المهارات الأساسية الثلاث، المهارة الثالثة: الحساب
لكل شخص وجهة نظر في الرياضيات، وعادةً ما تكون مفعمة بالمشاعر؛ فنحن إما نحبها وإما نكرهها، إما بارعين فيها وإما متعسرين، إما نراها أصل كل شيء وإما نرى أنْ لا جدوى منها على الإطلاق. لم يثق ألبرت أينشتاين فيها على عكس الفأر ميكي، بل أدرك ميكي أن جوهرها، أو على الأقل أحد جوانبها، هو: «أن تتمكَّنَ من العدِّ حتى الرقم عشرين دون أن تضطر لخلع حذائك واستخدام أصابع قدمَيْك.» بعض المروِّجين للحملات التعليمية يعتبرون قدرةَ الحساب (إلى جانب قدرة القراءة والكتابة) حجرَ الزاوية في المنهج الدراسي، في حين يشعر آخَرون أن هذه الجوانب التقليدية من التعلُّم تلقَى قدرًا مبالَغًا فيه من الاهتمام، على حساب مواد وطرائق أخرى. ويُقال إن أفلاطون اعتبر الرياضيات مادةً مناسِبةً تمامًا لمنهج المدرسة؛ فقال: «الرياضيات مثل لعبة الداما في كونها مناسِبةً للصغار، وليست بالغةَ الصعوبة، وهي ممتعة ولا تشكِّل أيَّ خطرٍ على الدولة.» نحن نتطلع إلى إدراج لعبة الداما بالمناهج الوطنية، وأن يُنظَر جديًّا إلى المواد الدراسية التي تشكِّل خطرًا فعليًّا على الدولة، مثل أشغال الإبرة. وفي المقابل، لم يَرَ أينشتاين الرياضيات (التي لم يثق فيها) بسيطةً أو ممتعةً؛ إذ قال: «منذ أن هيمن علماء الرياضيات على النظرية النسبية، لم أَعُدْ أنا نفسي أفهمها» (انظر شيلب، ١٩٤٩).
ما هي الرياضيات؟ كيف ينبغي تدريسها بالمدرسة؟ وما المقدار الذي ينبغي تدريسه منها؟ هل كل شخص بحاجةٍ إلى تعلُّم حساب المثلثات والتفاضل والتكامل؟ أم إن القدرة على إجراء الحسابات المتعلقة بالكلفة والزمن والوزن والمسافة كافيةٌ؟ هل الجميع قادرون على تعلُّم التفاضل والتكامل؟ هل نُولَد بحسٍّ رياضي؟ وإنْ كان الأمر كذلك، فما مدى قوته؟ يمكن أن يتفق أغلبنا على أن التمكُّنَ من العدِّ حتى العدد ٢٠ دون الاستعانة بأصابع القدمين، ربما يكون ضرورةً لطفل القرن الحادي والعشرين، إلا أن المسائل الأخرى محل خلافٍ بلا شكٍّ. والسؤال الأكثر إلحاحًا بالنسبة إلينا، طرَحَه شخصٌ يُدعَى أدريان ماثيسيس بفصاحة، وأدريان هذا شخص ينقل عنه الكثيرون على الإنترنت وبكتب الرياضيات، لكنه قد يكون شخصيةً ابتكَرَها عالِمُ رياضياتٍ يتمتَّع بروح الدعابة وربما بدرجة ماجستير (فكلمة ماثيسيس مكوَّنة في اللغة الإنجليزية من مقطعين بمعنى أطروحة الماجستير): «إن أشهر نظرية لم تتم برهنتها بعدُ في الرياضيات هي: لِمَ يتميز فيها البعض عن غيرهم؟» هذه بالتحديد الأسئلة التي تستنفر علماء الوراثة السلوكيين، وقد نجحت في هذا دون شك.
(١) لِمَ يتفوَّق البعض على غيرهم في الرياضيات؟
كان الاهتمام بالاختلافات الفردية في القدرة الرياضياتية وراء تنفيذ برنامج بحثي سبَّاق ترَأَّسَتْه الدكتورة يوليا كوفاس من كلية جولدسميث، وهي كلية تابعة لجامعة لندن، وصوفيا دوكيرتي، التي كانت آنذاك طالبةَ دكتوراه بفريق دراسة التطوُّر المبكر للتوائم. ويوليا كوفاس عالمةُ نفسٍ أمضَتْ سنوات في العمل على فهم التأثيرات الجينية والبيئية على تحصيل الأطفال الرياضياتي، وهي مهتمة بالمناظرات في أدبيات علم النفس حول موضوعاتٍ مثل: هل الأطفال الذين يجدون صعوبةً في الرياضيات ليسوا بارعين في الرياضيات فحسب، أم إنهم يعانون من اضطرابات متفردة لها أسباب معينة؟ وكما وصفنا في الفصل السابق، اشتعل هذا الجدل الموازي للجدل حول مشاكل القراءة طوال عقود، وقد وضَّحْنا أن صعوبات القراءة تمثِّل إحدى نهايتَيْ منحنًى جرسي موزَّع توزيعًا طبيعيًّا، وأنها تتأثَّر بالجينات نفسها التي تتأثَّر بها قدرةُ القراءة عامةً. سيفضل الكثير من الآباء الاعتقادَ بأن طفلهم ذكيٌّ لكنه يعاني من إعاقة معينة، عن الاعتقاد بأن الطفل يعاني من تدنِّي القدرة الرياضياتية، أو قدرة القراءة بشكل أكثر تحديدًا. تنطوي كلمة «إعاقة» على تشخيص، بينما تصف كلمة «صعوبة» مشكلةً شائعةً؛ وسنتناول هذه المسألة فيما بعدُ بمزيدٍ من التفصيل.
