العلوم: أسلوب تفكير مختلف
من الصعب على المرء أن يقرأ قوائم العلماء الحائزين على جائزة نوبل ولا يلحظ أن أغلبهم رجال، ٢٪ تقريبًا فقط من جوائز نوبل في العلوم حصلت عليها سيدات. لِمَ ذاك؟ هل الرجال مجهَّزون كي يكونوا علماء أفضل؟ هل المجتمع يوفر بيئة تساعد الفتية والرجال على التحصيل العلمي أكثر مما تساعد الفتيات والسيدات؟ كلتا النظريتين مطروحتان باطِّراد كبير.
علاوة على ذلك، فإن قوائم الحائزين على جائزة نوبل للعلوم — إلى جانب أن الرجال يهيمنون عليها — تضمُّ هنا وهناك أفرادًا تجمعهم علاقات أسرية؛ فبها نيلز بور وابنه آجي، والأب والابن الفيزيائيان ويليام هنري براج وويليام لورانس براج، وكاي سيجبان ومان سيجبان، وهانس فون أويلر شلبين وابنه أولف فون أويلر، إضافةً إلى سي في رامان وابن أخيه سابرامانين تشاندراشخار، وآرثر كورنبيرج وروجر كورنبيرج. توجد كذلك سيدات بين العائلات الحائزة على جائزة نوبل، لا سيما ماري كوري، وزوجها بيير وابنتهما إيرين جوليو-كوري. ما الذي جعلهم جميعًا يحصلون على جائزة نوبل؟ ما توليفة الجينات والبيئة — والتفاعل بينهما — الكامنة خلف تلك التشابهات الأسرية المذهلة؟ إنْ تفوَّقْتَ في الفيزياء أو الكيمياء أو الأحياء بالمدرسة، فما هي احتمالات أن يتفوَّق أبناؤك فيها أيضًا؟ وما هي احتمالات تفوُّق بناتك؟ وإذا تعثَّرْتَ فيها، فما هي احتمالات أن يكون الفشلُ مكتوبًا على أطفالك، بغضِّ النظر عن نوعهم؟ وإن كانوا أطفالَك بالتبنِّي وليسوا أطفالَك من صلبك، فما الفارق؟ هل يمكن أن تشكِّل خبرتُك فارقًا كبيرًا لأطفال لا يشاركونك جيناتك؟
بمقدور أبحاث الجينات أن تُلقِي بعض الضوء على هذه النقاشات. استخدمت الدكتورة كلير هاورث بيانات مجمعة من توائم دراسة التطوُّر المبكر للتوائم، لدراسة التأثيراتِ الجينية والبيئية على التحصيل الدراسي في العلوم، والفروقِ بين الفتيان والفتيات؛ وبدأت بحثها بالسؤال عمَّا إن كانت العلوم ستسلك نفسَ طريق مهارات القراءة والكتابة والرياضيات فيما يتعلَّق بمسبِّبات أمراضها الجينية والبيئية. رأينا سابقًا أن أنماطَ التأثير الجيني والبيئي على المهارات الأساسية الثلاث بعضُها شبيهٌ ببعض إلى حدٍّ ما. إنَّ ما توصَّلْنا إليه من ذلك البحث دفَعَ الدكتورة هاورث وبقية فريقنا إلى توقُّع وجود تأثيرات جينية وتأثيرات بيئية غير مشتركة معًا على التحصيل العلمي (مع قدر بسيط من التأثير البيئي المشترك)؛ ومشاركة كثير من الجينات وكثير من البيئات، كلها ذات تأثير بسيط (فرضية مواقع الصفات الكمية)؛ ووجود تداخُل جيني كبير بين التحصيل العلمي وغيره من حقول التحصيل الدراسي، على الرغم من اختلاف البيئات المؤثرة ذات الصلة (فرضية الجينات العامة). إلا أننا كنَّا موعودين بمفاجأة.
