المهارات الأساسية الثلاث، المهارتان الأولى والثانية: القراءة والكتابة
مشاهدة الأطفال الصغار وهم يتعلَّمون القراءة لها مفعول السحر، ومشاهدتُهم وهم يفكون تدريجيًّا شفرةَ الرموز غير المألوفة لهم على الصفحة التي أمامهم، ثم يُجمِّعونها معًا ويحوِّلونها إلى ما تحكي عنه من قصص ومعلومات؛ لَهِي تجربةٌ مؤثِّرة للآباء. فالمرة الأولى التي يتسلَّل فيها طفلك من خلفك وأنت «تعمل» على جهاز الكمبيوتر، وينطق بصعوبةٍ كلمةَ «أمازون» أو «جوجل»، يغمرك شعورٌ جارف بالدهشة والفخر. كيف يفعل هذا؟ كيف تمكَّنَ من نطقها؟ (هل يمكنه أن يعرف أنك لا تعمل حقًّا؟) إن مشاهدته وهو يركِّز ويقطِّبُ حاجبَيْه بينما يلتقط كتابًا ويقرؤه وحده من أجل التسلية لأول مرة؛ لَهِي أمرٌ ملهم؛ فإننا نرى بأعينٍ جديدةٍ نشاطًا يؤدِّيه كثيرٌ منَّا تلقائيًّا. الأمر أشبه بمراقبته وهو يقفز داخل السيارة ويقوم بكل ما يلزم قبل أن ينطلق بها على الطريق … إلا أن الأمر أشدُّ تأثيرًا (سيجد أغلبنا دروسَ تعلُّمِ القيادة أسهلَ من دورةٍ متقدِّمة في فك الشفرات، وهو ما يكتنفه تعلُّم القراءة).
نحن نفضِّل أن نعتبر أنفسنا جنسًا بالغ التطور، لكن من بين الحقائق المثيرة للاهتمام عن القراءة أنها ارتقاء حديث جدًّا في تاريخنا التطوري؛ ما يجعلها غير فطرية. فنحن لا نُولَد بغريزة القراءة؛ وإذا لم يعلِّمنا أحد القراءة، فلن نتعلَّمها أبدًا. القراءة مهارة تحفزها البيئة، وربما يرجحها الانتخاب الطبيعي بمرور الوقت، لكنها ليست جزءًا من طبيعتنا. على الرغم من ذلك، تشير أبحاثنا إلى أن الجينات قد تفسِّر إلى حدٍّ كبير الاختلافاتِ بين الأطفال في التمكُّن من القراءة. كيف يمكن حدوث ذلك؟ كيف يمكن لنظرية تطورية أن تتنبَّأَ بأن القدرة على القراءة (أو عدم القدرة عليها) ليست جينية، في الوقت الذي تزعم فيه أبحاثُ الوراثة السلوكية أنها جينية؟ لحلِّ هذه المعضلة، عليك أن تتدبر مجموعةَ المهارات التي تساعدنا على القراءة. جميع العوامل التالية تلعب دورًا (لكن ليست كلها ضرورية، كما يتضح عبر حقيقة أن الأطفال الأَكِفَّاء والصُّمَّ قد يصبحون قرَّاء مَهَرة).
إننا في حاجة إلى القدرة على الرؤية والقدرة على السمع؛ لأن مدرِّسينا الأوائل يشيرون إلى الحروف ويخبروننا بكيفية نطقها. ونحتاج إلى التمتُّع بالقدرة على الربط العقلي بين الأصوات (الصَّوْتَم) وصورتها المادية على الصفحة (الرَّوْسَم). وبمجرد أن نتمكَّن من التعرُّف على الأصوات المفردة، يجب أن نتعلَّمَ كيفيةَ مَزْجها معًا، وعندما نتمكَّن من مزج أصوات كافية، ينبغي لنا أن نفهم المعنى من الأصوات المتجمعة في كلماتٍ وجُمَلٍ، بحيث نربط بين الحروف «و-ر-د-ة» من خلال حاسة البصر وخيالنا، لخلق صورة عقلية عن شيء مكوَّن من ساق وبتلات. في عقول بعض الصغار ستتخذ الوردة شكلَ أقحوانة، وفي عقول آخَرين ستكون زهرةً، وستتخذ لدى البعض رسمًا تخطيطيًّا، ولدى آخَرين صورة أو ذكرى. لكن الصوتمات والروسمات المشتركة في كلمة وردة، ينبغي أن توحي بوردة في عقلِ طفلٍ تعلَّمَ قراءتها.
إذن المهارات المطلوبة هي الرؤية والسمع وتكوين العلاقات والتخيُّل. لكن القراءة ليست الغرض الأساسي من أيٍّ من هذه المهارات، بل هي قدرات طبيعية تشكِّلها خبراتُ الحياة، وهي مهمة من أجل البقاء. بالأحرى، القراءةُ مكوِّن اجتماعي يستخدم هذه القدرات استخدامًا جديدًا ومُدهِشًا ومبتكرًا، مثل الجمع بين الخشب والاحتكاك لإشعال النيران. ولهذا السبب القراءةُ قابلةٌ للتوريث؛ لأنها قدرة تشترك فيها أجزاء عديدة، أغلبها عرضة للتأثُّر بالجينات. هذا أيضًا السبب وراء الصعوبة البالغة التي تكتنف تصنيفَ وحلَّ المشكلات التي يواجِهُها بعض الأطفال والكبار في القراءة. فهل يرجع سبب المشكلة إلى الجهاز البصري، أم الجهاز السمعي، أم الدوائر العصبية، أم البِنَى المعرفية، أم الدي إن إيه، أم الشخصية، أم بيئة المنزل، أم بيئة المدرسة، أم كل ما سبق، أم سبب آخر؟
(١) العلاقة بين الجينات وقدرة القراءة
القراءة قدرة أكاديمية تحظى بالجزء الأكبر من اهتمام باحثي علم الوراثة السلوكي (أولسون، ٢٠٠٧)، ويرجع هذا جزئيًّا إلى أن قياس القراءة أسهل من قياس بعض القدرات الأخرى، وأيضًا إلى أن القراءة تحتلُّ إلى حدٍّ ما مكانةً مقدَّسةً في ثقافتنا؛ فالطفل الذي يواجه صعوباتٍ في العلوم أو الرياضة أو التاريخ أو الموسيقى أو حتى الرياضيات، لا يسبِّب عادةً الانزعاجَ ذاته الذي يسبِّبه طفلٌ يواجه صعوبةً في تعلُّم القراءة، على الرغم من وجود بعض الاختلافات الثقافية الموثقة في هذا الصدد. في بعض البلدان، على سبيل المثال، إذا اضطُرَّ البالغون إلى الاعتراف بأنهم لم يكونوا ماهرين في الرياضيات، فإنهم يشعرون بنفس درجة الإحراج التي قد تصاحِب الاعترافَ بضَعْف مهارات القراءة.
