الجينات والمدارس والتعلُّم
إن علم الوراثة يغيِّر من عالمنا بوَقْعٍ متزايدِ السرعة عن ذي قبل؛ فبإمكاننا الآن تحليل الحمض النووي الريبوزي المنقوص الأكسجين (دي إن إيه)، وتعديله لإجراء اختبارات الكشف عن الأمراض الخطيرة وعلاجها قبل أن تهدِّد حياةَ المريض، وللإيقاع بالمجرمين وإعفاء الأبرياء، ولخلق مصادر طاقة ستحمي كوكبنا. وقد بسَطَ علماءُ الجينات نطاقَ عملهم حتى تسنَّى لهم التأثيرُ على مجالات الطب، والصحة العامة، والزراعة، والطاقة، والبيئة، والقانون، والسياسة الاجتماعية؛ وإمدادها بالمعلومات. إلا أن التعليم يغيب — كما هو واضح — عن هذه القائمة، ولم تمسَّ الدروس المستقاة من علم الوراثة المدارسَ بعدُ؛ وهذا ما نرى ضرورةَ تغييره.
أحدُ السُّبُل لمساعدة كل طفل على تحقيق إمكاناته الأكاديمية هو استغلال الدروس المستقاة من أبحاث الجينات؛ فنحن الآن على دراية كبيرة — وإنْ كنَّا لا نعرف كلَّ شيء على أية حال — بالطرق التي تؤثِّر بها الجينات على التعلُّم، وبالكيفية التي يتفاعَلُ بها دي إن إيه الأطفال مع الخبرات التي يكتسبونها بالمنزل والمدرسة. لقد حان الوقت كي يجلس التربويون وواضعو السياسات مع علماء الجينات لتطبيق هذه الاكتشافات على العملية التعليمية؛ فسيصبُّ ذلك في اتجاه تحسين المدارس وإنجاح الأطفال، وعلى المدى البعيد في إعداد مواطنين أكثر إنجازًا وفاعليةً؛ وهذا ما نرغب أن تحقِّقه المدارس والتعليم، أليس كذلك؟
(١) أهداف التعليم وافتراضاته
مثل أغلب مناحي السياسة العامة، التعليمُ مَوئلٌ للاختلافات والفلسفات المتبارية، إلا أننا يمكن أن نتَّفِق في الأساس على أن التعليم ينبغي أن يمنح الجميعَ الأدواتِ الأساسيةَ التي هُمْ في حاجةٍ إليها لأداء وظيفتهم في المجتمع. وفي أغلب بلدان العالَمِ اليومَ، تتشكَّل هذه الأدواتُ، أو المهارات، من القراءة والكتابة والحساب والقدرة على التفاعُل مع التقنيات الرقمية. وعلى الأرجح يمكننا تعيين هدفٍ ثانوي للتعليم يتمحور حول فكرة وجوب استفادة المجتمعات بطُرُق ملموسة من توفير التعليم لمواطنيها، وهو هدف لن يعترض عليه سوى أصحاب أكثر الأفكار الليبرتارية تطرُّفًا. على سبيل المثال: أورد تقرير حديث صادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أنه إذا تمكَّنَتْ جميع دول المنظمة من تحقيق متوسط الأداء التعليمي الذي يحقِّقه الفنلنديون، فإن العائد المالي المتجمع على مدار جيل واحد — الجيل المولود عام ٢٠١٠ — سيبلغ ١١٥ تريليون دولار؛ وبحلول عام ٢٠٩٠، سيزيد العائد إلى ٢٦٠ تريليون دولار، وستكون الولايات المتحدة والمملكة المتحدة كلتاهما من بين البلدان التي ستحقِّق أكبر عائد بحسب هذا المنظور الاقتصادي، إلى جانب المكسيك، وتركيا، وإيطاليا، وألمانيا، وإسبانيا، وفرنسا. ومن الجدير بالذكر أن نظام التعليم الفنلندي يولي المهارات الأساسية اهتمامًا خاصًّا، والفجوةُ فيه بين التلاميذ الأقدر والأقل قدرةً ضئيلةٌ نسبيًّا. بالتأكيد ينبغي ألَّا يقتصر النظامُ التعليمي على هذين الهدفين؛ فالأول هو الحد الأدنى الذي ينبغي للمجتمع أو المدرسة أو المدرِّس الطموح إليه، أما الهدف الثاني فهو نتيجة ثانوية للهدف الأول؛ فإنْ لم يتحقَّق هذان الهدفان، فلربما إذن يصبح لدينا تعليمٌ شكليٌّ لكنْ بلا مضمون.
