الفجوة بين المكانة الاجتماعية وجودة المدرسة
بطريقةٍ أو بأخرى، تقلَّدَ أطفال الطبقة العاملة أدوارَ الأبطال والأشرار في قصص خيالية عن التعليم يروِّج لها الإعلام؛ فمن ناحيةٍ، يوجد القلائل الذين حصلوا على مِنَح دراسية بمدارس انتقائية، أو التحقوا بجامعات أكسفورد وكامبريدج وهارفرد وبرنستون، على الرغم من أنهم وُلِدوا وترعرعوا في ظروفٍ لا تُنبِئ بمستقبلٍ باهرٍ؛ إنها حكاية الفقراء الذين تحوَّلوا إلى أغنياء على غرار سندريلا. وتكنُّ الصحفُ حبًّا لصور هؤلاء الأطفال، حبًّا يكاد يعادِل حبَّها لصور الفتيات الرشيقات اللائي يرتدين تنانير قصيرة، ويُلوِّحْنَ بشهادات النجاح في امتحاناتهن؛ وهو توجُّه ذو دلالة. وعلى الجانب الآخَر، يوجد عددٌ أكبر بكثير من هؤلاء الأطفال ممَّن لا يحصلون على درجات مرتفعة في امتحاناتهم، والمدارس التي يرتادونها هي نفسها المدارس التي يغيِّر آباء الطبقة الوسطى الطموحون أماكنَ سكنهم كي يهربوا منها. وتصوِّر الصحفُ حزنَها وجزعَها بالصور التي تختار نشرها لهؤلاء الأطفال؛ عادةً صور لصغارٍ تكسو البقعُ بشرتَهم، وتحمل وجوهُهم أماراتِ التهديد، ويرتدون معاطفَ مزوَّدة بغطاءٍ للرأس (ليس من النوع الذي ترتديه ذات الرداء الأحمر الصغيرة). وكثيرًا ما تجدهم مدخِّنين أو حوامل أو كلا الأمرين. انْتَقِ مدرسةً تمَّ تصنيفها على أنها مدرسة فاشلة، وستجد بالتأكيد أنها لا تقع في ضاحيةٍ تحفُّها الحدائق، أو يرتادها أبناء وبنات المدرسين والأطباء والمحامين والمحاسبين. وبقصر النقاش على البنين، كما هو الحال غالبًا، سنَلِجُ عالَمًا لا يضمُّ تقريبًا سوى الشخصيات الشريرة. ويبدو أن تعليم الطبقة العاملة مستنقعٌ من اليأس يتَّصِف بتدني المطامح، وتدني الدخل، وتدني المكانة، وبالصغار المتدني الأخلاق.
إذن ما الذي يجري حقًّا؟ هل هذا الانطباع — الذي يساهم كثيرًا في تحفيز الدعاية المبالَغ فيها حول اختيار المدرسة — انطباعٌ خياليٌّ أم تصويرٌ مُنصِف ودقيق؟ هل الأطفال الذين تربَّوْا على يد آباء لم يحصلوا على مؤهلات تعليمية، أو حصلوا على القليل منها، ويحظون بمكانة وظيفية متدنية وبدخل متدنٍّ في أحد الأحياء الخَطِرة؛ هل بالضرورة يُسِيئون الأداء بالمدرسة؟ وإن كان ذلك، فلِمَ إذن؟
الإجابة على تلك الأسئلة تطرح بعض الحقائق المعقَّدة والمزعجة؛ أولها أن المكانة الاجتماعية والاقتصادية — التي تشير في هذا السياق عادةً إلى المؤهلات التعليمية للآباء ومكانتهم الوظيفية — لا تقل قدرتها على التنبؤ بالتحصيل الدراسي عن قدرةِ معدل الذكاء (وترتبط به كذلك)؛ وقد ثبت هذا في دراسات على مستوى العالم. وعلى الرغم من التأكيد الكبير على جودة المدرسة — كما تقيسها الهيئة البريطانية للمعايير التعليمية بالمملكة المتحدة — فالمكانة الاجتماعية والاقتصادية تطغى عليها على صعيد التنبُّؤ بمستوى تحصيل الأطفال بالمدرسة (ووكر، بتريل، بلومين، ٢٠٠٥)؛ فيبدو أن البدايات المتواضعة غالبًا ما ترتهن بالنتائج المتدنية.
الحقيقة المزعجة الثانية هي أن المكانة الاجتماعية والاقتصادية متوارثة جزئيًّا. يمكن أن تفسر الجينات تقريبًا نصف الاختلافات بين الأشخاص من حيث المؤهلات التعليمية التي يحصلون عليها، و٤٠٪ من قابلية التغيُّر في المكانات الوظيفية التي يتقلَّدونها. يبدو أن من الغريبِ القولَ بأن جانبًا من جوانب بيئة الطفل، كالوضع الاجتماعي لأسرته، يتأثَّر بفعل الجينات، لكن الأمر في الحقيقة غيرُ مفاجِئ عندما يضع المرءُ في الاعتبارِ التأثيرَ الجيني على التحصيل الدراسي، وكيف ينعكس على المكانة التعليمية والوظيفية. نعلم كذلك أن الجينات تستطيع تفسيرَ ٣٠٪ من الاختلافات في الدخول، وأحيانًا تكون مشمولةً في مقاييس المكانة الاجتماعية والاقتصادية. وقد اقتُرِحت تصنيفات أخرى للمكانة الاجتماعية والاقتصادية على أساس رأس المال الاقتصادي (أصول الثروة)، ورأس المال الاجتماعي (الأناس الذين تتواصل معهم)، ورأس المال الثقافي (الكتب التي تقرؤها، والحفلات الموسيقية التي تحضرها، والمتاحف التي تزورها … إلخ). لم تُجْرَ أي دراسة موجهة جينيًّا لهذه الجوانب الإضافية من المكانة الاجتماعية والاقتصادية، لكننا نتنبَّأ أنه من المحتمل أن تُبدِي، على الرغم من ذلك، مستوياتٍ أعلى كثيرًا من قابلية التوريث؛ لأنها تعكس الكثيرَ من إنجازات الفرد وميوله وتفضيلاته. وعلى اعتبار أن المكانة الاجتماعية والاقتصادية للآباء قابلةٌ للتوريث، وأن التحصيل الدراسي للأطفال قابلٌ للتوريث كذلك، لا عجب أن أبحاث الجينات اكتشفَتْ أن الجينات تلعب جزئيًّا دورَ الوسيط بين الروابط بين المكانة الاجتماعية والاقتصادية والتحصيل الدراسي. إجمالًا لما سبق، تتأثَّر المكانة الاجتماعية والاقتصادية بفعل الجينات، وكذا العوامل البيئية، وهذا يمثِّل لكثيرين حقيقةً مُزعِجةً.