وقدرة القراءة موزَّعة بشكل طبيعي؛ على شكل منحنًى جرسي تقليدي؛ أي إن معظم الناس يتجمعون عند المستوى المتوسط، بينما تصل نسبةٌ بسيطة إلى مستوى الامتياز، وتواجه نسبة بسيطة بعض الصعوبة. تتأثَّر قدرتنا على القراءة تأثُّرًا كبيرًا بجيناتنا، وعادة ما تتراوح تقديرات قابلية التوريث بين ٦٠٪ و٨٠٪؛ مما يعني أن نسبةً كبيرةً من الاختلافات بين الأفراد في مستوى القدرة على القراءة يمكن تفسيرها بالتأثير الجيني، بينما تُفسِّر البيئة نسبةً قليلة لا تتجاوز العشرين في المائة، بحسب زعم بعض الدراسات (كوفاس، هاورث، دايل، بلومين، ٢٠٠٧؛ ويلكت وآخرون، ٢٠١٠). قد ظهرت نتائج مشابهة في الصين، على الرغم من أن تهجئة اللغة الصينية تختلف كثيرًا عن الإنجليزية (تشو وآخرون، ٢٠١١).
بدأ كذلك الباحثون في إيجاد جينات معينة يُحتَمل ارتباطها بالقدرة على القراءة، لكن حتى إنْ تكرَّرَتْ هذه النتائج، فلن يفسِّر أيٌّ منها سوى نسبة ضئيلة من الاختلافات بين الناس في مستوى القراءة. يرتبط هذا النمط الموثق بالدراسات، بفرضيةٍ تُعرَف باسم «مواقع الصفات الكمية»، التي تقوم على قاعدة ضخمة من البيانات الداعمة. تقترح الفرضيةُ أن جميع السمات البشرية المشتركة، باستثناء مجموعة من اضطرابات الجين الواحد الشديدة والنادرة، تتأثَّر بالعديد من الجينات، ولكلِّ جين منها تأثيرٌ طفيف فحسب. يختلف هذا عمَّا توقَّعناه من البداية، ويختلف كثيرًا عمَّا تورده الصحافة في أغلب الأحيان؛ إذ يعني أنه لا يوجد — ولن يوجد — جين وحيد لِلُّغة، أو جين وحيد لاضطراب قصور الانتباه وفرط الحركة، أو جين وحيد للسرطان، أو جين وحيد لمهارة كرة القدم؛ فالجينات التي تؤثِّر على أغلب ما نقوم به هي متغيِّرات جينية مشتركة لا طفرات نادرة، توجد لدى عدد ضخم من البشر، ولدى أناس موجودين في كل نقطة من التوزيع الطبيعي. وهي تتَّحِد من أجل التأثير على أفكارنا وسلوكنا والتصنيف الذي يمنحنا إياه المجتمع: غني أم فقير أم شحاذ أم لص؟ مصاب بعسر القراءة أم موهوب أم معادٍ للمجتمع أم خجول؟ تُحدِّد هذه الجينات معًا، من خلال تفاعل بعضها مع بعض وتفاعلها مع التأثيرات البيئية، موقعَ الأفراد في النطاق المتدرِّج الذي ينتج عند قياس أيٍّ من الصفات البشرية؛ ذلك المنحنى الجرسي الذي يقيس القدرة، أو الصحة، أو السعادة.
إحدى التبعات الكبرى لهذا هي أننا نبدأ في رؤية ما هو غير طبيعي على أنه طبيعي؛ أي إن أصحاب التقييمات المتطرفة في القدرة والصحة والسعادة (غير الطبيعيين) لا يختلفون جينيًّا في العادة عن الجميع؛ فمَن يعانون من صعوبات التعلُّم الطفيفة والمشكلات البدنية أو العقلية، عادةً ما يحتَلُّون موقعًا على المنحنى الجرسي كالجميع، وعادةً ما يتأثَّرون بالجينات نفسها كالجميع أيضًا؛ فما يُشار إليه عمومًا كاضطراب أو إعاقة (الشذوذ) هو عادةً الحدُّ الأدنى للقدرة في التوزيع الطبيعي.
إلا أن هذا غير صحيح في حالة اضطرابات الجين الواحد المدمرة والنادرة مثل داء هنتنجتون أو متلازمة ريت، أو بالنسبة إلى صعوبات التعلُّم الجينية أو الكروموسومية، التي يمثِّل أصحابُها قِيَمًا شاذة إحصائيًّا؛ وهؤلاء الأشخاص مختلفون جينيًّا عن عموم الناس في نواحٍ حقيقية وغالبًا صعبة. لكن بالنسبة إلى الصفات البشرية الشائعة، لن يكون من الدقة أن نقول إن لدى البعض خللًا جينيًّا، في حين أن باقي الناس «طبيعيون» وبخير. ثمة عدد ضخم ومتنامٍ من الأبحاث التي اكتشفَتْ أن هذا ببساطة غيرُ حقيقي؛ فأغلب الصفات البشرية — بما فيها القراءة (فيشر وديفريز، ٢٠٠٢) — تتأثر بجينات كثيرة (فرضية مواقع الصفات الكمية) وبخبرات عديدة، وأصحاب المشكلات يتأثَّرون بالجينات ذاتها التي يتأثَّر بها الجميع. فما يُعتبَر غير طبيعي هو طبيعي، وأغلب ما نقوم به يمكن تحديدُ موضعه على سلسلةٍ متصلة من السلوك البشري؛ ما يجعل سلوكنا قريبًا من سلوك الآخرين، لا مختلفًا عنه. وكما سنرى في الجزء الثاني من الكتاب، لهذه النتيجة تداعيات ضخمة على النحو الذي ينبغي به بناء النظام التعليمي.
•••
أغلبُ الأبحاث السلوكية التي درست القراءة من منظور علم الوراثة مستمَدَّةٌ من أربع دراسات كبرى على التوائم، استقت عيناتها من أستراليا واسكندنافيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة؛ وهذا يعني أننا في موقفٍ يتيح لنا إبداءَ الملاحظات على التأثيرات الجينية والبيئية على قدرة القراءة في تلك المجتمعات. تكشف هذه الدراسات عادةً عن تمتُّع القراءة بثباتٍ جينيٍّ قوي، إلى جانب ما تعرضه من تقديراتٍ لقابلية التوريث تتراوح بين المستوى المتوسط والقوي؛ أي إن الجينات ذات الصلة تبدأ عملها في وقتٍ مبكر في مرحلة الطفولة، وتظل نَشِطة طوال حياة الإنسان؛ على سبيل المثال: اكتُشف أن المهارات السابقة على القراءة، مثل تعلم الحروف الهجائية، ترتبط جينيًّا بمهارات القراءة بعدها بسنوات (هايو-توماس، هارلار، ديل، بلومين، ٢٠٠٦؛ هنسلر، شاتشنايدر، تايلور، فاجنر، ٢٠١٠)؛ أي إن الجينات المؤثرة على تمكُّن تومي الصغير من الحروف الهجائية ببراعةٍ في سن الثالثة، ستستمر في التأثير عليه وهو يقرأ روايات هاري بوتر في سن التاسعة.