يتمحور قدرٌ كبيرٌ من الجدل حول فروع الرياضيات المختلفة — مثل الحساب والجبر — سواء أكانت مرتبطةً أم منفصلة بعضها عن بعض؛ فعلى سبيل المثال: هل العناصر المُشكِلة على خبير إحصاء بارع هي نفسها التي تُشكِل على مهندس معماري ماهر؟ ما المشترك بين الطفل الذي يستطيع سَرْد الأعداد الأولية إلى ما لا نهاية، وبين الطفل الذي يستطيع حسابَ الربح الذي سيجنيه من بيع بطاقات كرة القدم بملعب المدرسة؟ وما الذي تُطلِعنا عليه هذه النتائج الجينية بخصوص طرق تعليم هؤلاء الأطفال؟
صمَّمَتْ يوليا كوفاس دراسةً وأجرتها للإجابة على تلك الأسئلة باستخدام توائم يبلغون من العمر عشر سنوات من دراسة التطوُّر المبكر للتوائم. منح مدرِّسو التوائم كلَّ طفلٍ درجةً على المهارات الثلاث التي يغطيها منهجُ الرياضيات الوطني بالمملكة المتحدة — وهي استخدام وتطبيق الرياضيات، الأرقام والجبر، الأشكال والفراغ والمقاييس — كما جرى تقييم القدرة الرياضياتية لدى التوائم مباشَرةً باستخدام اختبارٍ على شبكة الإنترنت. اهتمَّتْ يوليا بالأسئلة التالية: هل القدرة الرياضياتية قابلة للتوريث؟ هل التأثيرات الجينية والبيئية على تدنِّي القدرة الرياضياتية هي نفسها المؤثرة على الأطفال أصحاب القدرة المتوسطة أو المرتفعة؟ وهل القدرات الرياضياتية المختلفة تخضع للتأثيرات الجينية والبيئية ذاتها؟ تناولَتْ يوليا هذه الأسئلة إحصائيًّا، ثم مرَّرَتْ نتائجها إلى صوفيا دوكيرتي بالمختبرات، التي فحصت الحمض النووي للتوائم من أجل الوصول إلى مزيدٍ من الإجابات؛ فماذا اكتشفَتْ يوليا كوفاس وصوفيا دوكيرتي؟
(١-١) هل القدرة الرياضياتية قابلةٌ للتوريث؟
نعم، هي كذلك. قدَّرَتْ يوليا أن إمكانية توريث القدرة الرياضياتية بين الأطفال في سن العاشرة تبلغ الثلثين تقريبًا، بحسب التقييم الذي أعَدَّه مدرسوهم، وكانت البيئة المشتركة مسئولةً عن ١٢٪ من الاختلافات في القدرة بين الأطفال، أما البيئة غير المشتركة فشكَّلَتْ ٢٤٪. وكانت يوليا قد أجرت تحليلًا مماثلًا عندما كان أطفال دراسة التطور المبكر للتوائم في السابعة من عمرهم، وخلصت إلى نتيجة مشابهة جدًّا: كان التحصيل الرياضياتي بحسب تقييم المدرسين قابلًا للتوريث بنسبة ٦٨٪، وكانت البيئة المشتركة مسئولةً عن ٩٪، وكان نصيب البيئة غير المشتركة ٢٢٪ من الاختلافات بين الأطفال. ظهرت أيضًا نتائجُ مشابهةٌ عندما بلغ الأطفال سن تسع سنوات؛ في هذه العينة على الأقل، التي تمثِّل القطاعَ العريض من سكان المملكة المتحدة، تبدو تقديراتُ إمكانية التوريث البالغة ٦٠٪ إلى ٧٠٪ مرتفعةً خلال سنوات المدرسة المبكرة، وهذه النتائج تشبه نتائجنا بالنسبة إلى قدرتَيِ القراءة والكتابة.