بدأت الدكتورة هاورث بدراسة أنماط إمكانية التوريث في الأداء العلمي، بحسب تقييمِ مدرِّسِي التوائم في سن التاسعة، عندما كان الأطفال لا يزالون بالمدرسة الابتدائية (هاورث، دايل، بلومين، ٢٠٠٨). وبَدَا فعليًّا أن العلوم تسلك مسلكَ اللغة الإنجليزية والرياضيات من منطلق أن الجينات كانت المؤثِّرَ الأقوى، وأن التأثير البيئي غير المشترك فاقَ تأثيرَ البيئة المشتركة. إلا أنها عندما تتبَّعَتِ الأطفالَ من المدرسة الابتدائية إلى المدرسة الثانوية، بدأ يظهر نمط مفاجئ؛ فببلوغ سن الثانية عشرة، انخفض تأثيرُ الجينات التي كانت مسئولةً عن ٦٤٪ من الاختلافات بين الأطفال في الأداء العلمي، لتصبح مسئولةً عن ٤٧٪ فحسب (هاورث، دايل، بلومين، ٢٠٠٩). أي إن بعض الجينات توقَّفَتْ عن التأثير، أو كانت أقلَّ فاعليةً مما كانت عليه، أو إن عاملًا بيئيًّا أو عواملَ بيئيةً أصبح أكثرَ قوةً. وسواء أكان هذا الأمر أم ذاك، تبدو العلوم الآن أقلَّ قابليةً للتوريث بشكل ملحوظ من المهارات الأساسية الثلاث. والأكثر إثارةً للدهشة هو أن تأثير البيئة المشتركة — الذي توقَّعْنا أنه سيختفي ببلوغ هذا العمر أو نحوه — قد تضاعَفَ، وأصبح الآن قادرًا على تفسير ثلث التفاوت. وفي أبحاث أخرى أُجرِيت على التحصيل العملي في سن الرابعة عشرة، اكتشفت هاورث أن هذا النمط ظلَّ قائمًا في سنوات المراهقة (هاورث، دايل، بلومين، ٢٠١٠). يبدو أن العلوم تسلك مسلكًا مختلفًا عن اللغة الإنجليزية والرياضيات خلال سنوات المدرسة الثانوية.
بدأت هاورث والفريق في اعتبار وتقصِّي الأسباب المحتملة التي تفسِّر نمطَ إمكانية التوريث المتغيِّر. كان أحدَ المناهج اختبارُ الاقتران الجيني بين الأداء العلمي في سن التاسعة والأداء العلمي في سن الثانية عشرة. وفي الأساس، ستبلغ نسبة الاقتران الجيني ١٫٠٠ إن كانت الجينات نفسها تؤثِّر على تحصيل الأطفال في العلوم في كلا العمرين، وستبلغ النسبة ٠٫٠٠ إن لم يكن أيٌّ من الجينات المؤثرة على الأداء في سن التاسعة لا يزال فاعلًا في سن الثانية عشرة. كالعادة تختص الجينات بالثبات أما الخبرة فتختص بالتغيُّر؛ ومن ثَمَّ سنتوقع حدوث اقترانٍ جيني قوي. إلا أن نسبة الاقتران الجيني بين الأداء العلمي في سن التاسعة وفي سن الثانية عشرة، بالنسبة إلى توائم دراسة التطور المبكر للتوائم، كانت ٠٫٥٠ فحسب؛ وهذا يعني أن النصف فحسب من الجينات المؤثرة على دراسة العلوم بالمدرسة الابتدائية، ظلَّ مهمًّا للأطفال في الثانية عشرة في دروس العلوم التي يتلقَّوْنها في المدرسة الثانوية؛ وعلاوةً على ذلك، بَدَتِ الجينات المؤثرة على الأداء العلمي في سن الثانية عشرة أقلَّ تأثيرًا مما كانت عليه في سن التاسعة.
