التطبيق العملي لتخصيص التعليم
هَبْ أنك مدرسٌ ذو خبرة تدرِّس لثلاثين تلميذًا — لا يُرهِقك إلى حدٍّ ما سوى التعليمات الحكومية المتواترة التي لا تنقطع بشأن ما ينبغي أن تفعله وكيف ينبغي أن تفعله — ولا تزال في المجمل سعيدًا بمهنتك التي اخترتَها منذ سنواتٍ طوالٍ مضَتْ. تخيَّلْ أن اليومَ هو يوم الخميس، وأنك تطلق صفيرًا بابتهاجٍ، بعد الظهيرة، في انتظار عطلة نهاية الأسبوع القادمة، وتحزم حقيبتك وتُجرِي بعض الترتيبات النهائية بحجرة الدراسة؛ وفجأةً يدخل عليك مديرُ المدرسة، وعلى الفور يقرع ناقوس الخطر داخلك؛ فدائمًا ما يوجد دافعٌ خلف تلك الزيارات المفاجئة، وهذه المرة ليسَتِ استثناءً؛ فهو يريدك أن تعرف أنه وافَقَ على تجريب منهجيةٍ جديدةٍ ستُجرَى بها ملاحظتك أنت وزملائك، وتقييمكم على أساس كيف تخصِّصون بفاعليةٍ التدريسَ وبيئةَ التعلُّم بحجرة الدراسة.
يبتسم لك المدير كما لو كان يهديك صُحْبة من الورود، وهو يُطلِعك على أنه يريد أن يرى «خطةَ تحسين التخصيص» التي ستعدُّها على مكتبه بحلول منتصف الفصل الدراسي؛ أيْ بعد أسبوعين فقط؛ فتبتسم بدورك وتُومِئ برأسك موافِقًا وتقول: «لا مانعَ لديَّ، أتمنَّى لك عطلةً سعيدةً!» في الوقت الذي ينطلق فيه داخلك سيلٌ من السباب.
يمرُّ نصف الساعة التالية ولا تتبيَّن فيه ما يجري وأنت تضرب أخماسًا في أسداس، وتشكو إلى المدرس بالحجرة المجاورة، وتتناول قطعَ البسكويت التي لم تلتفت إليها طوال اليوم. أنت بالفعل تبذل قصارى جهدك؛ فما الذي يريدونه منك إذن؟ أنت تعلم أنه سيكون أمرًا رائعًا إنْ تمكَّنْتَ من تدريس ٣٠ درسًا مختلفًا في الوقت نفسه، لكن كيف يفترض بك القيام بذلك؟ ما الذي بوسعك عمله حيال داني هاردكاسل، الذي يشعر بملل شديد من سهولة الرياضيات، لكنه لا يستطيع الانتقالَ إلى أي دروس أصعب حتى تجد وقتًا لتجلس معه وتوضِّح له بعضَ الأساليب الجديدة؟ وماذا تفعل مع ميلي براكين التي لا تزال ضعيفةً في القراءة، وتتعرَّض لسخرية الأطفال الآخَرين لأنها تقرأ قصصَ الأطفال الصغار؟ بينما لا يكفُّ الأطفال على تلك الطاولة عن إزعاج بعضهم بعضًا، لدرجة أنهم لم يحقِّقوا أيَّ تقدُّمٍ يُذكَر لأسابيع؛ وكلما ركَّزْتَ على مشكلةٍ بعينها، وجدتها تخلق عدةَ مشاكل أخرى. وهكذا تغادر المدرسة مجهَدًا ومهمومًا، وقد بدأتَ بالفعل تشعر بالجزع ارتقابًا ليوم الإثنين.
(١) ما الذي يمكن عمله لجعل التدريس والتعلُّم أكثر تخصيصًا؟
لعل أوضح الحلول المتاحة حاليًّا هو أجهزة الكمبيوتر. إن استخدام التكنولوجيا لتخصيص التدريس والتعلُّم محل خلاف بعض الشيء، ولم تثبت بعدُ منافِعُه، لكن من حيث الإمكانات العملية، من الصعوبة بمكان التغلُّب على أجهزة الكمبيوتر. ومن المغري بالتأكيد التفكير في وجود تكنولوجيا قادرة على استخراج مهارات ومَلَكات الفهم لدى الأطفال بوتيرة مدَرَّجة تدريجًا دقيقًا، وبمنهجية ذات مراحل محدَّدة بدقة.
