نشيد الرقص
ومر زارا بالغاب يومًا ومعه صحبه فاكتشف وهو يفتش عن ينبوع مرجًا منبسطًا بين الأشجار والأدغال، وكان هنالك رهط من الصبايا يرقصن بعيدًا عن أعين الرقباء، وإذ لمحن القادم وعرفنه توقفن عن الرقص، ولكن زارا اقترب منهن وخاطبهن قائلًا: داومْنَ على رقصكن، أيتها الآنسات الجميلات، فما القادم بمزعج للفرحين وما هو بعدو للصبايا. أنا من يدافع عن الله أمام الشيطان، وما الشيطان إلا الروح الثقيل، فهل يسعني أن أكون عدوًّا لما فيكن من بهاء ورشاقة وخفة روح؟
وهل لي أن أكون عدوًّا للرقص الإلهي ترسمه مثل هذه الأقدام الضوامر الرشيقات …؟
لا ريب في أنني غابة اشتبكت فيها قاتمات الأشجار، وساد الحلك على أرجائها، ولكن من يقتحم ظلماتي بلا خوف ليجدن تحت سرواتي الرهيبات طرقًا تحفُّ بجانبيها الورود، وليجدن أيضًا الإله الصغير الذي تشتاقه الصبايا منطرحًا بسكون قرب الينبوع وقد أغمض عينيه.
لقد نام في وقت الظهيرة، هذا الإله المتراخي، ولعله سعى طويلًا ليصطاد من الفراشات عددًا كبيرًا.
لا يكدركن مني أيتها الراقصات الجميلات تأديبي لهذا الإله الصغير، ولعله يصيح ويبكي ولكنه إله يجلب المسرة حتى في بكائه، فلسوف أقتاده إليكن والدموع سائلة على خديه ليطلب إليكن أن ترقِّصنه، وإذا ما رقص فسأرافقه أنا بإنشادي فما تجيء نغماتي إلا هزيجًا أصفع به الروح الثقيل، روح الشيطان المتعالي الذي يقول الناس إنه يسود العالم.
وهذه هي الأغنية التي رفع زارا صوته بها بينما كان «كوبيدون» إله الحب يرقص مع الصبايا الفاتنات:
لقد حدَّقت يومًا في عينيكِ، أيتها الحياة، فحسبتني هويتُ إلى غور بعيد القرار، غير أنك سحبتني بشابك من ذهب وأطلقت قهقهة ساخرة عندما قلت إن غدرك لا قرار له، وأجبتني: هذا ما تقوله الأسماك جميعها، فهي إذ تعجز عن سبر الأغوار تحسبها لا قرار لها، وهل أنا إلا المتقلِّبة النفور؟ وهل أنا إلا امرأة، وامرأة لا فضيلة لها، لقد تقوَّل الناس كثيرًا عن صفاتي، ولكنهم أجمعوا على أنني غير المتناهية، المليئة بالأسرار.
أيها الناس، إنكم ترون فضائلكم فيَّ، فأنتم لا قبل لكم بإدراك شيء آخر غيرها أيها الفضلاء …
هذا ما كانت تقهقه به في سخريتها تلك الحياة، غير أنني لا أثق بها، ولا أصدق ضحكها عندما تهجو نفسها.
وناجيت يومًا حكمتي النفورة فقالت لي غاضبة: إنك تطلب الحياة وتشتاقها وتحبها، وذلك ما يحفز بك إلى بذل الثناء عليها.
ولولا أنني تمالكت نفسي لكنت رددت بعنف على حكمتي، وأعلنت الحقيقة لها وهي تغاضبني، وهل من جواب أشد وقعًا على الحكمة من أن تهتك سرائرها.
ما أحب شيئًا من صميم الفؤاد إلا الحياة، ولا يبلغ حبي لها أشده إلا حين أكرهها، وإذا ما أنا اندفعت إلى الحكمة، وأغرقت في الالتجاء إليها فما ذلك إلا لأنها تبالغ بتذكيري بالحياة، فإن للحكمة عيني الحياة ولها ابتسامتها، بل لها أيضًا شابكها المذهَّب، فما حيلتي بهما إذا تشابهنا إلى هذا الحد؟
وعندما سألتني الحياة عن الحكمة أجبتها: هي الحكمة يشتهيها الإنسان بكل قوته ولا يشبع منها، فهو يحدِّق فيها ليتبين وجهها من وراء القناع ويمد أصابعه بين فرجات شباكها متسائلًا عن جمالها وما يدريه ما هو هذا الجمال، ومع هذا فإن أقدم الأسماك لا تنفك عن الانجذاب إلى طعمة شباكها فهي متقلبة شديدة المراس، ولكَم رأيتها تعض على شفتها وتسرِّح شعرها، ولعلها شريرة ومخادعة، بل لعل لها صفات المرأة بأجمعها فهي لا تبلغ أبعد مداها في اجتذاب القلوب إلا عندما تهجو ذاتها …
وبعد أن قلت هذا عن الحكمة للحياة، مرت على شفتيها ابتسامة شريرة، وغيَّضت من جفنيها قائلة: عمَّن تتكلم … لعلك تتكلم عني أنا … وهل للإنسان أن يعلن مثل هذه الأمور بوجه من تعنيه حتى ولو كان محقًّا، فما قولك الآن في حكمتك يا هذا …؟
وفتحت الحياة المحبوبة عينيها فحسبتني عدت إلى التدهور في الهاوية البعيدة القرار.
هذا ما تغنَّى به زارا وما انتهى الرقص وتوارت الصبايا عن أبصاره حتى تملكه حزن عميق فقال: لقد اختفت الشمس وترطب المرج وقد بدأ الغاب يرسل لفحاته الياردات. إن شيئًا مجهولًا يدور حولي ويحدجني قائلًا: ألم تزل على قيد الحياة يا زارا؟ ولماذا أنت حيٌّ بعد؟ وما هي فائدة هذه الحياة؟ ما هو مصدرك وإلى أين مصيرك أفليس من الجنون أن تبقى في الحياة؟
ويلاه أيها الصحاب، إن ما يتناجى فيَّ إنما هو الغَسَق فاغتفروا لي شجوني لقد جاء المساء فاغتفروا لي قدوم المساء …
هكذا تكلم زارا …