إذن، ما الاختلاف بالتحديد بين العلوم في سن الثانية عشرة والعلوم في سن التاسعة؟ وهل يمكن لهذا الاختلاف تفسير انخفاضِ تقديرِ إمكانية التوريث في سن الثانية عشرة؟ أحد الاحتمالات هو أن المادة الدراسية التي يُطلَق عليها اسم علوم في المدارس الابتدائية، هي غالبًا ليست علومًا على الإطلاق؛ فالعلوم في المدرسة الابتدائية كثيرًا ما تتضمَّن قراءةَ نصٍّ مبنيٍّ على حقائق وفهمَه وتذكُّرَه؛ أيْ مهمة قائمة على مهارات القراءة والكتابة. وهي لا تعتمد على اختبار صحة الفرضيات الذي يقع في صلب المنهج العلمي (بل لا تتضمَّنه بالضرورة)، ويُخصَّص لها وقتٌ أقل من الوقت الممنوح لمهارات القراءة والكتابة ومهارات الرياضيات؛ ومن ثَمَّ تحظى بمكانة أدنى. ومن هذا المنطلق، ربما يختلف «العلم» المختبَر في سن التاسعة كيفيًّا عن العلم الذي نقيسه في سن الثانية عشرة، ويُبدِي من العوامل المشتركة مع مهارات القراءة والكتابة أكثر مما يُبدِي مع «العلم الحقيقي». ويمكن أن يفسِّر هذا لِمَ تتمتَّع الجينات بتأثيرٍ متكافئ على هاتين المادتين الدراسيتين في هذه السن. وإذا كان العلم التجريبي يُدرس على نحوٍ روتيني لتلاميذ المدارس الابتدائية، فمن المحتمل أن تقديرات إمكانية التوريث المنخفضة كانت ستظهر في تلك السن، لكن من المستبعد أن يقتصر التفسير على ذلك؛ لأن تحليل بيانات توائم دراسة التطور المبكر للتوائم أبدى أن تقديرات إمكانية التوريث تبدأ في الانخفاض في سن العاشرة، بينما لا يزال الأطفال يرتادون المدرسةَ الابتدائية.
نحن على عِلْمٍ من أبحاث أخرى بأن الحماس لتعلُّم العلوم يتضاءل خلال سنوات المدرسة الابتدائية، وفي مرحلة المراهقة المبكرة (أوسبورن، سايمون، كولينز، ٢٠٠٣؛ جنكينز، نيلسون، ٢٠٠٥). ويشير هذا، إضافةً إلى الاقتران الجيني المنخفض بشكل مدهش، إلى إمكانية تجنُّب تدريس «العلوم» كمادة منفصلة تخضع للاختبار في المدارس الابتدائية. ومع ذلك، بإمكان المدارس تقديم مواد علمية خلال تدريس الموضوعات؛ فإن لم يُعجَب التلاميذ بموضوعٍ عن الجسم البشري مثلًا أو النظام الشمسي، فإنهم لن يُسقِطوا العلومَ بأسرها تلقائيًّا باعتبارها لا تثير اهتمامهم، أو باعتبارها مادةً لا يتفوقون فيها.
أحد الخيارات الأخرى التي قد نلجأ إليها هو تدريسُ «الطبيعة» كمادة دراسية وجعلها عملية بدرجة معقولة من منطلق الملاحظة لا من منطلق التجربة، وتَرْكُ «العلوم» للمدرسة الثانوية بمعاملها ومدرِّسِيها المتخصِّصين. ربما تعكس إمكانيةُ التوريث المنخفضة بعضَ الشيء بنهاية المدرسة الابتدائية تحوُّلًا نحو «العلم الحقيقي» (على الرغم من أننا لا نزال نجهل السببَ وراء أن «العلم الحقيقي» أقلُّ قابليةً للتوريث)، لكن مع اعتبار تدنِّي الحماس لدراسة العلوم الذي يبدأ مبكرًا جدًّا على ما يبدو، ربما سيكون من الأفضل ترك مادة العلوم بصفتها مادةً جديدةً ومشوِّقةً للتعلُّم بالمدرسة الثانوية؛ وستكون مادةً يمكن للأطفال ألَّا يسأموا منها قبل أن تبدأ مسيرتهم بالمدرسة الثانوية.