وهذا هو الوضع الذي يتعامل معه مدرسو المدرسة الابتدائية؛ فالاختلافات الجينية في هذه المرحلة أهم بالنسبة إلى التحصيل الرياضياتي من الاختلافات في دخل الأسرة، أو مستواها المادي، أو ممارستها لألعابٍ تدعم القدرات الحسابية مثل مونوبولي أو روميكيوب، أو تعليم الأبوين، أو النوع، أو جودة المدرسة. إلا أن تأهيل المدرسين لا يأخذ هذه الاختلافات الجينية بعين الاعتبار؛ فمن أحد الجوانب، لا يقدِّم تقديرُ إمكانية التوريث بنسبة ٦٠٪ إلى ٧٠٪ أيَّ معلومات على الإطلاق إلى المدرِّس، بصدد ما هو ممكن من طفلٍ بعينه أو حتى ما ينتظر منه، لكن من المفترض أن يؤكِّد هذا التقدير — لأسباب بيولوجية جزئيًّا — على أن جميع التلاميذ بالصف يبدءون من نقاط مختلفة؛ ومن ثَمَّ يحتاجون إلى اتخاذ خطوات تالية مختلفة كي يُنَمُّوا من فهمهم وقدرتهم. ينبغي أن يدرك هذا المدرس أن وظيفته هي استخراج إمكانات كل طفل بالتدريج، لا استهداف تحقيقِ غرضٍ تحكُّميٍّ ما مفروض خارجيًّا على الصف بأسره. يعلم المدرسون ذلك بالفعل، لكن تعترض أساليبَهم كثيرًا جدًّا إرادةٌ سياسيةٌ تهدف إلى تحدِّي الطبيعة. يبدأ بعض الأطفال المدرسة ولديهم تفوُّق بيولوجي في الرياضيات، ومن المعقول افتراض أن هؤلاء الأطفال سينمون بشكلٍ مختلفٍ عن الأطفال الذين لا يشاركونهم تفوُّقَهم؛ فهل من غير المعقول أن يعكس التعليم هذا؟
لاكتشاف التأثير الجيني على التحصيل الرياضياتي والقدرة الرياضياتية تَبِعاتٌ مهمةٌ على طرق تدريس الرياضيات، لا سيما كيفية تخصيص تعليم الأعداد بحيث يستخرج أفضل ما لدى كل طفل، وفي الوقت نفسه لا ينتقص من الجوانب التي يوجد فيها لديهم استعداد لتحقيق مزيدٍ من الإنجاز والتحصيل. يذهب مالكوم جلادويل — في كتابه عن النجاح الذي يحمل عنوان «المتميزون» (جلادويل، ٢٠٠٨) — إلى أن النجاح — النجاح الحقيقي الرفيع المستوى — يتطلَّب ١٠ آلاف ساعة من التدريب. لِمَ لا نقدِّم للأطفال تعليمَ رياضيات رفيع المستوى بمقادير تتناسب وقدراتهم واحتياجاتهم وآمالهم الفردية، ونستخدم التعليمَ من أجل مساعدتهم على قضاء ١٠ آلاف ساعة فيما يحقِّق استفادةً حقيقيةً لهم؟ إنْ كان حلمك أن تكون لاعبَ جمباز أوليمبيًّا أو أن تمتلك وتدير شركةَ تصميمِ الجرافيكس أو صالونَ تجميلٍ أو ورشةً لتصليح السيارات، فستحتاج إذن إلى مقدارٍ من تعلُّم الرياضيات؛ الرياضيات التي ستستخدمها يوميًّا في القرن الحادي والعشرين (وَلْنكن صرحاء، سيكون مقدارًا كبيرًا)، وقد يكون تعلُّمُ المزيد مفيدًا لمهارتك العقلية وقدراتك الإبداعية ككلٍّ، لكنك لن تحتاج إلى نفس المقدار من معرفة الرياضيات (أو نفس النوع على الأقل) الذي يحتاجه طفلٌ يريد حسابَ المدة التي سيستغرقها صاروخٌ كي يصل إلى كوكب نبتون، وتصميم المحرك الذي سيقود ذاك الصاروخ. يختلف الأشخاص من حيث قدرتهم الرياضياتية، وثلثا الاختلافات بينهم يتأثَّران بجيناتهم. نحن نرى أن لهذا أهمية، وسنضعه في حسباننا ونحن نحاول رسْمَ الخطوط العريضة لنظامٍ تعليمي موجَّه جينيًّا في الجزء الثاني من الكتاب.
(١-٢) هل التأثيرات الجينية والبيئية على تدنِّي القدرة الرياضياتية هي نفسها المؤثرة على الأطفال أصحاب القدرة المتوسطة أو المرتفعة؟
القدرة الرياضياتية، مثلها مثل قدرة القراءة، موزَّعة على منحنًى جرسي، بحيث يتجمَّع أغلب الناس حول المستوى المتوسط، وتواجه مجموعةٌ صغيرة صعوبةً في الرياضيات، بينما تتفوَّق مجموعة صغيرة أخرى. دعونا نتناول القدرةَ المرتفعة أولًا؛ يبدو أن الرياضيات أكثر المجالات الأكاديمية خصوبةً لتربية العبقرية، لا سيما العبقرية المبكرة. من المستبعَد أن يكون شكسبير قد كتب مسرحيته «هاملت» في السنين السابقة على بلوغه، إلا أن علماء الرياضيات الشباب بإمكانهم بلوغ آفاقٍ استثنائية دون أن تعوقهم حداثتهم النسبية في المهنة.
في عام ١٩٨٥ التُقِطت صورةٌ لروث لورانس بكامل ملابسها الأكاديمية بالقرب من جامعة أكسفورد، وهي جالسة على المقعد الخلفي لدرَّاجة والدها؛ ففي عُمْر الثلاثة عشر ربيعًا تخرجت روث من جامعة أكسفورد، بعدما حقَّقت الترتيبَ الأول وتلقَّتْ توصيةً خاصة. لقد حازت على درجتها العلمية في عامين بدلًا من الثلاثة أعوام المتعارف عليها، وحصلت بعدها على درجة الدكتوراه، والتحقت بجامعة هارفرد، ومنها إلى جامعة ميشيجان لدراسة نظرية العقد، والآن تشغل روث لورانس منصبَ أستاذ الرياضيات بمعهد أينشتاين للرياضيات بإسرائيل (لا يسعنا سوى افتراض أن ألبرت أينشتاين ما كان ليُسَر لوجود معهد رياضيات يحمل اسمه). ومن الواضح أنها كانت بارعةً في الرياضيات؛ بارعة جدًّا إحقاقًا للحق، بل ربما تكون عبقريةً، وقدرتُها الرياضياتية، مثل أي شخص آخَر، راجعةٌ جزئيًّا إلى جيناتها، لكن من المرجَّح أيضًا أن بيئةَ تربيتها غيرَ التقليدية أدَّتْ دورًا أيضًا.