يمكن أن يحقِّق كلُّ فرد تقريبًا في المجتمع أهدافَ التعلُّم البسيطةَ المتمثِّلة في القراءة والكتابة والحساب واستخدام الكمبيوتر، بغضِّ النظر عن معدل ذكائه. وإنْ تخرَّج طفل واحد من المدرسة (نستثني ها هنا أصحابَ الإعاقات الشديدة، لكن نشمل مَن يُعانُون — على سبيل المثال — من صعوبات التعلُّم أو الصعوبات الانفعالية أو السلوكية المعتدلة والمتوسطة) دون تحقيقِ مستوًى مقبولٍ من الجدارة في تلك المهارات، فقد خذلَتْه مدرَستُه وخذله النظامُ التعليمي الذي تقوم عليه المدرَسة؛ وهذا غير مقبول كليةً.
من المؤسِف أن هذه الأهداف لا تتحقَّق دومًا؛ فأحيانًا يتخرَّج النشءُ من المدرسة بمهاراتٍ لغويةٍ ورياضياتيةٍ غير كافية، حتى بعد قضاء ١١ عامًا (١٥ ألف ساعة) من التعليم المتفرَّغ له. واحتمالاتُ أن يصبح هؤلاء الشباب أعضاءً سعداء ونافعين ومشبعين في المجتمع ضعيفةٌ جدًّا؛ وعندما يحدث هذا، يلوم كلُّ شخصٍ الآخَرين، وتتنوَّع المبرِّرات من المجتمعات المتصدِّعة، حتى مدارس المناطق المزدحمة المنخفضة الدَّخْل بمدرِّسيها المنهَكين، وأولياء أمورها غير الداعمين، وقدراتها المتدنية، وسلوكيات طلَّابها الوضيعة … باختصار، أطفال يصعب التعامُل معهم في ظروف تعجيزية. وهذا تنصُّل من المسئولية؛ فثمة شيءٌ أكثر أهميةً يدور هنا؛ فالنظامُ التعليمي بأسره قائمٌ على اعتقادِ أن الأطفال «صفحاتٌ بيضاء»، ويخبرنا علمُ الوراثة السلوكي أن هذا اعتقاد خاطئ.
