احتياجات تعليمية خاصة: أفكار ورُؤًى
بالنظر إلى أهمية الجينات لقدرة التعلم والتحصيل الدراسي، من المتوقَّع أن يؤدِّي التمتُّع بمادة جينية زائدة عن اللازم، أو أقل من اللازم، أو تالفة، أو تحمل طفرات؛ إلى إحداث تأثير ضخم للغاية على كيفية نمونا؛ فالطفل المصاب بمتلازمة داون على سبيل المثال يحمل نسخةً زائدةً من الكروموسوم ٢١؛ أيْ يتمتَّع بمادة جينية زائدة عن اللازم. وهذا الكروموسوم الزائد — مع استثناءٍ نادرٍ نسبيًّا — موجودٌ في كل خلية من خلايا جسم الطفل. ونتيجةً للأبحاث الكثيرة المجراة على متلازمة داون، نحن نعلم الآن أن الكروموسوم ٢١ الزائد يغيِّر من الطريقة التي كان يمكن أن ينمو بها الطفل في غياب هذا الكروموسوم الزائد، في نواحٍ مميزة يمكن التنبُّؤ بها. وغالبًا ما يمكن تمييز الأطفال الصغار المصابين بمتلازمة داون من خلال ملامح وجوههم وحدها؛ فهم يتمتَّعون بأعينٍ على شكل حبة اللوز، وآذان وأنوف صغيرة. وبالنظر من كثب، غالبًا ما سيجد الأب أو الطبيب تغضُّنًا على راحة الطفل، وثخانةً بمؤخرة عنقه، وفرجةً بين أصبع قدمه الأكبر وبقية الأصابع. وكثيرًا ما يؤدِّي الكروموسوم الزائد أيضًا إلى مشاكل في القلب والجهاز التنفسي، وقابليةٍ للإصابة بقصور في السمع والرؤية، وتدنِّي التوتر العضلي، ومظاهر شذوذ مثل نمو الأسنان بترتيب غير طبيعي. وما لا يتضح وقتَ الميلاد هو كيفية تمكُّن الكروموسوم ٢١ الزائد — أحد أصغر الكروموسومات لدينا — من إعاقة قدرة الطفل على التعلُّم؛ فكل الأطفال والراشدين المصابين بمتلازمة داون يعانون من إعاقة تعلُّم؛ فحتى الأشخاص المصابون بمتلازمة داون الأعلى قدرةً هم أقل قدرةً بكثير، من حيث القدرة الأكاديمية والمعرفية، ممَّا سيكونون عليه دون المادة الجينية الزائدة.
ثمة أكثر من ١٠٠٠ حالة جينية — أغلبها أقل شيوعًا من متلازمة داون — يُعرَف عنها أنها تسبِّب خللًا في التعلُّم والقدرة المعرفية؛ على سبيل المثال: يفتقر الأطفال المصابون بمتلازمة ويليامز إلى سلسلة من الجينات على الكروموسوم ٧ — أيْ لديهم مادةٌ جينية أقلُّ من اللازم — وكنتيجة مباشِرة لذلك يتمتعون بملامح مميزة «تشبه ملامح الأقزام»، وقد يعانون من مشاكل صحية مثل ضيق الشرايين وارتفاع معدلات الكالسيوم في مرحلة الطفولة المبكرة، وتقريبًا يمتلك جميع الأطفال المصابين بمتلازمة ويليامز معدلَ ذكاءٍ أدنى من المتوسط، ودرجاتُ عددٍ كبيرٍ منهم تقل كثيرًا عن النطاق الطبيعي. وفي متلازمة برادر-ويلي، قد يتسبَّب غيابُ حفنة من الجينات على نسخة الكروموسوم ١٥ الموروثة من الأب (في أغلب الحالات) في إعاقة عقلية، وتدنِّي التوتُّر العضلي والاضطراب الهرموني، ويتسبَّب في أغلب الأحيان في هوس بالطعام.