تلقَّتْ روث تعليمًا بالمنزل على يد والدها (ويتَّضِح أن أغلب نوابغ الرياضيات تلقَّوْا تعليمًا بالمنزل)، ولم تبرح جانب والدها بجامعة أكسفورد (كان يحضر المحاضرات معها، إلا أن اتحاد الطلَّاب منعه من ارتياد غرفة الاستراحة)، وارتادت هارفرد مع والدها. تعيش روث الآن منفصلةً عن والدَيْها، وقد أعلنت في تصريحٍ لها أنها لن تكرِّر مع أطفالها أساليبَ التدريس المنزلية الباعثة على الضغوط التي استخدَمَها والداها.
لقد عاشَتْ في بيئة غير تقليدية، لكنْ إلى أيِّ مدًى كانت جيناتها غير تقليدية أيضًا؟ يمكن أن يمضي أغلبنا عقودًا من التعليم المضغوط بالمنزل دون أن يبلغ أبدًا مستوى تحصيل هذه الفتاة الصغيرة، أو يبدأ في حلِّ خيطٍ واحدٍ من خيوط نظرية العقد. هل ورثَتْ روث جينَ العبقرية أم مجموعةً كاملةً من التنويعات الجينية التي تصبُّ في مصلحة الرياضيات؟
والسؤال الأكثر إلحاحًا هو: ماذا عن البالغين، على الطرف الآخَر من النطاق المتدرج، الذين لم يكتسبوا قطُّ مهارةً رياضياتيةً كافية لإدارة شئونهم المالية، أو لإجراء المعاملات البسيطة دون جهد أو عناء؟ إن قدرتهم تختلف أشد الاختلاف عن قدرة لورانس، لكن هل هم مختلفون جينيًّا؟ هل تلقَّوْا مستوًى متدنِّيًا من التعليم؟ هل فوَّتُوا قدرًا كبيرًا من التعليم المدرسي بسبب اعتلال الصحة أو سوء السلوك أو الخلاف الأسري؟ هل يعانون من إعاقةٍ أو من صعوبةٍ في التعلُّم؟ وإذا كانوا يعانون من إعاقة، فهل لها واسمات بيولوجية محدَّدة (كالجينات) وهل يمكن شفاؤها؟ وإنْ كانوا يعانون من صعوبةِ التعلُّم، فكيف يمكن للتعليم التغلُّب عليها؟
النتائج التي توصَّلَتْ إليها يوليا كوفاس واضحةٌ وتتفق والنتائج التي توصَّلَ إليها الباحثون الذين يدرسون القراءة. لا تؤيِّد بياناتها وجودَ إعاقةٍ رياضياتية راجعةٍ إلى الجينات؛ فقد اكتشفَتْ أن الأطفال الذين يحقِّقون أفضلَ وأسوأ نتائج في الرياضيات، هم ببساطةٍ الأطفال المتفوِّقون في الرياضيات والأطفال الضعفاء فيها؛ فهم يتأثَّرون بالجينات نفسها التي يتأثَّر بها أيُّ شخص آخَر، ولكن بتوليفات متنوعة.
والجينات، مثلها مثل البيئات، تشكِّل الأساس الذي تقوم عليه الاختلافات بين الأشخاص، التي تتضمَّن معرفة ما إذا كان بعض الأشخاص سيصبحون أكثرَ قدرةً أو صحةً أو عصابيةً عن غيرهم. وحتى إذا تلقَّى كل طفلٍ في دولة من الدول تعليمًا رياضياتيًّا مبتكرًا ناجحًا، فسينطبق الأمر ذاته؛ ولهذا أهميةٌ حين نفكِّر في الابتكارات المصمَّمة من أجل تحقيق تحسينات في جميع أنحاء بلد من البلدان؛ فسيرتفع متوسطُ الدرجات إنْ كان الابتكار على أيِّ درجةٍ من الجودة، إلا أن الفارق بين الأطفال أصحابِ أدنى الدرجات وبين الأطفال أصحاب أعلى الدرجات سيظل كما كان في السابق على الأقل. إذا كان الهدف هو تقليل الفجوة بين الأطفال أصحاب أفضل أداءٍ والأطفال أصحاب أدنى أداءٍ، فسينبغي من ثَمَّ توجيهُ الابتكارات نحو المستوى الأدنى من التوزيع، لا إلى أي مستوًى آخَر. إنَّ منْحَ مزيدٍ من الدعم لأصحاب أدنى أداءٍ سيعزِّز كذلك من الحراك الاجتماعي؛ وسنناقش لاحقًا الخطوات العملية لهذا المنهج ومضامينه وأخلاقياته.