علاوةً على ذلك، تعد الفجوة في التحصيل الدراسي بين الطبقات الاجتماعية في المملكة المتحدة من أكبر الفجوات في العالَم المتقدِّم. ظاهريًّا تبدو هذه المعلومة مُحبِطة؛ فالأطفال الذين يُولَدون في كنف آباء من مكانة متدنية، يواجهون صعوبةً تلو الأخرى؛ فالجينات والبيئة معًا تعملان ضدهم وضد أُسَرهم. وهم ممثَّلون بأعداد مفرطة في ضخامتها في تقديرات الأطفال المصنَّفين على أنهم يعانون من احتياجات تعليمية خاصة، والفجوة بينهم وبين أقرانهم من الطبقة الوسطى واضحة قبل أن يبدءوا المدرسة بوقت طويل، ولا تنفك تتَّسِع بمرور الوقت. وعلى نحوٍ مشابِهٍ، نحن على علم بأن العوامل البيئية تؤثِّر على المكانة الاجتماعية والاقتصادية بقدر تأثير العوامل الجينية على الأقل، وأنه يمكن استخدام البيئة كعامل للتغيير. كما نعلم أن بعض التلاميذ من أُسَر ذات مكانة اجتماعية واقتصادية متدنية يحقِّقون مستويات بالغة الارتفاع من النجاح الأكاديمي، ونحن نقترح أن من السُّبُل المهمة للتقدُّم بالأبحاث اكتشافُ كيف يتمكَّن هؤلاء الأطفال من تحقيق هذا النجاح، وسبب هذا. إن استطعنا الإجابة على ذاك السؤال فسنتسلَّح بقدرة أكبر على تعزيز التأثيرات البيئية التي تصنع فارقًا إيجابيًّا للأطفال والشباب من خلفيات محرومة اقتصاديًّا واجتماعيًّا. سنتمكَّن من تعيين سُبُل جديدة لتقليل التفاوُت واستخراج الإمكانات، عبر العمل بالتوافُق مع التكوين الجيني للأطفال لا ضده.
لا يمكن لأبحاث علم الوراثة السلوكي أن تغيِّر من هذه الأدلة الملحوظة؛ فالمكانة الاجتماعية والاقتصادية تتنبَّأ بالفعل بالتحصيل الدراسي، ويرجع ذلك جزئيًّا لأسباب جينية. لكن ما بمقدور علماء الوراثة السلوكيين هو الغوص أعمق قليلًا لكشف النقاب عن التأثيرات الجينية والبيئية الفاعلة، والبدء في فهم كيفية تفاعلها المحتمل بعضها مع بعض. ومن الجدير بالملاحظة هنا أنه يوجد إجماع عام على أن التعليم هو أفضل آلية لتحقيق التكافؤ في الفرص وتعزيز الحراك الاجتماعي، إلا أن بعض دراسات علم الاجتماع الحديثة (جولدثورب، ٢٠١٢) تشير إلى أن الأمر ليس بهذه البساطة؛ فلعلنا نحتاج إلى النظر فيما يتجاوز المدارس بحثًا عن العوامل البيئية المؤثرة على المكانة الاجتماعية والاقتصادية والحراك الاجتماعي، التي قد تشترك في علاقات اقتران إيجابية بين النمط الجيني والبيئة. يتعلَّم الأطفال بالمنزل كما يتعلَّمون بالمدرسة، ومن المرجح أن يعزِّز تخصيصُ التعليم في كل بيئات التعلُّم الإمكاناتِ الجينية.
