عَيْنُ الدُّمُوعِ
١
تِلْمِيذِيَ الْعَزِيزَ. لَعَلَّكَ تَقُولُ فِي نَفْسِكَ: كَيْفَ تَتَأَلَّفُ عَيْنُ الْمَاءِ مِنَ الدُّمُوعِ؟
هَذَا كَلَامٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ. فَلَا يُمْكِنُ أَبَدًا أَنْ تَتَجَمَّعَ الدُّمُوعُ، وَيَتَأَلَّفُ مِنْهَا عَيْنُ مَاءٍ.
وَأَنْتَ أَيُّهَا الصَّغِيرُ الْعَزِيزُ صَادِقٌ فِيمَا تَقُولُ. كَمَا أَنَّكَ عَلَى حَقٍّ فِي اعْتِقَادِكَ أَنَّ عَيْنَ الْمَاءِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَأَلَّفَ مِنَ الدُّمُوعِ. وَلَكِنَّ بَعْضَ الْقُدَمَاءِ — مُنْذُ آلَافِ السِّنِينَ — كَانُوا يَظُنُّونَ ذَلِكَ.
وَلَعَلَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَعْرِفَ شَيْئًا عَنْ هَذِهِ الْعَيْنِ: مَا حِكَايَتُهَا؟ وَأَيْنَ تَقَعُ؟ فَاسْمَعْ — يَا بُنَيَّ — الْجَوَابَ: عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ الْمُتَوَسِّطِ، وَفِي سَفْحِ جَبَلٍ مِنْ جِبَالِ الْبِلَادِ الَّتِي تَقَعُ عَلَى ذَلِكَ الْبَحْرِ الْعَظِيمِ، كَانَتْ تَنْبُعُ «عَيْنُ الدُّمُوعِ …» لِمَاذَا سُمِّيَتْ هَذِهِ الْعَيْنُ هَذَا الِاسْمَ؟
•••
سَبَبُ هَذِه التَّسْمِيَةِ بَطَلٌ فِي مِثْلِ سِنِّكَ، كَانَ صَبِيًّا لَمْ يَتَجَاوَزِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمْرِهِ، نَشَأَ شُجَاعًا يُحِبُّ الْمُغَامَرَةَ.
وَقَدْ تَعَوَّدَ مُنْذُ صِغَرِهِ رُكُوبَ الْخَيْلِ؛ فَكَانَ أَحْسَنَ الْأَوْقَاتِ عِنْدَهُ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ الَّتِي يَقْضِيهَا عَلَى ظَهْرِ حِصَانِهِ، يَجْرِي بِهِ هُنَا وَهُنَاكَ.
وَكَثِيرًا مَا كَانَتْ تَقَعُ حُرُوبٌ بَيْنَ بِلَادِهِ وَبَيْنَ الْأَعْدَاءِ، فَكَانَ يَتَمَنَّى أَنْ يَدْخُلَ الْحَرْبَ مَعَ قَوْمِهِ، فَيُدَافِعَ عَنْ وَطَنِهِ، وَيَشْتَرِكَ فِي هَذَا الْعَمَلِ الشَّرِيفِ. نَعَمْ! كَانَ يَتَمَنَّى ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ كَثِيرًا مَا يَسْمَعُ مِنْ رَئِيسِ قَوْمِهِ: «يَا بُنَيَّ: إِنَّكَ لَا تَزَالُ صَغِيرًا. وَغَدًا سَتَكْبَرُ وَتَكُونُ قَادِرًا عَلَى الاشْتِرَاكِ فِي الْحُرُوبِ، كَمَا تَشَاءُ.»
كَانَ الصَّبِيُّ يَوَدُّ أَنْ تَمُرَّ الْأَيَّامُ سَرِيعَةً وَيَكْبَرَ، وَتَتَحَقَّقَ أُمْنِيَّتُهُ فِي ضَرْبِ الْأَعْدَاءِ، وَصَدِّهِمْ عَنِ الْوَطَنِ الْعَزِيزِ. وَكَانَ الصَّبِيُّ يُفَكِّرُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ يَقَعُ فِيهَا الْقِتَالُ: «أَلَيْسَ لِي مِنْ عَمَلٍ أَقُومُ بِهِ، وَأُسَاعِدُ بِهِ جَيْشَ الْبِلَادِ؟
إِنَّ هُنَاكَ بَعْضَ الْأَعْمَالِ الْخَفِيفَةِ الَّتِي يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُومَ بِهَا أَمْثَالِي مِنْ الْوِلْدَانِ؛ فَأَنَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقِفَ فِي الصُّفُوفِ الْخَلْفِيَّةِ: أُنَاوِلُ قَوْمِيَ النَّبْلَ، كَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَخْدُمَ الْجَرْحَى: «أَسْقِيهُمُ الْمَاءَ وَأُضَمِّدُ مَا بِهِمْ مِنْ جُرُوحٍ!»