ترتبط هذه النتيجة بأحد المبادئ المهمة التي كشفَتْ عنها أبحاثُ الوراثة السلوكية، وهو أن الثباتَ جينيٌّ أما التغيُّر فبيئيٌّ. فأيُّ تذبذُبٍ كبيرٍ وغير معهودٍ في الأداء بمرور الوقت، في أي اتجاه، من المحتمل أن يكون نتيجةً للخبرة لا للجينات؛ أيْ قد يرجع لعوامل مثل معلم ملهم أو تدريب مكثَّف أو خسارة مفجعة، أو رفقة سوء. وتشكِّل هذه المسلَّمة — الثبات جينيٌّ أما التغيُّر فبيئيٌّ — إحدى ركائز أفكارنا بخصوص التعليم المتأثِّر بالجينات، وسنتوسَّع في هذه النقطة في الجزء الثاني من الكتاب.
لكن قد نبالغ في التبسيط إلى حدٍّ كبير إذا زعمنا أن القراءة قابلةٌ للتوريث بنسبة ٦٠٪ أو ٧٠٪. نحن جميعًا مختلفون، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أن جيناتنا مختلفة؛ فالاختلاف الجيني حادث منذ لحظة ولادتنا، لكنه يتضاعف ويتعاظم مع تفاعل جيناتنا بعضها مع بعضٍ ومع البيئة. ومن المحتمل أن تكون بعض التأثيرات البيئية كامنةً داخل تقديرات إمكانية التوريث التي نطرحها لأنها تمارس تأثيرها بشكل غير مباشر، عن طريق التفاعل مع الجينات.
اكتُشِف مثال جيد يوضِّح التفاعل بين الجينات والبيئة — على الرغم من أنه ليس من النوع الذي يدرسه علماء الوراثة السلوكيون في المعتاد — في دراسة مهمة ومستمرة عن القراءة أُجرِيت على التوائم، وقد استعانت بتوائم من ثلاث قارات: أمريكا الشمالية (كولورادو)، وأوروبا (النرويج والسويد)، وأستراليا (نيو ساوث ويلز) (سامويلسون وآخرون، ٢٠٠٨). علم الوراثة السلوكي هو عادةً دراسةُ الاختلافات بين الأفراد لا بين المجموعات، إلا أن هذا البحث وثيقُ الصلة بالنقاشات حول رفع متوسط القدرة لدى دولةٍ أو أمَّةٍ بأسرها. يُلزِم القانونُ الآباء من كولورادو وأستراليا بارتياد أطفالهم المدرسة من سن ٥ سنوات، إلا أنه بينما يرتاد الطفل الأسترالي المدرسةَ من الساعة ٩ صباحًا حتى الساعة ٣ عصرًا ٥ أيام في الأسبوع، فإن الطفل الأمريكي لا يرتاد رياضَ الأطفال سوى ٣ أو ٤ ساعات كلَّ يوم. علاوةً على ذلك، فتعليم الأطفال الأستراليين ينظِّمه منهج مطبَّق على مستوى الدولة، يفرض تخصيصَ ٣٥٪ من الأسبوع على الأقل لتعليم اللغات ومهارات القراءة والكتابة. أما في كولورادو، فلا يوجد منهج تفرضه الدولةُ لتعليم القراءة والهجاء.
وتبرز مقارَنةٌ أكثرُ إثارةً للاهتمام عند إدخال الأطفال من السويد والنرويج في المعادلة؛ ففي هاتين الدولتين، يبدأ التعليم الإلزامي عندما يكون الأطفال في سن ٧ سنوات. على أرض الواقع يرتاد الأطفال كلهم تقريبًا رياضَ الأطفال قبل هذه السن، لكنَّ التركيزَ في رياض الأطفال يكون على تنمية المهارات الاجتماعية والعاطفية والجمالية لا على تعلُّم القراءة. إنْ تمكَّنَ الأطفال من القراءة قبل أن يبدءوا المدرسة، فسيرجع ذلك إلى تعلُّمهم إيَّاها بالمنزل؛ مما يشير إلى أن تأثيرات البيئة المشتركة (البيئة التي يشترك فيها الأطفال الناشئون بالأسرة ذاتها) على قدرة القراءة قد تتمتَّع بأهمية أكبر لدى هؤلاء التوائم الذين من اسكندنافيا أكثر من التوائم الذين من أمريكا وأستراليا. وبمجرد أن يبدأ الأطفال الصفَّ الأول في سن ٧ سنوات في السويد والنرويج، تصبح القراءةُ والهجاءُ من الأنشطة المستهدَفة الرئيسية بالمدرسة، وتوجِّه خطةٌ معمَّمة تدريسَ مهارات القراءة والكتابة على مستوى المدارس كافة في جميع أنحاء البلدين.
إذن، ماذا تقترح هذه الاختلافات بين السكان في الخبرة على إمكانية توريث قدرة القراءة في مرحلة رياض الأطفال والصف الأول؟ ما الفرضية المقترحة؟ وهل يختلف التأثير النسبي للبيئة والتنشئة بين البلدان؟ وما هي صور الاختلاف؟ استقطِعْ بضع دقائق من وقتك للتفكير في هذه الأسئلة قبل أن تواصِلَ القراءة.
كان ما توصَّلَ إليه الباحثون في الحقيقة هو أنَّ نمطَ التأثير الجيني والبيئي اختلف فعليًّا بين البلدان؛ ففي نهاية مرحلة رياض الأطفال اتضح أن ٨٠٪ من الاختلافات الفردية بين أطفال أستراليا يمكن أن تُعزَى إلى الجينات، أما النسبة الباقية البالغة ٢٠٪ فكانت مقسَّمةً بالتساوي تقريبًا بين تأثير البيئة المشتركة والبيئة غير المشتركة. وبالمقارنة، فسَّرَتِ الجيناتُ ثلثَي الاختلافات بين أطفال كولورادو، أما أغلب الثلث المتبقي فكان مردُّه إلى البيئة غير المشتركة. وأخيرًا أظهرت الاختلافات بين أطفال اسكندنافيا، الذين لم تُدرَّس لهم القراءة مطلقًا بالمدرسة، تأثيرًا جينيًّا أقل بكثير؛ إذ لم تكن الجينات مسئولة إلا عن ثلث الاختلافات بين هؤلاء الأطفال بنهاية مرحلة رياض الأطفال. إذن، بينما يكاد تقديرُ إمكانية التوريث يصل إلى ٨٠٪ في أستراليا، فإنه يقارب ٣٠٪ لدى أطفال اسكندنافيا. وفي تناقُضٍ صارخ مع نتائج أطفال أمريكا الشمالية وأستراليا، يرجع أغلبُ الاختلافات الملحوظة في القراءة لدى هؤلاء الأطفال إلى تأثير البيئة المشتركة، وعلى الأرجح تأثير الأسرة.