قد يقدِّم لنا الأطفال المصابون بأيٍّ من هذه الحالات الجينية أو الكروموسومية أفكارًا قيِّمة عن طريقة عمل جيناتنا؛ على سبيل المثال: إن قدرةَ مقدارٍ بسيطٍ من التغيير أو الإضافة أو الاختزال في معلوماتنا الجينية، على التأثير على العديد من جوانب تشريح أجسامنا ووظائف أعضائنا وصحتنا؛ تؤكِّد مدى تعدُّد مهام جيناتنا، وأن كلًّا منها يعمل في تعاوُن وثيق مع الآخر. وكما ناقشنا في الفصلين الرابع والسابع، الجيناتُ عامةٌ؛ وعليه فإن الفحص الدقيق للأنماط السلوكية المشتركة بين المصابين بأيٍّ من هذه المتلازمات، يمكن أن يُطلِعنا على الكثير عن الجينات والتعليم.
وهؤلاء الأطفال ليسوا مَن تناولناهم بالحديث في هذا الكتاب حتى الآن؛ فهم متميِّزون جينيًّا عن التوزيع الطبيعي من حيث قدرتهم على التعلُّم؛ فصعوباتُ التعلُّم التي يعانون منها سببُها الجيناتُ، لا خاضعة لتأثير الجينات فحسب (على الرغم من أن الاختلافات الفردية بين الأشخاص المصابين بمتلازمةٍ معينةٍ يُحتمَل أن تكون متأثِّرةً بفعل الجينات والبيئات على النحو المعتاد). ومن ثَمَّ فإن الكثير من النتائج التي خلصنا إليها من أبحاث الوراثة السلوكية، لا ينطبق هنا على النحو نفسه. لم تُجرَ دراساتٌ موجَّهةٌ جينيًّا على القدرة والتحصيل الدراسي لدى المصابين بمتلازمة داون أو متلازمة ويليامز أو متلازمة برادر-ويلي؛ لأن تلك الدراسات تتطلَّب عددًا كبيرًا جدًّا من التوائم والأطفال المتبنَّيْنَ؛ أيْ لا تتوافر لنا عينات مناسبة ليس إلا. وعلى الرغم من أن هؤلاء الأطفال ليسوا ركيزةَ اهتمامِ أبحاثِ علم الوراثة السلوكي، فإننا نتناولهم هنا لثلاثة أسباب رئيسية؛ أولًا: يتحمَّل أيُّ برنامج تعليمي مسئوليةَ اعتبارِ احتياجات الأطفال كافة؛ والنتائج التي خَلَصْنا إليها بشأن تخصيص التعليم تمسُّ هؤلاء الأطفال بقدر ما تمسُّ غيرهم. ثانيًا: هؤلاء الأطفال تحديدًا يوفِّرون لنا فرصةً عظيمة لبحث الاختلافات الفردية التي نعلم أن لها مسبباتٍ مرضيةً جينية معينة؛ وبذلك تُتاح لنا فرصةُ الإلمام بمعلوماتٍ عن مضامين الاختلافات الجينية، بما فيها الاختلافات الجينية البالغة الدقة الملحوظة في التوزيع الطبيعي، بالنسبة إلى التعليم. وثالثًا: من المحتمَل أن نجد في الأساليب التعليمية المتخصِّصة الحالية بعضَ المقترحات التي يمكن تطبيقها على هؤلاء الأطفال.
