ما دعانا إليه من الأمور الغائبة عن
حواسِّنا، فإن هذا الحنفي المتأخِّر قد انتهى إلى أن «أهل السنة
قد اختلفوا في خلافة الصديق رضي الله عنه: هل كانت بالنص، أو
بالاختيار؟ فذهب الحسن البصري وجماعة من أهل الحديث إلى أنها
تثبت بالنص الخَفِي والإشارة، ومنهم (أي من أهل السنة) من قال
بالنص الجلي … والدليل على إثباتها بالنص أخبار.»
٦ وبالرغم من أنه قد أخرج الأشاعرة من دائرة
القائلِين بالنص في الإمامة، فإنه لو كان قد قرأ نصوص الأشعري
بتدقيقٍ لكان قد أدرك استحالة إخراجهم بالكلية، من دائرة
القول بالنص، وعلى أي الأحوال، فإنه يبقى أنه لم يَعُد غريبًا
أن يُضاف القول بالنص في الإمامة إلى أهل السنة، وذلك بعد أن
شاعَت إضافته إلى الشيعة دون سواهم، ولقد كان ذلك هو ما بدَا
وكأن الشيعة أنفسهم قد أدرَكوه، حيث مضى أحدُهم إلى أن الشيعة
ليسوا وحدَهم القائلين بالنص في الإمامة، «فقد وافقتهم
البكرية والكرَّامية في أن طريق الإمامة إنما هو النص، غير
أنهم ذهبوا إلى أن المنصوص عليه بعد النبي عليه السلام أبو
بكر، وإليه ذهب الحسن البصري.»
٧ وحين مضى هذا الشارح إلى أن هؤلاء «قد استدَلُّوا
على ذلك بقوله تعالى:
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ
الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ
شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ (الفتح: ١٦)،
فيقولون إنه ورد في أبي بكر، فهو أول مَن دعا إلى قتال أهل
الردة بعد رسول الله.»
٨ فإنه كان يضع الأشعري مع هؤلاء القائلِين بأن
(طريق الإمامة إنما هو النص)؛ لأن ذلك بعينه هو نفس ما
استخدمه الأشعري في الاستدلال على خلافة أبي بكر.
الاستدلال بالأخبار أو الانصياع للمنظومة
الشيعية
إذا كان يلزم طرائق الاستدلال وإنتاج المعرفة، لكي
تكون منتِجَة، أن تتحدَّد بالمضمون المعرفي الذي تعمل ضمن
حدوده، وذلك بقدر ما تُحدِّده بالطبع، فإنه يبدو أن المضمون
المعرفي الأشعري لم يكن هو المحدِّد لطرائق الاستدلال التي
اشتغلت داخله؛ فقد بدَا، من جهة، أن الأشعري قد اندفع —
تحت ضغوط سيكولوجيا «قَتْل الأب» التي انسحق تحت وطأتها
بلا رحمة — يُبلوِر، مستعينًا بالفقهاء، طريقة في
الاستدلال بالأخبار لكي ينتقم بها من خصومه الآثمين
(المعتزلة)، ومن جهةٍ أخرى، فإنه قد بدَا — بالكيفية
نفسها — أن ضغوط الإبستيمولوجيا قد آلَت بالأشاعرة
اللاحِقِين إلى استعادة طريقة في الاستدلال كان الأشعري،
نفسه، قد سعى بقوةٍ لطردها من مجال التداوُل في الحقل
الكلامي — وأعني بها طريقة الاستدلال بالأعراض التي
تبلورَت في ارتباطٍ صميمي مع النظام العقائدي المعتزلي،
وذلك لكي يبرهنوا بها على نظامهم العقائدي المغاير لنظام
المعتزلة، وبالطبع فإن ذلك يكشف عن أن طريقتي الاستدلال
اللتين اشتغلَتا متجاوِرتَين، ككل شيء داخل النظام الأشعري،
قد تبلورَتَا تحت وطأة شروط الخارج وضغوطه، ومن غير أن
تكون الواحدة مِنهُما هي نتاجٌ، في تبلورها، للارتباط
بمضمونٍ مَعرفي يُحدِّدها، ويتحدَّد بها في آنٍ معًا، وليس من
شكٍّ في أن طرائق في الاستدلال تتبلور بحسب هذه الكيفية،
وأعْنِي تحت وطأة الضغوط من الخارج، وليس عن طريق التحدد
بالمضمون المَعرِفي الذي تعمل داخل إطاره، لا بد أن تَئُول
إلى ضروبٍ من الارتباط والتناقض سوف يشقى بها ذلك النظام
المعرفي الذي فرضت عليه الضغوط أن يظل يسعى، من غير
طائل، إلى لملمة انقسامه بين طرائق في الاستدلال وإنتاج
المعرفة، منتزَعة من السياق، من جهة، وبين مضمونٍ لا
يتحدَّد بهذه الطرائق ولا يحددها من جهةٍ أخرى، وهكذا فإنه
يُلاحَظ أنه لم يفلح في لملمة هذا الانقسام أبدًا، وظل
يرزح تحت وطأته دومًا.
ومن هنا أنه إذا كان التناقض، أو — على الأقل — إلزام
«قول الخصم المعتزلي» — في بعض المسائل التي أفاض فيها
القاضي عبد الجبار بالذات — هو جوهر ما انتقمت به طريقة
الاستدلال بالأعراض حين استعارها الأشاعرة لتعمل داخل
نظامهم العقائدي، فإن التزام «القول الشيعي» — في
الإمامة بالذات — يكاد أن يكون هو جوهر ما انتهت إليه
طريقة الاستدلال بالأخبار، ولكن على أن يكون مفهومًا أن
التطورات اللاحقة للمذهب الأشعري، التي راح معها يتسع
لما يتجاوز طريقة الاستدلال بالأخبار، لن تنأى به عن
القول في الإمامة بحسب نظام القول الشيعي فيها، بل إن
القول ذاته سوف يدوم ويستمر، ولكن بكيفيةٍ تناسب كل ما
سيلحق من التطورات لا محالة، ولعل ذلك يحيل إلى أن القول
الأشعري في الإمامة، على نفس نظام القول الشيعي فيها، لا
يرتبط فقط باشتغال طريقة الاستدلال بالأخبار مع الأشعري،
بل ويرتبط، في العمق، بسيادة البنية الإطلاقية، التي
تتبدَّى جوهريًّا في تهميش وإقصاء كل ما هو إنساني، على
نظام النسق الأشعري كله.
وعلى أي حال فإنه يبقى أن ما بدَا وكأن الأشعري قد راح
يؤسِّسه لكي ينتقم به من أبيه المعتزلي/البديل — وهو
المُثقَل بإثم احتلال موقع الأب/الأصيل — قد استحال بحسب
دهاء الفكر (الذي يتجاوز، بما ينطوي عليه من منطقٍ
باطني، إرادة الأفراد الواعية أحيانًا) إلى تجريد
الأشاعرة من أسلحتهم في مواجَهة دعاوى خصوم أشد شراسة هم
الشيعة الذين لم يكونوا، حين دشَّن الأشعري طريقته في
الاستدلال بالأخبار، ضمن دائرة المُثقَلِين بإثم الخطيئة
التي لم تتسع إلا للاعتزال حاملًا كل ملامح وقسَمات الأب
الذي كان لا بد مِن قتْلِه، ولعله يبدو — هكذا — أن الأشعري
لم يكن قادرًا على الالتفات إلى ما يمكن أن تحمله طريقته
من دعمٍ لدعاوى الشيعة في بناء الإمامة على النص-الخبر،
وذلك ابتداءً من حقيقة أنه كان يفكر تحت وطأة ضغوط
سيكولوجيا قَتْل الأب، التي لم تسمح له بغير الانتقام من
المعتزلة.