ثمة احتمالٌ آخَر هو أن تعليم العلوم بالمدرسة الثانوية معيبٌ ولا ينمِّي الإمكانات الطبيعية بفاعلية، بل ربما يخمد الإمكانات الجينية. وإذا كان المدرِّسون يستخرجون الإمكانات العلمية بفاعلية، فربما تكون إمكانية التوريث أعلى. وربما لم تُوضَع اللبنات الأساسية في موضعها كما ينبغي. تبدو هذه الفرضية مستبعَدة نسبيًّا، لكن يعتزم فريقنا إخضاعَها للاختبار في بحث مستقبلي. وربما تكون إحدى طرق دراستها تنفيذ دراسةٍ موجَّهة جينيًّا إلى التحصيل العلمي في بلدٍ تُمنَح فيه مادة العلوم أهميةً أكبر بالتعليم الثانوي عمَّا هي عليه بالمملكة المتحدة.
ماذا عن الزيادة في التأثير البيئي المشترك؟ حسنًا، نعرف أنه في دراسة التطور المبكر للتوائم تبلغ نسبة الاقتران البيئي المشترك ٠٫٧٨؛ ما يشير إلى أن البيئات المؤثرة على الأداء العلمي في سن التاسعة لا تزال بشكل عام فاعلةً في سن الثانية عشرة، ويبدو أنها تتمتَّع بتأثير أكبر على الأطفال الأكبر سنًّا. وهذا الاقتران القوي يفتح المجالَ لاحتمال أن بيئة المنزل أهمُّ من بيئة المدرسة فيما يخصُّ التحصيلَ العلمي؛ لأن هذه هي البيئة الثابتة في كلتا المرحلتين العمريتين.
لا يزال تحديد تأثيرات بيئية مشتركة بعينها على التحصيل العلمي أملًا يداعِب التربويين. درست هاورث مؤخرًا العلاقةَ بين التحصيل العلمي وبيئة تعلُّم العلوم (حجرة الدراسة والأقران) عندما بلغ التوائم سن الرابعة عشرة (هاورث وآخرون، ٢٠١٣)، واكتشفت، مثل سابقيها، وجودَ نسبة اقتران صغيرة بلغت ٠٫٢٠ بين بيئة تعلُّم العلوم والتحصيل العلمي. إلا أن أكثر نتائج هذه الدراسة إثارةً للاهتمام كانت متصلةً بصف العلوم ذاته. سبق أن علمنا أن أغلب البيئات معرَّض لقدرٍ من التأثير الجيني نتيجةً لعملية الاقتران بين النمط الجيني والبيئة؛ حيث تتأثَّر البيئات التي يعيش بها أحد الأفراد بميول هذا الفرد الجينية. على الرغم من ذلك، كان من المدهش اكتشافُ أن الجينات أثَّرَتْ على ٤٣٪ من الاختلافات بين خبرة المراهقين في صف العلوم، وأن العوامل البيئية المشتركة لم تكن مسئولةً إلا عن ٣٪ فحسب. وكانت التأثيرات البيئية غير المشتركة مسئولةً عن ٥٤٪ من الاختلافات بين توءمَيْنا البالغَيْن أربعة عشر عامًا، من حيث كيفية استيعابهما للبيئة التي تلقَّيَا تعليمَ العلوم بها. بعبارة أخرى، الطريقة التي يدرك بها الصغار حجرةَ دراستهما شخصيةٌ للغاية ومتأثرةٌ بشكل كامل تقريبًا بجيناتهم وخبراتهم الخاصة داخلها، لا بالمعايير الموضوعية التي يجري تحرِّيها عادةً في أي تقييم تقليدي لبيئةِ حجرةِ الدراسة أو جودةِ التعليم.