(١) تدني المكانة الاجتماعية والاقتصادية: ملامح
سنبدأ بمحاولة وَصْف قاسم صغير ممَّا يعني أن تُصنَّف أسرةٌ من الأُسَر بأنها ذات مكانة اجتماعية واقتصادية متدنية؛ وكيف تختلف على الأرجح خبرات تلك الأُسَر، في المتوسط، عن الأُسَر ذات المكانة الاجتماعية الأعلى. مَن منَّا لم يشاهد سياسيًّا مترفًا يتحدَّث عن المحرومين بالأخبار ويأمل في قدر من الفهم الحقيقي لتعقيدات وتناقضات حياة الناس؟
من المرجَّح أن تكون الأسرة من الطبقة العاملة أفقر من الأسرة من الطبقة المتوسطة، من حيث النقود الواردة إلى المنزل؛ وهذا الفقر النسبي له أن يؤثر على جوانب بيئة المنزل كافة، وله تأثيرٌ على الأطفال الناشئين بها. وقد توصَّلَتْ دراسة حديثة بالمملكة المتحدة إلى وجود تأثير قوي وكبير لدَخْل الأسرة على الوظيفة المعرفية لدى الأطفال في سنِّ الخامسة (شون، جونز، تشن، مون، ٢٠١٢). ونحن نعلم أن لتدنِّي الدَّخْل تداعياتٍ غير مباشِرة، بما فيها ضغوطُ الأبوة وغيابُ الموارد للإنفاق على الكماليات؛ مثل: دروس السباحة أو الموسيقى، والرحلات التعليمية أو النزهات، وأجهزة تكنولوجيا المعلومات، والكتب، والأدوات الرياضية. والأطفال الذين يشبُّون في أُسَر ضعيفة الدَّخْل لا يحظَوْن نتيجةً لذلك بتكافُؤِ الفرص في هذا الصدد، ويستمر هذا الأمر طوال فترة تعليمهم؛ وعليه تقلُّ احتمالات تعرُّضهم لموارد مثل المعلمين الخصوصيين عندما يواجهون صعوبةً في مادة من المواد، ما يعيق تحصيلهم الدراسي ويقيِّد إمكاناتهم المستقبلية. وفي حين أن الضغوط ليست حكرًا بالتأكيد على الأُسَر المتدنية المكانة الاجتماعية والاقتصادية، فإن الموارد التي نذكرها متوافرةٌ بصورة اعتيادية للأطفال الميسوري الحال، وتتيح لهم فرصًا أكبر لتنمية مواهبهم وتحديدها. وليس من قبيل المصادفة أن أعضاء منظمة بوني كلوب (لتعليم ركوب الخيل) عادةً ما تبدو عليهم سيماء الطبقة الوسطى، ولا يكونون عادةً من أطفال عمَّال النظافة أو العاملين بمراكز الاتصالات أو العاطلين عن العمل. قد يمثِّل تحقيق التكافؤ بين هذه الفرص إحدى طرق إتاحة الساحة للجميع على قدم المساواة. ومن الجدير بالذكر أن البيئات المتكافئة لن تقلِّل من تقديرات إمكانية التوريث. وفي المقابل، كما ناقشنا في الفصل الثالث، يمكن اعتبار إمكانية التوريث مؤشرًا للتكافؤ؛ فعندما تستوي الساحة البيئية أمام الجميع، سيزداد إذن ظهورُ الاختلافات الجينية بين الأفراد، ولن يقل؛ وفي الفصل الأول وصلنا إلى أن هذا — على أسوأ الاعتبارات — ثمنٌ بسيط ندفعه في مقابل تمتُّع جميع الأطفال بفُرَصٍ متكافئة لتحقيق إمكاناتهم. حاليًّا لا يحصل الأطفال من الأُسَر ذات المكانة الاجتماعية والاقتصادية المتدنية على فُرَص متكافئة؛ وهي مشكلة ربما يمكننا المساعدة في حلها، بما يفيد الأطفال والشباب المحرومين.
أظهرت الأبحاث أيضًا أن الأطفال بالأُسَر المتدنية المكانة الاجتماعية والاقتصادية، إلى جانب كونهم أفقر، يجري التحدث إليهم بمعدلٍ أقلَّ من الأطفال بالأُسَر الأعلى مكانةً اجتماعية واقتصادية، وغالبًا ما يبدءون المدرسةَ بمعرفة لغوية أقل بكثير (بروسل-جيتس، ماكانتير، فريبون، ١٩٩٥). فالآباء من أُسَر الطبقة العاملة يقضون، في المتوسط، وقتًا أقصر مع أطفالهم، وهم أقل استجابةً لاحتياجاتهم من الآباء الأثرياء الأكثر تعليمًا؛ ويمكن أن يعكس ذلك ضيق الوقت أو فرط الضغوط أو تبنِّي اتجاهٍ مختلف من الأبوة، إلا أنه يبدو بالفعل مرتبطًا بالتطور المعرفي لأطفالهم. ويمكن أن تُطلِعنا دراسة موجهة جينيًّا لهذه الظاهرة على المزيد عن كيفية تأثير هذا الارتباط. وقد أدَّتْ هذه النتيجة ببعض الباحثين في مجال علم النفس والاقتصاد إلى القول بأن الحرمان يتعلَّق بغياب التحفيز أكثر من غياب الموارد المالية فحسب؛ وهذا سبيل من السُّبُل المتاحة أمام الأبحاث الموجهة جينيًّا في المستقبل؛ فعلى سبيل المثال: ربما يمكن تقديم خدمة منزلية شبيهة بخدمة المتابعة — التي لا تُقدَّم حاليًّا إلا للأطفال في مرحلةِ ما قبل المدرسة، الذين جرى تشخيصهم بأنهم من ذوي الاحتياجات التعليمية الخاصة — للأطفال بالأُسَر المحرومة. وباستطاعة زائرِي المتابعة المنزليِّين التركيزُ على تصميم طرق نافعة لتحفيز تنمية الطفل من خلال اللعب والتواصُل، ويمكن تقييم منافع هذا الأسلوب في تجربة اختبارية.
