فَرْحَةُ الشَّعْبِ
١
فَرِحَ الشَّعْبُ بِنَاصِرِهِ، وَاحْتَفَلُوا بِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَتَرَدَّدَ اسْمُهُ عَلَى كُلِّ لِسَانٍ بِالشُّكْرِ، وَالِاعْتِرَافِ لَهُ بِالْجَمِيلِ … وَأَقْبَلَتْ عَلَى نَاصِرِ الشَّعْبِ وُفُودُ الْبِلَادِ الْمُجَاوِرَةِ، إِذْ كَانَ سَبَبًا فِي إِنْقَاذِهَا — كَذَلِكَ — مِنْ أَخْطَارِ «التِّنِّينِ».
لَمْ يَنْسَ «فَارِسُ الْفَوَارِسِ» الْجَوَادَ الطَّيَّارَ … بَلْ عَرَفَ لَهُ فَضْلَهُ وَصَنِيعَهُ … وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَنْحَنِي عَلَيْهِ، وَيُقَبِّلُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ.
وَذَاتَ يَوْمٍ، هَمَسَ الْفَارِسُ فِي أُذُنِ جَوَادِهِ قَائِلًا: «بَقِيَ عَلَيْنَا أَنْ نُؤَدِّيَ وَاجِبَ الشُّكْرِ لِمَنْ عَرَّفَنِي بِكَ، وَهَدَانِي إِلَيْكَ. إِنَّهُ — أَيُّهَا الرَّفِيقُ — عَزِيزُنَا الصَّغِيرُ الَّذِي كَانَ صَاحِبَ الْفَضْلِ الْأَوَّلِ فِي لُقْيَاكَ، وَهُوَ الَّذِي أَتَاحَ لِيَ الْفُرْصَةَ لِكَيْ أَرَاكَ.»
٢
فَرِحَ الصَّبِيُّ فَرَحًا شَدِيدًا، وَعَرَفَ أَنَّ عَاقِبَةَ الصَّبْرِ وَالْكِفَاحِ، نَصْرٌ وَنَجَاحٌ. ثُمَّ هَنَّأَ الْفَارِسَ بِمَا أَصَابَ مِنْ مَجْدٍ.
فَأَجَابَهُ الْفَارِسُ الشُّجَاعُ: «لَنْ أَنْسَى مَا غَمَرْتَنِي بِهِ مِنْ عَوَاطِفَ صَادِقَةٍ، وَشُعُورٍ كَرِيمٍ.. لَقَدْ تَمَّ لِيَ النَّصْرُ عَلَى عَدُوِّي بِتَوْفِيقِ اللهِ، وَشَجَاعَةِ هَذَا الْجَوَادِ، وَصِدْقِ فِرَاسَتِكَ، أَيُّهَا الْعَزِيزُ. وَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَمْرًا: هَيَّأَ لَهُ الْأَسْبَابَ، وَذَلَّلَ لَهُ الصِّعَابَ!»
٣
مَاذَا يَكُونُ أَمْرُ الْجَوَادِ الْمُجَنَّحِ؟
أَيَبْقَى فِي «وَادِي الدُّمُوعِ»، أَمْ يَعُودُ مَعَ «فَارِسِ الْفَوَارِسِ» إِلَى وَطَنِهِ؟
لَمْ يَشَأِ الْفَارِسُ الْبَطَلُ أَنْ يَحْبِسَ حُرِّيَّةَ رَفِيقِهِ، فَيُجْبِرَهُ عَلَى الرُّجُوعِ مَعَهُ.
الْتَفَتَ إِلَى الْجَوَادِ، وَقَالَ لَهُ: «وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّكَ تُحِبُّ الْمَعِيشَةَ هُنَا فِي «وَادِي الدُّمُوعِ». فَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُكَدِّرَ عَلَيْكَ حَيَاتَكَ، أَوْ أُنَغِّصَ عِيشَتَكَ، فَأُجْبِرَكَ عَلَى الْعَوْدَةِ مَعِي إِلَى وَطَنِي. نَعَمْ: يُؤْلِمُنِي فِرَاقُكَ، لِأَنَّهُ يَحْرِمُنِي جَمِيلَ مَوَدَّتِكَ، وَكَرِيمَ عِشْرَتِكَ. وَلَكِنِّي أَرَاكَ فَرِحًا بِرُجُوعِكَ إِلَى هَذَا الْوَادِي؛ لِتَعُودَ فِيهِ إِلَى حَيَاتِكَ الطَّبِيعِيَّةِ. بَعْدَ أَنْ قَضَيْتَ هَذِهِ الْمُدَّةَ مَعِي فِي كِفَاحٍ وَنِضَالٍ … وَبَعْدُ؛ فَسَأَرْفَعُ اللِّجَامَ الْمَسْحُورَ مِنْ فَمِكَ؛ لِتَنْطَلِقَ كَمَا تَشَاءُ، مَتَى تَشَاءُ …
وَدَاعًا، يَا خَيْرَ الْأَصْدِقَاءِ، وَعِشْتَ سَعِيدًا فِي وَادِيكَ الْفَسِيحِ!»