كذلك اتضح أن نسبة الاقتران بين التحصيل العلمي وبيئة تعلُّم العلوم، على صِغَرها (٠٫٢٠)، مدفوعةٌ بفعل الجينات في المقام الأول (٥٦٪)، على الرغم من أن للبيئة المشتركة قدرًا من التأثير هنا (٢٨٪). ويمكن أن يعني هذا أن الأطفال المهيَّئِين طبيعيًّا لتحقيق التحصيل العلمي هم أكثرُ إيجابيةً فيما يتعلَّق بصفوف العلوم، وأن الأطفال الذين يتلقَّوْن تشجيعًا بالمنزل لأداء فروضهم وفهمها، هم أيضًا أكثر إيجابيةً من الآخرين فيما يتعلَّق بهذه التجربة. والسؤالان المطروحان هنا: ما هي بالتحديد المسألةُ المتعلِّقة بالخبرات المشتركة بين الأشقاء التي يمكن أن تؤثِّر على الأداء العلمي؟ ولِمَ هي مهمة في الثانية عشرة والرابعة عشرة أكثر ممَّا هي عليه في التاسعة؟
أحد الاحتمالات هو أن الاختلافات بين البيئات التي يتشاركها الأشقاء تزيد بعد سن التاسعة. فيما يخصُّ العلوم، قد يعني هذا أن بعض الأطفال يرتادون مدارسَ ثانويةً تضمُّ معاملَ وتجهيزاتٍ جيدةً جدًّا، في حين يرتاد آخَرون مدارسَ أقلَّ في مواردها؛ وقد يعني أن بعض الأطفال يرتادون مدارسَ توفر تأهيلًا علميًّا عامًّا، بينما توفر أخرى دوراتٍ وبرامجَ تأهيلٍ منفصلة أكثر استنفارًا للقدرات في الكيمياء والأحياء والفيزياء. ومع اعتبار أن هذه العوامل لا تمارس تأثيرًا فعليًّا حتى مستوى المدرسة الثانوية، فربما تفسِّر بالفعل التبايُنَ البيئي المشترك الأكبر في سن الثانية عشرة والرابعة عشرة.
ثمة احتمال آخَر اقترحته هاورث وفريقها، وهو أن علاقات الاقتران بين النمط الجيني والبيئة تؤثِّر عكسيًّا عندما يتعلَّق الأمر بالتحصيل الدراسي في العلوم. في الوضع الطبيعي، يزيد وجودُ علاقات الاقتران بين النمط الجيني والبيئة تقديراتِ إمكانيةِ التوريث، ولكن إذا كان الأطفالُ ينفرون بالفعل من العلوم في سنٍّ مبكرة جدًّا، فربما لا يبحثون بالتالي عن فُرَص تدعم قدراتهم العلمية بما يتماشى مع إمكاناتهم الجينية. وإذا كانت كل المدارس الثانوية مزوَّدةً بالموارد بشكل متساوٍ، وتعطي الطلابَ الوقتَ ذاته كي يستغرقوا في العلوم، وتوفر لهم منشآتٍ متكافئة المستوى لتحقيق ذلك، وتتيح لهم نفسَ نطاق خيارات البرنامج والتأهيل، فعندها قد ينخفض التأثير البيئي المشترك، وسيكون من المثير للاهتمام ملاحظة أيهما سيزيد: تأثير إمكانية التوريث أم التأثير البيئي غير المشترك.