ثمة جوانب أخرى من بيئة المنزل ظهر أن لها مفعولًا سلبيًّا على القدرة المعرفية والتحصيل المدرسي — وأنها أكثر شيوعًا بين الأُسَر المتدنية المكانة الاجتماعية والاقتصادية — وهي الفوضى والازدحام (ملكي وآخرون، ٢٠٠٤). يرى مكتب الإحصاء الأمريكي أن المنازل التي يقطنها أكثر من فردٍ بالغرفة الواحدة مزدحمة، وفي عام ٢٠٠٠ انطبق هذا المعيار على أكثر من ٥٪ من منازل الولايات المتحدة؛ وبحسب إحصاء ٢٠٠١ بالمملكة المتحدة، كان الرقم بإنجلترا وإمارة ويلز ٧٪. وبموجب هذا التعريف، المنزل الذي يضمُّ حجرةَ معيشةٍ ومطبخًا وحمامًا وغرفتَيْ نومٍ يصبح مزدحمًا إنْ شغله ستة أفراد أو أكثر، لكنه كافٍ لزوجين يعولان ثلاثة أطفال. وحتى بعد الضبط الإحصائي لتأثيرات المكانة الاجتماعية والاقتصادية، وُجِد أن الأطفال من المنازل المزدحمة يمرون بمستويات مرتفعة من الضغوط، وبمشكلات سلوكية، وبتأخُّرٍ في النمو المعرفي. كما نعلم أن الآباءَ بالمنازل المزدحمة أقلُّ استجابةً لأطفالهم، وقد افترض الباحثون أن هذا ربما يعكس انعزالَ الآباء بشكلٍ غير مقصود عن أطفالهم، وذلك خلال محاولة التعامُل مع سعي الأطفال المستمر والمزعج لنيل انتباههم. وأظهرت دراسة حديثة (إيفانز وآخرون، ٢٠١٠) أن الازدحام بمكان السكن في مرحلة الطفولة المبكرة يمكن أن يُنبئ بالنمو المعرفي في سن الثالثة، وأن العلاقة بينهما ترجع بشكلٍ كبير إلى عدم استجابة الأمهات جيدًا لأطفالهن. ونحن نعلم أن لاستجابة الآباء أهميتَها، وأن الازدحام ضارٌّ بالأطفال، في كلٍّ من المنزل وأماكن الرعاية النهارية.
والفوضى مرتبطة بالازدحام، وبالمكانة الاجتماعية والاقتصادية، لكن الأبحاث أبدَتْ أن الفوضى تُنبئ بالتحصيل الدراسي حتى مع ضبط تأثيرات المكانة الاجتماعية والاقتصادية؛ فالأطفال الذين يُحسِنون الأداء بالمدرسة عادةً ما يأتون من منازل هادئة نسبيًّا ومنظَّمة وتتمتَّع بنظام يمكن التنبؤ به. وقد ظهر أن الأطفال بالمنازل الصاخبة والفوضوية والمضطربة ينزعون إلى الانسحاب من التحديات الدراسية، ويُبْدُون طموحات متدنِّية ومستويات منخفضة من المثابرة مع فروضهم المدرسية (براون ولو، ٢٠٠٨)؛ فكلما زاد إدراك الأطفال لمنازلهم على أنها فوضوية، ضَعُف أداؤهم بالمدرسة.
تناولَتْ دراسةٌ حديثة موجهة جينيًّا هذه الظاهرة، وتساءلت عمَّا إذا كان الاقتران بين الفوضى والتحصيل يرجع إلى الجينات أو بيئة المنزل. يقوم هذا البحث، الذي أجراه كين هانزكومب من فريق دراسة التطور المبكر للتوائم، على فرضية أن الجينات تؤثر على التحصيل الدراسي، لكنها قد تؤثِّر أيضًا على تصورات الأطفال الذاتية لمستوى الفوضى في منازلهم. وقد ثبتت صحة هذه الفرضية؛ فعندما سألنا توائم بالدراسة في الثانية عشرة من العمر عن الفوضى بمنازلهم وأُسَرهم، كانت ردودُ التوائم المتطابقين أكثرَ شبهًا من التوائم غير المتطابقين؛ ما يوحي بأن تصورات بيئة المنزل تأثَّرَتْ بفعل الجينات، وقاد ذلك إلى فرضية قائلة بأن الطبيعة إلى جانب التنشئة ربما تتسبَّب في العلاقة بين الفوضى والتحصيل الدراسي. وقد أكَّدَ تحليل البيانات صحةَ هذه الفرضية؛ فثلثا هذه العلاقة يرجعان إلى البيئة، بينما يرجع الثلث الباقي إلى الجينيات. والتأثير البيئي هنا بديهي؛ فالطفل في منزل فوضوي قد لا تتوافر له بهذا المنزل مساحةٌ هادئة نظيفة لأداء فرضه المنزلي، أو ربما لا يجد الدعم في إرساء نظام روتيني لإنجاز الفروض المنزلية، وقد لا يستطيع إيجاد الكتب وغيرها من المصادر التي يحتاجها عندما يكون في احتياج لها، وقد يُصِيبه التعب إنْ لم يكن له نظام ثابت للنوم، وربما لا يتمكَّن من التركيز بسبب الإرهاق أو بسبب أن ضوضاء التلفزيون أو الصياح يصعِّب عليه ذلك. لكن كيف يؤثِّر الجانب الجيني؟ حسنًا، نحن لا نعرف تحديدًا، لكننا نفترض أنه من المرجح أن يعتمد على مَن تخصه الجينات التي تُكوِّن الرابطَ بين ارتفاع مستويات الفوضى وتدنِّي مستويات التحصيل الدراسي — الأمر الذي سنتناوله في بحث مستقبلي.