إن هذه النظرية عن التعليم (وعن الحياة البشرية بشكلٍ عامٍّ) تفيد بأن الأطفال جميعًا يُولَدون سواسيةً، بالإمكانات نفسها تقريبًا، ويصبحون نتاجَ خبراتهم؛ فهم صفحات بيضاء تكتب عليها أُسَرُهم ومدارسُهم ومجتمعُهم. ويعتقد الكثيرون أنه إذا أحسَنَ أطفالُهم التصرُّفَ، فهذا مردُّه إلى تنشئتهم تنشئةً سليمة؛ وأنه إذا أحرزوا نجاحًا في المدرسة، فهذا مردُّه إلى تمتُّعِهم بمدرسين أَكْفاء وآباء داعمين. وفي المقابل، يعتقدون أنه إذا تغيَّبَ الأطفال عن المدرسة وأبْدَوْا سلوكًا معادِيًا للمجتمع، فإن آباءَهم ومعلِّميهم مخطئون وينبغي تحميلهم المسئولية؛ لدرجةِ الحُكْمِ على الآباء بقضاء فترةِ عقوبةٍ بالسجن. وعلى مستوًى أقل تطرُّفًا، يؤدِّي هذا الاعتقاد بالآباء الناجحين جدًّا في تنشئة أطفالهم إلى تعذيب أنفسهم؛ فيتساءلون: هل هو قَلِق البال لأني أُفْرِط في تدليله؟ هل هي نزَّاعة إلى السيطرة لأنني أبالِغ في الاهتمام بها؟ هل هي متخلِّفة في القراءة عن ابن الجيران بمستويَيْن لأنني لم أُلحِقْها بالمدرسة الشهيرة الباهظة المصاريف بجنوب الحي؟ هل كان ينبغي لي استقدامُ مدرِّس خصوصي لإعداد ابني من أجل امتحانات الالتحاق بالمدرسة الانتقائية التي تضع معاييرَ أكاديميةً محدَّدةً للقبول؟ أصبح هذا النوعُ من الحتمية البيئية هو المعيار، بكلِّ ما يستتبعه حتمًا من إعجابٍ بالذات أو تقريعٍ لها.
إلا أنك إذا سألتَ أيَّ والدٍ لأكثر من طفل عمَّا إنْ كان أطفالُه صفحةً بيضاء وقتَ ولادتهم، أم أن كلَّ طفل قَدِمَ بمجموعة السمات الواضحة الخاصة به، لا سيما حالتهم المزاجية وشهيتهم واحتياجاتهم وتفضيلاتهم؛ فستسمع الردَّ ذاته: إنهم أفرادٌ متميِّزون منذ لحظة ولادتهم. إنْ أخذنا جميعَ الأطفال من أُسَرهم لحظةَ الميلاد، وقمنا بتربيتهم في معسكراتِ تنشئةٍ متطابِقةٍ ترعاها الحكومةُ، فلن يُشبِه بعضهم بعضًا أكثر ممَّا يتشابهون فيه الآن عند دخولهم المدرسة، وسيختفي التشابُه أكثرَ فأكثر مع نموِّهم وتطوُّرهم. أحيانًا يفترض الناس أن تأثير البيئة يصبح أهمَّ مع نموِّنا وتراكُم الخبرات لدينا، إلا أنه في حالةِ سماتٍ مثل التطوُّر المعرفي، يبدو أن العكس هو الصحيح؛ إذ يزيد التأثيرُ الجيني بمرور الوقت حتى تصبح القدرةُ المعرفية قابلةً للتوريث في مرحلةٍ لاحقةٍ من الحياة مثل الطول تقريبًا.
إن حقيقةَ تأثُّرِ الاختلافاتِ الفردية بالجينات تجعل من فلسفة الصفحة البيضاء أكذوبةً؛ وهذا بدوره يعني أنه من المستبعَد أن يكون منهجُ «المزيد من الأسلوب نفسه» هو المنهج السليم للتعامُل مع الأطفال الذين يفشلون في تحصيل مجموعة المهارات الأساسية عبر الوسائل التقليدية؛ فالطفل الذي لا يتعلَّم بالطريقة الاعتيادية، يمكن دائمًا تقريبًا مساعدته على التعلُّم، لكنْ ربما ينبغي لمدرِّسيه أن يفكِّروا خارج الإطار التقليدي، ويستخدموا معارِفَهم وخبراتهم عن التدريس وعن الطفل نفسه من أجل إيجاد نقاطِ التأثير المناسِبة، وهم كذلك في حاجةٍ إلى دَعْم سياساتي يتيح لهم العملَ على هذا النحو.