بعض الأشخاص لا يحبِّذون استخدامَ التلاميذ أجهزةَ الكمبيوتر كثيرًا؛ فهم يرونها شرًّا حديثًا لا بد منه، مقبولًا من أجل البحث عن المعلومات الأساسية — إذ يشيع استخدامُ محرِّك البحث جوجل هذه الأيام حتى بين الأطفال الصغار جدًّا — لكن ليس لأكثر من ذلك. ينبع الخوف على ما يبدو من أن حجرات الدراسة الزاخرة بالكثير جدًّا من أجهزة الكمبيوتر ستغدو أماكنَ مضجرةً خاليةً من الحياة تضمُّ صفوفًا من الروبوتات تحدِّق بصمتٍ في الشاشات. وبحسب ما قال فيل بيدل، التربوي المرموق من المملكة المتحدة: «التعليم المُلهم هو بهجةٌ حسية، والتفوُّق الغبي لأجهزة الكمبيوتر يُنكِر هذه الحقيقةَ.» ويُعرِب فيل عن تخوُّفه قائلًا: «… إنْ أمكن استخدام الكمبيوتر لتخصيص التعليم، فستتبدد في النهاية الحاجة إلى دَعْمٍ بشري لعملية التعلُّم» (بيدل، ٢٠٠٨). ونحن نتَّفِق على أن التعليم المُلهم بهجةٌ حسية، لكننا نختلف مع فكرة أن استخدام الكمبيوتر يَحُول بالضرورة دون ذلك، وأن الكمبيوتر يقلِّل من الحاجة إلى الدعم البشري في التعلُّم؛ إذ ينبغي أن يدعم التخصيصُ المحوسب طاقمَ المدرسة، لا أن يحل محله (على الرغم من أن بعض محلِّلي الأرقام السياسيين المُضللين سيفكِّرون بشكل مختلف).
ثمة تحدٍّ أكثر خطورةً يتمثَّل في أن التدريس القائم على الكمبيوتر — حتى عند تمتُّعه بدرجة عالية من التخصيص — لم يثبت حتى الآن أنه يزيد من درجات التحصيل الدراسي. وفي الواقع اكتشف تقريرٌ فيدراليٌّ، صدَرَ بالولايات المتحدة عام ٢٠١٠، أن برامج الشرح المعتمدة على الكمبيوتر التي قيَّمَها التقرير «لم تُبْدِ أيَّ تأثيرٍ ملحوظ» على درجات الطلاب باختبار سات (اختبار الكفاءة المدرسية). ومن المهم على صعيد التعليم أن تكون إجراءات التدخُّل الجديدة مدعومةً بالأدلة، لكن أساليب التعلُّم المخصَّص المعتمِدة على الكمبيوتر لم تستوفِ بعدُ المعاييرَ العلمية العالية المستوى. إلا أنه ثمة سببٌ يدعو للتفاؤل بشأن إمكانية تحقيقها ذلك؛ فعلى سبيل المثال: توجد عشراتٌ من دراسات الحالة التي يورد فيها المدرِّسون والمدارس، بل مناطق تعليمية بأسرها أيضًا، حدوثَ تحسُّنات بين تلاميذهم من حيث الفهم والمتعة والقدرة؛ ما يشير إلى احتمالية أن الدراسات لم تصل بعدُ إلى ما يلاحظه المدرِّسون في الواقع العملي.
ومن المخيب للآمال أن البرامج التي طُوِّرت حتى الآن لا تدعمها أدلةٌ علمية، لكننا نرى أن ذلك ينبغي أن يشجِّع على استخدام تلك البرامج وجعلها أكثرَ فاعليةً، لا أن يُنحَّى هذا المنهج ككلٍّ. وحتى تكتسب هذه المناهج أرضيةً علمية صلبة من الأدلة، ننصح بمراعاة الحذر عند التحمُّس لتحسينها وعند تمويل هذا التحسين، لا أنْ نفرط في الحماسة والإنفاق. ولا تزال تكنولوجيا التخصيص في طور التشكُّل؛ فهي منهج يحمل للتعليم المخصَّص بحق إمكاناتٍ أكثر مما يحمل أيُّ منهج آخَر متوافر لدينا؛ ومن ثَمَّ ينبغي أن نوفر له الوقت والموارد التي يحتاجها للتحسُّن.