•••
وَحَاوَلَ الْفَارِسُ أَنْ يُفَارِقَ الْفَرَسَ … اخْتَنَقَ صَوْتُهُ بِالْبُكَاءِ.
•••
أَقْبَلَ عَلَيْهِ الْفَارِسُ، وَرَاحَ يَمْسَحُ عَلَى ظَهْرِهِ، وَيُحَيِّيهِ، وَقَالَ لَهُ: «مَا أَكْرَمَ إِخَاءَكَ، وَأَنْدَرَ وَفَاءَكَ، وَأَعْظَمَ كِفَاحَكَ وَذَكَاءَكَ. لَقَدْ حَقَّقْتَ لِي مَا تَمَنَّيْتُ، ثُمَّ تَفَضَّلْتَ فَاخْتَرْتَ الْبَقَاءَ مَعِي؛ لِأَسْعَدَ بِقُرْبِكَ، وَأَنْعَمَ بِرُفْقَتِكَ. فَشُكرًا لَكَ: أَيُّهَا الرَّفِيقُ الْكَرِيمُ.»
وَدَّعَ الْفَارِسُ الْغُلَامَ. بَعْدَ أَنِ اتَّفَقَ مَعَهُ عَلَى أَنْ يَزُورَهُ بَيْنَ الْحِينِ وَالْحِينِ.
أَقْبَلَ الْغُلَامُ عَلَى الْفَارِسِ وَالْفَرَسِ يُوَدِّعُهُمَا، وَيَدْعُو اللهَ لَهُمَا، وَيَتَمَنَّى لَهُمَا سَفَرًا سَعِيدًا، وَعَوْدًا حَمِيدًا.
قَالَ الْفَارِسُ لِلْجَوَادِ: «لَمْ يَبْقَ عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نُسْرِعَ إِلَى الْوَطَنِ الْحَبِيبِ، فَهَيَّا بِنَا، هَيَّا …» طَارَ الْجَوَادُ بِرَفِيقِهِ — فِي سُرْعَةِ الرِّيحِ — حَتَّى بَلَغَ أَرْضَ الْوَطَنِ، فِي زَمَنٍ قَصِيرٍ.
•••
وَتَدَافَعَ النَّاسُ نَحْوَ الْفَارِسِ مُسْتَقْبِلِينَ مُهَنِّئِينَ وَتَغَنَّوْا بِبُطُولَتِهِ فَرِحِينَ مُسْتَبْشِرِينَ.
خَاتِمَةُ الْقِصَّةِ
لَمْ يَنْسَ الْفَارِسُ وَفَاءَ الْجَوادِ وَالصَّبِيِّ الصَّغِيرِ، وَظَلَّ يَذْكرُ لَهُمَا مَا لَقِيَ مِنْهُمَا فِي الشِّدَّةِ وَالضِّيقِ: مِنْ عَوْنٍ صَادِقٍ، كَانَ سَبَبًا فِيمَا ظَفِرَ بِهِ مِنْ نَجَاحٍ وَتَوْفِيقٍ.
•••
وَذَاعَتْ شُهْرَةُ الْبَطَلِ فِي الْآفَاقِ، وَأَصْبَحَتْ شَجَاعَتُهُ مَضْرِبَ الْأَمْثَالِ، وَصَارَ جِهَادُهُ مَثَلًا أَعْلَى بَيْنَ الْأَبْطَالِ الْخَالِدِينَ.
مَرَّتِ السِّنُونَ، وَتَعَاقَبَتِ الْأَجْيَالُ وَالْقُرُونُ، وَلَا يَزَالُ التَّارِيخُ — إِلَى الْيَوْمِ — يَذْكُرُ ذَلِكَ الْفِدَائِيَّ الْعَظِيمَ.