وَاسْتَطَاعَ أَنْ يُكَوِّنَ فِرْقَةً مِنَ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ فِي مِثْلِ سِنِّهِ، سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ: «فِرْقَةَ الْأُسُودِ» …
وَفِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الصَّيْفِ الشَّدِيدَةِ الْحَرِّ. دَقَّتِ الطُّبُولُ مُعْلِنَةً هُجُومَ الْأَعْدَاءِ عَلَى أَرْضِ الْوَطَنِ. أَسَرْعَ إِلَى السِّلَاحِ كُلُّ قَادِرٍ عَلَى الرَّمْيِ بِالسِّهَامِ، وَالطَّعْنِ بِالرِّمَاحِ، وَالضَّرْبِ بِالسُّيُوفُ. وَأَسْرَعَ كُلُّ مَنْ يَسْتَطِيعُ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي الانْضِمَامِ إِلَى الْجَيْشِ، لِخِدْمَةِ الْمُحَارِبِينَ. وَأَسْرَعَ الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ يَأْخُذُ مَكَانَهُ فِي الصُّفُوفِ الْخَلْفِيَّةِ: يُطْعِمُ الْخُيُولَ، وَيَخْدُمُ مَنْ يُجْرَحُ مِنْ قَوْمِهِ، وَيَسْقِي الْمَاءَ …
اشْتَدَّتِ الْمَعْرَكَةُ، وَسَقَطَ كَثِيرٌ مِنَ الْجَرْحَى، وَثَقُلَتْ مُهِمَّةُ الصَّبِيِّ الشُّجَاعِ، كَمَا ثَقُلَتْ مُهِمَّةُ فِرْقَتِهِ مِنَ الصِّبْيَانِ الشُّجْعَانِ، وَمُهِمَّةُ النِّسَاءِ الْقَادِرَاتِ عَلَى خِدْمَةِ الْجَرْحَى وَتَقْدِيمِ الْمُسَاعَدَةِ الْمُمْكِنَةِ لِلْمُحَارِبِينَ …
فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَطِشَ الصَّبِيُّ عَطَشًا شَدِيدًا، وَلَكِنْ نَسِيَ أَنَّهُ عَطْشَانُ، فَقَدْ كَانَ كُلُّ هَمِّهِ أَنْ يَسْقِيَ الْجَرْحَى وَيُسْعِفَ الْمُصَابِينَ، وَيَرَى أَنَّهُمْ أَحَقُّ مِنْهُ بِالْمَاءِ، الَّذِي كَانَ يَنْقُلُهُ إِلَيْهِمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ … وَرَاحَ يُؤَدِّي هَذَا الْوَاجِبَ الْعَظِيمَ وَهُوَ مَسْرُورٌ …
كَانَتْ أُمُّهُ تَرَاهُ وَهُوَ مُجِدٌّ فِي خِدْمَةِ الْجَرْحَى، فَتُشَجِّعُهُ، وَتَفْرَحُ بِهِ، وَتُسَرُّ مِنْهُ … ثُمَّ أَشْفَقَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَطَشِ الَّذِي أَصَابَهُ بَعْدَ الْمَجْهُودِ الْكَبِيرِ الَّذِي بَذَلَهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ الشَّدِيدِ … وَوَدَّتْ أَنْ تَرْوِيَهُ وَلَوْ بِدُمُوعِ عَيْنَيْهَا، فَقَدْ كَانَتْ لَا تَمْلِكُ غَيْرَهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ الْعَصِيبِ …
كَانَ سُقُوطُ الصَّبِيِّ فِي مَيْدَانِ الشَّرَفِ مَثَلًا أَعْلَى لِلتَّضْحِيَةِ. وَكَانَتْ أُمُّهُ تَشْعُرُ بِالْفَخْرِ وَالْعِزَّةِ، وَكَانَتْ تَذْكُرُ آخِرَ مَا قَامَ بِهِ الصَّبِيُّ مِنْ أَعْمَالٍ. كَانَ يَسْقِي الْجَرْحَى، وَيُفَضِّلُهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ فِي عَطَشٍ شَدِيدٍ، وَكَانَ يَجِدُ مَشَقَّةً شَدِيدَةً فِي الْقِيَامِ بِهَذِهِ الْمُهِمَّةِ؛ وَلَكِنَّهُ كَانَ يَنْسَى تَعَبَهُ وَآلَامَهُ مَا دَامَ يُخَفِّفُ آلَامَ الْمُجَاهِدِينَ.