فإذ تنبني طريقة الاستدلال بالأخبار — بحسب الأشعري —
على أنه «إذا ثبت بالآيات (يعني المعجزات) صدقه (أي
النبي)، فقد عُلِمَ صحة كل ما أخبر به النبي
ﷺ، وصارت أخباره — عليه السلام — أدلة على صحة
سائر ما دعانا إليه من الأمور الغائبة عن حواسنا، وصفات
فعله (أي الله)، وصار خبره — عليه السلام — عن ذلك
سبيلًا إلى إدراكه، وطريقًا إلى العلم بحقيقته، وكان ما
يُستدل به من أخباره — عليه السلام — على ذلك أوضح دلالة
من دلالة الأعراض التي اعتمد على الاستدلال بها
الفلاسفة، ومن اتبعها من القدرية وأهل البدع المنحرفين
عن الرسل عليهم السلام … (وهكذا) من غير أن يُحتاج
أرشدكم الله في المعرفة لسائر ما دُعينا إلى اعتقاده إلى
استئناف غير التي نبَّه النبي
ﷺ
عليها، ودعا سائر أمته إلى تأمُّلها؛ إذ كان من المستحيل
أن يأتي بعد ذلك أحدٌ بأهدى مما أتى، أو يصلوا من ذلك
إلى ما بَعُدَ عنه عليه السلام.»
٩ فإن الإمامة — وتبعًا للأشعري نفسه — إنما
تقع خارج حدود ما يُستدل عليه بالخبر من النبي، ليس فقط
لأنها لم تكن مما دُعينا إلى اعتقاده، وإنما لأن خبرًا
بخصوصها لم يتواتر عنه، بحيث «ينصوا جميعًا (أي الصحابة)
عليه، وهم متفقون لا يختلفون، (وذلك كشأنهم) في ما دعاهم
إليه — عليه السلام — من معرفة حدَّثَهم، والمعرفة بمحدثهم،
ومعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العليا وعدْله وحِكمته، فقد
بيَّن لهم وجوه الأدلة في جميعه، حتى ثُلِجت صدورهم به،
وامتنعوا عن استئناف الأدلة فيه، وبلَّغوا جميع ما
وُقِفوا عليه من ذلك، واتفقوا عليه إلى من بعدهم.»
١٠ والحق أن الأشعري قد أظهر وعيًا كاملًا بأن
شيئًا من ذلك بالإجماع والاتفاق لم يتبلور حول الإمامة،
بل إنه يسجل «إن أول ما حدث من الاختلاف بين المسلمين —
بعد نبيهم
ﷺ — (كان) اختلافهم في الإمامة.»
١١ وبالطبع فإن هذا الذي «حدث من الاختلاف في
الإمامة بالسيف» لا بد أن يرفع تمامًا فكرة أن يكون ثَمَّة
«إجماع واتفاق»، ناهيك عن أن يكون ثمة «نص» حولها،
وبالرغم من أن ذلك كان لا بد أن يدفع إلى قولٍ في
الإمامة ينطلق من ضرورة اكتناه وتقصِّي ما حدث من الاختلاف
حولها بعد النبي، وذلك عبْر نوعٍ آخر من الخبر،
وهو الخبر عما حدَث بالفعل، وليس الخبر/النص عن الله أو
النبي، فإن الأشعري — وقد أدرك في رصده «مقالات
الإسلاميين» أن مثل هذا القول في الإمامة، بالخبر عمَّا
حدث، قد أدَّى إلى تخطئة الصحابة (أو بعضهم)، وإلى حد
إضلالهم، بل وحتى تكفيرهم
١٢ — لم يجد مفرًّا من توظيف الخبر/النص في
القول في الإمامة، ولكن مع ملاحظة أن القول في الإمامة
بهذا النوع من الخبر إنما يتحقق عنده — وعند لاحقيه من
الأشاعرة — بكيفيةٍ غير مباشرة، ومن هنا مغايرته للقول
الشيعي في الإمامة بالخبر/النص أيضًا، الذي يختلف فقط
بأنه يتحقق بكيفيةٍ صريحة ومباشرة، والمهم أنه يبقى أن
القول في الإمامة بالخبر/النص قد راح ينسرب إلى النظام
الأشعري في السعي للانفلات من مآلات القول فيها بالخبر/الحدث، التي لم يكن بمقدور الأشعري،
وكل ورثته، أن
يتحملوا أعباء ما تفرضه وتلزم به.
والحق أن المآلات التي ينتهي إليها القول بالخبر/الحدث في الإمامة، التي يستحيل قبولها
أشعريًّا، إنما
تتجاوز حقيقة أن القول فيها بحسب هذا النوع من الخبر
إنما يَئُول — إذ يجعل الحوادث هي ما يؤسِّس للقول في
الإمامة — إلى التفكير بحسب آلية ردِّ الأصول إلى الحوادث
التي سعى الأشعري إلى طردها مِنَ المجال الكلامي كليًّا،
إلى المصير بالأشاعرة إلى وجوب التزام القول بأن ما جرى
فيها، منذ البدء، قد كان تجلِّيًا لمبدأ المغالَبة
والشوكة، وهو على أي حال ما اضطروا إلى القول به مع
الغزالي — ناهيك عن ابن خلدون — لاحقًا؛ إذ الحق أن
القول في الإمامة بحسب الخبر عن حدثٍ يكاد يتكشف عن أن
«قانون القبيلة» (أو العصبية بلفظ ابن خلدون، الذي يلزم
التنويه بأن أشعريته قد أجبْرَته على أن يفكر في حقبتي
النبوة والخلافة، لا بحسب هذا القانون الذي صكَّه هو نفسه،
بل بحسب قانون الخارِق والمُعجز) هو ما يؤسِّس، في العمق،
لكل ما جرى من الاصطراع حول الإمامة بعد وفاة النبي
ﷺ مباشرة، ولكن ما بدَا مِن تعارُض ذلك مع
سعي النظام الأشعري إلى «نمذجة» — أو حتى قَدْسَنة — تلك
اللحظة الأولى، والتَّعالِي بها إلى ما فوق دنس الخبر/الحدث (رضخوًا لمقتضيات السياسة،
التي احتاجت إلى هذه
النمذجة للحظة التأسيس الأولى لتثبيت ما قام عليها من
أوضاعٍ سياسية لاحقة)،
١٣ قد أجبر الأشعري على القول فيها، وفي
الإمامة بالتالي، بحسب الخبر/النص عن النبي
ﷺ، ومن هنا أنه (أعني الأشعري) قد راح يؤسِّس
قوله في الإمامة على أن «كل الصحابة أئمة مأمونون، غير
متَّهَمِين في الدِّين، وقد أثنى الله ورسوله على جميعهم
وتعبَّدَنا بتوقيرهم وتعظيمهم وموالاتهم، والتَّبرِّي من كل من
ينتقص أحدًا منهم.»
١٤ ومن هنا أيضًا أن السَّلَف قد «أجمعوا» — على
قوله — على الكفِّ عن ذكر الصحابة — عليهم السلام — إلا
بخير ما يُذكرون به، وعلى أنهم أحق أن تُنشر محاسنهم،
ويُلتمس لأفعالهم أفضل المخارِج، وأن نظن بهم أحسن الظن،
وأحسن المذاهب مُمتثِلِين في ذلك لقول رسول الله
ﷺ: إذا ذُكر أصحابي فأمسكو، وقال أهل العلم:
معنى ذلك لا تَذكرُوهم إلا بخير الذكر.»
١٥ وإذ يبدو — هكذا — أن استراتيجية الأشعري
فيما يتعلق بالاختلاف بين الصحابة، على العموم، قد
تبلورت حول الإمساك والكف عن الخوض فيه، فإنه قد أضاف
إليها فيما يختص باختلافهم حول الإمامة تحديدًا أنه (أي
هذا الاختلاف)» كان على تأويلٍ واجتهاد، وكلهم من أهل الاجتهاد.»
١٦ ولعل تلك الإضافة، تحديدًا، هي ما يؤسِّس
للقول في الإمامة بالخبر/النص عن النبي، وأعْنِي من حيث
إنها ترتبط — في العمق — بحقيقة أن الأشعري لم يشأ أن
يتصور الأمر صراعًا يكون فيه الحق في جانب فريق (من
الصحابة)، حتى لا يخطئ الآخر، وذلك استنادًا إلى أن
«النبي
ﷺ قد شهد لهم بالجنة
والشهادة، فدلَّ (بذلك) على أنهم كلهم كانوا على حقٍّ في اجتهادهم.»