ومن ثَمَّ لم تجد يوليا على المستوى الإحصائي أيَّ اختلافات جينية بين التوائم أصحاب أقل القدرات في الرياضيات، في دراسة التطور المبكر للتوائم وبقية العينة، على الرغم من أنها لم تغفل إمكانية حدوث اضطرابات نادرة، على مستوى جينٍ وحيدٍ، تؤثِّر على القدرة الرياضياتية. لكن ماذا يعني هذا؟ إنْ قمتَ بالبحث عن كلمة «عسر الرياضيات» على شبكة الإنترنت، فستجد ثروةً من المعلومات تتفق غالبًا على الرأي القائل بأن عسر الرياضيات هو «عسر قراءة الأرقام». وقد نشرت الجمعية البريطانية لعسر القراءة ما يلي: «عسرُ الرياضيات من الاحتياجات الخاصة، ويستلزم التشخيصَ والمشورةَ المناسبة، ويحتاج كذلك إلى دعْمٍ منفصلٍ عن أسلوب التدريس للصف برمته.» دعونا نفكِّر في الأمر إذن؛ إن حقيقة عدم اختلاف أصحاب أدنى القدرات في الرياضيات جينيًّا عن أي شخصٍ آخَر، من المرجح أن تخيب أمل البعض، لا سيما الآباء الذين يجد أطفالهم صعوبةً في الرياضيات. ولكن لِمَ الأمر على هذا الحال؟ من ناحية، يتيح تصنيف أحدهم على أنه مصاب باضطراب مرضي — إعاقة تعلُّمٍ حقيقية — مزيدًا من الخدمات للأسرة ويزيل عنها الوصمة المرتبطة بعدم براعة طفلهم في إحدى المواد. ونحن كمجتمعٍ نرى أن الإعاقة أكثر قبولًا من تدنِّي القدرة؛ فالإعاقة تنطوي على درجةٍ من انعدام الحيلة، أما تدنِّي القدرة فينطوي، ظلمًا، على درجة من الكسل أو الغباء. والتشخيصُ إثباتٌ لصحة الإصابة. وسواء أكان هذا أم ذاك، فالأطفال والبالغون الذين يجدون صعوبةً في الرياضيات، بالتأكيد هم أصحاب حاجة خاصة؛ فهم يعانون من صعوبة تعلُّم، بغضِّ النظر عمَّا إنْ كانت صعوبةُ التعلُّم هذه مصنَّفةً كحالة مرضية أم لا؛ فربما هم في حاجةٍ فعليةٍ إلى مساعَدةٍ بعيدًا عن أسلوب التدريس للصف برمته؛ وهم بالتأكيد في حاجةٍ إلى دعم مخصَّص في مجموعات صغيرة أو بشكل فردي، وذلك في حجرة الدراسة أو في أي مكان آخَر. لكن عدم البراعة في الرياضيات لا يستدعي تشخيصًا ومشورة، فما الداعي لذلك؟
عليك أن تساعد الطفل على الفهم … ما المغزى من الرقم ٣ أو ٤؟ فهؤلاء الأطفال المصابون بعسر الرياضيات لا يدركونها بديهيًّا. عليهم محاولة فهمها منطقيًّا؛ فمَن يعانون من عسر الرياضيات سيجدون صعوبةً دائمًا في الحساب، لكنْ يمكنهم تعويض ذلك كما يتعلَّم المصابون بعمى الألوان تدبُّرَ أمرهم. علينا أن نعلِّم الأطفال المصابين بعسر الرياضيات استيعابَ الرياضيات بطريقة مختلفة. (نقلًا عن فريمان، ٢٠٠٦.)
بينما لا تؤيد الأدلةُ المتوافرة لدينا أن «عسر الرياضيات» اضطراب جيني منفصل، فنحن نتَّفِق بشدة مع منهج البروفيسور باتروورث بشأن التعامُل مع الأطفال الذين يجدون صعوبةً في الرياضيات؛ وكما يشير، يبدأ تعليمُ مثلِ هؤلاء الأطفال عبرَ إدراك كُنْهِ ما لا يفهمونه. فيجب أن تبدأ من مستوى قدرة الفرد الحالي، وتتدرج منه بسرعةٍ مناسِبة له؛ أي إنك تخصِّص التعليمَ بحسب قدراته.
إن الأطفال ذوي الأداء المتدني في أي مادة دراسية يعانون من حاجةٍ خاصةٍ (حاجةٍ إلى مساعدةٍ إضافية في تلك المادة)، لكن هذا الأمر مختلف عن الإصابة باضطراب مرضي. نحن على علم بأن القدرة الرياضياتية، المرتفعة أو المتدنية، تتأثَّر بالجينات — فهي السبب الرئيسي وراء قدرة الجنس البشري على أن يأتي بروث لورانس، وأن يأتي كذلك بطفل لا يدرك المغزى من الرقمين ٣ و٤ — لكنَّ النتائج التي توصَّلَتْ إليها يوليا كوفاس تشير إلى اشتراك الجينات نفسها في كل القدرات؛ أي إن أصحابَ أدنى قدرات رياضياتية في الصف، مثل أصحاب أدنى قدرات القراءة، يعانون من صعوبةٍ، لا من إعاقةٍ، وهم في حاجة إلى مساعدة إضافية لا إلى تصنيف.
