الطيران مباشرةً إلى هناك!
كانت عينا «أحمد» تُراقب المارة جميعًا، وكانت تتجمع في رأسه تفاصيل هؤلاء الثلاثة الذين تحدَّث عنهم تقرير رقم «صفر» «كوبناخ»، «ماريوتي»، و«شولونوف» أعضاء عصابة «النجوم العشرة». في نفس الوقت كان بقية الشياطين يشربون الشاي، وأعينهم تراقب المارة … فجأة … ظهرت الدهشة على وجه «إلهام» وقالت بصوت هامس: انظروا، إنَّ هذا الرجل يُشبه «كوبناخ».
التفت الشياطين إلى نفس الاتجاه الذي كانت تنظر إليه «إلهام»، إلَّا «أحمد» الذي كان مُستغرقًا تمامًا في خواطره، فمدَّ «قيس» يده ثم هزَّ «أحمد» في هدوءٍ. نظر إليه «أحمد» فوجد الشياطين جميعًا ينظرون في اتجاهٍ واحدٍ، ونظر في نفس الاتجاه، ثم علت الدهشة وجهه، وهمس: هل يمكن أن يكون هو؟
كان الرجل يكاد يختفي بين المارة، وهو يعرج قليلًا، وكانت نفس الملامح التي ذكرها التقرير تنطبق على هذا الرجل. قال «أحمد» هامسًا: يجب أن تتبعه «إلهام».
قامت «إلهام» بسرعةٍ واتجهت إلى الرجل، حتى إذا اقتربت منه أبطأت في سيرها … ثم تبعتْه. دخل الرجل في شارع جانبي ضيق ثم اختفى، فاختفت «إلهام» وراءه. وقف «أحمد» وأخذ طريقه خلفهما بسرعة حتى اختفى هو الآخر. قال «رشيد»: لو كان هو «كوبناخ» فإننا نكون سعداء الحظ تمامًا، إنه يُمكن أن يوفِّر علينا كل الجهد.
صمت الشياطين قليلًا، حتى قال «قيس»: لكن ما الذي يجعل «كوبناخ» يأتي إلى هُنا، إنني أستبعد ذلك تمامًا …
لم يردَّ «فهد» و«رشيد»، وظلوا جميعًا في انتظار عودة «أحمد» أو «إلهام»، وطال الوقت، ولم يعد أحد منهما. بدأ الشياطين يشعرون بالقلق، وقف «رشيد» وقال: سوف أتبعهما.
فهد: قد لا تجدهما. إنَّ الصواب أن ننتظرهما … فقد يحدث شيء …
ظلت أعين الشياطين معلَّقة بالشارع الضيق، وكان الناس يتناقصون ويبدو ميدان الحسين خاليًا إلا من القليل … نظر «فهد» في ساعته وقال: إنَّ الوقت يمر … وموعد الطائرة يقترب.
نظر «قيس» في ساعته هو الآخر، ولم يُعلِّق بشيءٍ، حدثت جلبة في الميدان وتجمَّع عدد من الناس، واقترب من الجميع أحد رجال الشرطة، لفتت الحركة نظر الشياطين، وقال «رشيد»: ترى … ماذا حدث؟
فهد: لا داعي لأن نفعل شيئًا الآن.
رشيد: قد يكون «أحمد» أو «إلهام» بينهم. صمت الجميع قليلًا. لحظة ثم وقف «قيس» واتجه إلى التجمع، وظل «رشيد» و«فهد» يراقبانه حتى اختفى بين الناس، ثم شعرَ الاثنان بالقلق، هل يعني هذا أن يتفرَّقوا والوقت يمر بسرعة؟ لحظات ثم ظهرت «إلهام» وظهر بجوارها «أحمد»، وكان الاثنان يبتسمان، فابتسم «رشيد» وقال: لا يبدو أن هناك شيئًا بالمرة.
فهد: لماذا قلت ذلك؟
رشيد: لأنهما يسيران متمهلين، لو كان «كوبناخ» لتغيَّرت حركتهما.