لقرابة عقدين من الزمان، ظلَّتْ للبروفيسور روبرت هوداب من جامعة فاندربيلت الريادةُ في مراعاة الأسباب الجينية المحدِّدة للإعاقة العقلية في أبحاث التعليم (انظر على سبيل المثال بحثَ هوداب ودايكنز، ٢٠٠٩). وصفوفُ التربية الخاصة، مثلها مثل صفوف التربية التقليدية، كثيرًا ما وجدَتْ صعوبةً في تحقيق هذا؛ فاختلاف المسبِّبات المرضية الجينية يعني أن الأطفال المصابين بمتلازمة داون أو متلازمة ويليامز أو متلازمة برادر-ويلي، أو أيِّ إعاقةٍ عقلية أخرى جرى تشخيصها؛ لديهم احتياجاتٌ مختلفةٌ؛ ومن ثَمَّ لا ينبغي تصنيفهم كمجموعة متجانسة واحدة والتدريس لكل طفل منهم بالطريقة نفسها. علاوةً على ذلك، الأطفالُ المصابون بإعاقات التعلُّم يحتاجون على الأرجح من مدرِّسيهم اتِّبَاعَ مناهج تختلف عن تلك المستخدمة مع الأطفال المصابين بإعاقات انفعالية أو سلوكية، أو الأطفال ذوي الاحتياجات المعقدة والمتعددة؛ فحالات الشذوذ الجيني التي تجعل هؤلاء الأطفال مختلفين عن جموع الناس، تجعل أيضًا كلًّا منهم مختلفًا عن الآخر، ولهذا مضامين مهمة بالنسبة إلى التعليم الأمثل الذي يمكن أن يحصلوا عليه.
فعلى سبيل المثال: اكتُشِف أن الأطفال المصابين بمتلازمة داون يُبْدُون نمطًا معينًا من نقاط القوة ومواطن الضعف فيما يخصُّ التعلُّم؛ فهؤلاء الأطفال كمجموعة (ودائمًا ما يختلف الأفراد عن المتوسط أو النموذج الخاص بمجموعتهم) يميلون إلى التفوُّق في المهام التي تتضمَّن معالجةً بصريةً لا سمعية؛ ومن ثَمَّ عند التدريس لطفل مصاب بمتلازمة داون، من المهم الاعتماد على العرض أكثر من الحديث. وقد أدَّى هذا الإدراك إلى تدخُّلات تعليمية يبدو أن لها نتائجَ جيدةً جدًّا؛ على سبيل المثال: الأطفال المصابون بمتلازمة داون غالبًا ما يعانون من تأخُّرٍ في النموِّ اللغوي، وهذا أمر منطقي عند اعتبار أن المعالجة السمعية موطنُ ضعفٍ خاص لدى كثيرٍ من هؤلاء الأطفال؛ فنحن نتعلَّم الحديثَ بالاستماع إلى المثيرات اللفظية من حولنا والتعامل معها بالتدريج. لكنْ خمِّنْ: ما الأسلوب الناجع مع هؤلاء الأطفال؟ إنه تعليم القراءة في أبكر سن ممكنة، فبما أن الأطفال المصابين بمتلازمة داون كثيرًا ما يستجيبون جيدًا للمثيرات البصرية، سيكون من المنطقي تدريسُ اللغة لهم من خلال الكلمة المكتوبة لا المنطوقة. وبعضُ الأطفال الذين جرى تعليمهم القراءةَ مبكرًا، اتَّضَح تمتُّعهم بمستويات قراءة تتوافق وأعمارهم، وأعلى بكثير من معدلات ذكائهم، وهي نقطة قوة يمكن أن تعزِّز من تقدير الذات وتقدير الأقران في بيئة المدرسة، فضلًا عن أنَّ لها أثرًا مفيدًا على مهارات الطفل اللغوية.
في المقابل، يُعتقَد أن الأطفال المصابين بمتلازمة ويليامز يتمتَّعون بنقطة قوة في مهارات اللغة والحديث بالنسبة إلى معدل ذكائهم؛ فقدرتهم على التواصُل لفظيًّا عادةً ما تكون أقوى من إمكاناتهم البصرية المكانية؛ ومن ثَمَّ عند التدريس للأطفال المصابين بهذه الإعاقة تحديدًا، من الأفضل عَرْضُ أكبر قدرٍ ممكن من المعلومات لفظيًّا لا بصريًّا. أما المصابون بمتلازمة برادر-ويلي، فيواجهون صعوبةً خاصةً في المعالجة التسلسلية، مثل تذكُّر سلسلةٍ من الأرقام أو حركات الأيدي؛ لكنهم أفضل في المعالجة المتواقتة؛ أي إن أفضل وسيلة لتعليمهم العدَّ تكون باستخدام الكلمات مع أغراضٍ حقيقةٍ في الوقت نفسه.