١٧ وهكذا فإن (خبر) شهادة النبي لهم بالجنة،
هو الدليل على أن اختلافهم لا بد أن يكون على تأويلٍ
واجتهادٍ من جهة، وعلى أن جميعهم كانوا على الحق في هذا
الاجتهاد من جهةٍ أخرى، وإذن فإنه الاستدلال هنا بالخبر/
النص عن النبي على أن الصحابة كانوا جميعًا على الحق
(وبما يعنيه ذلك من وجوب التعالي بهم فوق دنس التاريخ
وخطاياه)، وقد استدعاه الأشعري ليغطي به على الخبر/
الحدث، وأعْنِي — بالطبع — حدَث اصطراعهم الدامي حول قضية
السُّلطة بالذات، الذي لا يمكن تصوُّر أنهم كانوا جميعًا على
الحق فيه، وهكذا فإنه إذا كان الخبر/الحدث لا يُقدِّم إلا
ضروبًا من الاقتتال والمُنازَعة لأولئك الذين ارتفع بهم
المخيال إلى مقام التعبُّد والتقديس، وبما يجعل منه
تاريخًا مرذولًا لا يمكن احتمالُه أو قبوله على حالته،
فإنه كان لا بد مِنَ التَّعالي على هذا النوع من الخبر
والتغطية عليه بما يتسامَى من الخبر/النص عن النبي، ومن
هنا بالذات ابتدأ انسراب الخبر/النص إلى بناء الإمامة
الأشعرية.
وإذ يبدو — هكذا — أن انسراب النص إلى القول الأشعري
في الإمامة إنما يرتبط بالسعي إلى التغطية به على الخبر/
الحدَث، أو التاريخ المرذول الذي كان لا بد من التسامي به
عبْر إلحاقه بالمتعالِي، فإن ذلك ما يتكشَّف عنه تحليل تثبيت
الأشعري لإمامة أبي بكر بدلالة «النص»، وهنا فإنه إذا
كانت قراءة حُجَجه في تثبيت إمامة أبي بكر وخلفائه مِن بعده
— باستثناء علي بن أبي طالب (وهو استثناء له دلالته) —
تتبدَّى عن انبنائها بحسب مجرَّد «النص» و«الإجماع»، ومن دون
أن يكون لما سواهما — من العَقْد والبيعة — أي حضور، فإن
نقطة البدء في هذا النوع من الانْبِناء تقوم في تخصيص
الأشعري لقوله في الإمامة بأنه «كلام في إمامة أبي بكر
الصديق رضي الله عنه.»
١٨ إذ يبدو أن تخصيص القول في الإمامة على هذا
النحو، إنما يتجاوَب على نحوٍ مدهش مع القول فيها بدلالة
النص، وإلى حدِّ إمكان القطع بأن القول بدلالة النص في
الإمامة يستلزم القول فيها تخصيصًا على إمامةٍ بعينها،
وليس إطلاق القول فيها على العموم، ولعلَّ ذلك يرتبط بأن
دلالة النص في الإمامة، لا يمكن إلا أن تنصرف بالضرورة
إلى «شخص» بعينه يُراد تثبيت إمامته بالذات (كأبي بكر أو
علي مثلًا)، ثم يُصار — بعد ذلك — إلى النص منه على من
بعده، وهكذا فإن تخصيص الأشعري لقوله في الإمامة بأنه
كلام في إمامة أبي بكر تحديدًا، إنما يرتبط باستراتيجيته
في القول فيها بدلالة النص أساسًا، ولعل ذلك بعينه هو ما
سيتأكَّد مع الجويني، الذي انتهى من «القول في إثبات إمامة
أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين» إلى أن
«مرجع كل قاطع في الإمامة إلى الخبر المتواتِر والإجماع.»
١٩ وبما يعنيه ذلك من أن القول في الإمامة حين
تتعيَّن في أشخاصٍ بذواتهم، لا يمكن أن يكون إلا بدلالة
النص، ولا شيء سواه.
وهنا يلزم التنويه بأن النص يُراد، في سياق الكلام عن
إمامة أبي بكر، لا من أجل تثبيت الواقع، بل من أجل تثبيت
الأحقِّيَّة أو الشرعية، فالوقوع ثابتٌ لا محالة بالتاريخ
الذي لا يمكن لأحدٍ أن ينازع فيه، وأما الشرعية فإنها
كانت قلب المنازَعة ومحور الصراع، وبالطبع فإن الأمر، وإن
تعلَّق بشرعية لحظة في الماضي فإنما لتثبيت شرعية الحاضر
الذي قام على أساسه. ولعل أهم ما تُجلِّيه هذه المنازَعة
يتمثَّل في أن مجرَّد الوقوع في التاريخ لا يثبت أحقية أو
يؤسِّس شرعية، ومن هنا أن الأشعري قد وجد نفسه مضطرًّا —
لتثبيت شرعية إمامة أبي بكر، وبكل ما ترتب عليها من
أوضاعٍ سياسية لاحقة — إلى الالتياذ بما يجاوز التاريخ،
ومن دون أن يجد في مجرد وقوعها تاريخيًّا ما يكفي لتثبيت
شرعيتها؛ إذ الحق أن كون التاريخ، ليس خِلوًا فحسب مما
يؤسس لشرعية هذه الإمامة، بل ولعله ينطوي على ما قد يشوش
هذه الشرعية، كان لا بد أن يدفع بالأشعري إلى الْتِماس ما
يؤسِّس به شرعيتها فيما يجاوز هذا التاريخ، وأعْنِي به النص
الذي لم يكن للأشعري أن يجد خارجه ما يمكن أن يفلِتَ به
من وطأة هذا التاريخ وقسوته، وإذا كان النظام الأشعري قد
اندفع مع مؤسِّسِه يلتمس الشرعية لإمامة أبي بكر بدلالة
النص، فإن أتباع المؤسِّس الكبير سوف يتوسَّعون بمفهوم النص
ليشمل ما في معناه، فإذ المرء لا يتبين في تثبيت الأشعري
لإمامة أبي بكر إلا الدليل من النص بما هو مُجاوِز
للتاريخ، فإن أتباعه سوف يتوسَّعون بمعنى النص إلى حدٍّ
يكاد معه أن يبتلع التاريخ كليًّا، وبما يعني أن
الانْبِناء للإمامة بحسب النص صريحًا عند الأشعري، فيما هو
الانْبِناء لها بحسب ما يقوم مقام النص عند ورثته الكبار،
الذين يأتي على رأسهم الغزالي بالذات.
من النص صريحًا (الأشعري) إلى ما في معنى النص
(الغزالي)
إذا كان الأشعري قد راح يلتمس شرعية الإمامة من الله
عبْر دلالة النص، قرآنًا وإجماعًا، فإن الآخرين من أفراد
سلالته قد راحوا يلتمسون الشرعية نفسها من الله أيضًا،
ولكن عبْر دلالة كل ما يصدر عن الله، الذي لا يمكن أن
يكون النص فقط، بل وكذلك الفعل الذي يمكن، والحال كذلك،
اعتباره في معنى النص، أو مما يقوم — على الأقل — مقامه،
وهكذا فإن ما سيمضي إليه الغزالي بصدد تثبيت شرعية خلافة
المستظْهِر بالله العباسي (ويجب ملاحظة أنه التثبيت لشخصٍ
بعينه)، لن يختلف عمَّا صار إليه الأشعري بصدد تثبيت إمامة
أبي بكر إلا من حيث إنه فيما سيؤسِّس هذا الأخير تثبيته
للإمامة المَعْنيِّ بها على النص الصريح، فإن وريثه الغزالي
سوف يُدشِّن هذا التثبيت على ما يقوم عنده مقام النص، وأعْنِي
به الكسب، وبالطبع فإنه لا فارق بين نص «الأشعري» والكسب
الذي يقوم مقامه عند «الغزالي»، في أن كليهما صادر عن
الله.
فقد مضى الأشعري لا يسمح لشيءٍ بالحضور ضمن قوله في
إمامة أبي بكر إلا للنص جليًّا وصريحًا (من القرآن)، أو
خفيًّا يُشعر به الإجماع (من الحديث)، وهكذا فإنه لم
يفعل بعد استهلاله «الكلام في إمامة أبي بكر الصديق رضي
الله عنه» بالأدلة من القرآن، إلا أن انتهى، بعد تأويل
للدلالة لا يجاوز سطح النصوص التي احتج بها، إلى أنه «قد
دلَّ القرآن على إمامة الصديق والفاروق (الذي حضر لأن
الدلالة في النص تنصرف إليه أيضًا بحسب تأويل الأشعري)
رضي الله عنهما.»
