في بلاد المدنية
ذهبت بعيدًا طائرًا في أجواء المستقبل فارتعشت وذعرت عندما نظرت ما حولي فما وجدت من معاصر لي غير الزمان. ولَّيت الأدبار مسرعًا حتى وصلت إليكم، يا رجال اليوم، ونزلت بينكم في بلاد المدنية، فألقيت عليكم أول نظراتي بصفاء نية؛ لأنني جئتكم بقلب مصدوع، ولا أعلم ما أهاب بي إلى الضحك بالرغم من ارتياعي، فإن عيني ما رأت من قبل مثل هذه الخطوط والألوان.
ذهبت في ضحكي وقد ارتعش قلبي واصطكت رجلاي، فقلت في نفسي: «لعل هذه مصانع الآنية الملونة.»
لقد برزتم أمامي يا رجال اليوم، وعلى وجوهكم وأعضائكم من الألوان عشرات الأنواع، وحولكم عشرات المرايا تعكس تموجات ألوانكم، والحق أنكم لا تستطيعون أن تجدوا ما تتقنعون به أشد غرابة من وجوهكم نفسها، فمن له أن يعرف من أنتم؟
لقد حفر الماضي في وجوهكم آثاره فألقيتم فوقها آثارًا جديدة؛ لذلك خفيت حقيقتكم عن كل معبر وأعجزت كل بيان.
ولو كان لأحد أن يفحص الأحشاء فهل بوسعكم أن تثبتوا أن لكم أحشاء، وما أنتم إلا جبلة هباب وقطع أوراق ألصقت إلصاقًا، وهذه جميع الأزمنة وجميع الشعوب تتزاحم مرسلة نظراتها وراء قناعكم كما تفصح جميع حركاتكم عن تراكم كل العادات والمعتقدات فيكم، فإذا ما نُزعت أقنعتكم وألقيت أحمالكم ومسحت ألوانكم ووقفت حركاتكم فلا يبقى منكم إلا شبح يُنصب مفزعة للطيور.
والحق، ما أنا إلا طائر مروع؛ لأنني رأيتكم يومًا عراة لا تستركم ألوانكم؛ فاستولى الذعر عليَّ إذ انتصبتم أمامي هياكل عظام تومئ إليَّ بإشارات العاشقين.
إنني أفضل أن أكون من عمَّال الجحيم وخدام الأشباح؛ لأن لسكان الجحيم ما ليس لكم من شخصية معينة، وأمرُّ ما ألقاه هو أن أنظر إليكم سواء استترتم أو تعريتم، يا رجال اليوم …
إن جميع ما يدعو إلى القلق في آتي الزمان، وجميع ما ارتاعت له في الماضي تائهات الطير، إنما هو أدعى إلى الاطمئنان والارتياح من حقيقتكم؛ لأنكم أنتم القائلون: «إنما نحن الحقيقة المجردة عن كل خرافة واعتقاد.» وبهذا تتبجحون وتنتفخون دون أن يكون لكم صدور.
وهل من عقيدة لكم وأنتم المبرقشون بجميع ما عرف الزمان من ألوان حتى اليوم؟ وهل أنتم إلا دحض صريح للإيمان نفسه وتفكيك للأفكار جميعها؟ فأنتم كائنات أوهام يا من تدَّعون أنكم رجال الحقائق.
لقد قامت العصور كلها تتعارك في تفكيركم، وما كانت هذه العصور في أحلامها وهذيانها إلا أقرب إلى الحقيقة من تفكيركم وأنتم منتبهون.
بليتم بالعقم ففقدتم الإيمان، وقد كانت للمبدع أحلامه وكواكبه قبلكم فوثق من إيمانه.
ما أنتم إلا أبواب فتحت مصاريعها لحفار القبور، وما حقيقتكم إلا القول بأن كل شيء يستحق الزوال.
إنكم تنتصبون أمامي كهياكل عظام متحركة، أيها المبتلون بالعقم، ولا ريب في أن أكثركم لم يخفَ عليه أمر عندما تساءل: «هل اختطف إلهٌ مني شيئًا وأنا نائم؟ والحق أن ما سُلب مني يكفي لإيجاد امرأة، فما أضعف أضلاعي!» هكذا يتكلم العدد الوفير من رجال هذا الزمان.
إن حالكم ليضحكني أيها الرجال، ويزيد في ضحكي أنكم لأنفسكم مستغربون، ولشد ما يكون ويلي لو امتنع عليَّ أن أضحك من استغرابكم ولو اضطررت إلى ازدراد ما في أوعيتكم من كريه الطعام.
إنني أستخفُّ بكم لما على عاتقي من ثقيل الأحمال، فما يهمني لو نزل عليها بعض الذباب فإنه لن يزيدها ثقلًا، وما أنتم من يحملَّني أشد الأتعاب أيها المعاصرون.
وا أسفاه! إلى أية ذروة يجب عليَّ أن أرتقي بأشواقي؟ فإنني أدير لحاظي من أعالي الذرى مفتشًا عبثًا عن مسقط رأسي وأوطاني، فأنا لا أزال في أول مرحلتي تائهًا في المدن أتنقل أمام أبوابها.
لقد اندفعت بعواطفي نحو رجال هذه الأيام، ولكنني ما لبثت أن تبيَّنت فيهم قومًا غرباء عني لا يستحقون إلا سخريتي، وهكذا أصبحت طريدًا يتشوق إلى مسقط رأسه وأوطانه، ولا وطن لي بعد الآن إلا وطن أبنائي في الأرض المجهولة وسط البحار السحيقة؛ لذلك وجب عليَّ أن اندفع بشراعي على صفحات المياه لأفتش عن هذا الوطن.
عليَّ أن أُكفِّر عن ذنبي أمام أبنائي؛ لأنني كنت ابنًا لآبائي، عليَّ أن أكفِّر عن حالي العتيد بكل جهودي في آتي الزمان.
هكذا تكلم زارا …