إن الطرق المختلفة التي تتعلَّم بها هذه المجموعات من الأطفال مدفوعةٌ بشكل كبير بفعل سماتهم الجينية، وسينمو كلُّ طفل بسرعة أكبر وعلى نحوٍ أكمل إنْ أُخِدت هذه الحقيقة في الحسبان. والأطفال المصابون بمتلازمة داون الذين يتلقَّوْن تعليمًا لفظيًّا سينمون في المتوسط بشكل أبطأ ممَّا إنْ جرى تعليمهم بأسلوب مختلف، أما الأطفال المصابون بمتلازمة ويليامز الذين يتلقَّوْن تعليمًا باستخدام أدوات بصرية، فربما لا يتطوَّرون هم الآخرون. فالأطفال الذين تُقدَّم لهم منهجياتُ تعلُّمٍ لا تناسِبهم، من المحتمل أن يصيبهم الإحباطُ والنفور؛ ما يزيد من صعوباتهم التعلُّمية. والأدهى من ذلك أننا نتكلَّم عن متوسطات كل مجموعة من المجموعات التي ذكرناها هنا، لكن الأطفال في حاجةٍ كذلك إلى النظر إليهم باعتبارهم أفرادًا.
التخصيصُ مسألةٌ معقَّدة، فعلى الرغم من أن سمات المجموعة يمكن أن توجِّهه، فإنه يجب أن تكون احتياجاتُ الفرد — لا متوسط المجموعة — في بؤرة الاهتمام دائمًا، إلا أن الواقع يقول إن المدرسين بالتربية الخاصة يواجِهون موقفًا قد توجد فيه مجموعةٌ صغيرة من الأطفال تتعلَّم بصريًّا، ومجموعةٌ صغيرة أخرى تتعلَّم لفظيًّا، إضافةً إلى أطفالٍ آخَرين لديهم الكثير من الاحتياجات البالغة الخصوصية والسلوكيات التي تمثِّل تحدِّيًا لهم. والتحدي المتمثِّل في تعليم كل طفل من هؤلاء الأطفال على النحو الذي سيُستخرَج به أفضل ما يمكن أن يقدِّمه؛ تحدٍّ لا يُستهان به. ومدرسو التربية الخاصة يَعْلَمون أفضل من أي شخص أن الوقوف أمام الصف وشَرْح درسٍ واحد بالاستعانة بقطعة طبشورة واحدة، أو حتى لوحة بيضاء تفاعُلية، نادرًا ما يؤتي ثماره، هذا إنْ آتى ثمارًا من الأساس؛ ونتيجةً لذلك، من الممكن أن يقدِّم مدرسو التربية الخاصة — بسبب خبرتهم مع الأطفال أصحاب السمات الجماعية المعروفة — نصائحَ مفيدةً جدًّا لبقيتنا بشأن تخصيص التعليم.