وهكذا، بنهاية مرحلة رياض الأطفال كان للجينات أبلغ الأثر على الأطفال الذين تلقَّوْا أكبر قدر من التعليم المدرسي، كذلك فإن معدلات الجهل بمهارات القراءة والكتابة أعلى بكثير في البلاد الاسكندنافية منها في أستراليا. لكنْ أَلْقِ نظرةً على ما يحدث بنهاية الصف الأول، عندما تُدرَّس مهارات القراءة والكتابة بشكل مكثَّف للأطفال كافة؛ فمع نهاية الصف الأول، أصبحت الجينات مسئولةً عن حوالي ٨٠٪ من الاختلافات بين الأطفال كافة، لا في أستراليا وحدها وإنما في العينات الثلاث كلها. أما البيئة المشتركة فلم تتمتع بأي تأثير تقريبًا في أيٍّ من البُلْدان، في حين كان نصيب البيئة غير المشتركة من ١٠٪ إلى ٢٠٪. وتساوت معدلات التمتُّع بمهارات القراءة والكتابة تقريبًا لدى المجموعات الثلاث كلها؛ وهذا مناقض للمنطق؛ فمزيد من المدارس — أي مزيد من التأثير البيئي — يؤدِّي إلى زيادة التأثير الجيني لا زيادة التأثير البيئي. فما الذي يجري إذن؟
كما ناقشنا في الفصل الأول، من المرجَّح أن يؤدِّي تعميم التعليم إلى زيادة تقديرات إمكانية التوريث، وهذا تحديدًا ما نراه يجري هنا؛ فمع زيادة تشابه تجارب الأطفال، تبدأ الخبرات في تفسير وزيادة أوجه التشابه بينهم، لا الاختلافات؛ ومن ثَمَّ يصبح التأثيرُ الجيني أقوى نسبيًّا. وفي هذه الحالة تختفي الاختلافات الكبرى في كيفية تلقِّي تعليم القراءة الرسمي بنهاية الصف الأول، ولا يعود لها دور في تفسير الاختلافات في قدرة القراءة بين التلاميذ. ويزداد متوسط قدرة القراءة كنتيجة مباشِرة لهذا، لكنْ في الوقت نفسه تزداد إمكانية توريث القراءة أيضًا. إن لم يكن باستطاعة العوامل البيئية تفسير الاختلافات بين الناس، فهذا بسبب المساواة بين التلاميذ؛ فجميعهم حصلوا على فُرَص تعلُّم متماثلة؛ ومن هذا المنطلق، يمكن أن ندفع بأن تقديرات إمكانية التوريث تعد بمنزلة مؤشر للمساواة؛ فزيادة تقدير إمكانية التوريث لا تعني أن البيئة ليس لها أيُّ تأثير، بل تعني أن تأثيرها يقتصر على أوجه الشبه لا الاختلافات. تمثِّل هذه الدراسة مثالًا رائعًا على أن المستويات البالغة الارتفاع من التأثير الجيني على صفة من الصفات، لا تجعل البيئة — الممثَّلة في هذه الحالة في التعليم الرسمي بالمدارس — عديمةَ التأثير. بالعكس، فالمدارس هي السبب وراء تعلُّم الأطفال بالقارات الثلاث القراءةَ، إلا أن الجينات هي السبب الرئيسي وراء أن بعض الأطفال يُحسِنون القراءةَ عن الآخرين.
النقطة المهمة هنا بالنسبة إلى المدارس هي أن بإمكاننا رَفْع متوسط الأداء، وتحقيق الإفادة لجميع الأطفال، بتطبيق تدخُّلات تعليمية كلية معتبرة؛ وهذا يؤيِّد المسعى الحالي لإجراء المزيد من التجارب لاكتشاف ما يحقِّق نجاحًا فعليًّا في التعليم. في بداية القرن التاسع عشر، كان أكثر من ٥٠٪ من أغلب شعوب الغرب جاهلين بمهارات القراءة والكتابة، إلا أن غياب التعليم في هذا الوقت كان مؤشرًا أفضل بكثير للتنبؤ بالأمية من تدنِّي القدرة الراجع إلى الجينات. وإن أمكن إجراء تحليل جيني سلوكي للبيانات عن ذاك الوقت، فإنه سيبدي تأثيرات بيئية قوية وتأثيرات جينية ضعيفة على الاختلافات الفردية في قدرة القراءة. لكن تطبيق التعليم الإلزامي على الجميع غيَّر من ذلك؛ فعندما يتلقى الأطفال جميعهم قدرًا من التعليم، فإن الاختلافات بينهم ترجع في الأساس إلى الاختلافات الفردية في استجابتهم للشرح. وبإجراء تدخُّل تعليمي معتبر يستهدف كل طفل في بلد من البُلْدان، سيرفع هذا من المتوسط الوطني، وربما من إمكانية توريث المهارة المستهدفة، إلا أن هذا لن يحقِّق الكثير على صعيد رَأْب الصَّدْع بين أعلى المتعلمين قدرةً وأقلهم قدرةً؛ وقد يكون لهذا تبعات مهمة فيما يخص دعم المتعثرين في التعلم.
ثمة نقطة أخرى ينبغي وضعها في الاعتبار؛ وهي أنه على الرغم من ارتفاع معدلات الجهل بمهارات القراءة والكتابة بنهاية رياض الأطفال في النرويج والسويد، فمن المعروف عن التلاميذ في هذين البلدين أنهم يغدون أصحاب مهارات قراءة فوق متوسطة؛ وهذا ما يشير إلى أنه إنْ أمكن إثبات أن إرجاء التعليم الرسمي أفضل بالنسبة إلى صالح الأطفال ونموهم الكلي، فلنا أن نفترض أنه من المستبعَد أن يتسبَّب في ضررٍ طويل الأمد لمهارات القراءة لديهم. وهذه الفرضية — مثلها مثل كل الفرضيات — ستستلزم اختبارًا علميًّا رسميًّا قبل تطبيقها كسياسة وطنية. وعلى اعتبارها فرضيةً قائمة على أدلة، فهي فرضيةٌ ذاتُ جدارةٍ.
