مشاهير الحكماء
جميعكم أيها الحكماء المتمتعون بالشهرة قد خدمتم الشعب وما يؤمن به من خرافات، ولو أنكم خدمتم الحقيقة لما كرَّمكم أحد، ومن أجل هذا احتمل الشعب شكوككم في بيانكم المنمق؛ لأنها كانت السبيل الملتوي الذي يقودكم إليه، وهكذا يوجد السيد لنفسه عبيدًا يلهو بضلالهم الصاخب، وما الإنسان الذي يكرهه الشعب كره الكلاب للذئب إلا صاحب الفكر الحر عدو القيود الذي لا يتعبَّد، ولا يلذ له إلا ارتياد الغاب.
إن ما حسبه الشعب في كل زمان روحًا للعدل إنما هو العدو الكامن المترصد لروح الحرية يستنبح عليها أشد كلابه افتراسًا، وقد قيل في كل زمان: «لا حقيقة إلا في الشعب، فويل لمن يطلبها خارجًا عنه.»
لقد أردتم أن تؤيدوا الشعب في ما يبدي من خشوع وإجلال، فدعوتم هذه المذلة «إرادة الحق» فيا لكم من حكماء.
غير أنكم كنتم تقولون في أنفسكم، لقد نشأنا من الشعب وصوت الشعب هو صوت الله، فكنتم كالحمار الصبور المراوغ تعرضون وساطتكم على الشعب، ولكَم من ذي سلطان أراد أن توافق عجلتُه ذوقَ الشعب فقطر لجرِّها حمارًا صغيرًا، حكيمًا مشهورًا …
فيا مشاهير الحكماء، إنني أطلب منكم أن تخلعوا عنكم ما تتلبسون به من جلود الأسود، وجلود الوحوش الكاسرة المخططة وفراء المستكشفين للمجاهل والفاتحين؛ إذ لا يسعني أن أُومن بالحقائق التي تنادون بها ما لم تقلعوا عن بذل التبجيل والتعظيم، فما رجل الحق إلا الضارب في القفار ولا إله له؛ لأنه حطم بين جنبيه التبجيل والتعظيم، وإذا هو تلفت ورمال الصحراء تحرق قدميه إلى الواحات حيث يتدفق الماء الزلال، ويمتد وارف الظلال، وترتاح الحياة ملقية عصا الترحال، فلا يقتاده الظمأ إلى الاتجاه نحوها طلبًا للاغتباط بين المغتبطين؛ لأنه يعلم أن لكل واحة أصنامها، وما يريد الأسد إلا الانفراد محررًا من عبودية الأرباب ومن سعادة المستبدين، بعيدًا عن الآلهة والمتعبدين وعن الخوف ومُنْزليه في القلوب، ذلك ما يصبو رجل الحق إليه، وما عاش رجال الحق إلا في القفار يسودونها بانطلاق تفكيرهم في مجالها الوسيع، وهل في المدن إلا مشاهير الحكماء يتناولون خير الغذاء كذوات الضرع تُغذَّى لتُحلب. إنهم يجرُّون عجلة الشعب وقد كُدنوا بها كالحمير.
وما أنا بالناقم عليهم ولكن ليعلموا أنهم خَدَمٌ مشدودون إلى عجلة، وما يرفع من ذلِّهم توهج الذهب على العجلة التي يجرونها.
ولطالما أخلص هؤلاء الناس في خدمتهم فاستحقوا الثناء؛ لأن الحكمة تقضي بأن يفتش الخادم عن سيد يستفيد من خدماته.
لقد وجب أن يتسامي عقل سيدك وتعلو فضيلته؛ لأنك بهما تعلو أنت.
والحق أنكم قد علوتم بارتقاء عقل الشعب وفضيلته، أيها الحكماء الخادمون للشعب كما اعتلى هو بكم، وما أُعلن هذا لتمجيدكم، فإنكم قد بقيتم أنتم شعبًا حتى في فضائلكم، وما تزالون شعبًا لا بصيرة له ولا يدرك للعقل معنى.
إنما العقل حياة تمزق الحياة تمزيقًا، وما تزداد الحياة معرفة إلا بما تتحمل من آلام، فهل كنتم لهذه الحقيقة عارفين؟
لا يُسعَد العقل إلا إذا مُسح بالدموع وتُوج بالتضحية، فهل كنتم لهذه الحقيقة عارفين؟
إن عماء الضرير وتلمسه لطريقه إنما هو شهادة لقوة الشمس، التي حدَّق بها فهل كنتم لهذه الحقيقة عارفين؟
على طالب المعرفة أن يتعلم البناء باستخدامه الجبال حجارة لإقامة صرحه، وما يصعب على العقل أن ينقل الجبال، فهل كنتم لهذه الحقيقة عارفين؟
إنكم لا تلمحون من العقل إلا ما يقذف به من شرر، فلا تعرفون أي سِندَانٍ هو هذا العقل، ولا تعرفون أيضًا قساوة المطرقة التي تتهاوى عليه.
والحق أنكم تجهلون كبر العقل، ويصعب عليكم احتمال تواضعه لو أراد تواضع العقل أن يعلن حقيقته.
إنكم ما تمكنتم في أي زمان من إرسال عقلكم إلى مهاوي الثلوج، فما بكم الحرارة الكافية لاقتحامها؛ ولذلك لا تدركون لذة من تنعشه لفحات هذه المهاوي، غير أنني أراكم بالرغم من هذا تتقدمون على مداعبة التفكير، وقد جعلتم الحكمة ملجأ ومستشفى للمتشاعرين …
لستم عقبانًا أيها الحكماء المشتهرون، فأنتم إذن لا تدركون ما يلد العقل من لذة في ارتياعه، فلا يحق لغير المجنَّح أن يخترق الهواء فوق الوهاد.
ما أنتم إلا فاترون أيها الحكماء، وفي كل معرفة عميقة يهب تيارٌ من الصقيع؛ لأن ينابيع العقل الخفية باردة كالثلج، ولا تلذ ببردها غير الأيدي الملتهبة بحرارة جهادها.
إنني أراكم أمامي أيها الحكماء المشتهرون ملفَّعين بقساوتكم جامدين على غروركم، فما للريح أن تدفعكم ولا للإرادة أن تهيب بكم إلى الإقدام.
أما رأيتم على مضطربات الأمواج شراعًا خفاقًا يندفع وقد عصفت في ثنياته هوجاءُ الرياح. إن حكمتي تجتاز العمر خافقة كهذا الشراع، وقد ملأتها عواصف التفكير، تلك هي حكمتي الشاردة النفور، فهل لكم أن تجاروني في اندفاعي أنتم يا من تخدمون الشعب، أنتم مشاهير الحكماء.
هكذا تكلم زارا …