الأطفال الذين سجَّلوا بالصف التجريبي «لحقوا» بأقرانهم المسجَّلين بالصفوف الاعتيادية خلال العام الأول، وحافظوا على هذا التقدُّم في السنة الثانية، على الرغم من أنهم لم يعودوا مُسجَّلين في فصول كارنيجي. أما أغلب الطلاب بالمجموعة الضابطة، الذين كانوا مختلطين بالطلاب الاعتياديين، فإنهم إما ظلوا على مستواهم وإما تراجعوا عنه.
كما هو واضح، لا يزال أمامنا عملٌ ينبغي إنجازه لتحديدِ إن كان الدعمُ التجريبي لهذا النهج وشيكًا. وعلى أية حال، يبدو لنا أن للبرنامج الحالي مميزاته، وربما يصبح بمرور الوقت نموذجًا للتدريس واستراتيجيةَ تعلُّم ستتحسَّن نتيجةً للعملية البحثية. إن قدرةَ هذا البرنامج على الاستجابة للتطوُّر الفردي جاذبةٌ للاهتمام، ومن المعقول التنبُّؤ بأن مثل هذا البرنامج الحاسوبي سيتمكَّن في النهاية من التفاعُل مع تقنية رقاقة التعلُّم التي ناقشناها في الفصلين الأول والثاني. لا يزال أمامَ المنهج عملٌ ينبغي إنجازه، لكننا نعتقد أنه عملٌ جديرٌ بالعناء.
تأسَّست كارنيجي ليرنينج على يد فريقٍ من اختصاصيي العلوم المعرفية من جامعة كارنيجي ميلون، بالتعاون مع فريقٍ من مدرِّسي الرياضيات المخضرمين. كان أحدَ المؤسِّسين البروفيسور جون أندرسون، الذي ذاع صيته لابتكاره نموذجًا لكيفية عمل المخ، معروفًا بالاسم آكت-آر (الضبط التكيُّفي للأفكار-الإدراك). الهدفُ من أي بنية معرفية من هذا النوع هو تحديدُ العمليات المعرفية والإدراكية الأساسية التي تجعل العقَل يؤدِّي عمله. وقد حقَّقَ نموذج آكت-آر هذا بنجاح، وأثبتَتْ مئات الدراسات فاعليته. يشكِّل هذا النموذج للعقل أساسَ برنامجِ مؤسسة كارنيجي ليرنينج لتعلُّم الرياضيات من خلال الاستعانة بنظام «المعلِّمين المعرفيين»، مع نموذج آكت-آر داخلي بإمكانه تقليدُ سلوكِ أيِّ تلميذٍ يستخدم البرنامج الحاسوبي. وبإمكان «المعلِّمين المعرفيين» تخصيصُ المواد التعليمية والتنبُّؤ بالصعوبات التي قد يواجهها تلميذٌ بعينه.
يستطيع هذا المنهج القائم على الذكاء الاصطناعي تخصيصَ بيئةِ تعلُّم الرياضيات لكلِّ تلميذ بالصف، عبر التعرُّف على الاختلافات الفردية، وعبر إدراك أن سرعة اكتساب القدرة الرياضياتية وتعلُّمها وإتقانها تختلف بين التلاميذ؛ فيمكنه تحديد إنْ كان ثمة تلميذٌ يواجه صعوبةً في فهم شيءٍ ما أو لا يفهمه فهمًا كاملًا، ثم يخصص له إرشادات للتركيز على الجانب الضعيف لديه، ويعرض له مسائلَ جديدةً حتى يفهم الفكرةَ أو يتعلَّم المهارة. ولا مجال هنا لأن يرفع التلميذ يدَه وينتظر عندما يواجِه مشكلةً، أو أن يستسلم لمجرد أنه لا يستطيع حلَّ المسألة؛ فالبرنامج الحاسوبي قادرٌ على مساعدة التلاميذ برفق في إيجاد الحل، ودعمهم وتشجيعهم وهم يقومون بذلك؛ فالأمر أشبه بتلقِّي تدريبٍ شخصيٍّ؛ مصدر للخبرة والتشجيع يدعمك، وأنت تعمل من أجل بلوغ أهدافك وتحقيق إمكاناتك.