الجينات، ومن ثَمَّ الإمكانات البشرية، لا يمكنها أن تنمو في الفراغ. وتقديرات إمكانية التوريث ليست مباشِرة كما تبدو لأول وهلة؛ لأنها خاضعة للارتباط المتبادل الأساسي بين الجينات والخبرة. لا ضير في أن نقول إن قدرة القراءة قابلةٌ للتوريث بنسبة ٦٠٪ أو ٧٠٪ أو ٨٠٪، إلا أن هذا التصريح لا يُبرِز الدورَ المحوري الذي يلعبه التدريس؛ فالأطفال المهيئون جينيًّا للتفوُّق في القراءة، لن يتعلَّموا القراءةَ إن لم يعلِّمهم أحدٌ إياها، أو إنْ لم يتعرَّضوا على الأقل لكثير من المواد المطبوعة. وعلى ضوء ذلك، يمكن لأسبابٍ معقولةٍ اعتبارُ التسبُّب في زيادةِ إمكانيةِ التوريث (في الوقت نفسه كزيادة في المهارة) تحقيقَ إنجازٍ ينبغي للمدرسين والآباء الافتخارُ به، لا اعتباره علامةً على وجود حتمية تستدعي الخوف والشك. إذا ارتاد جميع الأطفال مدارسَ على المستوى نفسه من الجودة، وتلقَّوْا قدرًا من التعليم على المستوى نفسه من الجودة، فإن الجينات ستكون مسئولة عن أغلب الاختلافات بينهم — وسيوجد عندئذٍ تقريبًا نفس عدد الاختلافات الكبير الموجود الآن — من حيث مهارة القراءة. ولا داعي لاعتبار هذا أمرًا سيئًا، وخصوصًا إنْ كانَتْ تلك المدارس ترفع متوسطَ الأداء؛ وعليه ينتقل المنحنى الجرسي كله إلى جهة اليمين. وينبغي للمدرسة الجيدة أن توفِّر تنشئةً متكافئةَ الجودة بحسب طبيعة كل طفل؛ فنحن جميعًا لا نتمتع بالمواهب نفسها، لكن ينبغي أن يحصل كلٌّ منَّا على فُرَص متساوية من أجل تنمية ما لدينا من مهارات.
(٢) التأثيرات البيئية على قدرة القراءة
إن كمَّ الأبحاث الموجَّهة جينيًّا عن تأثيرات البيئة على قدرة القراءة أقلُّ مما نحتاج إليه. وكما رأينا، فإن تأثيرات البيئة المشتركة مهمة في سنوات ما قبل المدرسة، أما التأثيرات البيئية بمرحلة المدرسة فعادةً ما تكون غير مشتركة. وتوصَّلَ الباحثون أكثر من مرة إلى أن مستوى اللغة ومهارات القراءة والكتابة بالمنزل يؤثِّر على قدرات القراءة لدى الأطفال (انظر على سبيل المثال بحث مول وباص، ٢٠١١). في الدراسات التي لا تضع الجينات في الحسبان، كثيرًا ما يظهر أن المكانة الاجتماعية والاقتصادية تتنبَّأ بقدرة القراءة. في سنِّ الثالثة مثلًا، يتخلَّف كثيرًا الأطفالُ المشتركون ببرنامج هيد ستارت بالولايات المتحدة عن أقرانهم من حيث كمُّ الحصيلة اللغوية (انظر على سبيل المثال بحثَ شيفنر-هامر، فاركاس، ماتسوجا، ٢٠١٠). وقد ظهرت اختلافات مشابهة بالنسبة إلى القراءة في سنوات المدرسة الابتدائية؛ ومن ثَمَّ يبدو أن الأطفال القادمين من أُسَر منخفضة الدَّخْل — حيث حصل الوالدان على مستويات تعليم متدنية — معرَّضون لمواجهة صعوبات في القراءة.
يذهب البعض إلى أن المكانة الاجتماعية والاقتصادية — التي تُعرَف عادةً بأنها المكانة التعليمية والوظيفية للوالدين — تؤثِّر على القدرة من خلال جودة البيئة اللغوية التي يوفرها المنزل؛ على سبيل المثال: أظهرت الأبحاث أن التحدث مباشَرةً مع الأطفال وتشجيعهم على الحديث وتعريضهم لمخزونٍ لغويٍّ متنوعٍ ومعقَّد، كلها عوامل مرتبطة بتكوين الأطفال الصغارِ حصيلةً لغويةً كبرى. ظاهريًّا لا يبدو الأمر عويصًا. كذلك يرتبط مدى استجابة الأم لطفلها الصغير بمهارات التعبير اللغوي، بما فيها توقيت الأحداث المبكرة المهمة، مثل نطق أولى الكلمات (انظر على سبيل المثال بحث لارانجو وبرنير، ٢٠١٢). وتقل هذه الممارسات عن المعتاد في المتوسط لدى الأُسَر التي تحقِّق مكانة اجتماعية واقتصادية متدنية، إلا أن من المهم التأكيد على أنه على الرغم من استطاعتنا اعتبارَ تلك النتائج مسلَّمًا بها، فثمة قدر كبير من التنوُّع على مختلف مستويات المكانة الاجتماعية والاقتصادية؛ فعلى سبيل المثال: بعض الأُسَر ذات المكانة المتدنية توفِّر بيئاتٍ ممتازةً لأطفالها لتعلُّم مهارات القراءة والكتابة، في حين أن بعض الأُسَر المتمتعة بمكانة مرموقة تقدِّم القليل لأطفالها من حيث التواصل؛ فالقِيَمُ المتوسطة لا تُطلِعنا إلا على أقل القليل عن الأفراد.
لكن من المستحيل تفسير مثل تلك النتائج دون أَخْذ الجينات في الاعتبار. لا يمكننا التأكُّد فعليًّا من أن تدنِّي المكانة الاجتماعية والاقتصادية متربِطٌ بانخفاض قدرة القراءة لأسباب بيئية. هل الآباء الذين لا يتحدثون كثيرًا مع أطفالهم يتسبَّبون في غياب الحديث المفعم بالحيوية لدى أطفالهم، أم أن أطفالهم لا يتواصلون لأنهم متشابهون جينيًّا مع آبائهم؟ أم هل يساهم كلا العاملين معًا على أرض الواقع؟ وتقريبًا كما هو الحال دائمًا مع نتائج علم الوراثة السلوكي، يبدو الدمج بين العاملين هو الاحتمال الأرجح.
ركَّزَتِ الدراسات الحديثة على علاقات الاقتران بين النمط الجيني والبيئة، وهي الفكرة التي تصف كيفية تأثير جيناتنا على خبراتنا، وتوضِّح أن الجينات لا تعمل في الفراغ بل تلعب دورًا نَشِطًا في تكوين خبرتنا. وكما ناقشنا في الفصل الأول، ثمة ثلاثة أنواع من علاقات الاقتران بين النمط الجيني والبيئة: علاقة سلبية، واستدعائية، ونَشِطة.