(١-٣) هل القدرات الرياضياتية المختلفة تخضع للتأثيرات الجينية والبيئية ذاتها؟
السؤال الأخير الذي طرحَتْه يوليا كوفاس يتمحور حول ما إذا كان بوسعنا التفكير في القدرة الرياضياتية باعتبارها قدرة واحدة، أم إن القدرات في مختلف فروع الرياضيات متمايزةٌ جينيًّا. وقد بدأت باستكشاف الروابط بين جوانب التحصيل الرياضياتي الثلاثة، التي يقيسها المنهج الوطني بالمملكة المتحدة (وهي: استخدام وتطبيق الرياضيات، الأعداد، الأشكال والفراغ والمقاييس)، واكتشفَتْ أن نسبة الاقتران فيما بينها مرتفعة جدًّا في الحقيقة (متوسط نسبة الاقتران ٠٫٨٥)؛ وما يعنيه هذا عمليًّا هو أن ٨٥٪ من القدرة التي تعتمد عليها جوانب الرياضيات الثلاثة هذه، مشتركةٌ لديها جميعًا.
من منظورٍ ما، هذه ليست مفاجأةً؛ فمن المتوقَّع أن يكون الأطفال الماهرون في الرياضيات ماهرين أيضًا في القياس؛ فكوفاس لا تزعم مثلًا أن الأطفال الماهرين في جدول الضرب ماهرون دائمًا في كرة السلة. وقد أجرَتْ كذلك سلسلةً من التحليلات التي أبدَتْ أن الجينات المؤثِّرة على أحد جوانب الرياضيات هي غالبًا الجينات ذاتها المؤثِّرة على الجانبين الآخَرين، وأن الجينات نفسها في الحقيقة تبدو مؤثرةً أيضًا على صفاتٍ أخرى مثل القدرات المكانية واللغة. وفي هذه التحليلات، الجينات عبارة عن كتلةٍ لا اسمَ لها؛ فنحن نعرف أن الجيناتِ نفسَها مشتركةٌ في مختلف جوانب تقييم الرياضيات، لكننا لا نعرف أي الجينات تحديدًا؛ وأدَّى هذا بيوليا، بالتعاون مع أحد أفراد مجموعتنا البحثية (روبرت بلومين)، إلى وضْعِ ما عُرِف في أدبيات علم الوراثة السلوكي باسم فرضية «الجينات العمومية». والرسالة الواضحة المراد إيصالها ها هنا هي أن الجينات عامةٌ أما البيئات فمتخصِّصةٌ؛ فنفس الجينات تؤثِّر على مجموعة متنوعة من القدرات المعرفية وصور التحصيل الدراسي، لكن التأثيرات البيئية المختلفة تنطبق على كل قدرة من هذه القدرات؛ ولهذا أهميةٌ حيوية بالنسبة إلى الطريقة التي نعلِّم بها أطفالَنا؛ فالآثارُ المتخصِّصة للبيئة هي بالتحديد ما يمكن أن توفره حجرةُ دراسةٍ مهيَّأة بعنايةٍ، وهذا مبدأ آخَر من المبادئ المؤسسة التي سنقيم عليها إعادة تصميمنا المبدئية للنظام المدرسي.
(١-٤) الجينات
مرَّرَتْ كوفاس نتائجها إلى صوفيا دوكيرتي عالمة البيولوجيا الجزيئية، التي شرعت في العمل على عينات الحمض النووي المأخوذة من التوائم ذاتهم المشتركين في دراسة التطوُّر المبكر للتوائم، والذين استخلصنا منهم البياناتِ حول القدرة الرياضياتية والتحصيل الرياضياتي، وبدأت من حيث توقَّفَتْ يوليا كوفاس: (١) ثمة مكوِّن جيني واضح في القدرة الرياضياتية. (٢) من المرجح أن يتأثَّر تدنِّي القدرة الرياضياتية بالجينات نفسها التي تؤثِّر على التنوُّع الطبيعي في القدرة. (٣) ثمة تداخُل جيني كبير بين مختلف جوانب الرياضيات، ما يشير إلى أن التأثيرات الجينية عامة.
من الجدير بالذكر أيضًا أنه عندما بدأ هذا النوع من البحث اعتقد العلماء أن عددًا قليلًا من الجينات سيساهم بشكل كبير في السلوكيات أو الاضطرابات الشائعة، أو عقدوا الآمال على ذلك. لكن في أغلب الحالات، لم يتضح أن هذه هي الحقيقة، بل وصلنا إلى فرضية مواقع الصفات الكمية؛ ومن ثَمَّ من المستبعد أنه سيأتي وقتٌ يمكننا فيه تحويلُ شخصٍ كارهٍ للرياضيات إلى شخصٍ بارعٍ فيها، عبر تحفيز جينٍ هنا أو هناك.
تساءلَتْ صوفيا دوكيرتي إنْ كان هناك أيُّ شيء مختلف يحدث بالنسبة إلى الأطفال أصحاب أقل الدرجات في الرياضيات، البالغة نسبتهم ١٥٪، واكتشفت أن الأطفال بهذه المجموعة لديهم عدد أكبر بكثير من أشكال السنيبس التي لا ترتبط بالبراعة في الرياضيات مقارَنةً بالأطفال أصحاب المستويين المتوسط والرفيع؛ فثلثُ أطفال دراسة التطور المبكر للتوائم الذين يحملون أكثرَ من نصف تلك الأشكال الجينية المختلفة المعرِّضة للخطر، تتضاعف تقريبًا احتماليةُ وجودِهم ضمن نسبة الخمسة عشر في المائة من بين الأطفال أصحاب أقل الدرجات في الرياضيات.