٢٠ ولم يكن ممكنًا حين مضى إلى دليلٍ آخر
يستقيه من الإجماع، إلا أن يجعله من قبيل الإجماع على
النص أيضًا، فإذ «لم يكن للناس — على قوله — في الإمامة
إلا ثلاثة أقوال: من قال منهم: إن النبي
ﷺ نصَّ على إمامة الصديق وهو الإمام الأعظم بعد
الرسول، وقول من قال: نصَّ على إمامة علي، وقول من قال:
الإمام بعده العباس، (فإن) قول من قال هو أبو بكر الصديق
هو (الصحيح، على قوله) بإجماع المسلمين والشهادة له بذلك.»
٢١ وإذن فإنه النص، لا من القرآن فقط، بل من
الرسول أيضًا، وبشهادة الإجماع الذي هو أيضًا على نص، هو
ما يقول به الأشعري في الإمامة، وبعبارةٍ أخرى فإن
الأشعري ينتهي، على نحوٍ صريح، إلى تثبيت الإمامة لأبي
بكر بالنص عليها من الله والرسول معًا، وبإجماع المسلمين
الذي لا يقوم بدوره — وبحسب الفقهاء الذين كان يفكر بهم
— إلا على نص؛ إذ الحق أن الإجماع قد راح ينحل إلى أن
يكون مجرَّد نص، في النظام الفقهي لآبائه الجدد الذين راح
ينتقم بهم من أبيه المعتزلي الضليل الآثم، وأعْنِي بهم
الشافعي وابن حنبل الذي بالَغ الأشعري في الاحتفاء بقوله،
وإلى حدِّ اعتبار هذا القول الحنبلي جزءًا من ديانته التي
يدين بها، ولأنه قد يُصار إلى أن أصل الإجماع، الذي يفكر
به الأشعري في الإمامة، إنما يقوم في «رأي» الناس
واختيارهم، وليس في «نص» هم مضطرون إلى الانصياع له،
فإنه يلزم القول — تفصيلًا — في انحلال الإجماع، عند
آبائه، بل وكذلك ورثته، إلى أن يكون مجرد نص، وذلك
ابتداءً من أنه إجماع «حملهم عليه — على قول الجويني
(وهو أحد ورثة الأشعري) — قاطعٌ شرعي، ومُقتضًى جازم سمعي.»
٢٢ وبما يعنيه ذلك صراحةً من أن مُستند
الإمامة، عن طريق الإجماع، هو نص (أو خبر سمعي) مُجمع
عليه.
فإذا أقام الشافعي استراتيجيته في التفكير الفقهي على
الاتساع بدلالة النص ليبتلع ما تحته من أصول، وعلى النحو
الذي راح يتسع فيه بمفهوم النص/الوحي ليبتلع «السُّنَّة»
بعده، فإنه قد اتسع بالسُّنة بدورها — بعد أن أدرجها ضمن
فضاء النص/الوحي — لتبتلع في جوفها ما سيأتي من الإجماع
تحتها، وبما يعنيه ذلك من أن الإجماع ينحل عنده إلى
النص، ولعل ذلك يستقيم مع الوعي بأن نقطة البدء في اتساع
الشافعي بدلالة النص على هذا النحو، إنما تنطلق من
قاعدته الحاكمة في أنه «ليس لأحدٍ أبدًا أن يقول في
شيءٍ: حلَّ ولا حَرُمَ، إلا من جهة العلم، وجهة العلم
(هي) الخبر في الكتاب أو السُّنة، أو الإجماع والقياس.»
٢٣ وبما يعنيه اللفظ صريحًا من أنه إذا كانت
جهة العلم هي الخبر أو النص، فإنها لا تنحصر في الكتاب
والسُّنة، بل وتتسع للإجماع، وحتى القياس كذلك، ومن جهةٍ
أخرى فإنه إذا كان ابن حنبل لم يترك تنظيرًا للمفاهيم
التي كان يفكر بها، فإن ذلك لا يعني غياب أي تنظير
للإجماع كنصٍ عن فضاء التفكير الحنبلي؛ إذ الحق أن أحد
كبار الحنابلة، وأعْنِي به ابن تيمية، قد تكفَّل بصوغ تصور
يتبدَّى فيه الإجماع كنصٍّ صريح، فقد مضى إلى أن «كل ما
أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصًا عليه من الرسول،
فالمخالِف لهم مخالِف للرسول، كما أن المخالِف للرسول مخالِف
لله، ولكن هذا يقتضي أن كل ما أُجمع عليه، فقد بيَّنَه
الرسول، وهذا هو الصواب، فلا يوجد قط مسألة مُجْمَع عليها،
إلا وفيها بيان من الرسول، ولكن قد يخفى ذلك على بعض
الناس، ويعلم الإجماع فيستدل به … ولا يوجد مسألة يتفق
الإجماع عليها إلا وفيها نص.»
٢٤
ولعل هذا الفهم للإجماع هو بعينه ما سوف يعمقه ويوضِّح
كيفية حصوله، أحدُ أفراد السلالة التي تناسلَت من الشافعي
(فقهيًّا) ومن الأشعري (عقائديًّا)، وأعْنِي به «الجويني»
الذي مضى إلى أنه «قد تحصل من مجموع ما ذكرناه أن إجماع
أهل البصائر على القطع في مسألةٍ مظنونة، لا مجال للعقول
فيها يستحيل وقوعها من غير سببٍ مقطوع به سمعي، فإن قيل:
لو كان سند الإجماع خبرًا مثلًا مقطوعًا به لَلَهج
المجمعون بنقله، قلنا: لا نبعد أن ينعقد الإجماع عن سببٍ
مقطوع به، ثم يقع الاكتفاء بالوفاق، ويُضرب المجمعون عن
نقل السبب لقلة الحاجة إليه، وكم من شيءٍ يستفيض عند
وقوعه، ثم يُمْحَق ويندرس حتى يُنْقَل آحادًا، ثم ينطمس حتى لا
يُنقل، ويقع الاكتفاء بما ينعقد الوفاق عليه، ووضوح ذلك
يُغني أصحاب المعارف بالعرف عن الإطناب في تقريره.»
٢٥ وإذ يبدو وكأن قصد الجويني من هذا التصور
للإجماع لا ينعقد إلا عن (خبرٍ سمعي) أضرب المجمعون عن
نَقْله، يتماثل كليًّا مع قصد الشافعي إلى إقصاء العقلي
والإنساني من مجال القول الفقهي — وذلك من حيث إن «الحق
المُتَّبع أن الإجماع في نفسه ليس حجة، إذ لا يُتصور من
المُجمِعِين الاستقلال بإنشاء حكم من تلقاء أنفسهم، وإنما
يُعتقد فيهم العثور على أمرٍ جمَعَهم على الإجماع، فهو (أي
هذا الأمر أو الخبر) المُعتَمد، والإجماع مُشعِر به.»
٢٦ — فإنه لا ينفصل كذلك عن القصد الأشعري إلى
إزاحة الحضور الإنساني من مجال القول العقائدي، الذي
يكاد لذلك أن يكون عندهم مجرَّد قول في المُطلَق، وبمعنى
الإنكار الكامل لأن يكون لقوانين العالم الإنساني
والطبيعي أي دور في تركيب هذا القول، ولعل هذه الإزاحة
تتبدَّى جَلِيَّة وزاعقة في ذلك الإلحاح على القول في الإمامة
(وهي الأكثر ارتباطًا بالإنسان وعالمه) بالنص، الذي هو
الأكثر مُجاوَزة ومُفارَقة في السياق المتعلِّق بالإمامة
بالذات، وعلى أي الأحوال فإنه إذا كان ما يبقى من ذلك
كله أن النص، صريحًا أو خفيًّا يُشعر به الإجماع، هو فقط
ما يحضر في قول الأشعري في الإمامة، فإنه يبدو أن هذا
النص إنما يحضر عنده بدلالةٍ جلية لا مجال فيها لأي
خفاء، وذلك على العكس من الخفاء لا يفارق الدلالة عند
أولئك الذين يقولون بالنص على إمامة مَن سِوى أبي بكر من
الخلفاء.
ولعله يلزم التنويه هنا أن أشعريًّا متأخرًا
كالشهرستاني سوف يُقِر صراحةً بأن القول بالإجماع في
الإمامة هو — تمامًا — في معنى القول فيها بالنص، فإذ
مضى إلى «القول في تعيين الإمام، هل هو ثابتٌ بالنص أم
بالإجماع، مختصًّا أهل السنة بأنهم القائلون بالإجماع،
في مقابل الشيعة القائلين بالنص.»