وَتَذَكَّرَتْ أُمُّهُ أَنَّهَا تَمَنَّتْ لَوْ تَرْوِي وَلَدَهَا بِدُمُوعِ عَيْنَيْهَا، وَأَرَادَتْ أَنْ تُخَلِّدَ عَمَلَهُ الْعَظِيمَ بِشَيْءٍ يَذْكُرُهُ النَّاسُ فِي الْأَجْيَالِ الْقَادِمَةِ. فَمَاذَا تَفْعَلُ؟ إِنَّهَا لَا تَمْلِكُ إِلَّا دُمُوعَهَا. غَلَبَهَا الْبُكَاءُ، وَانْحَدَرَتْ دُمُوعُهَا مِنْ عَيْنَيْهَا، وَتَجَمَّعَتْ هَذِهِ الدُّمُوعُ حَتَّى تَأَلَّفَتْ عَيْنٌ مِنَ الْمَاءِ، وَكَانَتْ عَيْنًا عَذْبَةً حُلْوَةً. وَأَحَسَّتِ الْأُمُّ حِينَئِذٍ بِالسَّعَادَةِ، بَعْدَ شُعُورِهَا بِالْفَخْرِ وَالاعْتِزَازِ.
وَعَرَفَ النَّاسُ فِي الْبِلَادِ الْمُجَاوِرَةِ قِصَّةَ هَذِهِ الْعَيْنِ، فَأَقْبَلُوا مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَاكَ، لِيَرَوْا هَذَا الْأَمْرَ الْعَجِيبَ. وَسَمَّوْا هَذِهِ الْعَيْنَ مُنْذُ ذَلِكَ الْحِينِ: «عَيْنَ الدُّمُوعِ».
هَذِهِ أُسْطُورَةُ «عَيْنِ الدُّمُوعِ»، أَيُّهَا التِّلْمِيذُ الْعَزِيزُ. فَمَاذَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ؟
٢
حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ عُرِفَتْ هَذِهِ الْعَيْنُ … كَانَ النَّاسُ كَثِيرًا مَا يَزُورُونَهَا، وَيَتَفَرَّجُونَ عَلَيْهَا، وَيَشْرَبُونَ مِنْ مِيَاهِهَا، وَيَمْلَئُونَ الْأَوَانِيَ الْفَخَّارِيَّةَ مِنْهَا.
وَحَدَثَ أَنْ مَرَّ بِهَذِهِ الْعَيْنِ فَارِسٌ مِنَ الْفُرْسَانِ الْأَبْطَالِ، وَلَمْ يَكُنْ يَدْرِي قِصَّتَهَا، أَوْ يَعْلَمُ شَيْئًا عَنْ أَمْرِهَا … وَرَأَى الْفَارِسُ بِجِوَارِ الْعَيْنِ فَلَّاحًا عَجُوزًا، أَقْبَلَ مِنْ مَزْرَعَةٍ قَرِيبَةٍ، لِيَمْلَأَ وِعَاءً مِنْ مَاءِ الْعَيْنِ، وَكَانَ إِلَى جَانِبِهِ صَبِيٌّ صَغِيرٌ.
قَالَ الْعَجُوزُ: «إِنَّ لِهَذِهِ الْعَيْنِ قِصَّةً غَرِيبَةً، أَيُّهَا الْفَارِسُ! يَعْرِفُهَا كُلُّ مَنْ فِي هَذَا الْبَلَدِ، وَالْبِلَادِ الْمُجَاوِرَةِ.»