من أجل تزويد الأطفال كافة بمجموعةٍ من المهارات الأساسية من أجل التعامُل مع الحياة، لا شك في أن أحد محاور التركيز الرئيسية لأيِّ نظامٍ تعليمي يجب أن يكون التأكُّدَ من عدم إهمال أي طفل. ولهذا الهدف البسيط الواضح مضامينُ سياساتيةٌ بسيطة وواضحة؛ كتوجيه الموارد إلى الأطفال الذين يواجِهون صعوبةً في تزويد أنفسهم بالأدوات الأكاديمية الأساسية، ومساعدتهم بأية وسيلة تصلح لهم كأفراد. وينبغي أن تكون أولويةُ تمويلِ التعليم الأولى هي توفيرَ كل ما كان ضروريًّا لإعطاء الطفلِ المهارةَ الكافية في استخدام الكلمات والأعداد والكمبيوتر؛ كي يتمكَّن من عيشِ حياةٍ مستقِلَّة في القرن الحادي والعشرين. ولا بد من تقديم تمويلٍ إضافيٍّ من أجل مساعدة الأطفال الذين يجدون صعوبةً في استيفاء هذه المعايير قبل التخرُّج من المدرسة، أيًّا كان سببُ فشلِهم في إحراز التقدُّم. ربما يكون هذا أحد السُّبُل التي يمكن البدء بها لمواجهة تحدِّي تحسين الحراك الاجتماعي في بلدانٍ مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، إلا أن التأكيدَ على دَعْم مَن هم في حاجةٍ إلى الدعم كي يتعلَّموا الأساسياتِ؛ هو مجرد نقطة البدء.
في المجتمعات التي يتاح بها التعليم مجانًا ويكون إلزاميًّا على جميع الأطفال، يمكن التمييز بين التلاميذ من خلال الطريقة التي يستجيبون بها للشرح. وكما نعرف، فإن القدرةَ على التعلُّم من المدرِّسين تتأثَّر بالجينات أكثر من تأثُّرها بالخبرة. ويُرجَّح أن يزيد تأثير المدرسة على الاختلافات بين الأطفال من حيث مستوى التحصيل في المجتمعات التي تعاني من التفاوُت في مدى توافُر التعليم الرسمي. من المفهوم إذن أن نجد في الدول المتقدِّمة تقديراتٍ أعلى لتأثير الجينات، وتقديراتٍ أقلَّ لتأثير المدرسة على الاختلافات الفردية من حيث التحصيل؛ لأن الحصول على التعليم إذا كان مكفولًا على قَدَم المساواة للجميع، فلا يمكن له تفسير الاختلافات بين الأفراد. إن التعليم الرسمي — الموحَّد ليكون بالصورة نفسها في جميع حجرات الدراسة — يمكن أن يشكِّل حجرَ الأساس الذي يرتكِزُ عليه المنحنى الجرسي للقدرة والتحصيل؛ فيمكن أن يؤثِّر على كون إحدى المجموعات تحرز متوسطَ درجاتٍ مرتفعًا أو منخفضًا، لكنه لا يؤثِّر على جودة أداء الأفراد بمقارنة بعضهم ببعض؛ وهنا تكون للجينات أهمية كبيرة، وهنا أيضًا تكمن أكبر الاختلافات.