٢٧ فإنه سرعان ما راح يَرُد هذا الإجماع إلى
النص، وبكيفيةٍ انتهى معها، بالفعل، إلى أن دلالة تعيين
الإمام بالإجماع، على قول أهل السُّنَّة، لا تُفارِق أبدًا
دلالة تعيينه بالنص على قول الشيعة؛ لأنه إذا كان قد
اختص أهل السُّنَّة بأنهم القائلون بالإجماع في تعيين
الإمام، ومضى — كأستاذه الأشعري قبله — إلى «إن الاتفاق
على إمامة أبي بكر رضي الله عنه كان صادرًا من جملتهم»
(يعني بإجماعهم)، فإن ما صار إليه من أن مُستَند هذا
الإجماع هو النص، لا بد أن يَئُول مباشرة إلى أن ثبوت
الإمامة لأبي بكر إنما يكون من النص، فقد مضى يؤكد على
«إنا بالضرورة نعلم أن الصحابة إذا أجمعوا على أمر، فلا
يحصل منهم ذلك الاتفاق إلا لنصٍّ خفي قد تحقق عندهم، إما
نص في الأمر بعينه (كإمامة شخص بعينه مثلًا)، وإما نص
على أن الإجماع حجة، ثم ذلك النص ربما يكون عندهم
تواترًا وعندنا من أخبار الآحاد، فلا بد من إضمارٍ — قطعًا —
حتى يكون حجة، لكن الإجماع قرينة دالة عليه — قطعًا — وهو
كالأخبار المتواترة، فإنها أورثت العلم بحُكْم القرينة، لا
بحُكْم العدد، ومن الدليل على أن الإجماع حجة، تبكيت
الصحابة لمن خالَف الإجماع وإخراجهم إيَّاه عن سنن الهدى،
وقد جوَّزُوا للمُجمِعِين تَرْكَهم لمستنَد الإجماع، فإن المستنَد
ربما كان قرينة قولية أو فعلية أورثتهم العلم، ولم
يمكنهم التعبير عنها بلفظ، وربما كان قولًا صريحًا، فإن
صرَّحُوا به كان ذلك دليلًا ثابتًا في المسألة، وإن لم
يصرحوا به كفَاهم الإجماع.»
٢٨ وإذن فإن الإقرار الصحيح بأن إمامة أبي
بكر إنما تثبت بالنص، الذي هو مستنَد الإجماع، سواء كان
قرينة قولية أو فعلية أو قولًا صريحًا لم يُصرِّحوا به.
وإذ يكشف ما صار إليه الجويني، في مواجهة القول الشيعي
بالنص على إمامة عليٍّ، من ضرورة أن «نُعارض ما ذكروه (من
النصوص على حق علي) بأخبار تُدانِي النصوص في حق أبي بكر وعمر.»
٢٩ عن تبلْوُر القول الأشعري في الإمامة بالنص —
بعد الأشعري خصوصًا — تحت ضغوط الشيعة، فإن الغريب حقًّا
أنهم سيضطرون، مع تصوُّرهم للإمامة تقَع كفعلٍ من الله،
وليس كمُجرَّد قول أو نص له، إلى التخَلِّي عن جَوْهَر احتجاجهم
على الشيعة بأن الإمامة تثبت بالاختيار، فالحق أنهم قد
أُجبروا على القول بأنها تقع بالشوكة أو الغَلَبة، وبما
يعنيه ذلك من وقوعها بالاضطرار، وليس بالاختيار، وحين
يُدرِك المرء أن هذا الحصول بالغَلَبة والشوكة هو أقوى ما
يَحتَج به الشيعة ضد الإمامة السُّنِّية، فإن ذلك يعني أن
الأشاعرة لم يَقْدِروا على الإفلات من الضغوط الشيعية، حتى
حين صاروا إلى القول فيها (أي الإمامة) بما يقوم مقام
النص، وأعْنِي بما هي فعل يقع من الله، والحق أن القول
الأشعري في الإمامة بما هي فعل يقع من الله لم يَقْصِد إلا
إلى التغطية على ما جرى فيها بحسب الشوكة والغَلَبة، وهنا
يلزم التنويه بأن تَمحْوُر الإمامة السُّنِّية حول الغلبة التي
راحت تَحتجِب خلْف الله (بوصفه الفاعل الأوحد لكل شيء، ولو
حتى مغالبة فريق لآخر)، قد دفع الإمامة الشيعية إلى
التَّمحْوُر حول العلم الذي يرتد، بدوره، إلى الله، وليس
اجتهاد الإمام،
٣٠ وبالطبع فإن ذلك يُؤَكِّد، من جديد، على تَماثُل
كلا الإمامَتين السُّنِّية والشِّيعية، في الانْبِناء ضمن فضاء
الإلهي، الذي يغيب عنه الإنساني يأسًا منه أو قمعًا له.
الإمامة … من النص إلى الفعل
وإذا كان أهم ما يتأدَّى إليه ذلك القول الأشعري في
الإمامة بالنص، أنها تتأسَّس كفعلٍ على «قول» الله، فإنه
يُلاحَظ أن أفراد السلالة الأشعرية الكبيرة سوف يتعالَوْن
بها — مع اكتمال تبلور نظرية الأفعال — إلى أن تكون، هي
نفسها، فِعلًا من الله في الحقيقة، وإن بدَا على غير ذلك في
الظاهر؛ إذ الحق أن مُخايَلة الحقيقة والظاهر التي
سيوظِّفُها الغزالي في الإمامة، ليست أكثر من انعكاس
لمُخايَلة الخَلْق والكسب في الفعل، التي تتمثل في «إن الله
أجْرَى سُنَّته بأن يُحقِّق عقيب القدرة الحادثة، أو تحتها، أو
معها، الفعل الحاصل إذا أراده العبد وتجرَّد له، ويُسمَّى هذا
الفعل كسبًا، فيكون خلقًا من الله إبداعًا وإحداثًا،
وكسبًا من العبد.»
٣١ ولقد صار الغزالي — مستثمرًا هذه المُخايَلة
في تأسيس قوله في الفعل السياسي — إلى «إن الإمامة عندنا
تنعقد بالشوكة، والشوكة تقوم بالمبايعة، والمبايعة لا
تحصل إلا بصرف الله تعالى القلوب قهرًا إلى الطاعة
والموالاة، وهذا لا يقدر عليه البشر، ويدلك عليه أنه لو
أجمع خلقٌ كثير لا يُحصَى عددهم على أن يصرفوا وجوه
الخلق وعقائدهم عن الموالاة للإمامة العباسية عمومًا،
وعن المشايعة للدولة المُستظِهرِيَّة — أيدها الله بالدوام! —
خصوصًا، لأفْنَوا أعمارهم في الحِيَل والوسائل وتهيئة
الأسباب والوسائل، ولم يحصلوا في آخِر الأمور إلا على
الخيبة والحرمان.»
٣٢ وإذ يقع أمر الإمامة، على هذا النحو، خارج
مقدورات البشر بالكلية، فإن ذلك يعني لا محالة أنها —
وككل فعل — من قبيل متعلقات قدرة الله في الحقيقة، التي
«لا يمكن — على قولها — أن يُشار إلى حركة (ناهيك عن
الفعل)، فيقال: إنها خارجة عن إمكان تعلق (هذه) القدرة بها.»
٣٣ ولعل ذلك ما آثر الغزالي أن لا يتركه من
غير تأكيدٍ صريح، فمضى إلى أن: «انصراف قلوب الخلائق إلى
شخصٍ واحد أو شَخْصَين أو ثلاثة على ما تقتضيه الحال في كل
عصر، ليس أمرًا اختياريًّا يُتوصَّل إليه بالحيلة البشرية،
بل هو رزق إلهي يُؤتِيه الله من يشاء، فكأنَّا في الظاهر
ردَدْنا تعيين الإمامة إلى اختيار شخص واحد، وفي الحقيقة
رددناها إلى اختيار الله تعالى ونَصْبِه، إلا أنه قد يظهر
اختيار الله عقيب متابعة شخص واحد أو أشخاص.»