قَالَ الْفَارِسُ: «مَعْذِرَةً إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ هَذِهِ الْقِصَّةَ، فَأَنَا غَرِيبٌ عَنْ هَذِهِ الْبِلَادِ، وَقَدْ وَصَلْتُ اللَّيْلَ بِالنَّهَارِ فِي السَّفَرِ، حَتَّى سَاقَنِيَ الْحَظُّ إِلَى هَذِهِ الْعَيْنِ.»
قَالَ الْعَجُوزُ: «لَا عَلَيْكَ.» وَأَخَذَ يَقُصُّ عَلَى الْفَارِسِ قِصَّةَ الْعَيْنِ.
فَدَهِشَ الْفَارِسُ مِمَّا سَمِعَ، وَقَالَ لِلْعَجُوزِ مُتَعَجِّبًا: «مَا كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ فِي مَائِهَا تِلْكَ الْعُذُوبَةَ النَّادِرَةَ! إِنَّهَا تَخْلِيدٌ عَظِيمٌ لِلْبَطَلِ الْفِدَائِيِّ الصَّغِيرِ، مِنْ أُمِّهِ الرَّحِيمَةِ!»
قَالَ الْعَجُوزُ: «نَعَمْ! وَمَا زِلْنَا نَذْكُرُ هَذَا الصَّبِيَّ وَتَضْحِيَتَهُ. كُلَّمَا رَأَيْنَا هَذِهِ الْعَيْنَ الْعَذْبَةَ الَّتِي جَعَلَتْ مِنْ صَحْرَائِنَا جَنَّةً خَضْرَاءَ.»
قَالَ الْفَارِسُ: «أَلَسْتَ مَعِي — يَا وَالِدِي — فِي أَنَّ الْعَمَلَ الْعَظِيمَ قَدْ يَجْعَلُ مِنَ الْأَرْضِ الْقَاحِلَةِ عُيُونًا عَذْبَةً، وَأَشْجَارًا ذَاتَ أَزْهَارٍ وَأَثْمَارٍ؟»
فَأَجَابَهُ الْعَجُوزُ: «أَنَا مَعَكَ يَا بُنَيَّ، وَلَعَلَّكَ لَا تَدْهَشُ حِينَ تَجِدُنِي أَزْرَعُ أَشْجَارَ النَّخِيلِ وَالزَّيْتُونِ. أَنَا لَا آمُلُ أَنْ آكُلَ مِنْ ثِمَارِ مَا أَزْرَعُ. وَلَكِنْ عَلَيْنَا — جَمِيعًا — أَنْ نَعْمَلَ، فَإِذَا لَمْ أَسْتَفِدْ أَنَا مِمَّا أَبْذُلُ مِنْ جُهْدٍ، فَإِنَّ الْأَجْيَالَ الْقَادِمَةَ لَا بُدَّ أَنْ تَسْتَفِيدَ … وَلَنْ يَضِيعَ عَمَلُ الْمُجِدِّينَ عَلَى كُلِّ حَالٍ.»
٣
قَالَ الْفَلَّاحُ لِلْفَارِسِ: «إِنَّ هَذَا اللِّجَامَ رَائِعٌ! أَيْنَ الْفَرَسُ الَّذِي يُوضَعُ فِي فَمِهِ هَذَا اللِّجَامُ؟ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فَرَسًا عَجِيبًا! فَهَلْ فَقَدْتَ هَذَا الْفَرَسَ، فَجِئْتَ إِلَى بِلَادِنَا تَبْحَثُ عَنْهُ؟»
أَجَابَ الْفَارِسُ: «كَلَّا، يَا سَيِّدِي لَمْ أَفْقِدْ فَرَسًا.»
— «إِذَنْ مَا الَّذِي جَاءَ بِكَ إِلَى هَذَا الْمَكَانِ؟»
— «جِئْتُ هُنَا لِأَبْحَثَ عَنِ الْجَوَادِ الْمُجَنَّحِ، عَنِ الْحِصَانِ الطَّائِرِ الَّذِي لَهُ أَجْنِحَةٌ كَأَجْنِحَةِ الطُّيُورِ! لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ يَقْضِي أَكْثَرَ وَقْتِهِ طَائِرًا فَوْقَ قِمَّةِ هَذَا الْجَبَلِ الْعَالِي.»