ثمة قضايا مهمة، لا سيما في وقتٍ يَجِدُّ فيه العالَمُ لتوفير التعليم لكلِّ طفل؛ فقد التزم أغلب البلدان تحت قيادة منظمة اليونسكو بتحقيق هدف إلحاق الأطفال كلهم بالتعليم الابتدائي بحلول عام ٢٠١٥، وتعهَّدَ كثير من البلدان بجعل الالتحاق بالتعليم الابتدائي إجباريًّا لا اختياريًّا. ونتيجةً للنمو السكاني وانتشار التعليم الإلزامي معًا، تقدِّر منظمةُ اليونسكو أنه على مدار الأعوام الثلاثين القادمة، سيحصل عدد من الناس على تعليمٍ رسميٍّ يفوق عددَ مَن حصلوا عليه في تاريخ البشرية بأسره. وعلى الرغم من أن هدف عام ٢٠١٥ يبدو مستبعَدَ التحقيق كاملًا، فهذا إنجاز كبير وملحوظ، ويستحق مَن أوجدوا سبلًا لتوفير فُرَص التعليم لأطفالٍ من جميع الخلفيات في المناطق البعيدة والفقيرة والريفية — حيث يبدو أنْ لا سبيل لاجتياز العقبات — إعجابَ العالَمِ وتقديره. لكنْ يجب أن يصاحِب مَقْدِمَ عصرِ تعميم التعليم قبولٌ بأننا بخَلْق فرصٍ تعليمية متساوية نضعُ الطبيعةَ مرةً أخرى، في صورة الوراثة الجينية، في موقع الريادة مجدَّدًا. وبتوفير التعليم لجميع الأطفال، فإننا نهيِّئ موقفًا تصبح فيه جيناتُهم هي المؤثِّر الأكبر الوحيد على مدى نجاحهم بالمدرسة مقارَنةً بالآخرين. إن تعميم التعليم لا يرفع من متوسط الأداء فحسب، بل يُلقِي كذلك الضوءَ على الاختلافات الفردية. ويبدو هذا — إنْ تحقَّقَ هدفُ التعليم الأول على أرض الواقع — ثمنًا ضئيلًا في أسوأ الحالات. وفي أحسن الأحوال، يوفِّر الفرصةَ لانتقاء أفضل شكلٍ للاحتياجات التعليمية لكل طفل على حدة، ويتيح للمدارس مساعدةَ تلاميذها كي يصبحوا أفضل ما يمكنهم.
يتولَّى نظامُ المدرسة مسئوليةَ تزويدِ الصغار بالأدوات التي يحتاجونها كي يعيشوا باستقلاليةٍ في المجتمع؛ وستكون هناك أيضًا منافِعُ اجتماعيةٌ واقتصاديةٌ من تأهيل قوًى عاملة ومواطنين يتمتعون بمهارات لغوية ورياضياتية وفهمٍ للتقنيات الرقمية بنسبة تقارب ١٠٠٪. تذهب بعض الآراء إلى أن التعليم يمكن أن يكتفي بذلك، إلا أنه في بلد يتمتَّع بالموارد والرغبة في مزيدٍ من التطوير، تبدأ الاختلافاتُ الفردية المتأثِّرة بالجينات في لعب دورٍ مهمٍّ لدى الجميع، لا لدى مَن يجدون صعوبةً في التزوُّد بمجموعة المهارات الأساسية فحسب. وبمجرد أن يتزوَّد التلاميذ بالمهارات الأساسية التي يحتاجونها من أجل أداء وظائفهم بفاعلية في العالم، يجب أن ينتقل التركيزُ إلى استخراج الإمكانات الفردية؛ وهكذا، يمكن للمدارس أن تشجِّع الإنجاز والتحصيل الفردي، وإعداد مجموعات من الصغار ممَّن يعرفون مواهبهم وتعلَّموا استخدامها. وبالتأكيد سينتفع المجتمع من أجيال الصغار المتعاقِبة المتمتِّعة بمعرفة وطيدة بالمهارات الجوهرية التي تشكِّل القاعدةَ التي تُبنَى عليها مجموعةٌ كبيرةٌ من القدرات والاهتمامات المتخصِّصة. ولنا أن نتوقَّع آثارًا إيجابيةً على الصحة، والنظام والقانون، والتوظيف، والاقتصاد.