٣٤ وإذن فإنها مُخايَلة الخَلْق والكسب الأشعري
وقد استعارها الغزالي من حقل الأفعال على العموم ليفكر
بها في مجال الإمامة، أو الفعل السياسي على الخصوص،
وبالطبع فإنه إذا كان القول في الفعل قد راح يُمايز،
بحسب هذه المُخايَلة، بين الخلق من الله (في الحقيقة)،
والكسب من الإنسان (في الظاهر)، فإن الأمر قد اقتضى
التمييز في فعل الإمامة بين الخلق من الله «تعيينًا
ونصبًا» للإمام في الحقيقة، وبين الكسب «اختيارًا
ومتابَعة» من الإنسان في الظاهر.
ولعل ابن خلدون لم يكن أبدًا — بالرغم مما أضفاه على
خطابه من طابعٍ تاريخي عيني، إلا متابعًا للغزالي في
القول في الإمامة بالكسب، ولكن مع مُلاحَظة أن معنى الكسب
يتلبَّس عنده مفهوم الطبع، وهنا فإنه إذا كان ابن خلدون قد
راح يستثني الإمامة أو الخلافة من الاندراج ضمن قانون
«المُلك» الذي «لا بد فيه من العصبية لِمَا قدَّمناه من أن
المُطالَبات كلها، والمدافَعات لا تتم إلا بالعصبية،
والمُلك كما تراه منصِبٌ شريف تتوجَّه نحوه المطالَبات
ويحتاج إلى المُدافَعات، ولا يتم شيء من ذلك إلا بالعصبيات.»
٣٥ ليضعها ضمن قانون «المعجز أو الخارق» لأنه
«لم يُحتج إلى مراعاة العصبية (فيها) لما شمل الناس من
صبغة الانقياد والإذعان وما يستفزهم من تَتابُع المعجزات
الخارقة والمعجزات الإلهية الواقعة، والملائكة المتردِّدة
التي وجموا منها.»
٣٦ فإن تحليلًا لِمَا صار إليه بخصوص «الحكمة في
اشتراط النَّسَب القرشي ومقصد الشارع منه» إنما يتكشف عن
انسراب العصبية إلى بناء الإمامة وقيامها مُتخفِّية وراء
قناع المعجز والخارق، فقد مضى إلى أن اشتراط هذا النَّسب
في الإمام «لم يُقتصَر فيه على التَّبرُّك بِوصلة النبي
ﷺ كما هو المشهور، وإن كانت تلك الوصلة
موجودة والتَّبرُّك بها حاصلًا، لكن التَّبرُّك ليس من المقاصد
الشرعية كما عَلمتَ، فلا بد إذن من المصلحة في اشتراط
النَّسب، وهي المقصودة من مشروعيتها، وإذا سَبَرْنا وقَسَّمنا لم
نجدها (أي المصلحة) إلا اعتبار العصبية التي تكون بها
الحماية والمطالَبة، ويرتفع الخلاف والفُرقة بوجودها لصاحب المنصب.»
٣٧ وإذ يبدو — هكذا — أن اعتبار العصبية هو
الأصل في شرط النَّسب القرشي، وكان هذا الشرط — بحسب ابن
خلدون نفسه — هو الأصل في حسم أمْر خلافة النبي في سقيفة
بني ساعدة، فإن ذلك يعني أن ما حدث في الإمامة والخلافة
يندرج، بدوره، تحت قانون العصبية، وليس مجرَّد المُعجِز أو
الخارق، بل إنه يبدو — وللغرابة — أن ابن خلدون يُصرِّح بأن
قانونه عن العصبية مُستفاد من شَرْط القرشية الذي بدأ
اشتغاله مع خلافة أبي بكر، فقد مضى إلى أنه «إذا ثبت أن
اشتراط القرشية إنما هو لدَفْع التنازع بما كان لهم من
العصبية والغَلَب، وعَلِمْنا أن الشارع لا يخص الأحكام بجيلٍ
ولا عصر ولا أُمَّة، عَلِمْنا أن ذلك إنما هو من (صفة)
الكفاية، فرددناه إليها وطردنا العلة المشتملة على
المقصود من القرشية وهي وجود العصبية، فاشترطنا في
القائم بأمور المسلمين أن يكون من قومٍ أُولِي عصبية قوية
على مَن معها لعصرها؛ ليستتبِعوا سواهم، وتجتمع الكلمة على
حُسْن الحماية، ولا يُعلم ذلك في الأقطار والآفاق كما كان
في القُرَشِية؛ إذ الدعوة الإسلامية التي كانت لهم كانت
عامَّة، وعصبية العرب كانت وافية بها فغَلَبوا سائر الأمم،
وإنما يُخصُّ لهذا العهد كل قطر بمن تكون له فيه العصبية الغالبة.»
٣٨ وهكذا تكون القرشية التي اشتغلت بحسبها
الإمامة والخلافة منذ البدء، هي أساس طرد العصبية
وتعميمها كأساس للمُلك؛ وإذ يحيل ذلك إلى انْبِناء شرط
العصبية في المُلك على شرط القرشية في الخلافة، فإن ذلك
يعني أن حضور المُعجِز والخارق في الإمامة أو الخلافة لم
يمنع الاشتغال الفاعل والمؤثِّر للعصبية فيها، وإلى حد
إمكان القول بأنها (العصبية) تكاد — حسب ابن خلدون نفسه
— أن تكون العامل الحاسم في بنائها (الإمامة)، لكن الوجه
الآخَر لهذا الانْبِناء للعصبية (في المُلك) على القرشية
(في الخلافة) يتأتَّى من أنه إذا كانت القرشية إنما ثبتت
بالنص (الأئمة من قريش)، فإنه يمكن الاستنتاج بأن هذا
النص المثبت لها إنما يلعب دورًا ما في إثبات ما ينبني
عليها من العصبية،
٣٩ وهنا يُشار إلى أنه إذا كان ما يبدو من
عقلانية النص الخلدوني مِمَّا يفتُّ في عَضُد مثل هذا
الاستنتاج، فإن أشعرية ابن خلدون الثابتة لا يمكن أن
تمنعه مطلقًا.
إذ الحق أنه إذا جاز الانطلاق مما سبق إلى أن الإمامة
تنعقد عند ابن خلدون بمثل ما كانت تنعقد به عند الغزالي،
من الشَّوكة أو العَصبية، فإنه يبدو وكأن هذه العصبية —
وبمثل ما كانت الشوكة عند الغزالي قَبلًا — مما يقبل
الاندراج ضمن مُخايَلة الخلق (من الله) والكسب (من
الإنسان)، لكنه يبدو أن تباين مَجال القول الخلدوني في
الإمامة عن مجال القول فيها عند الغزالي، قد فرض على ابن
خلدون القول فيها، لا بالكسب الصريح، وإنما بما في
معناه، وهو هنا مفهوم «جريان العادة واستقرارها»، وأعْنِي
أن الانتقال بالإمامة والمُلك من مجال الفعل الإنساني
(بحسب الغزالي) إلى مجال الفعل الطبيعي (بحسب ابن
خلدون)، قد فرض الانتقال، على صعيد المفاهيم، مما يتسع
للإنساني فقط إلى ما يناظره مما يتسع للطبيعي؛ إذ الحق
أنه إذا جاز للفعل — في المجال الإنساني — أن يُنسب إلى
الإنسان على قاعدة الكسب، وذلك بمقتضى قدرة يخلقها الله
له عقيب الفعل أو معه أو تحته، فإن غياب هذه القدرة
الحادثة عن الطبيعة كان لا بد أن يمنع من نسبة الأفعال
إليها بحسب الكسب، فاقتضى الأمر نسبتها إليها بحسب مفهوم
الطبع، وهكذا فإن تبلور القول الخلدوني في الإمامة
والمُلك ضمن إطار طبائع العمران، بما ينطوي عليه من
دلالة الإحالة إلى الطبيعة التي يضيق مفهوم الكسب عن
الإحاطة بما يجري فيها — وليس ضمن نظرية الأفعال، التي
يمكن لمفهوم الكسب أن يستوعب تمامًا موضوعها، وهو الفعل
الإنساني، مثلما هو الحال عند الغزالي — قد أجبر ابن
خلدون على استعارة مفهوم «جريان العادة واستقرارها» من
مجال القول في الطبيعة إلى مجال القول في السياسة، وبحسب
هذه الاستعارة، فإنه يبدو وكأن ابن خلدون قد راح يفكر
بما صار إليه الغزالي من أن «الاقتران (في الطبيعة) بين
ما يُعتقد في العادة سببًا، وبين ما يُعتقد مسببًا، ليس
ضروريًّا عندنا… فإن اقترانها (إنما هو) لما سبق من
تقدير الله سبحانه، بخلقها على التساوق، لا لكونه
ضروريًّا في نفسه، غير قابل للفوت … بل هي ممكنة يجوز
أن تقع، ويجوز أن لا تقع، واستمرار العادة بها مرة بعد
أخرى، يرسخ في أذهاننا جريانها على وفق العادة الماضية
ترسيخًا لا تنفك عنه.»