في علاقة الاقتران السلبية بين النمط الجيني والبيئة، نرى نتائجَ تَلقِّي جيناتنا من الوالدين والعيش في البيئات التي وفَّروها لنا؛ على سبيل المثال: الآباء الذين لا تستهويهم القراءة لا ينقلون جيناتهم إلى أطفالهم فحسب، وإنما يخلقون منزلًا ربما لا توجد به كتبٌ كثيرة، ولا ينظمون رحلات إلى المكتبات، ولا يقصُّ أحدٌ على الأطفال قصصًا قبل النوم؛ ومن ثَمَّ يكون الطفل في موقف قد يرث فيه جيناتٍ لا تحبِّذ القراءةَ، إضافةً إلى وجوده في بيئة منزلية لا تحض على تنمية حبِّ القراءة. إنها انتكاسة مزدوجة!
في علاقة الاقتران الاستدعائية بين النمط الجيني والبيئة، الطفل صاحب الاستعداد الجيني لحب القراءة قد يستدعي سلوكيات مختلفة من الأسرة والأصدقاء عمَّا يستدعيه الطفل غير المتمتِّع بهذا الاستعداد؛ فقد يقرأ له أحدُهم القصصَ ويصطحبه آخَر إلى المكتبة ويبتاع له الكتب كهدية، وربما يُعرَف عنه أنه قارئ نَهِم؛ مما يجعل حبَّ القراءة جزءًا من هويته، وربما يتلقى المديح على عدد الكتب التي قرأها أو السرعة التي يقرؤها بها؛ وهذا الجو من المديح والإيجابية حول الكلمة المكتوبة تستدعيه جزئيًّا جينات الطفل.
في علاقة الاقتران النشطة بين النمط الجيني والبيئة، الطفل المستعد جينيًّا للتميُّز في القراءة قد يتطوع لقراءة أطول القصائد في فعاليات المدرسة، وسيلاحظ المحيطون به قيامه بذلك، وربما يمضي وقتَ فراغه في المكتبة ويكتشف أن قصص الخيال العلمي هي المفضَّلة لديه، أو ربما ينجز برامج القراءة بسرعة بحيث يمنحه المدرسون مهامَّ جديدةً أكثر استنفارًا لقدراته بالصف؛ ومن ثَمَّ يحصل على تعليم أكثر تخصيصًا من زملائه بالصف. في علاقة الاقتران النَّشِطة بين النمط الجيني والبيئة، يحدد الناس من الأعمار كافة عوالمَهم على أساس ميولهم المتأثرة جينيًّا، ونحن كباحثين نؤمن أن هذه العملية في غاية الأهمية بالنسبة إلى التعليم، إلا أنَّ من المطلوب طرقًا جديدةً لقياس هذه العملية وفهمها وتحقيق أقصى استفادة منها؛ وهو ما نعمل عليه باجتهاد حاليًّا. في علاقة الاقتران بين النمط الجيني والبيئة، تؤثر الجينات — عن طريق الشخصية أو السلوك أو القدرة — على التعرض لبيئات معينة؛ فنحن نخلق خبراتنا ونحدِّد شكلها.
النوع الآخَر المهم من التفاعُل بين النمط الجيني والبيئة الذي عيَّنه الباحثون هو تفاعُل الجين (أو النمط الجيني) مع البيئة، والمعروف بالتفاعل الجيني البيئي. يَبرُز هذا التفاعل إذا اتَّضَح أن جيناتنا تؤثِّر على قابلية تأثُّرنا ببيئات معينة؛ ففي حالة قدرة القراءة، ينبغي أن نلاحظ مؤشراتٍ على التفاعل الجيني البيئي إنْ كانت قدرةُ القراءة تتمتَّع بقابلية توريث أكبر (أو أقل) لدى مجموعات أطفال (على سبيل المثال: البنات، أو الأطفال الذين من أُسَر منخفضة الدخل، أو الأطفال المصنفون على أنهم موهوبون أو نابغون) تعرَّضوا لبيئة معينة (مثل برنامج قراءة مكثَّف) مقارَنةً بباقي الأطفال عامة؛ على سبيل المثال: في دراستين حول التفاعل الجيني البيئي وعلاقته بالقراءة، اكتشف الباحثون أن إمكانية توريث قدرة التعرُّف على الكلمات أعلى بكثير بين توائم من والدين حصلوا على تعليم رفيع، منها بين أطفال من والدين حصلوا على تعليم أقل جودةً (فريند وآخرون، ٢٠٠٩). وقد يعني هذا أن الوالدَين الحاصلَين على تعليم أفضل يوفران لأطفالهما بيئةً تحظى فيها الجينات بالسبق على صعيد تعلُّم القراءة. وربما يعكس هذا النتيجةَ المذكورةَ سابقًا، التي تزعم أن إمكانية التوريث تزيد مع زيادة تكثيف التعليم، وأن الآباء الحاصلين على تعليمٍ أفضل يوفرون لأطفالهم قدرًا أكبر من التعليم دون غيرهم. ربما تتمتَّع البيئة التي يوفرها هؤلاء الآباء بسمة خاصة لها تأثير استثنائي على تنشئة طبائع أطفالهم؛ وهي قضية ينبغي استكشافها عند النظر إلى كيفية تحقيق تكافؤ الفرص بين جميع الأطفال، بغضِّ النظر عن الأُسَر المنحدرين منها، والأحياء التي يترعرعون فيها، والمدارس التي يرتادونها. ومن المثير للاهتمام أن نمطًا مشابِهًا قد اكتُشِف في المدارس؛ إذ اتضح أن قابلية توريث قدرة القراءة تزداد بين الطلاب الذين درسوا على أيدي مدرسين أفضل (تايلور وآخرون، ٢٠١٠)، وتقل بين الأطفال الذين نشئوا في أحياء منخفضة الدخل (تايلور وشاتشنايدر، ٢٠١٠). يتضمَّن التفاعُلُ الجيني البيئي الطبيعي، القائم على أساس بيولوجي، اكتشافَ أنَّ للتدخُّل البيئي — مثل الحصول على دورة مكثَّفة لأصوات الحروف أو القراءة المشتركة للكتب — تأثيرًا على الأطفال الحاملين لصورة جينية معينة، أكبر بكثير من تأثيره على الأطفال الحاملين للصورة البديلة. وقد اكتُشِف التفاعُلُ الجيني البيئي من هذا النوع في أبحاثٍ أُجرِيت على إساءة المعاملة والعدوانية في مرحلة الطفولة، إلا أنه لم يُكتشَف بعدُ في مجال أبحاث القراءة.