يضرب برنامج كارنيجي للرياضيات بجذوره في النتائج التي توصَّلت إليها العلومُ المعرفية، كما شرحنا آنفًا، لكنه يعتمد كذلك على الأبحاث التي أجرتها البروفيسور كارول دويك من جامعة ستانفورد على العقلية والدافعية. وقد ناقشنا في الفصل السابع مضامينَ أبحاث «العقلية» على الطريقة التي نمتدح بها أطفالنا ونشجِّعهم، من أجل إرساء الدافعية والثقة بالنفس لديهم. ويقوم برنامج كارنيجي الحاسوبي بوظيفة مشابِهة عن طريقِ استغلالِ النتائج التي توصَّلَتْ إليها دويك، من أجل تخصيص التغذية الراجعة التي يقدِّمها نظامُ «المعلمين المعرفيين» للتلاميذ.
(٢) اكتساب عقلية مناسبة للتعلُّم
تصف البروفيسور كارول دويك في كتبها وأحاديثها وأبحاثها نوعين من العقلية: عقلية ثابتة، وعقلية نامية. وقد أَبْدَتْ هي وزملاؤها ومعاونوها على مدار عشرات التجارب كيف أن العقلية النامية تجني نتائجَ أفضل للجميع، وكيف أن العقلية النامية يمكن تدريسها، وهو المهم. وفي ضوء هذه الأبحاث، تكون التغذية الراجعة التي يقدِّمها برنامج كارنيجي ليرنينج للتلاميذ مصمَّمة خِصِّيصَى من أجل تعزيز العقلية النامية باعتبارها دافعًا لاكتساب مهارة الرياضيات.
أصحاب العقلية الثابتة يعتقدون أن الذكاء والموهبة فطريان ولا يمكن تغييرهما؛ وذاك يؤدِّي إلى اعتقادات على غرار: «الأذكياء أو الموهوبون فطريًّا لا ينبغي لهم المحاولة»، و«إنْ فشلتُ، فسيحطُّ الناس من قدري». وقد أثبتَتْ دويك وفريقها مرارًا وتكرارًا أن الراشدين والأطفال أصحابَ هذه العقلية يحجمون عن التحديثات لأنهم لا يعتقدون أن بإمكانهم تعلُّمَ ما لم يكتسبوه بشكلٍ طبيعي؛ ولا يريدون بذْلَ مجهودٍ لأن الاضطرار لفعل هذا يحطُّ من تقديرهم لذواتهم؛ ويرون أن الخروج من منطقة الراحة يعرِّضهم لما يرونه فشلًا، وهو ما لا يطيقونه. ربما يفسِّر ذلك السببَ وراء أن بعض التلاميذ الذي يُحسِنون الأداء في اللغة الإنجليزية يتخلَّفون في الرياضيات، والعكس صحيح؛ فمفهومهم عن الذات لا يتوافق مع حقيقة أن النجاح لا يأتي دون كدٍّ. وتشير فرضيةُ الجينات العامة إلى أن التلميذ الذي يتمتَّع بقدرةٍ بالغةِ التفوُّق في اللغة الإنجليزية، من المحتمل أن يكون حَسَنَ المستوى على الأقل في الرياضيات، لكن أولئك التلاميذ — إنْ كانوا من أصحاب العقليات الثابتة — من المرجح أن يعتبروا أنفسهم حالاتٍ ميئوسًا منها، لا لسببٍ إلا أنهم لا يبلغون درجةَ الأداء الاستثنائي. نتيجةً لذلك، حتى عندما يكون هؤلاء الأشخاص بالغِي القدرة والموهبة، غالبًا ما لا يُحرِزون تقدُّمًا ويعيشون حياةً تحت مستوى كاملِ إمكاناتهم.
يتمتَّع كثيرٌ من التلاميذ بعقليات ثابتة، وتتكوَّن هذه العقليات لدى بعضهم في مراحل عمرية مبكرة جدًّا. وتزعم دويك أنهم يكتسبون هذه الاعتقادات غالبًا من الأشخاص من حولهم؛ آبائهم ثم مدرسيهم. لكننا نرى أن تلك الاعتقادات هي أيضًا دلالة على طبع خاضع لتأثير جيني، ونأمل أن نبحث هذه النقطة في أبحاثنا المستقبلية؛ فنحن نعتقد — لأسباب جينية وبيئية معًا — أنه من المرجح أن يكون اكتسابُ عقليةٍ نامية أصعبَ لبعض الناس دون الآخرين. إلا أن بجعبة دويك الكثيرَ من الأفكار النافعة حول مساعدة الطفل صاحب العقلية الثابتة لتكوين عقلية نامية؛ وتشكِّل مقترحاتها الأساسَ لبرنامجٍ حاسوبيٍّ تعليمي قامت بتطويره، وأطلقَتْ عليه اسمَ «برينولوجي». وهذا البرنامج الحاسوبي وسيلةٌ أخرى للتواصُل مع كل تلميذ من أجل رَفْع مستوى التحصيل المدرسي لديه، وتعكس مجددًا مزايا التعليم باستخدام الكمبيوتر في بعض الحالات على الأقل؛ فعلى سبيل المثال: يتحدَّث الكمبيوتر إلى التلميذ وحدَه، ويمكنه إيقاف أو تكرار الدروس وقتما أحبَّ ومتى شاء، ولن يضطر إلى مواكبة أداء ٢٩ تلميذًا آخَرين.