٤٠ إن نقل هذه القاعدة من المجال الطبيعي
والتفكير بها في مجال العمران البشري لا بد أن يحيل إلى
تصور المُلك أو الإمامة لا تحصل بالعصبية، وإنما تحصل
عندها؛ لأن اقترانهما ليس ضروريًّا في نفسه، بقدر ما
يرجع إلى مقتضى مَجرى العادة.
والحق أن ابن خلدون قد تصوَّر العمران بالفعل، على نفس
النحو الذي تصور الغزالي به الطبيعة، وإلى حدِّ توظيف نفس
مفردات قاموس الغزالي، ومن هنا ما صار إليه من أن
«الحوادث في عالَم الكائنات سواء كانت من الذوات أو من
الأفعال البشرية أو الحيوانية، فلا بد لها من أسبابٍ
متقدِّمة عليها، بها تقع في مُستقر العادة … وإن وجه تأثير
الأسباب في الكثير من مسبباتها مجهول؛ لأنها إنما يُوقف
عليها بالعادة لاقتران الشاهد بالاستناد إلى الظاهر،
وحقيقة التأثير وكيفيته مجهولة؛ فلذلك أُمِرْنا بقطع النظر
عنها وإلغائها جملة، والتوجُّه إلى مُسبِّب الأسباب كلها
وفاعلها ومُوجِدِها لترسيخ صفة التوحيد في النفس على ما
عَلَّمنا الشارع الذي هو أعرف بمصالح ديننا.»
٤١ وهكذا يقتضي ترسيخ التوحيد رَدَّ الطبائع إلى
مُسبِّب الأسباب كلها وفاعلها ومُوجِدِها، وإن وجه تأثيرها فيما ينشأ عنها، أو بالأحرى
معها؛ مجهولٌ لأنها إنما يُوقف
عليها بالعادة التي تنشأ عن الاقتران المشاهد في حصولها،
ومن هنا ما كان لا بد أن يمضي إليه، على نحوٍ صريح، من
أن طبائع العمران هي كيفيةٌ «أجرى الله الأمور (بحسبها)
على مستقر العادة.»
٤٢ وليست قوانين موضوعية محكومة بشروطٍ
تاريخية ضرورية، ولعل هذا التصور لطبائع العمران ليست
ضرورية في نفسها، بقدر ما ترجع لمقتضَى العادة، هو ما
جعلها قابلة — كالطبيعة تمامًا — للخَرْق والفَوات، ولقد
كانت تلك القابلية للخَرْق هي ما جعلت ابن خلدون قادرًا
على تعطيل اشتغال هذه الطبائع للعمران في حقبتي النبوة
والخلافة؛ وذلك لأن «شأن العصبية المراعاة في الاجتماع
والافتراق، في مَجاري العادة، لم يكن يومئذٍ بذلك
الاعتبار؛ لأن أمر الدين والإسلام كان كله بخوارق العادة
من تأليف القلوب عليه، واستماتة الناس دونه، وذلك من أجل
الأحوال التي كانوا يشاهدونها في حضور الملائكة لنصرهم.»
٤٣ وإذن فإنَّ الفوات في طبائع العمران من أجل
إفساح المجال للمُعجِز والخارق، تمامًا بمثل ما جرى عليه
الحال «مع الغزالي» في الطبيعة، وإذ يبدو — هكذا — أن
القول في الإمامة بمقتضى «الطبع» لا يفارق أبدًا دلالة
القول فيها بمقتضى «الكسب»، وأعْنِي من حيث تبدو فيهما
معًا من فِعْل الله في الحقيقة، ومنسوبة للإنسان (بحسب
الكسب)، أو للعمران (بحسب الطبع) مَجازًا فقط — حيث بات
«الطبع» مع الغزالي «مما لا يشتد نفور الطبع (الإنساني)
منه؛ لأنه يبقى مجازًا.»
٤٤ — وبكيفيةٍ يزول معها أي تمايُزٍ بينهما،
فإنه يمكن المصير من ذلك إلى إمكان التمييز في القول
الأشعري في الإمامة بين القول فيها بحسب النص (مع
الأشعري) من جهة، وبين القول فيها بما في معنى النص،
كسبًا أو طبعًا، مع كلٍّ من الغزالي وابن خلدون من جهةٍ
أخرى، ومع الوعي بالطبع بأن هذا القول الأخير في الإمامة
بالكسب أو الطبع لا يخرج عن فضاء القول فيها بالنص مع
الأشعري، فإن ذلك لا يعني غيابًا لأي تَمايُز بين القولين.
فإذ لا يكون النص — بحسب الأشعري — إلا على الأحقية أو
الشرعية، وليس أبدًا على مَحْض الوقوع الذي يستحيل أن يحصل
بالنص، وبما يعنيه ذلك من أن النص من الله لا يتعلق بمحض
الفعل الواقع في الإمامة، فإن هذا الفعل الواقع فيها سوف
يصبح، هو نفسه، من متعلِّقات القدرة الإلهية بحسب الكسب
والطبع، وبما يعنيه من أن وقوع الفعل نفسه — وليس مجرَّد
شرعية حصوله — يكون من الله، وللمفارَقة، فإنه يبدو،
هكذا، وكأن تَدخُّل الله في الإمامة، عبْر القول فيها بالنص،
يكون أكثر محدودية منه عبْر القول فيها بالطبع أو الكسب،
فإذ يقف هذا التدخل مع القول بالنص عند مجرَّد النص على
شرعية الوقوع، وبحيث تكون مجرَّد الشرعية هي ما يُستفاد من
الله، فإن الوقوع نفسه، وبالتالي شرعيته، يكونان معًا من
الله بحسب القول فيها بالكسب أو الطبع، وإذ يرتبط التحول
من النص إلى الكسب/الطبع باكتمال بنية الخطاب الأشعري،
على نحوٍ أصبحَت معه هذه البنية قادرة على الارتداد بكل
ما يقع من حوادث، ضمن حدود الكون والتاريخ، داخل مجال
القدرة الإلهية المُطلَقة، ولكن عبْر المُخايَلة بفعاليةٍ
مجازية لتلك الحوادث (عن طريق الكسب أو الطبع) تحت مظلة
هذه القدرة، فإنه يعكس تباينًا، أو تحوُّلًا أيضًا، في
الموقِف من التاريخ المتحقِّق في الإمامة وكيفية مقارَبته،
فإذ لا يقبل الأشعري بالتاريخ المتحقِّق في الإمامة، ويسعى
جاهدًا إلى الفرار والتغطية عليه، وبحيث لم يجد في هذا
السعي إلا النص الأقدس يغطي به على هذا التاريخ المسكون
بالإثم والدنس، فإن كلًّا من الغزالي وابن خلدون يَقبَلان
معًا بكل ما تحقَّقتْ به الإمامة في التاريخ، من الشوكة
والعصبية والغَلَبة، ومن هنا أنهما لا يقصدان إلى التغطية
على هذا التاريخ بما يُجاوِزه من النص، بل يسعيان إلى
ابتلاعه كله واستيعابه في جوفٍ مُطلَق يفسره، أو بالأحرى
يبرره.
والملاحَظ أن التوافق بين كلٍّ من الشيعة والأشاعرة لا
يقف عند مجرَّد التعالي بالإمامة إلى أن تكون من الله، بل
ويتجاوز إلى ما يترتَّب على هذا التعالي من اعتبار الإمام
حُجة وعلامة إلهية، وإلى حد ما بدَا من أن الحكم الذي يلحق
بمن لا يعرف الله ولا يُؤمِن به، بات ينطبق على من لا يعرف
الإمام أيضًا، ابتداءً من أنه حُجَّة الله وعلامته، فقد مضى
الأشاعرة (وأهل السُّنَّة على العموم) إلى أن ضرورة الإمام
(أو — بتعبيرهم — السلطان) ليست سياسية فقط، بل ودينية
كذلك، وذلك ابتداءً من تصوُّره حُجة «من حُجَج الله تعالى على
وجوده سبحانه، ومن علاماته على توحيده.»