ولذا، إنْ ألقينا باللوم على جينات الوالدين، فسيكون بين أيدينا مثال على علاقة اقتران سلبي بين النمط الجيني والبيئة؛ فالآباء الذين يخلقون بيئات منزلية فوضوية قد لا يشجِّعون على درجة كبيرة من التحصيل بالمدرسة، وقد لا يهتمون بالفروض المنزلية، على الأقل جزئيًّا بسبب ميل جيني لعدم القيام بذلك، وسيقع أطفالهم في خطر من كلٍّ من الجينات التي يرثونها من آبائهم والبيئة غير التربوية التي يخلقونها. لكن مع اعتبار أن الأطفال المشمولين في هذه الدراسة في الثانية عشرة من عمرهم ويرتادون المدرسة العليا، يبدو أنه من المستبعد أن تكون جيناتهم الخاصة غير فاعلة في التأثير لحدٍّ ما؛ وفي هذه الحالة قد تكون أمامَنا علاقةُ اقترانٍ نَشِطٍ بين النمط الجيني والبيئة، فإذا كان الأطفال يرفضون الإيواء إلى الفراش أو إغلاق التلفزيون أو الجلوس للمذاكرة، فقد ييأس آباؤهم من محاولة فرض النظام، وقد يمضي مدرِّسوهم وقتًا في السيطرة على سلوكهم أطول ممَّا يمضونه في التدريس الفعلي لهم. أحد المسارين الجينيين أو كلاهما بديهي، وتوجد حاجة لمزيدٍ من الأبحاث من أجل الفهم الكامل لكيفية التأثير الفعلي للرابط الجيني بين الفوضى والتحصيل الدراسي.
رأينا حتى الآن كيف يمكن أن تؤثر بيئة المنزل — والمكانة الاجتماعية والاقتصادية على وجه الخصوص — على تحصيل الطفل بالمدرسة، لكن كيف يمكن مقاومة ذلك من خلال نظام تعليمي موجَّه جينيًّا؟ في الجزء الثاني من هذا المؤلَّف، سنقترح أسلوبًا جديدًا ثوريًّا لرَأْب الصدع بين المنزل والمدرسة، وهو أسلوب ربما يساعد في تشكيل الطريقة التي سيتفاعل بها المدرسون مع كل تلميذ، ويشجع على ممارسات أفضل بالمنزل عبر التركيز على تكافؤ الفرص. إنه أسلوب يضع في الحسبان واقع وجود علاقات الاقتران بين النمط الجيني والبيئة وقوتها من أجل تحسين مستويات الاستغراق والدافعية لدى الأطفال. ونعتقد أنه سيخفِّف من العبء الملقَى على عاتق المدرسين، وسيعلي من مستويات التحصيل المدرسي لدى الأطفال الضعفاء. وسنناقش قاسمًا من الأفكار التي أوحت لنا بهذا النهج لاحقًا في هذا الفصل.
(٢) ما المقصود بإمكانية توريث المكانة الاجتماعية والاقتصادية؟
تتأثَّر المكانة الاجتماعية والاقتصادية بفعل الجينات وكذلك بفعل البيئة، والعلاقة بين المكانة الاجتماعية والاقتصادية والتحصيل الدراسي علاقةٌ تحكمها الجينات جزئيًّا في الأصل؛ فالاثنان يرتبطان عن طريق الحمض النووي للشخص؛ وهذا يعني أن أطفال الآباء الذين لم ينجحوا بالمدرسة وواصلوا حياتهم ليصلوا لمكانة متدنية في المجتمع، من المرجح أن يُشبِهوا آباءهم لأسباب جينية، بقدرِ ما يشبهونهم لأسباب بيئية. وجوهريًّا، من المحتمل أن يكون الأطفال الناشئون في أُسَر متدنية الدخل — الأُسَر المستهدفة من مشروعات مثل «شور ستارت» و«هيد ستارت» — ضعفاءَ جينيًّا وكذلك بيئيًّا؛ ومن ثَمَّ يصبح السؤال المطروح علينا هو: ما الذي يمكننا عمله من أجل دعم الأعضاء الأضعف من المجتمع، وتعزيز الحراك الاجتماعي عند أقصى الطرف الأيسر من المنحنى الجرسي حيث تبلغ الحاجة إليه مبلغها؟ لا نملك إجابات محدَّدة، لكننا يمكن أن نقترح بعضَ المقترحات الأولية؛ ولنا أن نقطع بأن هذا سؤالٌ يحتاج إلى إجابة. لقد لاحظنا وجود الكثير من الحالات حيث لا يحظى الأطفال المحرومون بفُرَص متكافئة، وهي ظاهرة تنمُّ عن ظلم بيِّن. أحد سُبُل علاج مشكلة بعض الأُسَر المحتجزة في خندق المكانة الاجتماعية والاقتصادية المتدنية، هو التركيز على تحقيق تكافؤ الفرص لمصلحة الأُسَر الأكثر ضعفًا، إلا أنه يجدر بنا تذكير أنفسنا بأنه على الرغم من أن التأثيرَ المحتمل ترتُّبه على هذا المنهج نافعٌ جدًّا، فإنه لن يقلِّل من تقديرات إمكانية توريث المكانة الاجتماعية والاقتصادية أو التحصيل الدراسي. لكنَّ إتاحة فُرَص جديدة قد تحتضن الإمكانات الطبيعية التي لولا تلك الفرص لَظلَّتْ خامدةً.