لكن حتى في سياق التربية الخاصة — حيث الاختلافاتُ الفردية بفعل الجينات أكثر وضوحًا، ومن ثَمَّ يمكن فهمها بصورة أفضل مما هي عليه في المدارس التقليدية — ثمة درجة من اليأس حيال تخصيص التعليم بفاعلية. ويعرفنا البروفيسور هوداب بوجود مقاومةٍ تواجِه فكرة مراعاة المسببات المرضية الجينية المختلفة للإعاقات العقلية عند تخطيط الدروس خوفًا مما يُطلَق عليه «تجزئة» التربية الخاصة. في هذا السيناريو، يخشى الإداريون من أن الصفوف المنفصلة ستصبح ضروريةً لفصل الأطفال أصحاب الاضطرابات المختلفة، وأن هذا سيكون، صراحةً، كابوسًا إداريًّا. وإجمالًا هذا هو فحوى جميع أوجه المقاومة للتعليم المتخصِّص في مدارس التربية الخاصة والمدارس التقليدية على السواء؛ فلا يتوافر لدينا إدراكٌ وجيهٌ بما فيه الكفاية لكيفية تنفيذه، ويراه الكثير مستحيلًا. والتخصيص الحقيقي قد يكون عمليًّا من الناحية الجينية؛ وقد يكون أفضلَ سبيلٍ لاحتضان إمكانات كل طفل، بل ربما يُفضِي إلى نظام التعليم المثالي؛ لكنْ كيف يمكن تطبيقه على أرض الواقع؟ إنه سؤال جدير بالطرح، وهو أول سؤال سنبدأ بالإجابة عليه في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
(١) بسط نطاق الاحتياجات التعليمية الخاصة
حتى الآن ركَّزَتْ مناقشتنا حول الاحتياجات التعليمية الخاصة على الأطفال المصابين بإعاقات تعلُّم لأسباب جينية، لكن هؤلاء الأطفال ليسوا الوحيدين المشمولين بمظلة الاحتياجات الخاصة؛ ففي المملكة المتحدة، يمكن للأبوَيْن التقدُّم للحصول على تصريح خاص؛ وهو وثيقة ملزمة قانونًا تحدِّد الدعم الإضافي الذي يحتاجه طفلهما ويحق له الحصول عليه. يشكِّل الأطفالُ أصحاب التصاريح الخاصة ٢٫٧٪ من تلاميذ المدارس بالمملكة المتحدة، والأطفالُ الذين ركَّزنا عليهم حتى الآن عادةً ما يكونون مرشَّحين لا تُخطِئهم العينُ للحصول على تصريح خاص، على الرغم من أنه في بعض المناطق — خاصة أثناء تدابير التخفيض في الموازنة — لا يزال يتوجب على آبائهم الكفاحُ من أجل الحصول عليه، وهو شيء مُخْزٍ. وقد يترتَّب على التصريح، على سبيل المثال، مَنْح مدرسةٍ تقليديةٍ المالَ لتوفير معاوِن خصوصي للطفل، وعندما ينجح هذا الإجراء، يمكن للمعاون تخصيصُ تعليمِ الطفل بأخذ الدرس الذي سيشرحه مدرِّس الصف، وعرضه للطفل بطريقةٍ تتفق مع ما يعرفه عن الطفل والاضطرابِ الذي أدَّى به إلى الحصول على تصريحٍ خاص. ويعتمد نجاحُ هذا النهج على الاستعانة بخدمات أشخاصٍ يتمتَّعون بالإرادة والقدرة على تخصيص التعليم على هذا النحو، وتوفير التدريب اللازم لهم بحيث يكونون مطَّلِعين على طرائق الدعم الجديدة لمثل هؤلاء الأطفال. ويمكن لهذا المنهج أن يحقِّق نجاحًا باهرًا مع إعاقات التعلُّم، ومع الاحتياجات التعليمية الخاصة الراجعة لأسبابٍ سلوكيةٍ مثل التوحُّدِ واضطرابِ قصورِ الانتباه وفَرْط الحركة. والتصريح الخاص أيضًا شرطٌ لحصول الطفل على مكان بمدرسة خاصة.
كذلك يمكن اعتبار الطفل الذي لم يَجرِ تشخيصه بحالةٍ معينةٍ ولا يحقِّق تقدُّمًا كافيًا بالمدرسة؛ من ذوي الاحتياجات التعليمية الخاصة. عندما يحدث هذا بالمملكة المتحدة في هذه الآونة — على الرغم من أن النظامَ الآن يمرُّ بعمليةِ تجديدٍ كبرى قد تسحب الدعمَ الذي يحتاجه هؤلاء الأطفال — تضع المدرسةُ الطفلَ بالمستوى الأول من تصنيف الاحتياجات التعليمية الخاصة، الذي يُطلَق عليه حاليًّا «الإجراء المدرسي». وفي هذه المرحلة، تبلِّغ المدرسةُ والدَيِ الطفل أنه لا يُحرِز تقدُّمًا في جانب معين، ثم تُوضَع خطة تعليمية خاصة به، وتقدِّم المدرسةُ للطفل مزيدًا من العون كي يُحرِز تقدُّمًا كافيًا. وقد يتضمَّن هذا مزيدًا من التدريس أو المعدات أو أي شيء ترتئي المدرسةُ أنه قد يصنع فارقًا. وإنِ استمرَّ الطفل في عدم تحقيقه تقدُّمًا كافيًا، تنتقل المدرسةُ إلى «الإجراء المدرسي الإضافي»؛ حيث تتَّجِه إلى متخصِّصين خارجيين مثل اختصاصي علاج اضطرابات النطق واللغة، أو اختصاصي العلاج الطبيعي، أو الاستشاريين، أو علماء النفس. وفي بعض الحالات، يُتَّخَذ الإجراءُ المدرسي الإضافي كأول ملاذ.