إن إدراك التفاعُل بين الأنماط الجينية والبيئات يمكن أن يساعد المدرسين وصانعي السياسات على فهم أسبابِ تمكُّن بعض التدخلات والطرائق من مساعدة بعض الأطفال دون غيرهم. يمكن أن تساعد التفاعلات الجينية والبيئية صانِعِي القرارات على استهداف الموارد بصورةٍ أدق وبثقةٍ أكبر. وينبغي لجدول الأعمال المعنِيِّ بالعوامل الناجحة أن يضع الاختلافات الفردية في الحسبان، عبر بحث ما يحقِّق نجاحًا مع مجموعات الأطفال المختلفة وفي الظروف المختلفة. إن توفير البيئة التعليمية المناسِبة للنمط الجيني لدى طفلٍ بعينه، يتطلَّب كذلك توفيرَ أكبر نطاقٍ ممكن من البيئات؛ وهي الفكرة التي سيكون لها تبعات مدهشة إلى حدٍّ ما على نوع النظام التعليمي الذي سنوصي به في الجزء الثاني من الكتاب.
(٣) المتعثرون في القراءة
لا يتعلم جميع الأطفال القراءة في سنتهم الأولى أو الثانية بالمدرسة، وبعض هؤلاء الأطفال يصلون إلى مرحلة البلوغ دون أن يطمئنوا حقًّا إلى قدرتهم على القراءة. إن أشهر إعاقات القراءة هو عُسر القراءة. نود عرض تعريفٍ واضحٍ وبسيطٍ لعسر القراءة، إلا أنه باختلاف المصادر تختلف التعريفات، ولا يُجمِع الكلُّ على أيٍّ منها. وقد صرَّح بعض الأكاديميين والمدرسين والسياسيين أن عسر القراءة خرافةٌ لا وجودَ لها، في حين يرد الآخرون — عادةً مَن يجري تشخيصهم بعسر القراءة، أو يشتركون في تمثيل المصابين به أمام الرأي العام — على مزاعمهم بغضب. والخلاف متفاقِم ومفجع بشكل خاص بالنسبة إلى الآباء عندما يتجادل التربويون حول تصنيف من التصنيفات، بدلًا من تقديم المساعدة والدعم اللذين يحتاجهما أطفالهم بالتأكيد. وفي الواقع، مسألة وجود عسر القراءة أو عدم وجوده، هي أكبر نقطة خلافية يتجنَّبها الباحثون في مجال إعاقات التعلم.
وبطرح مسألة وضع تعريف محدَّد جانبًا، من المقبول أن نقول إن الأطفال الذين جرى فحصهم لتبيُّن إنْ كانوا مصابين بعسر القراءة، يشتركون جميعهم في شيء واحد؛ جميعهم يواجهون صعوبةً في تعلُّم القراءة؛ فهم الأطفال الموجودون على الطرف الأيسر من منحنى القراءة الجرسي. وتشير الأبحاث إلى أن نسبةً تبلغ من ٥٪ إلى ١٠٪ من أطفال المدارس يواجهون صعوبات في القراءة، وأغلب هؤلاء الأطفال يظهر عليهم العديد من السمات المميزة التالية (لكن نادرًا ما تظهر كلها): صعوبة في نطق الكلمات المسجوعة أو عد المقاطع بالكلمات (التمييز الصوتي)، وصعوبة سماع الأصوات في الكلمات واستخدامها (تمييز الصوتمات)، وصعوبة التمييز بين الأصوات المختلفة في الكلمات (المعالجة الصوتية)، وصعوبة تعلُّم أصوات الحروف (التعليم بالأصوات). قد تكون قراءتهم الشفهية بطيئةً ومتعثرةً، وقد يكون فهمهم ضعيفًا، على الرغم من أن هذا ليس هو الحال في كثيرٍ من الأحيان. كذلك يواجه المتعثرون في القراءة غالبًا صعوباتٍ في اللغة المنطوقة والمكتوبة، وربما يكونون قد تأخَّروا في تعلُّم الحديث، وواجهوا صعوبةً في اتباع الإرشادات، وتقدَّموا بصعوبة في تعلُّم حروف الهجاء وأناشيد الأطفال والأغاني. وربما يواجهون صعوبةً في التعبير عن أفكارهم كتابةً، ومن المرجح أن يرتكبوا أخطاءً هجائيةً كثيرة في واجباتهم الدراسية اليومية، على الرغم من أنهم قد يُحرِزون درجةً مرتفعةً في اختبارات الهجاء الأسبوعية بالمدرسة. والصعوبات التي يواجهها هؤلاء الأطفال بالمدرسة يمكن أن يكون لها تأثيرٌ سلبيٌّ غير مباشِر على ثقتهم وصحتهم العقلية.
إذن، هل توجد أية أدلة على أن الأطفال المصابين بعسر القراءة مختلفون جينيًّا بأي حال من الأحوال؟ إنْ وُجِدت الأدلة، فسيساعد هذا على تقديم ذلك التعريف المراوغ للحالة. لقد أظهرت الأبحاث أن صعوبات القراءة تتوارثها العائلات (ديفريز، فوجلر، لابودا، ١٩٨٦). وقد حدد علماء الوراثة السلوكيون بالفعل جيناتٍ معينةً ربما ترتبط بمشاكل القراءة (شيري وآخرون، ٢٠١١). وعلى هذا الصعيد، تقدَّمَتِ الأبحاث في مجال جينات القراءة على الأبحاث المجراة في مجال جينات التحصيل المدرسي عامةً، إلا أنه من المهم التأكيد على أن هذه الأبحاث في مرحلةٍ مبكرةٍ، وأن كثيرًا من النتائج لا يتكرر، بل يناقض بعضها بعضًا أيضًا.
كما ذكرنا آنفًا، «عسر القراءة» نقطة خلافية يتجنَّبها الباحثون؛ ومن المرجح أن تُوقِعنا مثل تلك التصريحات في مشكلاتٍ، لكننا سنتجرأ ونسأل لماذا؟ لماذا نجد كآباء أن قول «طفلي يُعانِي من عسر القراءة» أسهل من قول «طفلي يجد صعوبةً في القراءة»؟ ماذا يعكس هذا عن موقفنا تجاه أطفالنا كأفراد يملكون نقاطَ ضعفٍ ونقاطَ قوةٍ؟ وماذا يعكس هذا عن المجتمع وسياسة التعليم عندما لا نقدِّم على الفور دعمًا إضافيًّا لأي طفل يتفق مدرسوه وأبواه على أنه يجد صعوبةً أكبر في تعلُّم القراءة دون أغلب رفاقه؟ بل نُصِرُّ أولًا، في كثير من الحالات، على إخضاع هذا الطفل للاختبارات (أو إلزام أبويه بإجراء الاختبارات له وسداد تكاليفها) لنعرف ما إذا كان يستوفي معاييرَ معينةً ويمكن «تشخيصه» بالإصابة بعسر القراءة، أم لا.