٤٥ وبالطبع فإنه كان من المنطقي أن يجعلوا حُكْم
الرعية في علاقتهم بالسلطان هو نفس حُكْم المَخلوقِين في
علاقتهم بالله، ومن هنا أنه إذا كان قد استقر في الثقافة
إطلاق وصف «الجاهلية» على مَن لا يعرف الله، ويظن به غير
الحق، حيث الجاهلية هي «اسم حدث في الإسلام للزمن الذي
كان قبل البعثة … ومنه يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية.»
٤٦ فإن الأخبار قد تكفَّلَت — في مُوازَاة القرآن —
بإضافة هذا الوصف إلى مَن يجهل «السلطان»؛ ولهذا فإنه إذا
كان من مات ولم يعرف الله يموت مِيتةً جاهلية، فإنه قد
بات لازمًا — بحسب الأشاعرة والسُّنة عمومًا — أن «من مات
ولم يعرف السلطان مات ميتةً جاهلية.»
٤٧ كذلك، ولقد كان ذلك بعينه هو نفس ما صار
إليه الشيعة الذين استمسكوا بنفس المأثور، ولكن بعد
استبدال لفظ «الإمام» بلفظ «السلطان»، فابتداءً من
اعتقادهم في الأئمة أنهم «أولو الأمر الذين أمر الله
تعالى بطاعتهم، وأنهم الشهداء على الناس، وأنهم أبواب
الله والسبل إليه والأدِلَّاء عليه، وأنهم عَيْبَة علمه
وتراجِمةُ وحيه، وأركان توحيده وخُزَّان معرفته … بل نعتقد أن
أمرَهُم أمْرُ الله تعالى، ونهْيَهم نهيه، وطاعتهم طاعته،
ومعصيتهم معصيته، وولِيَّهم وليه، وعدوهم عدوه، ولا يجوز
الرد عليهم، والرَّادُّ عليهم كالرَّادِّ على الرسول، والرَّادُّ على
الرسول كالرَّادِّ على الله تعالى»، فإنهم قد انتهوا إلى أن
«من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية، على ما
ثبت ذلك عن الرسول الأعظم بالحديث المستفيض.»
٤٨ وهكذا يكاد يتفق الأشاعرة مع الشيعة في
اعتبار الإمام ضرورة دينية أو إلهية يُعدُّ إنكارها أو
الجهل بها مرادفًا للجهل بالله ذاته.
ولعله يلزم التنويه أخيرًا بأن تماثُل كل من الأشاعرة
والشيعة، في الارتداد بالإمامة إلى الله، وبما يترتَّب
عليه من اعتبار الجهل بالإمام من قبيل الجاهلية بالله،
لا يعني أبدًا غياب أي ضربٍ من التمايُز بينهما، فإذ
يَتغيَّا القول الشيعي في الإمامة بالنص من الله الانتقام
من التاريخ وفَضْحَه، ونَزْع الشرعية عما جرى فيه، وذلك عبْر
اعتباره انحرافًا عن أمر الله المقطوع به في النص، فإن
التعالي الأشعري بالإمامة إلى الله (نصًّا وفعلًا)، إنما
يستهدف، في المقابل، التغطية على التاريخ، وإضفاء
الشرعية على ما جرى فيه، وذلك عبْر اعتبار ما جرى في
ساحته إما أنه تحقيق لنص، أو أنه مقدورٌ لله، وواقعٌ منه
كفعل، وهكذا راح التَّعالِي بالإمامة إلى الله (نصًّا بحسب
الشيعة، ونصًّا وفعلًا بحسب الأشاعرة) يتكشف عن أداء
دَوْرَين وظيفِيَّين مُتناقِضَين؛ إذ هو تارة سبيل لفضح التاريخ
ونَزْع الشرعية عنه، وهو سبيل لتثبيت شرعية التاريخ
وترسيخها تارةً أخرى، وإذ يبدو هكذا أن مبدأ صدور
الإمامة عن الله (نصًّا أو فعلًا) يَئُول إلى تبرير الشيء
ونقيضه من جهةٍ واحدة، وفي آنٍ معًا، وبما يعنيه ذلك من
أنه لا يقدر على تفسير ما جرى من الاختلاف حولها، فإن
ذلك يؤكد على ضرورة الارتداد بالإمامة إلى أصلها
الإنساني، الذي يقدر وحده على تفسير هذا الاختلاف، إذ
الحق أن هذا الحضور المزدَوج — بل والمتناقِض — لله،
فاضحًا لما جرى في التاريخ ونازعًا للشرعية عنه من جهة،
أو مغطيًا على ما جرى ومضفيًا للشرعية عليه من جهةٍ
أخرى؛ هو مَحضُ نتاج لاشتغال استراتيجيات التوظيف
الأيديولوجي للإلهي كقناعٍ يُغطِّي على صراعات الواقع
الإنساني، فإذ لم يَجدْ من تحقَّقتْ له الهيمنة في التاريخ ما
يؤسِّس به لشرعية سُلطته إلا عند الله، فإن مَن جرى إقصاؤه
خارج التاريخ لم يَجدْ — بدوره — ما يدين به هذا الإقصاء إلا
عند الله أيضًا، وهكذا جرت التغطية بالله على الفاعِلِين
التاريخِيِّين الذين لا يمكن فَهْم ما جرى في التاريخ من
عمليات الهيمنة والإقصاء بمعزلٍ عن صراعاتهم الواقعية
المتعينة، فحضور الله في الإمامة (كصاحب نص أو خالِق فِعْل)
لا ينفصل عن غياب الفاعِلِين الإنسانِيِّين؛ يأسًا من
فاعليتهم عند الشيعة، وتغييبًا لتلك الفاعلية واستبدادًا
بالأمر من دون الناس عند الأشاعرة، ولعل ذلك يرتبط بأن
كلا الفريقين المتخاصِمَين لم يتصوَّر مصدرًا تَستَمِد منه
الإمامة (أو السُّلطة على العموم) شرعيتها، إلا النص من
الله في مواجهة شوكة البشر من جهة، أو شوكة البشر
منظورًا إليها، هي نفسها، كفعلٍ منسوب لله في الحقيقة،
وللبشر في المجاز من جهةٍ أخرى، وفي الحالين من دون أن
تكون إرادة الناس هي أصل هذه الشرعية ومصدرها، ولعل ذلك
يتبدَّى عن الأزمة المستحكمة للشرعية في إطار الدولة
الراهنة، سواء كانت دولة الشيعة الثورية، أو دولة السُّنة
(تقليدية أو حتى حداثية)، إذ تبقى شرعية السُّلطة في كل
هذه الدول من أصلٍ فوق إنساني، رغم كل المراوغات التي
تزخر بها النصوص والزخارف التي تلمع على سطح الواقع.
وفي كلمةٍ أخيرة، فإنه يبقى أن كلتا الآليتين اللتين
كشَفَت القراءة عن اشتغالهما في قلب الأشعرية، قد تجاوبتا
تمامًا، رغم تبايُن أصولهما بين النفسي والمعرفي، في
التأكيد على أن ما يقوم وراء تأسيس الأشعرية، ليس شيئًا
إلا الشرط الإنساني الخالص، الذي يتنوع شكل حضوره
واشتغاله بين النفسي والمعرفي والسياسي، ومن المفارَقات
أن ما مارسه الأشعري من التعالي بأصول اعتقاده إلى ما
وراء الشرط الإنساني، لم يفعل إلا أن أضاف المزيد من
التأكيد على الفاعلية شِبْه المُطلَقة لهذا الشرط، وأعْنِي من
حيث لم تستهدف الأشعرية من هذا التعالي إلا تأييد
حضورها وتثبيت هيمنتها على نحوٍ مُطلَق، وذلك عبْر الارتفاع
بنفسها — بواسطة هذا التعالي — إلى مقام المقدَّس الذي
يَستعصي على أي نقدٍ أو مُساءَلة، وغنيٌّ عن البيان أنه لا
يمكن فَهْم هذا السعي إلى تثبيت الهيمنة وتأبيد الحضور،
إلا ضمن حدود الشرط الإنساني، وليس أبدًا خارجه.