كما ذكرنا آنفًا، قد تؤدي بيئة المنزل دورًا مهمًّا، وبالنظر إلى الارتفاع الكبير لنسبة الاقتران البيئي المشترك في وقتٍ يمر فيه التلاميذ بتغيُّر كبير في تعليمهم، يحتمل أن يكون المنزلُ لا المدرسةُ أكثرَ البيئات الفاعلة ثباتًا. ففي منزلٍ تُجرَى فيه مناقشةٌ للعلوم ويُصلِح فيه الأشخاص الأشياء، أو يناقشون النباتات والحيوانات التي يشاهدونها في نزهاتهم بالريف، أو يُجْرُون التجارب، أو يحاكون جوانب البحث العلمي في المطبخ أو الجراج أو تحت السقيفة؛ ربما يكون الأطفال مجهَّزين بصورة أفضل لاستغلال الفرص العلمية المتاحة بالمدرسة. قد يمثِّل هذا علاقةَ اقترانٍ سلبيةً بين النمط الجيني والبيئة؛ حيث يمرِّر الآباءُ ذوو العقول العلمية بيئةً محفزة علميًّا لأطفالهم ذوي العقول العلمية، عبر وجود نُسَخ مجلة «نيتشر» على طاولة القهوة، أو تَرْك الأطفال يعبثون بسيارة قديمة معطوبة على سبيل المثال، أو ربما عبر إخراجهم مجموعة الأدوات الكيميائية أو الإلكترونية بين الفينة والأخرى، واللعب بها مع أطفالهم. وقد تكون علاقةَ اقترانٍ استدعائيةً بين النمط الجيني والبيئة؛ حيث يؤدِّي اهتمام الطفل بالبِرَك التي تخلِّفها الأمواجُ بين صخور الشاطئ إلى دفْعِ أحد والدَيْه كي يقضي معه أوقاتًا طويلةً هناك، ويجلب كتبًا عن الشواطئ ومخلوقات البحر إلى المنزل، ويخطط لرحلة أخرى مصطحبًا المزيد من الأدوات التي تسمح باستكشافٍ أكثر تفصيلًا. أو يمكن أن تكون علاقةَ اقترانٍ نَشِطةً بين النمط الجيني والبيئة؛ حيث يطلب الأطفال المهتمون أن يتلقَّوا في عيد الكريسماس هدايا من معدات العلوم والأجهزة الكاشفة عن المعادن ورحلاتٍ إلى متاحف العلوم بمناسبة أعياد ميلادهم، ويجدوا فرصًا لإجراء التجارب بالمنزل. ففيما يخص العلوم، أكثر من أي مادة دراسية أخرى، من المحتمل أن تكشف تدابيرُ بيئةِ المنزل عن عاملٍ فارقٍ، ومن الممكن أن يصل مزيدٌ من الأبحاث في هذه المساحة إلى نتائج مثيرة للاهتمام.
وبناءً على ما نعرفه، ننصح بالتفكير في المنافع الممكنة للعدول عن تدريس العلوم كمادةٍ حتى المدرسة الثانوية، عندما يتاح الوقت والموارد لتدريسها كما ينبغي. وفي الوضع المثالي ينبغي توزيع الموارد العلمية بصورة أكثر إنصافًا على جميع المدارس، بحيث تكون خبرةُ الطفلِ صاحبِ العقلية العلمية بمدرسةٍ بوسط المدينة على القدر نفسه من الثراء كخبرة الطفل بمدرسةٍ خاصة متطورة. كما نوصي باستخدام تدريس الموضوعات لتشجيع الاهتمام بالموضوعات العلمية على مستوى المدرسة الابتدائية، دون إطلاق اسم مادة «العلوم» عليها. كذلك سيتيح إجراءُ المزيد من الأبحاث حول أسباب تضاؤل دافعية الأطفال في دراسة العلوم بهذه السرعة؛ مؤشراتٍ مفيدةً في تصميم مواد الموضوعات المناسبة. نحن على علم من دراسة التطور المبكر للتوائم أن الفتيان يُبْدُون قدرًا من الاهتمام بالعلوم أكبر بقليل من الفتيات في سن التاسعة؛ ومن ثَمَّ ربما يمكن تخصيص وقتٍ للتفكير في سُبُلٍ لإشراك الفتيات في هذه الموضوعات.