بعبارة أخرى، يحمل الأطفال المعرَّضون لأكبر خطرٍ الكثيرَ من الأشكال الجينية المختلفة المعرِّضة للخطر، والقليلَ من الأشكال الجينية المختلفة الإيجابية، فيما يحمل الطفل صاحب أكبر تفوُّق جيني القليلَ من الأشكال الجينية المختلفة المعرِّضة للخطر، والكثيرَ من الأشكال الجينية المختلفة الإيجابية. ومع زيادة عدد الأشكال الجينية المختلفة المعرِّضة للخطر، ستنخفض القدرة الرياضياتية. نظريًّا يعني هذا أننا نستطيع اختبار الاحتمال الجيني لتدنِّي القدرة الرياضياتية، لكنْ عمليًّا تفسِّر مواقع السنيبس العشرة هذه مقدارًا ضئيلًا للغاية من التفاوت، بحيث إنها لن تُطلِعنا على الكثير، حتى إنْ أجرينا عليها الاختبارات. حتى الأطفال الحاصلون على أعلى ١٥٪ من الدرجات، سيحملون بعض الأشكال الجينية المختلفة المعرِّضة للخطر، وفي هذه المرحلة سيكون أيُّ حدٍّ فاصل اعتباطيًّا. ولأننا لا نعلم حتى الآن وظيفةَ هذه الواسمات الجينية، فإن وجود صورة معينة منها — على الرغم من ارتباطها بضعفٍ في القدرة الرياضياتية — قد يمنح أحد الأطفال ميزةً في مجال آخَر تقلُّ احتماليةُ وجودِها لدى مَن يحملون صورةً مغايرةً. ففي النهاية لم يجد التطوُّر أن من الملائم تنحية هذه الأشكال الجينية المختلفة المعرِّضة للخطر. نحن في بدايات رسم خريطةٍ للأسس الجينية للتحصيل الرياضياتي، لكنْ أمامنا طريق طويل لنقطعه.
(٢) كيف تؤثِّر التنشئة على القدرة الرياضياتية؟
إن الأدلة على التأثير الجيني على الاختلافات الفردية في القدرة الرياضياتية والتحصيل الرياضياتي حاسمةٌ، ومجموعتنا البحثية، من بين مجموعات بحثية أخرى، بصدد تحديد الجينات التي يحتمل ارتباطها بهذه العملية؛ إلا أن هذا سيستغرق بعضَ الوقت. لكن أليس تحديد جوانب التنشئة التي تخلق الاختلافات في التحصيل الرياضياتي، أسهل من تحديد الجينات المعينة المسئولة عن التأثيرات الفردية البسيطة؟ للأسف لا. فحتى الآن تشير الأبحاثُ إلى أن أغلب جوانب البيئة لها أيضًا تأثيرات ضئيلة للغاية ويتفاعل بعضها مع بعض، ومع الجينات، بطرقٍ معقَّدة. لا يمكننا أن نُلقِي اللوم فحسب على الآباء أو المدارس أو المعايير المتدنية أو المواد المضافة إلى الطعام، ويمكن عادةً تصنيف الاستثناءات على أنها بيئاتٌ شديدةُ الخطورة تخلق لدى الأطفال الواقعين تحت تأثيرها مشكلاتٍ أشدَّ خطورةً بكثيرٍ من التدنِّي النسبي للتحصيل الرياضياتي.
-
الأطفال في سن الثالثة الذين يقضون ٤٥ دقيقة يوميًّا في ممارسة اللعب التعليمي مع أحد الوالدين، يُصبِحون أفضلَ في الرياضيات مع بلوغهم سن ١٠ سنوات، مقارَنةً بأقرانهم من نفس السن الذين لا يقومون بذلك.
-
الأطفال الذين يرتادون مدارسَ خاصةً يحصلون على متوسط درجات في الرياضيات أعلى من الأطفال الذين لا يرتادونها.
-
أطفال المدمنين يحصلون على متوسط درجات في الرياضيات أدنى بكثيرٍ من غيرهم من الأطفال.
من السهل قبول هذه النتائج دون شكٍّ؛ لأنها غالبًا ما تتَّفِق وتحيُّزاتنا وأفكارنا المسبقة؛ فبالتأكيد سيستفيد الأطفال من تخصيص وقتٍ لتعليمهم عن طريق اللعب، وبالتأكيد ستحصل على خدمةٍ أفضل إنْ دفعتَ مقابلها، وبالتأكيد يؤثِّر إدمانُ الآباء على جودةِ نموِّ الأطفال. لكن إنْ جرى اختبارُ هذه الفرضيات في دراسةٍ لا تُراعِي تأثيراتِ الجينات، فلن يكون لدينا دليلٌ حقيقي على أن اللعب والتعليم والإدمان تأثيراتٌ بيئية أصيلة، لا تمتزج بالجينات أو حتى بجوانب أخرى من بيئة الطفل.
تأمَّلْ لعب الأب أو الأم مع طفلهما على سبيل المثال؛ فالأم التي تمضي ٤٥ دقيقة يوميًّا في اللعب التعليمي الموجَّه مع طفلها البالغ ثلاثة أعوام، ليست على الأرجح أمًّا لأربعة أطفال تعمل بدوام كامل. وهؤلاء الآباء عينة منتقاة ذاتيًّا؛ فبإمكانهم توفير وقت اللعب الخاص هذا لأطفالهم، فضلًا عن أن لديهم الرغبة في اللعب على هذا النحو، أو الاعتقاد في أن هذا سيفيد أطفالهم. ومن المهم لهم أن يحقِّق أطفالهم التفوُّقَ بالمدرسة في المستقبل، ويأخذون على عاتقهم مسئوليةً شخصيةً بتحقيق هذا، كما أنهم يتمتعون بالقدرة العقلية والوقت الكافي للتفاعل مع أطفالهم وتحفيزهم لمدة ٤٥ دقيقة. علاوةً على ذلك، لديهم أطفال قادرون في سن الثالثة على التفاعُل بشكلٍ بنَّاءٍ مع اللعب الثنائي المخطَّط لمدة ٤٥ دقيقة، ويستمتعون باللعب التعليمي المحفِّز للعقل، ربما لأنهم بارعون فيه بالفطرة.