(٢) الفُرَص المتنوعة تعمل على استخراج إمكانيات الأفراد
يعرف الجميع أن بعض الأطفال يتمتَّعون بقابليةٍ وميلٍ إلى التعليم الأكاديمي التقليدي، وتتأثَّر كلتا الصفتين بالجينات، إلا أنهما لا تتحدَّدان بها. وتعليم هؤلاء التلاميذ هو المهمة الأسهل لدى المدارس، وعادةً ما يُحرِزون نجاحًا في النظام التعليمي القائم، وهم أنفسهم التلاميذ الذين تختارهم المدارسُ الانتقائية، ثم تزعم المدارس أن النجاحات التي يُحرِزونها مردُّها إلى تطبيقِ نظامٍ تعليميٍّ أرفع. والسياسات الحالية وفلسفة «الصفحة البيضاء» تسلِّم بأن هؤلاء الأطفال أمثلةٌ نموذجية، وتشير إلى أننا إنْ بذلنا مجهودًا أكبر، فسيمكن حينَها جعْلُ جميع الأطفال يتوافقون مع هذا القالب. ونتيجةً لذلك، تدفع المناهجُ الحالية الأطفالَ غير ذوي التوجُّه الأكاديمي إلى التحوُّل لأطفالٍ ذوي مهاراتٍ عامةٍ متوسطة، بغضِّ النظر عن قدراتهم الطبيعية واهتماماتهم وآمالهم وأحلامهم. وهذا منحًى من المناحي التي ينبغي على أثرها تغييرُ السياسات والممارسات التعليمية الحالية؛ ولعلم الوراثة أن يوصي بالتغييرات التي قد تُحدِث أثرًا إيجابيًّا.
إن المجتمع الذي يسلِّم بوجود تشكيلة واسعة من المهارات والمواهب ويكافِئُها، من المرجح أن يجني الثمار؛ فعندما كنَّا أطفالًا، تعلَّمنا أن الحلقات والدوائر على أطراف أصابعنا تجعلنا فريدين؛ وبالنسبة إلى أغلب الأطفال، هذه المعلومة مصدرٌ للدهشة والبهجة؛ فالتفرُّد مدهش ومبهج. إلا أن النظام التعليمي الحالي غالبًا ما يحاوِلُ وَأْدَ هذا التفرُّد وإخراجَ شبابٍ منسوخين من الآخرين؛ أيْ أشخاص غير متوافقين مع مواقعهم في بيئتهم، بل إن أبسط فهم لعلم الوراثة يُطلِعنا على أن المدارس ستخدم تلاميذها — والمجتمع — بشكلٍ أفضل، بتطوير مواهبهم واهتماماتهم المتفردة، عبر إيجاد طُرُق التدريس التي تتيح للطفل أن يكون على طبيعته، وفي نفس الوقت عبر مساعدته على أن يكون مواطِنًا فاعلًا بشكل كامل في العالَم الذي يختار العيشَ فيه. وبفهمٍ أكثر تفصيلًا للطريقة التي تتفاعَلُ بها الجينات مع البيئات، نَصِل إلى أن رحابة مجال الاختيار هي السر، وسنشرح السببَ فيما يلي في هذا الكتاب.
(٣) الدي إن إيه في حجرة الدراسة
ما تناولناه بالوصف أعلاه هو نظامٌ من التعليم المُخَصَّص، نظامٌ ينمِّي المهارات الأساسية، وفي الوقت نفسه يستخرج المواهب والقدرات الفردية ويحتضنها. ويمكن لعلم الوراثة السلوكي أن يرشد تفكيرنا بشأن كيفية تطبيق مثل هذا النظام على أرض الواقع (طالع الفصلين الثالث عشر والرابع عشر للاطلاع على محاولتنا في هذا المجال). ومفتاح تحقيق ذلك يكمن في فهم التداخُل بين الحمض النووي