إن العيش في بيئة فقيرة، بالمعنى الحرفي أو المجازي، بسبب وضع الأبوين لَهُو وضع غير عادل، ويعترض سبيل تعظيم إمكانات الفرد الشخصية والاجتماعية والاقتصادية؛ ومن ثَمَّ ينبغي أن تتصدَّر الأُسَر المتدنية المكانة الاجتماعية والاقتصادية قائمةَ المرشحين للحصول على موارد إضافية والخضوع لعمليات تدخُّلٍ مستهدَفة بعناية؛ وقد مُنِحوا إياها إلى حدٍّ ما، في شكل برامج مثل «هيد ستارت» بالولايات المتحدة و«شور ستارت» بالمملكة المتحدة. لكن هذه المبادرات معرَّضة للفشل؛ لأنها تعجز عن إدخال تغييرات دائمة على مستويات ذكاء الأطفال، وهذا أمر على قدر خاص من الأهمية في زمن الركود العالمي وانتشار التخفيضات في التمويل. كذلك يمكن القول بأن هذه البرامج لا تتمكَّن في الواقع من الوصول إلى الأسر الأكثر ضعفًا، إما في الوقت المناسب وإما بالشكل المناسب. والمجموعاتُ التي يديرها برنامج «شور ستارت» — على الرغم من أنه برنامج ممتاز في أحوال كثيرة — حافلةٌ أيضًا في كثيرٍ من الأحيان بأمهات الطبقة الوسطى وأطفالهن، في حين أن الأُسَر المحرومة التي صُمِّمت هذه البرامج لمساعدتها تمثِّل أقليةً فيها.
الاستثمارُ في الأطفال الصغار المحرومين مبادرةٌ سياساتية عامة نادرة التطبيق، من شأنها أن تعزِّز الإنصاف والعدالة الاجتماعية، وفي الوقت نفسه تشجِّع الإنتاجية في الاقتصاد والمجتمع بوجه عام.
يستخدم هيكمان حججًا اقتصاديةً لدعم النظرية التي تدفع بأننا نقصِّر في الاستثمار في الأطفال في مرحلةِ ما قبل المدرسة، وقد وصف سلسلةً من المفاهيم الجوهرية للسياسة الاجتماعية في مرحلة الطفولة المبكرة، جميعها ذات مدلول جيني. أولها: أن التفاعل بين النمط الجيني والبيئة يؤثِّر على بنية المخ وتكوين المهارات؛ أي إن العلاقة التفاعلية بين الجينات والخبرة تصنع فارقًا في نمو المخ، الذي يتمتع بمرونة كبيرة وقابلية استثنائية للتأثُّر بالبيئة في مرحلة الطفولة المبكرة. ثانيًا: أن إتقان المهارة يتبع قواعد هرمية؛ فالمهارات الأساسية يجب إتقانها أولًا قبل الدنوِّ من المستوى التالي من المهارة. ويكمن ذاك المفهوم في صميم توصياتنا للنظام التعليمي في الجزء الثاني. ثالثًا: أن المهارات يتوقف بعضها على بعض، وتتأثَّر بالخبرة. رابعًا: أن ثمة فتراتٍ حسَّاسةً يتمتَّع فيها المخ بأقصى درجات المرونة. تتوافق مفاهيم هيكمان الأربعة بشكل ملائم مع نتيجة أبحاث علم الوراثة السلوكي التي توصَّلْنا إليها، والتي تقول إنَّ لمفعول البيئة المشتركة أغلبَ التأثير في سنواتِ ما قبل المدرسة.
سبق أن استعرضنا مشكلة اعتبار برنامجَيْ هيد ستارت وشور ستارت فاشلَيْن في بعض الجوانب، ويرجع ذلك إلى أنهما لا يحسِّنان من معدل الذكاء على المدى الطويل. إلا أن هيكمان يزعم أن هذا التأويل يُسقِط الصورة الكبرى، ولتوضيح وجهة نظره، يشير إلى برنامج بيري لمرحلة ما قبل المدرسة؛ وقد كان عبارة عن عملية تدخُّل تجريبية لمدة سنتين أُجرِيت في أوائل ستينيات القرن العشرين على الأطفال الأمريكيين الذين من أصول أفريقية في الثالثة والرابعة من العمر، والذين اعتُبِروا محرومين ويواجهون احتمال الفشل بالمدرسة. تضمُّ العملية دراسةَ حالاتِ إفرادية مقترنة بحالات ضابطة؛ إذ كان الخاضعون للدراسة يرتادون الحضانة لمدة ساعتين ونصف صباحَ كل يوم من أيام العمل، ويتلقَّوْن زيارة منزلية لمدة ساعة ونصفٍ مرةً أسبوعيًّا من معلمتهم في المدرسة. صُمِّمت الدراسة بحيث تشرك الأم في العملية التربوية، وتساعد على تطبيقِ منهجِ ما قبل المدرسة بالمنزل. تعلَّمَ الأطفال من خلال اللعب لا التلقين، وكان التركيز على تنمية المهارات غير المعرفية. وببلوغ الأطفال سن العاشرة، لم تزد معدلاتُ ذكاءِ أطفالِ دراسةِ الحالة عن معدلات ذكاء أطفال المجموعة الضابطة، إلا أن درجات اختبارات تحصيلهم كانت أعلى بكثيرٍ بسبب تمتُّعهم بدافعية كبرى للتعلم — حسبما يقول هيكمان. وهذا مثير للاهتمام على اعتبار أن التحصيل الدراسي يتمتَّع بإمكانية توريث تفوُّق القدرة المعرفية (غالبًا ما تختفي علاقات الاقتران بين النمط الجيني والبيئة داخل تقديرات إمكانية التوريث). لم يكن للبرنامج أيُّ أثرٍ طويل الأمد على معدل الذكاء، إلا أن الآثار على التحصيل الدراسي والرفاهية كانت بالغةً. تابعت الدراسة هؤلاء الأطفال حتى سن الأربعين، ووجدت أن أفراد المجموعة المُعالجة تمتَّعوا بمعدلاتٍ أكبر من التخرُّج من المدرسة العليا، وبمرتبات أعلى، وبنِسَب أعلى من ملكية المنازل، وتلقَّوْا مساعداتٍ حكوميةً أقلَّ، ووُجِّهت لهم اتهامات جنائية أقل من المجموعة الضابطة (شفاينهارت وآخرون، ٢٠٠٥). فقد تمتَّعوا إجمالًا بمكانة اجتماعية واقتصادية أعلى من أفراد المجموعة الضابطة، ومكانتُهم الاجتماعية والاقتصادية المحسنة والجديدة هي ما سينبئ بمستوى التحصيل الدراسي لأطفالهم، لا مكانتهم الاجتماعية التي تمتَّعوا بها وقتَ ولادتهم — إنه التطبيق العملي للحراك الاجتماعي. ولا شك في أن جيناتهم لا تزال تشبه جينات آبائهم، لكن البيئة استُخدِمت على نحوٍ يبدو أنه ساعَدَهم على الارتقاء، ومنحهم خبرات جديدة تمكَّنَتْ جيناتُهم من التفاعُل معها على نحوٍ إيجابي.