إذن، إنِ اكتشف الباحثون أن اللعب الثنائي بهذا الشكل في مرحلةٍ مبكرةٍ مرتبطٌ بالتحصيل الرياضياتي بالمدرسة، فهذه العلاقة يمكن أن توجد لأي عدد من الأسباب؛ فربما يكون الأطفال الماهرون بالفطرة في الرياضيات أو المهارات المرتبطة بها مثل الألغاز وحل المشكلات، يستدعون هذا النوع من اللعب من آبائهم، في حين أن غيرهم من الأطفال ذوي الميول والاستعدادات المختلفة يستحضرون أشكالًا مختلفة من اللعب، مثل تقمُّص الأدوار واللعب الفوضوي واللعب البدني؛ وهو ما نُطلِق عليه علاقةَ اقترانٍ استدعائيةً بين النمط الجيني والبيئة. وربما يراعي الآباء، الذين يركِّزون على أطفالهم على هذا النحو في سن الثالثة، الاستمرارَ في المشاركة في تعليمهم على هذا النحو خلال مرحلة المدرسة، بحيث يتأكَّدون من أنهم يساعدون أطفالَهم أو يجدون مَن يساعدهم حين يُبْدُون أماراتٍ دالةً على أنهم لم يفهموا شيئًا ما. وربما يكون كلٌّ من الآباء والأطفال المشتركين في العملية يفعلون بطبعهم ما يُملِيه عليهم ضميرُهم؛ أيْ يحرصون دومًا على فعل الصواب أيًّا كان الشيء الذي يريدون فعله. والعبارة الشائعة المتكررة في برامج علم النفس بالسنة الأولى من التعليم الجامعي هي: على الرغم من أن استخدام المظلة مرتبطٌ بهطول المطر، فإن استخدام المظلة لا يؤدِّي إلى هطول المطر؛ أي إن علاقة الاقتران لا تقتضي ضمنًا علاقةً سببيةً.
ينطبق الأمر نفسه على نموذجَيِ المدارس الخاصة والإدمان؛ فارتياد مدرسة خاصة قد يرتبط بالتحصيل الرياضياتي لأن الوالدين اللذين يستطيعان تدبيرَ النفقات هما نفساهما ناجحان أكاديميًّا، وقد أورثَا أطفالهما القدرةَ على تخطِّي المصاعب الأكاديمية من خلال آليةٍ بيولوجيةٍ لا اجتماعية. وربما لا يحتاج هؤلاء الأطفال إلا إلى قدرٍ بسيطٍ من الإسهام لبلوغ النجاح؛ ومن ثَمَّ قد لا توجد علاقةٌ من أي نوعٍ بين درجاتهم المرتفعة في الرياضيات وجودةِ التعليم الذي يحصلون عليه بالمدرسة؛ فهم أطفالٌ أذكياء بالفطرة سيُحسِنون الأداءَ في أي مكان. قد يرث الأطفالُ من آباءٍ مدمنين سماتٍ شخصيةً مجازفة تجعلهم لا يستسيغون الجلوس في استكانة وتعلُّم مهارات الرياضيات؛ وقد يفشلون لأسباب جينية وبيئية معًا. ونظرًا لعدم مراعاة أغلب الدراسات تأثيراتِ الجينات، فإنها لا تضيف لنا جديدًا.
إذن، إنْ كنَّا جادين بشأن رفع مستوى التحصيل الرياضياتي — وينبغي لنا أن نكون كذلك — فنحن بحاجةٍ إلى البدء في وضع الجينات بالحسبان، واتخاذ القرار بشأن تحديد الأطفال الذين نريد أن نرفع من مستوى تحصيلهم الرياضياتي. هل المتوسط الوطني في حاجةٍ إلى دعمٍ، أم أصحاب التحصيل المنخفض وحدهم، أم أصحاب التحصيل المتدني، أم الفتيات، أم الفتيان، أم الأطفال الذين يريدون تقلُّدَ وظيفةٍ تستخدم الأرقام؟ نحن بحاجة إلى وضع فرضيات عبر ملاحظة التأثيرات التي تبدو فعَّالة، وينبغي لنا ضبط التأثيرات الجينية إحصائيًّا حتى نصل لمرحلةٍ نعرف عندها ما يحدث على المستوى البيولوجي. وفوق كل شيء، ينبغي أن نستكشف تأثيرَ الجينات والبيئات بعضها على بعض، بحيث يمكننا أن نفهم أي نوع من البيئات سيكون أكثر فائدةً مع أي نوعٍ من الأطفال؛ فلن نستطيع حقًّا إيجادَ طريقةٍ لتدريس الرياضيات لكلِّ طفل بمزيدٍ من الفاعلية إلا عبر توظيف علم الوراثة.