نحن نَعِي جيدًا أنه في السنوات اللاحقة سيكون من المفيد وجود تشخيصٍ أو سجلٍ ما للتأكُّد من معاملة الأفراد معاملةً عادلة؛ على سبيل المثال: قد يؤدِّي متقدِّمٌ لشَغْل وظيفةٍ ممَّن يعانون صعوبةً في القراءة أداءً ضعيفًا بأحد اختبارات القياس النفسي، إنْ كان لا بد من إنهائه في وقت محدد؛ وبافتراض أن الوظيفة لا تعتمد على سرعة القراءة، سيكون أكثرَ منطقيةً أنْ يُراجَع الإطارُ الزمني المخصَّص لهذا المرشَّح للوظيفة؛ فمن غير المنطقي مثلًا أن تطلب من شخصٍ يعاني من ضعف البصر أداءَ الاختبار دون نظارة أو عدسات لاصقة.
لكن في الواقع لا يوجد أيُّ أساس جيني واضح لتشخيص إعاقةٍ تُعرَف باسم «عسر القراءة»؛ فعدم استطاعة طفل من الأطفال القراءةَ بالمهارة التي ننتظرها منه، كفيلٌ بأن يكون الدليلَ المطلوبَ من أجل تقديم دعمٍ إضافي له؛ والنقودُ المنفَقة على التشخيص والاختبارات، والوقتُ المهدَر في انتظار كل هذا، سيكون من الأفضل إنفاقهما على تقديم دعم إضافي لكل الأطفال المصنَّفين عند الحد الأدنى من النطاق المتدرج لقدرة القراءة. وإنْ جرى فرْضُ هذا في أسبق مرحلة ممكنة من تعليم الطفل، فسيمكن التحسين من أدائه ورَأْب الصدع بين الأطفال أصحاب قدرة القراءة العليا وأصحاب قدرة القراءة الدنيا بالصف.
(٤) الجينات المتحكمة في قدرة الكتابة
اهتمَّ علماء الوراثة السلوكيون بقدرة الكتابة اهتمامًا أقل من اهتمامهم بقدرة القراءة، وطالما وجدَتِ الأبحاثُ روابطَ قويةً بين مهارتَيِ الكتابة والقراءة، وهو أمر متوقَّع من عدة نواحٍ؛ فكلتا المهارتين نمطان من أنماط اللغة والتواصل، والكتابة مهارة حياتية أساسية في العالَم الحديث، وحتى إنْ لم تواتِنا الرغبةُ في كتابة مسرحيات أو شعر أو روايات أو مقالات أو خطابات، فنحن مضطرون لملْءِ الاستمارات، والتوقيع من أجل استلام الطرود، وإعداد قوائم المشتريات، والرد على الرسائل النصية وما إلى ذلك. وتتجلى الحاجة إلى الكتابة على نحوٍ أكثر وضوحًا لدى لأطفال بالمدرسة، ممَّن يُحتَّم عليهم عادةً التعبيرُ كتابةً عمَّا تعلَّموه في دروسهم. فالكتابة هي الآلية الرئيسية للحصول على درجات المدرسة التي ستتيح لهم فرصًا جذَّابة في باقي حياتهم. وعلى الرغم من ذلك، فالكتابةُ مثل القراءة مهارةٌ غيرُ طبيعية، لن نتقنها دون تعليم مكثَّف، وحتى مع التعليم المكثَّف، يتَّضِح أن بعض الأطفال يجدون الكتابةَ مهارةً يصعب اكتسابها بشكلٍ لا يُصدَّق.
أغلبُ أبحاث الوراثة السلوكية التي أُجرِيت على مسبِّبات الاضطرابات التي تؤثِّر على مهارات الكتابة ركَّزت على الهجاء، مع أن البعض قد يختلفون مع ذلك زاعمين أن الهجاء مرتبط بالقراءة أكثر من ارتباطه بالكتابة. وفي أول دراسةٍ للهجاء أُجرِيت على توائم، اكتُشِف أن الجينات مسئولة عن أكثر من نصف الاختلافات بين الأطفال في سن الثالثة عشرة.
تناولَتْ دراسةٌ قادتها الدكتورة بونامي أوليفر ضمن دراسةِ التطوُّر المبكر للتوائم؛ جيناتِ التحصيل في الكتابة باستخدام مستويات المنهج الوطني للمملكة المتحدة، التي مُنِحت للتوائم المشتركين بدراسة التطوُّر المبكر للتوائم، عندما كانوا في السابعة من عمرهم (أوليفر، دايل، بلومين، ٢٠٠٧). جمعت الدكتورة أوليفر تقييمات المعلمين لتحصيل التلاميذ، واستخدمت طريقة التوءم للوصول إلى أن الجينات مسئولة عن ثلثَي الاختلافات بين الأطفال، أما البيئة المشتركة فكانت نسبتها ٧٪، وكانت النسبة المتبقية من نصيب تأثير البيئة غير المشتركة. تناولَتِ الباحثة كذلك فكرة ما إذا كان النمط نفسه من البيئة والتنشئة ينطبق على الأطفال ذوي أدنى مستوًى من الأداء، واكتشفَتْ أنه ينطبق عليهم. لم يكن تدنِّي قدرةِ الكتابة قابلًا للتوريث بشكل أكبر أو أدنى من قدرة القراءة المتوسطة أو المرتفعة.
حتى الآن لا توجد محاولات تهدف إلى تحديد جينات أو بيئات معينة مرتبطة بالكتابة، لكن المجال يظل مجالًا مهمًّا مفتوحًا للأبحاث المستقبلية. يواجه أصحاب مهارات الكتابة الدنيا حاجزًا قائمًا بينهم وبين مجتمعهم، وهو أمر غير مقبول؛ ومن ثَمَّ فإن تحديد الخبرات التي قد تتغلَّب على الاستعداد الجيني لصعوبة الكتابة، هو هدف علمي واجتماعي مهم ويستحق العناء.
بالنسبة إلى مهارتَيِ القراءة والكتابة، رأينا أن إمكانية التوريث تتجاوز نسبة ٦٠٪، وهو دليل على أن الجينات نفسها تؤثِّر على نطاق القدرة المتدرج بأسره (ما يُعتبَر غير طبيعي هو طبيعي)، ودليل على أن الجينات نفسها تظلُّ مؤثرة مع نمو الطفل (الثباتُ جينيٌّ أما التغيُّرُ فبيئيٌّ)؛ وهاتان مهارتان من المهارات الأساسية الثلاث. لكن إلى أيِّ مدًى يختلف «الحساب» عنها؟ سنبحث في الفصل القادم ما إذا كان يوجد دليل جيني يؤيِّد التعامُل مع مهارة الحساب بشكلٍ مختلف في نظامنا التعليمي الجديد أم لا.