اقترب «أحمد» و«إلهام»، وظهرت الدهشة على وجه «أحمد» وسألهما: أين «قيس»؟
فهد: أين «كوبناخ»؟
أحمد: ليس هو، إنه رجلٌ مصريٌّ عاديٌّ، ولكن استغراقنا في المغامرة جعلنا نتخيَّل أخيرًا أنه «كوبناخ».
أخيرًا، ظهر «قيس» في خطواتٍ سريعةٍ، وعندما اقترب منهما قال: لا شيء، إنه خلافٌ عاديٌّ.
نظر «أحمد» في ساعته ثم قال: ينبغي أن نَنصرف حالًا. إن موعد الطائرة يقترب. ووقف الشياطين واتجهوا إلى السيارة فأخذوا أماكنهم فيها، فجلس «رشيد» أمام عجلة القيادة، وعندما أغلقوا أبوابها انطلق في هدوء.
كانت الشوارع تبدو هادئة تمامًا؛ فعدد المارة قليلٌ، وعدد السيارات قليل أيضًا، اتخذ «رشيد» طريقه إلى مطار «القاهرة» الدولي في هدوء الليل وصمتِه، ولم يستغرق الطريق وقتًا طويلًا، حتى وصلوا إلى هناك.
بسرعةٍ أنهوا إجراءاتهم. وأصبحوا في انتظار قيام الطائرات. لم تمض لحظات حتى جاء صوت مذيعة المطار تدعو الركاب المسافرين إلى «روما»، للتوجه إلى الطائرة، وعندما استقرُّوا في أماكنهم كانت الطائرة قد استعدت للقيام. لحظات ثم بدأ تحرك الطائرة، ولم يكن يُسمع سوى صوت اهتزاز الطائرة ثم استوائها في الجو.
كان الركاب قد استسلموا للنوم، بينما الموسيقى الهادئة تغمر فراغ الطائرة، وبعد ساعتين كانوا قد وصلوا إلى مطار «روما». كان الليل يخيم على كل شيء، غير أن حركة الطائرة النشطة جعلته مثل بقعة الضوء … وعندما استقروا في صالة المطار، قال «أحمد»: ينبغي أن نعرف موعد قيام الطائرات إلى «باريس».
أسرع «قيس» بالتحرُّك إلى حيث مكتب «أيرفرانس» ولم يَغِب «قيس» كثيرًا وعاد مسرعًا ووجهه يتهلَّل فرحًا وقال: يُمكن أن نُكمل رحلتنا إلى «باريس» فورًا. هناك طائرةٌ مسافرة بعد ساعة ومن حُسن حظِّنا أنني وجدت أماكن لنا …
شعر الشياطين بالنشاط، وتحركوا إلى حيث تقف طائرة «أيرفرانس» وكان «قيس» قد قام بكل الإجراءات المطلوبة، وعندما استقروا في الطائرة، قالت «إلهام»: هل يُمكِن أن نجد طائرة في انتظارنا في مطار «أورلي» لتأخذنا إلى «لندن» فورًا؟
ابتسم الشياطين وقال «رشيد»: مَن يَدري؟! قد نكون محظوظين. وكان استمرارهم في الطيران، باعثًا للراحة لهم؛ فإن أحدًا منهم لم يستسلم للنوم. قال «فهد»: إن الرحلة الحقيقية ستكون داخل «روسيا» للوصول من «موسكو» إلى «تورا» …
رشيد: إنها ليست رحلةً للنزهة، إنها رحلةٌ للعمل … ابتسم «فهد» وقال: إنني أفهم ذلك، غير أنني لم أجرِّب قبل ذلك كيف تكون الحياة وسط جليد «سيبريا».