الطفل صاحب العقلية النامية يحبُّ التحدِّي. اهتمت دويك بهذا المجال البحثي أولَ الأمر عندما كانت تُجرِي أبحاثها حول اختلاف استجابات الأشخاص للفشل؛ فقد تفاجأَتْ عندما اكتشفَتْ أن بعض الأطفال عندما عُرِض عليهم لغزٌ صعب جدًّا، لم يعتبروا هذا فشلًا. ولاحظَتْ من استجاباتهم، عندما لم يستطيعوا القيام بشيء في التو واللحظة، أنهم بدلًا من الشعور بالفشل يشعرون كما لو أنهم يتعلَّمون. وتصف دويك ردَّ فعلها المبدئي (وليد العقلية الثابتة) تجاه هؤلاء الأطفال قائلةً: «تساءلتُ: ما الخلل فيهم؟ لطالما اعتقدت أنك إما تتأقلم مع الفشل وإما لا تتأقلم معه. لم أعتقد قطُّ أن أحدًا يحبُّ الفشل. هل هؤلاء أطفالٌ مختلفون أم أنهم يخفون شيئًا ما؟» يعلم الأطفال (والراشدون) أصحاب العقلية النامية أن للكدِّ في العمل مردودَه. سألَتْ دويك وزملاؤها أشخاصًا من كل الأعمار سؤالًا بسيطًا: «متى تشعر بالذكاء؟» كان ردُّ أصحاب العقلية الثابتة أنهم يشعرون بالذكاء عندما لا يرتكبون أية أخطاء، أو عندما ينتهون من شيء بسرعة دون خطأ، أو عندما يجدون شيئًا ما سهلًا في حين لا يستطيع الآخرون عمله. أما أصحاب العقلية النامية فكانت ردودهم مختلفة جدًّا؛ فقد ذكروا أنهم يشعرون بالذكاء عندما يبذلون جهدًا جهيدًا ويتمكنون من فعل شيء لم يتمكنوا من فعله سابقًا. ونعتقد أن النتائج التي توصَّلَتْ إليها دويك على قدرٍ عظيمٍ من الأهمية في مجالَيِ التعليم والتربية. وقد أحسن مُبرمِجِو مؤسسة كارنيجي ليرنينج صنعًا عندما أخذوا هذه الأبحاث في عين الاعتبار أثناء تصميم برنامج الرياضيات الحاسوبي المخصَّص؛ إذ يبدو أن العقلية تقدِّم وجهة نظر فريدة حول بواعث التعلُّم لدى التلاميذ.