(١) الاختلافات بين الجنسين
يعود بنا هذا إلى الاختلافات بين الجنسين في التحصيل العلمي. من المعروف جليًّا وجودُ عدد من النساء أقل من عدد الرجال بالمهن العلمية، وبالتأكيد يوجد عددٌ من النساء أقل من عدد الرجال بالوظائف العليا في العلوم؛ فالربع فحسب من العاملين بالعلوم والتكنولوجيا بالولايات المتحدة وأوروبا من النساء، ونسبةُ النساء العاملات بالعلوم «العملية» مثل الرياضيات والهندسة أقلُّ بكثير من تلك النسبة. لكن إلى متى تعود جذور هذه القسمة؟
بتحرِّي التحصيل العلمي في العينة التي درستها الدكتورة هاورث، أملَتْ في إلقاء الضوء على معرفة إن كانت الجينات تؤثِّر على أحد الجنسين أكثر من الجنس الآخر في السنوات قبل اختيار التلاميذ للبرامج الدراسية في سن الرابعة عشرة أم لا. وفي الواقع، اكتشفَتْ أن الفتيات يقدِّمن أداءً على نفس مستوى الفتيان تقريبًا، وأنهن يتأثَّرْنَ بالجينات ذاتها والبيئات عينها بدرجة متساوية، وقد اكتُشِف متوسطُ أداءٍ متساوٍ تقريبًا في العلوم في الولايات المتحدة في تقرير الأمة المدرسي، وفي مختلف أنحاء العالم في دراسة البرنامج الدولي لتقييم الطلبة؛ فالفتيات والفتيان ليسوا مهيَّئِين بشكل مختلف من حيث الميل إلى العلوم والتحصيل العلمي في سن التاسعة والثانية عشرة. وإن كان يوجد تباين بين الرجال والنساء في الوظائف العلمية (وهو موجود، ويطلِق عليه ستيفن بينكر «خط الأنابيب الراشح»)، فمن المستبعد أن يكون نتيجةَ التأثيرات الجينية على القدرة، أو حتى نتيجةَ الاختلافات البيئية في هذه المرحلة المبكرة. إن كانت السيدات لا تسعى خلف الوظائف العلمية أو تنجح فيها لأسباب جينية أو اجتماعية، فلا بد أن تظهر هذه الأسباب خلال مرحلة المراهقة أو مرحلة الرشد. ومع اعتبار أن التأثيرات الجينية ثابتة في العادة، سيكون من المنطقي البحث عن أسباب اجتماعية.
وفي ضوء أن تدنِّي الدافعية الموثق لدراسة العلوم ملحوظٌ أكثر لدى الفتيات عن الفتيان، فربما يعكس التفاوتُ بين الرجال والسيدات في قوى العمل في مجال العلوم اختلافاتٍ في خيارات البرامج الدراسية لا اختلافاتٍ في القدرة. وقد ظهر أن الدافعية تتنبَّأ باختيار البرامج الدراسية، إضافةً إلى الدرجات؛ أي إن الأطفال يختارون الموادَّ التي يستمتعون بها لا الموادَّ التي يبرعون فيها.
يذهب بعض اختصاصيي علم نفس النمو إلى أن انخفاض عدد النساء المتفوقات في المِهَن العلمية هو مجرد انعكاسٍ لتدنِّي عدد الراغبين في الالتحاق بتلك الوظائف في المقام الأول؛ على سبيل المثال: توصَّلَتْ دراسة حديثة إلى أن البارعين في الرياضيات أو العلوم — ويتمتعون أيضًا بمهارات لفظية قوية — تقلُّ احتمالات اختيارهم وظيفةً في العلوم أو التكنولوجيا أو الهندسة أو الرياضيات (وانج، إيكلز، كيني، ٢٠١٣). وأشارت الدراسةُ ذاتها إلى أن المجموعةَ صاحبةَ المهارات القوية في كلا المجالين ضمَّتْ عددًا من السيدات أكثر من عدد الرجال. ويوجد رأي يقول بأن النساء، في المتوسط، يفضِّلْنَ ببساطةٍ العملَ مع الأشخاص على العمل مع الأشياء أو الأفكار المجردة. وفي