عَجِبَ الْفَلَّاحُ مِنْ كَلَامِ الْفَارِسِ، وَقَالَ لَهُ: «مَا رَأَيْتُ هَذَا الْجَوَادَ — يَا بُنَيَّ — مِنْ زَمَنٍ بَعِيدٍ! ثُمَّ إِنَّكَ، أَيُّهَا الْفَارِسُ، تَطْلُبُ شَيْئًا عَزِيزًا. إِنَّ الْحُصُولَ عَلَى هَذَا الْجَوَادِ يَحْتَاجُ إِلَى صَبْرٍ وَمُثَابَرَةٍ؛ فَهُوَ جَوَادٌ مُشَاكِسٌ عَنِيدٌ، لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا أَبْطَالُ الرِّجَالِ!»
قَالَ الْفَارِسُ: «لَقَدْ عَزَمْتُ عَزْمًا أَكِيدًا أَنْ أَبْذُلَ كُلَّ مَا أَسْتَطِيعُ مِنْ جُهْدٍ فِي سَبِيلِ الْحُصُولِ عَلَى هَذَا الْجَوَادِ، وَلَيْسَ يُخِيفُنِي مَا يَتَّصِفُ بِهِ مِنَ الْمُشَاكَسَةِ وَالْعِنَادِ، فَعِنْدِي مِنَ الصَّبْرِ وَالْعَزْمِ مَا أَقْوَى بِهِ عَلَى مُغَالَبَةِ الصِّعَابِ.»
٤
وَهُنَاكَ يَشْرَبُ مِنَ الْعَيْنِ حَتَّى يَرْتَوِيَ … ثُمَّ يَتَمَرَّغُ عَلَى الْحَشَائِشِ الْخُضْرِ الَّتِي حَوْلَهَا. وَلَمَّا كَثُرَ النَّاسُ فِي الْبُقْعَةِ الْمُجَاوِرَةِ لِلْعَيْنِ، لَمْ يَعُدِ الْحِصَانُ يَنْزِلُ عِنْدَهَا كَثِيرًا، فَأَصْبَحَ لَا يَزُورُ تِلْكَ النَّوَاحِيَ إِلَّا نَادِرًا، وَأَصْبَحَ الشَّبَابُ وَالْأَطْفَالُ لَا يَرَوْنَهُ إِلَّا مُصَادَفَةً وَاتِّفَاقًا.
٥
٦
كَانَ الشَّيْخُ يَتَحَدَّثُ مَعَ الْفَارِسِ، وَالصَّبِيُّ بِجِوَارِهِمَا، يَسْتَمِعُ إِلَى حِوَارِهِمَا.
فَالْتَفَتَ الصَّبِيُّ إِلَى الْفَارِسِ، قَائِلًا: «لَقَدْ رَأَيْتُ الْجَوَادَ الْمُجَنَّحَ. رَأَيْتُهُ عِدَّةَ مَرَّاتٍ. وَأَوَّلُ مَرَّةٍ رَأَيْتُهُ فِيهَا، كَانَ شَيْئًا يَلُوحُ فِي الْجَوِّ، مُرْتَفِعًا فِي السَّمَاءِ، أَشْبَهَ بِطَائِرٍ كَبِيرٍ أَبْيَضَ، لَمْ يَلْبَثْ أَنْ غَابَ عَنْ نَاظِرَيَّ. وَحِينَئِذٍ قُلْتُ لِنَفْسِي: لَعَلَّهُ الْأَشْهَبُ الْمُجَنَّحُ الَّذِي طَالَمَا سَمِعْنَا بِهِ …»
ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّبِيُّ إِلَى الْفَارِسِ، قَائِلًا: «هَلْ أُخْبِرُكَ بِآخِرِ مَرَّةٍ رَأَيْتُ فِيهَا الْجَوَادَ الْمُجَنَّحَ؟ كَانَ ذَلِكَ أَمْسِ الْقَرِيبَ.»