الريبوزي المنقوص الأكسجين، أو الدي إن إيه (تكوينك الجيني أو نمطك الجيني)، وبين بيئة التعلُّم. وعلى وجه الخصوص، سنعتمد على معرفتنا بعمليةٍ نطلق عليها اقترانَ النمط الجيني والبيئة. ثمة ثلاثة أنواع رئيسية من الاقتران سنُلقِي الضوء عليها؛ الأول: هو اقتران النمط الجيني والبيئة «السلبي»، وهو العملية التي بواسطتها لا يكتفي الوالدان المنخفضا الإنجاز صاحبا الطموحات المتدنية بتوريث جيناتهما إلى أطفالهما، بل يتيحان لهم كذلك بيئةَ تربيةٍ غيرَ محفِّزة تعليميًّا. ثانيًا: هناك الاقتران «الاستدعائي» بين النمط الجيني والبيئة؛ إذ يستدعي الأطفال سلوكياتٍ معينةً على أساس ميولهم الجينية، ومن السهل رؤية كيف تصبح هذه العلاقة سمةً مهمةً في التعليم المخصَّص؛ فإذا لاحَظَ مدرِّسٌ أن أحد الأطفال يتمتَّع بطبعه بالسرعة في التعامُل مع الأرقام، فسيمكنه أن يوفر له فُرَصًا إضافيةً لتنمية مهاراته ومعرفته الرياضياتية، والاستمرار في تحفيزه ودفعه للأمام بغضِّ النظر عن المتوقَّع منه على أساس العمر وحده. ويمكن أن ينطبق الأمر نفسه على عدَّاء سريع، أو طفل يتمتَّع بموهبة في استخدام الكلمات، أو طفل لديه مهارات قيادية أو مهارات في العلاقات بين الأشخاص. والمدرِّسون الذين يمتلكون الوعي (والوقت) لملاحظة نقاط القوة (ومواطن الضعف) لدى الطفل، وللاستجابة على هذا الأساس، يوفرون لهؤلاء الأطفال فرصةً ممتازةً لتحقيق إمكاناتهم الطبيعية. ثالثًا: هناك الاقتران «النَّشِط» بين النمط الجيني والبيئة؛ حيث يسعى الأطفال بنشاطٍ خلف الخبرات والفرص بحسب ميولهم الجينية، وينجذبون بشكل طبيعي إلى الأشخاص والأنشطة التي تناسبهم. وفي حجرةِ دراسةٍ تقدِّم تعليمًا مخصَّصًا حقيقيًّا، ستُتاح للأطفال حريةُ القيام بذلك — مثل النباتات التي تتجه نحو الشمس والماء — ولن يُنتظَر منهم طرْحُ هذه الدوافع المُلِحَّة جانبًا من أجل التوافُق مع جدول زمني موضوع بشكل صارم، باستثناء ما يتعلَّق بتلك الدروس التي تركِّز على تدريس المهارات الأساسية الضرورية.
توضِّح الأبحاث التي تناولَتِ الأنواعَ الثلاثة للاقتران بين النمط الجيني والبيئة؛ أن قابلية التأثُّر بالاختلافات المتأثِّرة بالجينات بين الأطفال هي أكثر الوسائل الواعدة المتاحة للمدارس والمدرِّسين الراغبين في تقديم تعليم مُخصَّص حقيقي. وإضافةً إلى التدريس الواعي الماهر بشكل كافٍ، وتوافُر حجرةِ دراسةٍ مصمَّمة من أجل احتضان الإبداع والنمو الشخصي؛ يكمن مفتاحُ نجاحِ ذلك في فهم علم الوراثة وإلى أي مدًى تكون السلوكيات المختلفة متوارثة. ولهذا الهدف ينبغي أن يشكِّل تعليمُ علم الوراثة جزءًا جوهريًّا من جميع برامج إعداد المعلم.