الولايات المتحدة — حتى بين نسبة الواحد في المائة الأعلى قدرةً في الرياضيات — سيدةٌ واحدةٌ فحسب، في مقابل ثمانية رجال، تختار مهنةً في الرياضيات أو الهندسة أو العلوم «العملية»؛ أما السبع الأخريات فيخترْنَ وظائفَ في الطب أو الأحياء أو القانون أو الإنسانيات، وهي مجالات تتضمن على نحوٍ معتادٍ العملَ مع الناس ومساعدتهم. إنِ اختارت السيدات، حتى أولئك المتمتعات بقدرة عالية في العلوم، عدمَ تقلُّد وظيفةٍ علميةٍ لأن الفُرَص الأخرى أكثر جاذبيةً لهن، فمن غير المعقول إلقاء اللوم على المجتمع أو وصف هذا بالتمييز. وفي هذه الحالة، لا ضيرَ في أن السيدات لا يشغلن نصفَ الوظائف العليا في العلوم، لكن ما يمكن أن يضير أن يكُنَّ مؤهلاتٍ لهذه الوظائف العليا ويرغبْنَ فيها، لكن يُمنَعْنَ عنها — وهو أمر كان حقيقيًّا في الماضي، لكنه لم يَعُدْ موجودًا، وإنِ اختلف البعض مع هذا الزعم — أو إن لم تُمنَح الفتياتُ في المدارس، أو في العالم بشكل عام، نفسَ فُرَص الفتيان لدراسة العلوم ومواصلة ذلك قدر ما يردن وقدر ما يستطعن.
عادةً ما يطالعنا الإعلام بأنه على الرغم من تساوي متوسط القدرة العلمية لدى الرجال والسيدات، فإن التفاوُت (الاختلاف بين الطرف الأعلى قدرةً والأدنى قدرةً من المنحنى الجرسي) لدى الرجال أكبرُ منه لدى السيدات. وما يعنيه هذا على أرض الواقع أن عدد الفتيان ذوي المستوى المتدني في العلوم سيفوق عدد أمثالهم من الفتيات، وأن عدد الفتيان العباقرة في العلوم سيفوق عدد أمثالهم من الفتيات؛ على سبيل المثال: على الرغم من أن متوسطات مستوى الرياضيات لدى الفتية والفتيات المراهقين بأمريكا بالغةُ التشابُه، فعلى مستوى أصحاب أعلى المواهب في الرياضيات يوجد ١٣ صبيًّا مقابل كل صبية واحدة. تحقَّقَتْ هاورث من بيانات دراسة التطور المبكر للتوائم لترى إنْ كان التفاوُت الظاهرُ في القدرة العلمية أكبرَ بالنسبة إلى الفتيان منها بالنسبة إلى الفتيات، واكتشفَتْ أنه كذلك (كما هو الحال بالنسبة إلى كل القدرات المعرفية)؛ ففي سن التاسعة وسن الثانية عشرة وسن الرابعة عشرة، كان أداء الفتيان والفتيات متساويًا إلى حدٍّ بعيدٍ في المتوسط، إلا أن نسبة تمثيل الفتيان كانت أعلى قليلًا بين طلاب العلوم الأعلى قدرة والأدنى قدرة. وباعتبار أن الطلاب بالطرف الأعلى من التوزيع عادةً ما يَسْعَوْن لتقلُّد وظائف علمية، فهذا قد يفسِّر جزئيًّا السببَ وراء عمل عددٍ من الرجال أكبر من عدد السيدات في العلوم.
(٢) ملخص الفصل
يُطلِعنا علم الوراثة السلوكي على أن الفتية والفتيات يمتلكون في المعتاد إمكانات علمية متساوية، كما يبدو أن هذه الإمكانات الجينية تتفاعل مع بيئة تعلِّم العلوم بشكل مختلف عن تفاعُلها في مواد مثل اللغة الإنجليزية والرياضيات. وسيؤدِّي تحديدُ سبب هذه الظاهرة بدقةٍ إلى تداعيات كبرى لكيفية تدريس المادة. وفي الوقت نفسه تتوافر لدينا بالفعل بياناتٌ كافيةٌ لاقتراح فرضية واحدة على الأقل لتحسين تعليم العلوم على نحوٍ موجَّه تطوريًّا وجينيًّا، وسنتناول هذه النقطة بالنقاش في الجزء الثاني.