يتَّضِح أن كثيرًا من الآباء وكثيرًا من المدرسين — تشجِّعهم حركة تقدير الذات التي اقتحمَتْ مجالَ تنمية الطفل في نهايات القرن العشرين — يُسِيئون فهْمَ الأمر؛ ففي كل مرة نقول لطفل من الأطفال: «لقد حصلتَ على تقدير ممتاز مرةً أخرى؛ كم أنت ذكي!» أو «أنت تتمتَّع بموهبة فطرية، وستحقِّق نجاحًا باهرًا!» أو «لقد سلبوك حقَّك؛ كنتَ الأفضل قطعًا وكنتَ الأحق بالفوز!»؛ نشجِّع تكوين عقلية ثابتة. فما بدأ كمحاولةٍ بسيطة لرفع الروح المعنوية للطفل وتعزيز ثقته بنفسه، يضرُّ بشكل غير مقصود قدرتَه على تحقيق كامل إمكاناته. إنِ امتدحتَ قدرته فلن يرغب في المخاطرة بالفشل. وهذا ليس مجرد رأي؛ فلدى البروفيسور دويك سلسلة كاملة من الدراسات المقنعة التي تؤيِّد نصيحتها هذه. عوضًا عن ذلك، ينبغي لنا امتداح الأطفال لجهدهم أو لتجربتهم مختلفَ الأساليب لحلِّ مشكلةٍ ما والتعرُّف على استراتيجيات تخطِّي العقبات. إنِ انتهى الطفل من مهمة بسرعة ودون أخطاء، فلن يتعلَّم منها شيئًا؛ فالمهمة بالغة البساطة بالنسبة إليه. وهذا يحدث طوال الوقت، لكن بدلًا من منح الطفل نجمةً أو شهادةً وإخباره بمدى تفوُّقه، تقترح دويك أنه ينبغي للأب أو المدرس الاعتذار إلى الطفل على تبديد وقته وأن يَعِده بإيجاد مهمة مناسبةٍ أكثر له المرةَ القادمة. يرشد برنامج كارنيجي الحاسوبي مثل هذا الطفل بشكل تلقائي إلى المستوى التالي في الرياضيات، ويقدِّم له بعض الدعم المبكر الذي يحتاجه في تعلُّم المهارات الجديدة المتضمنة. وبالمثل، يشجع البرنامج ويدعم الأطفال الذين يواجهون صعوباتٍ، بطرقٍ تمتدح خطواتهم الصغيرة نحو الأمام، وتحضُّهم على المثابرة.
يحقِّق الأطفال أفضلَ أداءٍ عندما يكونون خارج منطقة راحتهم؛ حيث يضطرون إلى الكدِّ قليلًا كي يصلوا إلى المستوى التالي. والأطفال ذوو العقلية الثابتة سيزعجهم ذلك إلى أقصى حدٍّ وسيرغبون في التراجُع؛ لذا ينبغي للمدرسين والآباء من حولهم الردُّ على ذلك بامتداح جهدِهم وتركيزِهم ودَأَبِهم، وجميع الصفات الأخرى التي تُعِينهم على المواصلة حتى يشعروا بمتعةِ تحقيقِ شيء لم يعرفوا من قبلُ كيف يحقِّقونه. ويشجع برنامج كارنيجي على اكتساب عقلية نامية عبر عرض التغذية الراجعة التي تركِّز على الجهد والتقدُّم، ومن خلال خاصية «رسائل اليوم» التي تشمل حقائقَ حول الكيفية التي يتغيَّر بها المخ وينمو أثناء تعلُّم الطلاب، موضِّحةً لهم أن المخ عضلة يمكن تقويتها من خلال التمرين، لا سيما الجد والمثابرة. ولعل أحد السبل التي يمكن بها تحسين برنامج كارنيجي الحاسوبي من أجل الوفاء بالمعايير الرفيعة للاختبار العلمي؛ هو إجراءُ تخصيصٍ إضافي لهذه الرسائل لتساعد على تكوين علاقاتِ اقترانٍ إيجابية بين النمط الجيني والبيئة، بمنح كلِّ طفل مديحًا وتشجيعًا موجَّهًا له بمزيدٍ من الدقة؛ فعلى سبيل المثال: من الممكن أن يحتاج ذوو العقلية الثابتة منهجيةً مختلفةً عن ذوي العقلية النامية، فالتعامُلُ مع إحدى هاتين الفئتين سيكون أصعب من التعامُل مع الأخرى، وقد يتمكَّن البرنامجُ الحاسوبي القادرُ على إدراكِ ذلك والاستجابةِ له على نحوٍ ملائمٍ من تحقيق تقدُّمٍ على مستوى الطفل ومنهج التدريس على حدٍّ سواء. لأبحاث دويك عن العقلية نتائجُ حاضرةٌ في الكثير من جوانب التعليم.