وهذا النظام — عندما يحقِّق نجاحًا — هو نهج جيد للتعلُّم المُخصص؛ إذ يكتشف المدرس أن طفلًا من الأطفال في حاجةٍ إلى مساعدةٍ، ويحاول توفير ما يحتاج إليه ما دام في حاجة إليه. الأمر المثير للاهتمام هنا هو أن هذا النهج أدَّى إلى تقديرات مفادها أن طفلًا من بين كل خمسة أطفال بالمملكة المتحدة يعاني من احتياجات تعليمية خاصة، وهو رقم ولَّدَ ردَّةَ فعلٍ عدائيةً بعض الشيء؛ فأحد الأمثلة، الذي نُقِل على نحوٍ تهكُّمي نوعًا ما بالصحافة، يتعلَّق بأطفال إحدى المدارس الذين سُجِّلوا مؤقتًا ببرنامج الاحتياجات التعليمية الخاصة لأن آباءهم كانوا يقاتلون في أفغانستان. لكن هل ينبغي لنا أن نسخر من هذا الإجراء؟ إن كان قلق الأطفال على آبائهم الذين يقاتلون في أفغانستان يتداخل مع قدرتهم على التعلُّم، فمن الصعب فَهْمُ ردِّ الفعل السلبي حيال توفير دعمٍ إضافي لهم؛ فاحتياجاتُهم التعليمية الخاصة حقيقيةٌ ومن المحتمل استمرارها لفترة مؤقتة. إنها التسمية مجدَّدًا التي تسبِّب المشكلة، إن الإلحاح على التصنيف والتعيين — تصنيف أي طفل على أنه ذو احتياجات «خاصة» — هو ما يشجِّع الآخَرين، على ما يبدو، على مهاجمتك.
وماذا عن الطرف الآخَر من نطاق القدرة المتدرِّج: مَن يُطلَق عليهم «متفوِّقون» و/أو «موهوبون»؟ هل القدرةُ العالية حاجةٌ خاصة؟ هل لهؤلاء الأطفال أولوية تعليمية؟ أم أن ذلك نوع من المبالغة في استرضاء الطبقات الوسطى الطموحة؟ أم أنها طريقةٌ للوفاء باحتياجات الأطفال الأذكياء تفيدهم وتفيد كلَّ مَن حولهم، عن طريق عدم فصلهم في مدارس انتقائية؟ هل أذكى الأطفال بمدارسنا مختلفون جينيًّا عن التوزيع الطبيعي؟ أيُحتمَل تمتُّعهم بزيادة أو نقص في مادتهم الجينية يؤدِّي إلى خلط خريطتهم الجينية على نحوٍ يجعلهم أكثر حظًّا من الناحية المعرفية من أولئك المصابين بمتلازمة داون أو متلازمة ويليامز أو متلازمة برادر-ويلي؟
سبق أن أبدينا في دراسة التطور المبكر للتوائم أن ارتفاع القدرة المعرفية العامة يتأثَّر بالجينات نفسها التي تؤثِّر على التوزيع الطبيعي، وأن الأمر نفسه ينطبق على زيادة القدرة في اللغة الإنجليزية والرياضيات؛ إلا أننا إنْ أجرينا تقييمًا للأطفال ذوي أعلى قدرةٍ على الإطلاق دون غيرهم (أعلى ٠٫١٪ لا أعلى ٥٪ أو ١٠٪ بالمائة)، فقد نكتشف أن شيئًا مختلفًا يحدث. لا يمكن إجراء مثل هذه التقييمات مع خطة بحثنا الحالية، بسبب العدد الضخم المطلوب من العينات؛ وعلى الرغم من وجود عينة إجمالية كبيرة جدًّا لدينا، فهي ليست كبيرةً بما يكفي أو مؤثِّرةً إحصائيًّا بما يكفي، عندما نقصي ٩٩٩ عينة من بين كل ١٠٠٠ عينة. على الرغم من ذلك، وبناءً على ما نعرف، فإن أعلى الأطفال قدرةً بمدرسةٍ من المدارس يحملون الجينات نفسها التي يحملها الجميع، وبمعرفة أن الفرْضَ المكلَّف به أغلبُ الصفِّ سهلٌ جدًّا أو مملٌّ جدًّا بالنسبة إليهم، هل ينبغي أَخْذ هذا على محمل الأهمية؟ بالطبع ينبغي ذلك. إنْ كان التقدُّم البطيء نسبيًّا للصف يعيق قدرةَ طفلٍ ذكيٍّ على التعلُّم، فهذه مشكلة ينبغي علاجها؛ وبالتأكيد الطفل لديه حاجة تعليمية خاصة لمزيدٍ من التحفيز، المخصَّص بشكلٍ مناسِبٍ لما يتمتَّع به من نقاط قوة ومواطن ضعف؛ تمامًا مثل زملائه بالصف.
عندما يُضاف الأطفال «المتفوقون والموهوبون» إلى فئات الاحتياجات التعليمية الخاصة الحالية، فعلى الأرجح نتوقَّع وجود طفل من ذوي الاحتياجات التعليمية الخاصة بين كل أربعة أطفال. ونحن نرى أن هذا الرقم لا يزال بالغَ الضآلة؛ فلا ينبغي أن يكون العددُ واحدًا من بين أربعة أو خمسة أطفال، بل كلُّ طفلٍ. فقد رأينا أن جميع الأطفال يمرون باحتياجات تعليمية خاصة في مرحلة معينة، وقد تكون صعوباتهم مؤقتةً أو دائمةً، سبَّبَتْها الجينات أو البيئة، لكنهم مستحِقُّون لاستجابة فورية وداعمة ومخصَّصة طوال المدة التي يقتضيها علاجُ المشكلة. قد يحتاج بعض هؤلاء الأطفال إلى تصريحٍ من نوعٍ ما لحماية حقهم في الحصول على تعليم حقيقي، لكن أغلبهم لا حاجة به إلى تصنيفٍ من أي نوع. وفي عالَم مثالي، ما يحتاجه هؤلاء الأطفال هو إعدادُ المدرسة لملف موثَّق بنقاط قوتهم ومواطن ضعفهم، بما في ذلك أي معلومات جينية متاحة في ذلك الوقت؛ ويمكن حينها الجَمْع بين هذه المعلومات والمعرفة المتاحة عن المشكلة المحددة التي يمر بها الطفل، من أجل التوصُّل إلى نوع العون المطلوب. فإنْ طرحنا التصنيفَ جانبًا وبدأنا في التفكير في توفير دَعْم إضافي للأطفال كلهم متى يحتاجونه، فسيفقد جَدْل الاحتياجات التعليمية الخاصة كثيرًا من حدته. ولأسباب جينية، سيجد كلُّ الأطفال بعضَ طرق التعلُّم أو المواد أو الخبرات صعبةً. وإن جرى تتبُّع مسارهم بعنايةٍ ومراقبتهم وفهمهم، يمكن حينها تقديم الدعم الإضافي بحيث يتسنَّى حلُّ المشكلات ولا تترسخ في نفوس الأطفال معتقداتٌ سلبية عن قدرتهم أو تحصيلهم الدراسي المتدنِّي بشكلٍ لا داعيَ له. كثيرًا جدًّا ما يُشار إلى الأطفال على أنهم «ذوو احتياجات خاصة»، لكنْ لا يوجد طفلٌ «ذو» احتياجات خاصة، بل من المحتمل أن «يتمتَّع» كلُّ طفل باحتياجات خاصة في مرحلةٍ ما من تعليمه، وسنناقش سُبُلَ الوفاء بهذه الاحتياجات التعليمية الخاصة في الجزء الثاني.