قيس: إنني سعيد أن أذهب إلى أماكن لم أرَها من قبل. إن الصراع فوق الجليد، سوف يكون له وقع مختلف. وظل الشياطين في حوار مُسلٍّ قطع الوقت سريعًا ولم يدروا أن الطائرة لحظتها كانت تُحلق فوق مطار «أورلي». وكان ضوء النهار قد بدأ ينتشر عندما هبطت الطائرة في مطار «أورلي» الضخم بباريس ونظرت «إلهام» إلى «أحمد» مبتسمةً وقالت: هل نستقلُّ طائرةً أخرى؟
عندما أصبحوا في صالة المطار أخذ «أحمد» طريقه إلى مكتب «شركة الطيران البريطانية»، ووقف الشياطين يَنتظرون عودته، قال «فهد»: سوف أقع من الضحك إذا كانت هناك طائرةٌ متجهةٌ إلى «لندن» الآن. لم يكد يفرغ من كلامه حتى رأى «أحمد» يعود مسرعًا وهو يبتسم ابتسامةً عريضة، فقالت «إلهام»: يبدو أنك سوف تقع فورًا يا عزيزي «فهد».
قال «أحمد»: هيَّا بسرعةٍ، هناك طائرةٌ في طريقها إلى «لندن» فورًا، وقد تخلَّف راكبان، وهناك ثلاثة مقاعد أخرى خالية.
غرق «فهد» في الضحك حتى إنه لم يستطع أن يتحرك من مكانه، غير أن الشياطين لم ينتظروه، فاضطر أن يلحق بهم جريًا.
احتوتهم الطائرة، وحلَّقت في طريقها إلى مطار «لندن» وعندما نزلوا هناك، كادوا جميعًا ينطقون جملة واحدة: فورًا … إلى «موسكو».
قال لهم موظف شركة الطيران: إنَّ أول طائرة تقوم إلى «موسكو»، أمامها خمس ساعات، فكان أمامهم إما النزول إلى «لندن» وإما قضاء الساعات الخمس في المطار، وقفوا قليلًا يناقشون الموقف غير أن شيئًا ما لفَت نظرهم.
كانت هناك مجموعة من الركاب يَلبسون ملابس ثقيلةً تمامًا، جعلت «إلهام» تقول: يبدو أنهم متَّجهون مثلنا إلى «موسكو» …
نظر الشياطين إلى المجموعة قليلًا، ثم قال «فهد»: ليس من الضروري أن يكونوا كذلك؛ فالملابس ليست هي الدليل …
استقرَّ رأيهم على أن يظلوا بالمطار، إن خمس ساعات يُمكن أن تنقضي سريعًا خصوصًا إذا تجولوا في سوق المطار، كما أن ذلك يُعطيهم فرصةً لمراقبة الركاب.
أخذوا طريقهم إلى مجموعةٍ متقاربةٍ من المقاعد، وعندما جلسوا شرد «أحمد» لحظة جعلت الشياطين ينظرون إليه، وسأله «رشيد»: ماذا هناك؟ لم ينطق «أحمد» فقد ظهر الاهتمام على وجهه، كان يبدو أنه في حالة تركيزٍ شديدةٍ، فهم الشياطين الموقف، كان «أحمد» يتلقى رسالة شفرية من رقم «صفر»، كانت الرسالة تقول: من رقم «صفر» إلى «ش. ك. س» هناك مجموعة في طريقها إلى «موسكو»، إنهم بعض قادة المجموعات المنتشرة في العالم.
توقفت الرسالة الشفرية التي كان «أحمد» يترجمها مباشرةً، وكانت الرسالة تأتي عن طريق تيار كهربائي دافئ، مُتقطِّع، ما كاد ينقل الرسالة إلى الشياطين حتى جاءت رسالة أخرى: من رقم «صفر» إلى «ش. ك. س» … العلامة «ت». ردَّ «أحمد» على الرسالة بسرعةٍ: من «ش. ك. س» إلى رقم «صفر» … عُلم.
نقل «أحمد» الرسالة إلى الشياطين، قال «فهد»: هذه بدايةٌ طيبةٌ … إن علينا أن نقوم بجولة في المطار حتى موعد قيام الطائرة. قال «أحمد»: من المُمكن أن نفعل ذلك، فلا تزال أمامنا ساعاتٌ طويلةٌ، اللقاء هنا بعد ساعتين.