برنامج تدريس الرياضيات القائم على نموذج آكت-آر، والذي ابتكرَتْه مؤسسة كارنيجي ليرنينج؛ هو مثال واحد فحسب على برامج التخصيص الحاسوبية المتاحة بالفعل للتربويين. ولا نوصي بمسارعة جميع المدارس إلى شراء هذا البرنامج، أو البدائل الحالية له؛ لأنه من المنطقي توقُّعُ أن يُثبت هذا البرنامج فاعليتَه عبر تحسُّنٍ مُقاسٍ موضوعيًّا للتحصيل الدراسي، وهو ما لم يتحقَّق بعدُ. على الرغم من ذلك، من المهم أن تجرب بعض المدارس هذه المنهجيات التعليمية كي نتمكَّن من تنقيحها وتقييمها. ولا يزال هذا النوع من البرامج الحاسوبية قادرًا على الأرجح على المساعدة في الأخذ بيدِ الطفل عبر منهج الرياضيات بالوَقْع المناسِب له، وله أن يسهِّل التقدُّم على نحوٍ ليس باستطاعة المدرِّس وحده القيام به، عبر تقديم ٣٠ درسًا مختلفًا — بالفعل — إلى ٣٠ تلميذًا مختلفًا؛ أي إن البرنامج قادرٌ باختصارٍ على الكثير ممَّا ينبغي للتدريس المتخصِّص أن يحقِّقه؛ ومن ثَمَّ قادرٌ على توفير التعليم المخصَّص عمليًّا. وفي الظروف المثالية، سيدعم صنَّاع القرار التربويون على المستوى الوطني مطوِّرِي مثلِ هذه البرامج، وسيكون من المفيد ربطها بالاختبارات الوطنية من أجل تقييم فاعليتها، كما سيكون من المفيد إتاحة تمويلٍ كافٍ للتنمية المهنية بحيث يتعلَّم المدرسون، كما ينبغي، الكيفية التي يدمجون بها مثل هذه البرامج الحاسوبية في دروسهم.
توفِّر أجهزة الكمبيوتر تكنولوجيا التخصيصِ لكنها توفِّر أيضًا الخيارَ، والأهم من ذلك فرصة الحصول على التعليم. وأعرَبَ البروفيسور سيباستيان ثرون مؤخرًا عن أسفه حيال أن فصول الذكاء الاصطناعي التي يدرِّسها لا تصل إلا إلى المائتَيْ طالب تقريبًا المسجَّلِين بها. وإذ إنه ليس من النوعية التي تتنهد وتهزُّ كتفَيْها لا مبالِية ولا تفعل شيئًا، فقد أطلق نسخةً إلكترونيةً على الإنترنت من مقرَّره الدراسي؛ ومنذ أطلق مبادرته، سجَّلَ ١٦٠ ألف طالب بالمقرَّر، والآن — ومن خلال يوداستي، وهي شركة خاصة أسَّسَها ثرون — يُقدَّم ١١ مقررًا دراسيًّا للطلاب من كلِّ بلدٍ بالعالم، حسبما يقول ثرون، باستثناء كوريا الشمالية. ويقول إن النفقات تبلغ تقريبًا دولارًا واحدًا للطالب لكل فصل، وحاليًّا تُمنَح مقررات يوداستي وامتحاناتها وشهاداتها مجانًا. والمقررات الدراسية على شاكلة مقرَّرات ثرون تُعرَف باسم «موك» (المقرَّرات الإلكترونية المفتوحة الواسعة الانتشار) وهي تزداد عددًا؛ أُطلِق على عام ٢٠١٢ «عام الموك». وفي وقتٍ تتصدَّر فيه منظماتٌ كمنظمة اليونسكو طليعةَ نشْرِ التعليم في العالَم بأسره، يجب أن يحظى هذا النوع من المبادرات بالاهتمام باعتباره وسيلةً لتوفير تعليمٍ على المستوى الجامعي إلى الطلاب المهتَمِّين، ممَّنْ لن يتاح لهم هذا التعليم أبدًا بوسيلة أخرى. ومن الملفِت للانتباه أنه من بين الطلاب الذين اجتازوا أولَ امتحانات وضعها ثرون، لم يكن أصحابُ أعلى ٤١٠ درجات من طلاب جامعة ستانفورد، بل مجرد أشخاص مهتمين سجَّلوا في الدورة على شبكة الإنترنت. وفي عملية إضفاء الديمقراطية على التعليم، أغلب الظن أن أجهزة الكمبيوتر ستلعب دورًا بارزًا. إن العمل القادم سيركِّز على إتقان المنتجات والعمليات وإثبات فاعليتها وكفاءتها.