عَجِبَ الْفَارِسُ مِمَّا سَمِعَ، وَقَالَ لِلصَّبِيِّ: «مَرْحَى لَكَ! مَا أَحْسَنَ قَوْلَكَ، أَيُّهَا الصَّبِيُّ الذَّكِيُّ! حَدِّثْنِي — أَيُّهَا الْعَزِيزُ — كَيْفَ لَقِيتَهُ؟»
قَالَ الصَّبِيُّ بَاسِمًا: «كَثِيرًا مَا أَجِيءُ إِلَى هَذِهِ الْعَيْنِ. وَلَا شَيْءَ أَحَبَّ إِلَى نَفْسِي مِنْ صُنْعِ سُفُنٍ وَمَراكِبَ مِنَ الْوَرَقِ. إِنِّي أَصْنَعُ الْكَثِيرَ مِنْهَا فِي أَوْقَاتِ فَرَاغِي، ثُمَّ أَسِيرُ إِلَى «عَيْنِ الدُّمُوعِ»، وَأَضَعُ فِي مَائِهَا مَا صَنَعْتُ مِنَ الْمَرَاكِبِ، وَأُمَتِّعُ نَفْسِي بِرُؤْيَتِهَا وَهِيَ تَعُومُ عَلَى سَطْحِ الْمَاءِ. وَكَثِيرًا مَا رَأَيْتُ — فِي أَثْنَاءِ اللَّعِبِ — بَرِيقَ الْجَوَادِ الْمُجَنَّحِ الَّذِي تَسْأَلُ عَنْهُ. لَقَدْ كُنْتُ — فِي كُلِّ مَرَّةٍ رَأَيْتُهُ فِيهَا — أَتَمَنَّى أَنْ يَهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ، وَأَرْكَبُ عَلَى ظَهْرِهِ ثُمَّ يَطِيرُ بِي إِلَى الْقَمَرِ … فَلَيْتَ الْأَيَّامَ تُحَقِّقُ لِي هَذِهِ الْأُمْنِيَّةَ … لَيْتَهَا تَتَحَقَّقُ!
وَشَيْءٌ آخَرُ أُحِبُّ أَنْ أُخْبِرَكَ بِهِ، أَيُّهَا الْفَارِسُ: لَقَدْ لَحَظْتُ أَنَّ هَذَا الْجَوَادَ يُسْرِعُ فِي طَيَرَانِهِ، إِذَا سَمِعَ مِنِّي أَدْنَى صَوْتٍ أَوْ رَأَى مِنِّي أَيْسَرَ حَرَكَةٍ».
لَقَدْ أَصْبَحَتْ أُمْنِيَّتِي وَأُمْنِيَّتُكَ مُتَّحِدَتَيْنِ، فَأَنَا أَرْجُو أَنْ أَظْفَرَ بِهَذَا الْجَوَادِ، كَمَا تَرْجُو أَنْتَ أَنْ تَظْفَرَ بِهِ، وَسَوْفَ نَتَعَاوَنُ مَعًا عَلَى تَحْقِيقِ هَذِهِ الْأُمْنِيَّةِ … وَثِقْ أَنَّ فِي التَّعَاوُنِ تَحْقِيقُ الْآمَالِ. أُكَرِّرُ لَكَ شُكْرِي، وَإِلَى اللِّقَاءِ …»
٧
مُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَخَذَ الْفَارِسُ يَذْهَبُ إِلَى «عَيْنِ الدُّمُوعِ» فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَيَتَرَدَّدُ عَلَيْهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى.
وَكَانَ الْفَارِسُ يَقْضِي أَكْثَرَ يَوْمِهِ رَافِعًا عَيْنَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ تَارَةً، وَنَاظِرًا إِلَى الْمَاءِ فِي «عَيْنِ الدُّمُوعِ» تَارَةً أُخْرَى، رَجَاءَ أَنْ يَرَى الْجَوَادَ طَائِرًا فِي الْجَوِّ، أَوْ يَرَى صُورَتَهُ فِي الْمَاءِ.
ظَلَّ الْفَارِسُ مُوَاظِبًا عَلَى ذَلِكَ، لَا يَفْتُرُ وَلَا يَمَلُّ؛ حَتَّى تَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْهُ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: عَجَبًا لِهَذَا الْفَارِسِ! إِنَّه يَجْرِي وَرَاءَ الْمُحَالِ! كَيْفَ يَظُنُّ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الظَّفَرِ بِالْجَوَادِ الطَّيَّارِ؟ إَنَّ هَذَا لَنْ يَتَحَقَّقَ، حَتَّى فِي الْأَحْلَامِ.
كَانَ الْفَارِسُ الْبَطَلُ يَسْمَعُ كُلَّ ذَلِكَ، وَيَسْمَعُ أَكْثَرَ مِنْهُ، فَلَا يَزِيدُهُ هَذَا إِلَّا إِيمَانًا بِأَنَّ اللهَ سَوْفَ يُحَقِّقُ رَجَاءَهُ، وَيُنِيلُهُ مَا يَبْتَغِي.