أخذ كل من الشياطين اتجاهًا مختلفًا في أنحاء المطار الكبير. ومرَّت الساعتان ثم بدأ ظهورهم في اتجاه نفس المقاعد، التي كان قد احتلها بعض المسافرين والتقوا مبتعدين قليلًا. لم يكن أحد منهم قد قابل شيئًا مثيرًا أو مفيدًا، فوقفوا صامتين يتطلعون إلى حركة المطار التي بدأت تزداد، وكان الوقت يمرُّ بطيئًا حتى أخذوا يتململون في وقفتهم، أخيرًا سمعوا صوت المذيعة الداخلية للمطار تطلب من ركاب الطائرة المتجهة إلى «موسكو» أن يتجهوا إلى الطائرة، فعلت وجوههم تعبيرات الراحة.
أخذوا أماكنهم في الطائرة التي بدأت طيرانها فورًا. وعندما انتصف الليل، كانت الطائرة تهبط في مطار «موسكو»، كان المطار كبيرًا لافتًا للنظر. توقَّف الشياطين ينظرون من خلال الألواح الزجاجية السميكة، إلى الثلوج التي تنزل في شكلٍ ممتعٍ. ثم أخذوا طريقهم إلى خارج المطار.
ما إن أصبحوا في الخارج حتى شعروا ببرودة شديدة. قال «أحمد»: يجب استخدام أجهزة التدفئة … سريعًا. فضغط كل من الشياطين زرًّا خاصًّا في ملابسه، فاندفعت موجة دافئة تدفئ الجسم، فقد كان كل منهم يحمل جهازًا دقيقًا داخل ملابسه لمثل هذه الظروف.
استقلُّوا «تاكسيًا» وسألوا السائق عن مطار الطائرات الداخلية، وبعد ساعة كان التاكسي يقف أمام مطارٍ ضخمٍ، وقال: هذا هو. أخذوا طريقهم إلى مكتب استعلامات المطار الذي أخبرهم أنه لا يوجد مطار في بلدة «تورا» ولكنهم يستطيعون ركوب الطائرة إلى مدينة «جوركي» ومنها يركبون طائرةً أخرى إلى مدينة «براتسك»، ومن هناك يأخذون القطار إلى «كيزما» ثم إلى «تورا»!
كانت الرحلة مُمتعة؛ فقد كانوا يَطيرُون فوق مساحات بيضاء شاسعة، وكانت الثلوج تُغطِّي كل شيء، وعندما وصلوا إلى مدينة «جوركي» ركبوا طائرة أخرى كما قال لهم موظف الاستعلامات، ثم اتجهوا إلى مدينة «براتسك»، وبعدها بدأت رحلة المتاعب بالقطار من «براتسك» إلى «كيزما» فقد كانت درجة الحرارة مُنخفِضةً تمامًا. لم يكن يظهر من زجاج القطار شيءٌ. كان الثلج يُغطِّي حتى زجاج القطار، وتوقَّف الفطار في «كيزما» وقتًا قليلًا، ثم بدأ رحيله إلى آخر محطةٍ … إلى «تورا».
كاد القطار يكون خاليًا إلا من بعض الركَّاب القليلين، واستغرق الشياطين في الصمت، كان كل منهم يُفكِّر في المساحات البيضاء الواسعة التي سوف ينزلون فيها. فجأة … سمعوا حديثًا خافتًا بين اثنين من الركاب. كان الحديث يدور حول انفجار منذ أسابيع قليلة مضَت عند نهر «تنجوسكا»، وأخرج «أحمد» جهازًا صغيرًا، ثم بدأ يستمع إلى حديث الركاب! كان الحديث يصله بوضوح فعرف أن العلماء قد اهتموا بالانفجار، وهذا ما أكده عليهم رقم «صفر» في الاجتماع، فقد نشرت الصحف كثيرًا عن تكرار الانفجار على مدار سنواتٍ بعيدةٍ، وعرف أن السلطات تمنع أيَّ مخلوقٍ غير الباحثين والعلماء من الاقتراب من منطقة النهر، التي تحولت إلى حفرياتٍ عميقةٍ نتيجة الانفجارات المتعدِّدة.
لكن فجأة، أمسك الشياطين أنفسهم، لقد التقى اثنان من ركاب القطار في ممره الطويل، ورسم كل منهما إشارة جعلت الصرخات تكاد تَنطلِق من شفاه الشياطين …