(٣) سُبُل أخرى لتخصيص التعلُّم
بالتأكيد لا يمكن أن يبدأ التعلُّم المُخصَّص وينتهي بأجهزة الكمبيوتر، وإنْ حظينا بنظرة شاملة لما يحدث في كل حجرة دراسية كلَّ دقيقةٍ من كل يوم، فسنرى الكثير والكثير من الأمثلة على التطبيق العملي للتخصيص. يوجد مدرِّسون رائعون وواعون وعلى قدرٍ عالٍ من المهارات، وبأعداد كبيرة، قادرون على استخراجِ الأفضل من كل طفلٍ طوال الوقت. تكمن الصعوبة في تحقيق ذلك مع كل الأطفال في الوقت نفسه. نحن بحاجةٍ إلى التركيز على التعرُّف على ما يحقِّق نجاحًا مع كل طفل، واختبار إن كان يمكن تطبيقه على نطاق أوسع، وإن كان بإمكانه الصمود أمام صرامة البرهان العلمي. وعندما نجد مبادرات تستوفي هذه المعايير ينبغي نشرها للجميع، بحيث تتمكَّن كلُّ المدارس والمدرسين والتلاميذ من الانتفاع من حُسْن التطبيق. ومن واقع خبرتنا — الشخصية والعملية على حدٍّ سواء — صادفنا منهجياتٍ للتخصيص تبدو فعَّالةً حقًّا على أرض الواقع؛ منهجيات نستعِدُّ لنبني عليها فرضياتٍ قابلةً للاختبار.
نحن في حاجةٍ ماسة هنا إلى التفكير المشترك إنْ كنَّا بصدد جَمْع كل ممارسات التخصيص المتاحة واختبار فاعليتها علميًّا. تحاول مبادرة «وات ووركس كليرنجهاوس» بالولايات المتحدة تحقيقَ هذه الغاية تحديدًا؛ فمنذ تدشينها عام ٢٠٠٢ وهي تجمع الأبحاثَ التعليمية معًا في مكانٍ واحدٍ، وتعرض بوضوح درجةَ دَعْمِ الأدلة العلمية الوجيهة لطرائق تربوية بعينها. ويمثِّل معهد جامعة يورك للتعليم الفعال مبادَرةً شبيهةً بالمملكة المتحدة، وثمة جدولُ أعمالٍ تابِعٌ لهذه المبادرة يكتسب زخمًا لدى الحكومة أيضًا. وعلى الرغم من ذلك، لا يسع تلك الأنظمة سوى أن تكون على مستوى جودة الأبحاث المتاحة، وينبغي تحمُّل مسئولية تمويل الدراسات الحَسَنة التخطيط لأي تدخُّلٍ تربوي يثبت أنه واعد. من المهم أن يكون بعض هذه الدراسات على الأقل موجَّهًا جينيًّا. والبحث عن الدليل العلمي على الفاعلية هو خطوةٌ كثيرًا ما يجري إغفالها لأنها ستستهلك وقتًا ومالًا، والحكومة المعيَّنة لمدة أربع سنوات تريد أن تترك انطباعًا قويًّا وسريعًا قدر الإمكان، وبأقل تكلفة ممكنة. وهو منهجٌ قصير النظر، وبسببه ينبغي أن يكون التعليم مجالًا يضمُّ أكثر من حزب سياسي، بحيث لا تعطله التغييرات التي تطرأ على الحكومة. إن استثمرنا الوقتَ في البحث عمَّا يؤتي ثماره، وطبَّقناه، ثم سمحنا له بالاستمرار والنموِّ حسبما يقتضي من السنين؛ فسنجني المنافع كأفراد وكمجتمع؛ فالتخمينُ وإنفاقُ أموال دافعِي الضرائب ومضايقةُ المدرسين ثم التخلِّي عن إجراء التدخُّل بسبب مشاكل مبكرة في الإجراء؛ لا يفيد على الإطلاق.
(٤) ملخص الفصل
دعونا لا نغفل ذاك المدرِّس المحبَط، الذي يجرُّ قدمَيْه جرًّا وهو يخرج من المدرسة إلى ساحة الانتظار، في الوقت الذي يعصف ذهنه مفكِّرًا فيما يكتبه في «خطة تحسين التخصيص». وسنقترح عليه خطوة بسيطة: انتقل إلى الصفحة التالية من هذا الكتاب. ففي الفصل القادم، ستجد إحدى عشرة فكرة تضع في الحسبان كلَّ شيء ناقشناه حتى الآن بين ثنايا هذا الكتاب؛ وكلها موجَّهةٌ جينيًّا وعمليةٌ قدر الإمكان، وهي في الوقت ذاته تستكشف سُبُلًا — بعضها قديم وبعضها حديث — لتطبيق التخصيص بكل حجرةِ دراسةٍ بالبلد. فما رأيك في أخْذِ ذلك في الاعتبار عند وضْعِ خطة تحسين التخصيص؟