(٤) ملخص الفصل
إن الهدف الأساسي للتعليم هو تزويد كل طفل على حدة بمجموعة أساسية من المهارات اللغوية والرياضياتية والتِّقَنِية، لمصلحة الأطفال أنفسهم والمجتمع عمومًا. وأي نظام تعليمي يسمح للطفل بالتخرُّج من المدرسة دون هذه المهارات، يكون فاشلًا. يُطلِعنا علم الوراثة على أن بعض الأطفال سيجدون بطبيعتهم أن اكتساب هذه المهارات الأساسية صعبٌ، وأنه ينبغي توفير كل ما يلزم لهم من المساعدة المخصصة لتمكينهم من اكتساب مجموعة كافية من المهارات. وكي يتخطى التعليم هذا التدريب الأساسي، علينا القبول باختلافات التلاميذ الفردية، مع الإقرار بأن الأطفال ليسوا صفحات بيضاء. وعن طريق تخصيص عملية التعليم، ينبغي للمدارس — عبر احتضان عملية اقتران النمط الجيني والبيئة — استخراج القدرات الطبيعية، ووَضْع خطط تعليمية لكل طفل على حدة، تقوم على قدرات التلاميذ واهتماماتهم لا على التدابير الاعتباطية التي تتَّخِذها الحكوماتُ الحزبية التي تسعى خلفَ أصوات الناخبين.
بمقدور علماء الجينات المساعدة في تحقيقِ هذه الأهداف التعليمية؛ فالأدلة التي توصَّلنا إليها توضِّح، بما لا يدع مجالًا للشك، أن معاملة الأطفال بصفتهم صفحاتٍ بيضاءَ أو أوعيةً فارغةً، وأن استخدامَ أسلوبِ تعليمٍ مدرسي يشبه خط الإنتاج في المصنع، وأن فَرْض الأهداف ذاتها على الجميع بشكل استبدادي؛ هي مناهج تعمل ضد نموِّ الطفل الطبيعي، لا في مصلحته. وستتحسن مدارسنا وسياساتنا التعليمية إنْ جرى تصميمها للاستجابة للاختلافات الفردية الطبيعية في القدرة والنمو، وهذا ما يحاول أمهرُ المدرسين تطبيقَه في حجرات الدراسة؛ فالآلاف من المدرسين أطلعونا على أنهم يعتقدون أن تأثير الطبيعة لا يقل أهميةً عن تأثير التنشئة على القدرة والتحصيل (ووكر وبلومين، ٢٠٠٥). إلا أن كمًّا ضخمًا من السياسات التعليمية يدفع في اتجاهٍ مضاد لأخذ علم الوراثة في الحسبان؛ ما يشجِّع أساليبَ تربيةِ القطيع ويجعل التخصيصَ مستحيلًا من الناحية العملية.
كما ذكرنا في بداية الفصل، فقد حان الوقتُ لتغيير هذا الوضع، حان الوقت كي يجلس علماءُ الجينات مع التربويين وصانعي السياسات. إنه الوقت المناسب؛ لأننا نمتلك ما يكفي من المعرفة كي نشرع في إحداث تغيير إيجابي. كما ينبغي لنا الاستعداد لخطوات التقدُّم الوشيكة في مجال الجينات؛ على سبيل المثال: قريبًا ستتاح تقنيةُ استخدام «رقاقات» الدي إن إيه للتنبُّؤ بنقاطِ القوة ومَواطِن الضعف لدى التلاميذ على حدة، واستخدام هذه المعلومات من أجل تطبيق استراتيجيات مخصَّصة من أجلهم. تُستخدَم التقنية ذاتها بالفعل في طب القلب وعلم المناعة؛ وهي مسألة وقتٍ فحسب قبل تكييفها للاستخدام في التعليم. إلا أن استغلال المقدرة الحالية لعلم الوراثة السلوكي سيُحسِّن بلا شكٍّ من الطريقة التي نعلِّم بها أطفالنا. في الجزء الأول من هذا الكتاب، سنعرض الأدلةَ التي تدعم ذلك الزعم، أما في الجزء الثاني فسنقدِّم مقترحات مبدئية — مبدئية لأنها في حاجة إلى اختبارٍ وقاعدةٍ من الأدلة قبل أن تتحوَّل إلى توصيات سياساتية رسمية — من أجل تطبيقها على أرض الواقع. وسنبدأ الفصل التالي بشرح الكيفية التي يتسنَّى بها لعلماء الوراثة السلوكيين معرفة ما يعرفون.