تدعم أبحاث علم الوراثة السلوكي حجة هيكمان بأن أفضل وقت لاستدعاء التأثيرات البيئية المشتركة لاستهداف التحصيل الدراسي للأطفال — ربما من خلال الثقة بالنفس والدافعية والمطامح — هو قبل بداية المدرسة؛ ومن هذه المرحلة فصاعدًا تقلُّ تأثيراتُ البيئة المشتركة. يمكننا أيضًا القول بأن أحد أطراف علاقة الاقتران المفضية إلى المكانة الاجتماعية والاقتصادية التي تَعِدُ بتحسين فُرَص الأطفال المحرومين هو الأبوة الواعية والمتجاوبة، وأن مبادرات مرحلة ما قبل المدرسة يمكن أن تركِّز انتباهها على تلك النقطة، كما جرى ببرنامج بيري لمرحلة ما قبل المدرسة. إن إجراءات التدخل التي تتطلَّب إدخالَ التربويين التعليمَ إلى البيئات المنزلية للأطفال المحرومين على أرض الواقع؛ قد تبدو مكلِّفةً، لكن الأدلة تشير إلى أنها ستغطِّي تكلفتها عبر الزمن. واحتضان الإمكانات الطبيعية في سنوات ما قبل المدرسة في حاجةٍ إلى مزيدٍ من الدراسة باعتباره استراتيجيةً لتعزيزِ الحراك الاجتماعي واستخراجِ الإمكانات الفردية.
(٣) جودة المدرسة
عادةً ما تقع المدارس الفاشلة في المناطق المحرومة؛ ومن ثَمَّ ترتبط جودةُ المدرسة ارتباطًا لا فكاكَ منه بالمكانة الاجتماعية والاقتصادية. وفي المملكة المتحدة، أدَّتْ هذه المشكلة إلى انتهاجِ سياسةِ المنافسة وتسويق التعليم حيث يُمنَح الأبوان الخيارَ، أو على الأقل وَهْم الخيار، بشأن المدرسة التي سيرتادها طفلهم. وقد أجمع الباحثون على أن ذلك كان حلًّا غيرَ ناجحٍ لمشكلة التفاوت، بل إنه يمارس جهدًا نَشِطًا في سبيل إعاقة رأب الفجوة الاجتماعية؛ لأن الطبقات الوسطى ثبت أنها تتمتَّع بقوةٍ شرائية أكبر وقدرةٍ أعلى على «الالتزام بقواعد اللعبة» من أجل النجاح في التقدُّم إلى المدرسة التي اختاروها؛ سواء أَتضمَّنَ ذلك تغييرَ السكن، أم الاستعانة بخدمات مدرِّس خصوصي، أم الظهور أكثر بالكنيسة، أم كتابة البيانات المناسبة باستمارة التقديم، أم تنمية موهبة طفل في الرياضة أو الموسيقى. وتوصَّلَتْ إلى النتيجة ذاتها الأبحاثُ التي تناوَلَتْ مسائلَ اختيار المدرسة وجودة المدرسة بالنسبة إلى سماتِ الطلاب الديموغرافية والتحصيلِ الدراسي بحسب خلفية المكانة الاجتماعية والاقتصادية؛ وبيت القصيد، في هذه الحالة، هو أن تنوُّع الفرص يؤدي على ما يبدو إلى تفاقُم تفاوت الفرص — وهذا تحذير يذكِّرنا بألا نبالِغَ في التحمُّس لتوصياتنا بتطبيق نظامٍ تعليميٍّ موجَّه جينيًّا، أو في تعميم تطبيقه دون تمييز.