(٢) التطبيق العملي للتعلم المُخصَّص
كثيرٌ من الأُسَر التي تضمُّ أطفالًا من ذوي الاحتياجات الإضافية المشخَّصة الرئيسية، يتعامل مع خدمة بورتيدج (خدمة المتابعة)؛ وهو منهج من مناهج التعليم المخصَّص سُمِّي باسم مدينة في ويسكونسن حيث ابتُكِر هناك. يُخصَّص للأطفال زائرُ المتابعة الذي يتولَّى زيارتهم بانتظام بالمنزل. وخلال الجلسات الأولى، يُلاحِظ اختصاصيُّ المتابعة الطفلَ، وبالتعاون مع والدَيْه أو أيهما أو القائم على رعايته، يتابعون تطوُّرَه قياسًا إلى قائمةِ فحْصٍ تنموية مقسَّمة إلى خطوات صغيرة؛ إذ يحدِّدون كلَّ مرحلةٍ نجح الطفل في اجتيازها بالفعل، ثم يستخدمون هذه المعلومات لوضع أساسٍ معياريٍّ يقام عليه ملفٌ تنمويٌّ غالبًا ما يكون غيرَ منتظم أو «مضطربًا»؛ لأنه يعكس النموَّ الفعلي للطفل على نطاقِ مجموعةٍ من الجوانب.
في هذه المرحلة، يضع زائرُ المتابعة المنزلي أهدافًا محدَّدة كي يعمل الطفل على تحقيقها على مدار الأشهر القليلة التالية، وفي كل زيارةٍ يعرِّف الوالدَيْن ألعابًا وأنشطة كي يساعدهما على دَعْم طفلهما في تحقيقه لأهدافه. يقوم هذا النظام على اكتشاف ما يستطيع الطفلُ عملَه بالفعل واستغلال هذا، لا التركيز على ما لا يستطيع عمله ومحاولة علاجه. ويمثِّل الأساسُ المعياري ملفَ الطفل التنموي الفريد من نوعه، الذي غالبًا ما يكون غيرَ منتظمٍ، لا الملف التنموي للطفل المتوسط البالغ عامًا أو اثنين أو ثلاثةً أو أربعةً مع التشخيص الخاص به (أو من دونه). في الفصل الرابع عشر، عندما نناقش الصورة التي يمكن أن يكون عليها التعليم المخصَّص في مدرسةٍ موجهة جينيًّا، سنستخلص بعض الدروس من هذا المنهج الفَطِن لإرشاد الأطفال كافةً لتحقيق إمكاناتهم الخاصة.
(٣) ملخص الفصل
إنَّ وجودَ نظام الاحتياجات التعليمية الخاصة يُطلِعنا على أن الأطفالَ أصحابَ المتطلبات الخاصة لا يمكن تعليمهم تعليمًا فعَّالًا عبر أسلوب وحيد، بل يجب أن نوفِّر لهم تعليمًا يركِّز أكثر عليهم، آخِذين في الحسبان جيناتهم وملفهم التعليمي الخاص. ونرى أن هذا المجال يقدِّم درسًا للتعليم التقليدي؛ حيث كثيرًا جدًّا ما يُعامَل الأطفال كما لو كانوا الشخص نفسه، وهم ليسوا كذلك؛ فنتيجةً للتأثيرات الجينية والبيئية، يتمتَّع كلُّ الأطفال باحتياجات تعليمية خاصة من نوعٍ ما في مرحلةٍ أو أخرى. وعلى الرغم من أن الأمر لا يبدو قابلًا للتطبيق، فالمدارس التقليدية ينبغي أن تقدِّم منهجًا مخصصًا بشكلٍ مشابِه لتلاميذها؛ وهذه هي النظرية. في الجزء الثاني سنحاول تطبيقها عمليًّا.