في الواقع لم يُجْرَ عددٌ كبير من الأبحاث الموجهة جينيًّا على جودة المدرسة بصفتها مؤثرًا بيئيًّا، إلا أنه قد أُجرِي الكثير من الأبحاث غير الموجهة جينيًّا حول هذا الموضوع، التي توصَّلَتْ إلى أن جودة المدرسة قد لا تزيد عن كونها عاملًا مُضلِّلًا لا يوجد بينه وبين التحصيل الدراسي سوى علاقة سببية بسيطة، إنْ وُجِدت. وهكذا، عندما تُوصَم مدرسةٌ من المدارس بأنها «فاشلة» لأن تلاميذها لا ينجحون دراسيًّا، لا يستتبع ذلك بالضرورة أن يكون هذا الفشل خطأَ المدرسة نفسها بالكامل؛ فإنْ كانت المدرسة نفسها مليئةً بتلاميذ من أُسَر ذات مكانة اجتماعية واقتصادية راقية، ويتمتَّعون بميل جيني إلى التحصيل الدراسي، فمن المستبعَد بشكل كبير أن تُوصَف المدرسة بالفشل، حتى مع عدم إجراء تغييرات من أيِّ نوعٍ على طاقم التدريس أو المنهج. لكن، على الرغم من أن الظروف قد تكون صعبة، فمن الواضح أن هذه المدارس المُخصَّصة للمجتمعات المحرومة لا تنجح في مهمتها المتعلِّقة بتقديم تعليم جيد لتلاميذها.
كان صدور تقرير كولمان عام ١٩٦٦ نقطةَ تحوُّلٍ في هذا المجال؛ إذ ضمَّ دراسة ضخمة بلغت ٧٠٠ صفحة حول المساواة في التعليم بالولايات المتحدة. خلص كولمان، وهو عالم اجتماع، إلى أن خلفية التلميذ ومكانته الاجتماعية والاقتصادية أهمُّ بمراحل للتحصيل الدراسي من الاختلافات في موارد المدرسة. ويرى التقرير، فيما يخالف المناهج البريطانية الحالية الباهظة التكلفة مثل برنامجَيْ «أكاديميز» و«فري سكولز»، أن إغداق الأموال على المدارس ورَفْع إجمالي الإنفاق على التلميذ لن يصنع فارقًا كبيرًا، وأنه يجب توجيه إجراءات التدخُّل إلى الأُسَر لا إلى المدارس. وقد اكتشفنا نحن أيضًا في دراسة التطور المبكر للتوائم أن جودة المدرسة ليست مسئولةً إلا عن نسبة ضئيلة من الاختلافات بين الأطفال من حيث التحصيل الدراسي، وأن المكانة الاجتماعية والاقتصادية على مستوى الأسرة هي صاحبة أقوى تأثير (ووكر، بتريل، بلومين، ٢٠٠٥).
يفسح تقرير كولمان مجالًا لإسهام جودة المدرس في الاختلافات الفردية في التحصيل الدراسي على العكس من الموارد؛ وهو الدليل الذي يدعمه باحثو الاقتصاد وكذلك علم النفس والاجتماع (انظر على سبيل المثال بحث هانوشك، ٢٠١٠). وعادةً ما تختلف جودةُ المدرِّس حتى داخل المدرسة الواحدة؛ الأمر الذي سيلاحظه أيُّ والد يتابِع طفله وهو يرتاد الفصولَ المتعاقبة في مدرسة واحدة. ومن المحتمل كذلك أن يكون حتى أفضل المدرسين غير ناجحين بالدرجة نفسها مع جميع الأطفال، وأن علاقات الاقتران بين النمط الجيني والبيئة تلعب دورًا ها هنا، ما لم يكن المدرس واعيًا تمامًا بالاحتياجات الفردية، ويدرِّس بفصلٍ مكرَّس بالكامل للتعليم المُخصَّص. بالطبع هذا هو الوضع المثالي، وكلما سعينا لتحقيق الوضع المثالي، اقتربنا منه. وتشير الأدلة من الدراسات غير الجينية إلى أن جودة المعلم على قدرٍ عظيمٍ من الأهمية يفوق جودة بنايات المدرسة أو مواردها أو الإجراءات المعقَّدة للالتحاق بها. والرسالة التي نستخلصها هي أن إجراءات التدخُّل التي تركِّز على التعلُّم النَّشِط بين الوالد والطفل، والمدرس والطفل، هي الواعدة أكثر من غيرها.
والتفاعُلات القريبة بين الراشدين كالمدرسين والآباء، وبين الأطفال الذين يدرِّسون لهم ويُنشِئونهم؛ هي التربة الأكثر خصوبةً لازدهارِ علاقات الاقتران بين النمط الجيني والبيئة، ولتعلُّمِ الأطفال في بيئةٍ تتعرَّف على احتياجاتهم ونقاط قوتهم. وللمكانة الاجتماعية والاقتصادية أهميتها، ويجب التفاعل معها في أي سياسة تعليمية منصفة. لا تتمتَّع جودة المدرسة بكل تلك الأهمية المنسوبة إليها، لكنَّ التفاعُلَ بين الجينات والخبرة وبين الأم وطفلها الذي يتعلَّم اللغةَ، أو بين مدرس الرياضيات وتلميذه الكاره لها؛ هو المهم حقًّا. وتلك الدروس مستمَدةٌ من الأبحاث التربوية والاقتصادية والاجتماعية، إضافةً إلى الأبحاث في مجال تخصُّصنا، وسنضعها نصبَ أعيننا ونحن نصمِّم نسختنا من النظام التعليمي الموجَّه جينيًّا، الذي يوفِّر فرصًا متساوية للتلاميذ كافة.
الرسالة المستخلَصة هنا هي أنه على الرغم من تنبُّؤ المكانة الاجتماعية والاقتصادية فعليًّا بالتحصيل المدرسي وتأثُّرها بالجينات، فإن تصميم إجراءاتِ تدخُّلٍ تدور في فلك التأثيرات البيئية، وتهدف إلى القضاء على مفعول الفقر وتدنِّي التحفيز والازدحام والفوضى؛ هو أفضل سبيل للتقدُّم إنْ كنَّا بصدد إتاحةِ فُرَصٍ متكافئة للجميع.