المعرفة الطاهرة
عندما أطلَّ القمر عليَّ ليلة أمس خُيل إليَّ أنه أُنثى أثقلها الحَبْلُ، وكأن في أحشائها كوكب النهار، وقد جاءها المخاض وأنا أَميل إلى تذكير القمر مني إلى تأنيثه وإن خلا من صفات الرجولة فإنه رائد ليل يمر على السطوح، وقد ساءت نواياه، فهو كالراهب المتدفق شهوة وحسدًا يتمنى لو يتمتع بملذات جميع العاشقين.
لا، إنني لا أحب هذا الهرَّ المتجول على مزاريب السطوح؛ لأنني أكره كل متلصص أمام النوافذ التي لم يحكم إقفالها.
إن القمر ليمر خاشعًا متعبدًا على بساط النجوم، وأنا أكره كل من ينساب في مشيته فلا تسمع وقعًا لأقدامه، فإن خطوات الرجل الصريح تستنطق الأرض، وما يمشي الهرُّ إلا متجسِّسًا، وهذا القمر لا يتقدم إلا بخطوات الغدر كالهر.
ما أوردت هذا المثل إلا لكم وعنكم يا أبناء الخبث، وقد أرهقَكم إحساسُكم لطلب المعرفة الصافية، وما أنتم في نظري إلا عبيد الملذات؛ لأنكم أنتم أيضًا تحبون الأرض وما عليها ومنها. لقد عرفت طويتكم فإذا في حبكم ما يخجل وما يفسد الأخلاق، فما أشد شبهكم بكوكب الليل!
لقد أقنعوكم بأن تحتقروا كل ما ينشأ من التراب، ولكن هذا الإقناع لم ينفذ إلى أحشائكم، وأحشاؤكم هي أقوى ما فيكم، وهكذا أصبح عقلكم خَجِلًا من سيطرة أحشائكم عليه، فهو يتبع الطرق الخفية المضللة فزعًا من خجله. أنصتوا إلى مناجاة عقلكم لنفسه فهو يقول: ليت لي أن أرتقي إلى حيث أنظر إلى الحياة محررًا من الشهوة، فلا ألهث أمامها ككلب يدلي لسانه وقد شفَّه السَّغَب من شهوته.
ليت لي أن أسعد بالتأمل متفوقًا على إرادتي متحررًا من خساسة الأنانية ومطامحها؛ فيسود عليَّ السلام ولا يبقى لعيني سوى لحظات القمر الثملة.
إن عقلكم يطلب التملص من ذاته؛ لأنه طريد يشتهي أن يتعشَّق الأرض كما يتعشقها القمر فلا تتمتع إلا عيونكم بجمالها.
إن المعرفة الطاهرة لا تحتلُّ عقولكم ما لم ينبسط أمام الأشياء دون امتلاكها مكتفيًا بانعكاس أشباحها عليه كما تنعكس الأشباح على مرآة لها مئات العيون.
أيها الخبثاء المتحرِّقون بالشهوات، لقد خلت شهوتكم من الطهارة؛ فلذلك تجدِّفون على الشهوة، فأنتم لا تحبون الأرض كما يحبها المبدعون والمجددون الذين يسرون بما يبدعون وبما يجددون، فلا طهارة إلا حيث تتجلى إرادة الإبداع، فمن اتجه إلى خلْق من يتفوق عليه فذلك عندي صاحب أطهر إرادة وأنقاها.
طلبت الجمال فما وجدته إلا حيث تنصبُّ الإرادة بأكملها إلى المراد، وحيث يرتضي الإنسان بالزوال لتجديد الصور وتبديلها، فالمحبة والموت صنوان متلازمان منذ الأزل، فمن أراد المحبة فقد رضي بالموت. هذا ما أقوله لكم أيها الجبناء.
ولكن نظراتكم المنحرفة المؤنثة تحب الاستغراق في التأمل، فتريدون أن يدعى جمالًا ما تحدجونه أنتم بعين الحذر والجبن، إنكم لتدنسون أشرف الأسماء.
إن اللعنة التي تحل بكم، أيها السائرون، وراء المعرفة الطاهرة إنما هي عجزكم عن التوليد في حين أنكم تلوحون كالحبالى المُثقلات على الآفاق.
إنكم تحشون أفواهكم بأنبل الكلمات لإيهامنا بأن قلبكم يتدفق عطفًا، وما أنتم إلا منافقون.
لقد أخْشنتُ القول لكم فكلماتي مشوهة ذرية، غير أنني أتناولها من الفتات المتساقط من موائد ولائمكم فأستعملها حين أعلن الحقيقة للخبثاء، وهذا ما بيدي من حسك وأصداف يخدش آنافكم أيها الخبثاء.
إن الهواء الفاسد يهب بلا انقطاع حولكم وحول مآدبكم؛ لأنه مشبع من أفكاركم الدنسة وأكاذيبكم وخداعكم.
عليكم أن تبدءوا باطِّراح خوركم؛ لتتوصلوا إلى الوثوق بأنفسكم، فما ينقطع عن الكذب من لا ثقة له بنفسه.
لقد أخفيتم وجوهكم بأقنعة الآلهة أيها الرجال الأتقياء، فأنتم ديدان قبيحة تتَّشح برداء الأرباب.
إنكم لجد متبجحون يا رجال التأمل، حتى إن زارا نفسه أخذ بمظاهر جلودكم الإلهية فخفيتْ عنه الأفاعي الكامنة وراءها.
لقد كنت أرى في عيونكم روح إلهٍ أيها الطالبون المعرفة الطاهرة، قبل أن تكشف لي تصنعكم فعرفت أنكم أمهر المتصنعين.
لقد بعد المجال بيني وبينكم فما تميزتُ فيكم الثعبان القبيح، ولا وصلتْ إليَّ رائحته الكريهة، وما خطر لي أن أمامي حرباء تتلون بشهواتها، ولكنني عندما اقتربت منكم تبددت الظلمة حولي، وها إن الفجر يغمركم بأنواره فلكل قمر جنوح إلى الغياب في شهوته. انظروا إلى هذا القمر فهو في أُفُقِه شاحب مذعور، وقد باغته الفجر بأنواره المرسلة، فكل شمس يتجلى حبها الطاهر في تشوقها إلى الإبداع.
أما ترون الفجر ينسحب على البحر وقد اهتاجه الشوق والحنين؟ إنما تشعرون بظمئه في حبه وحرِّ أنفاسه، فكأنه يريد ارتشاف اللجج، وها هي ذي تتعالى نحوه بآلاف نهودها، واللجة نفسها متشوقة إلى وصال كوكب النهار ليرشفها ارتشافًا فتتحول إلى سحب ومسالك أنوار، بل هي نفسها تفنى في النور متحولة إلى نور.
وأنا كوكب النهار أحب الحياة وكل لجة بعيدة الأغوار، تلك هي معرفتي. إنني أجتذب كل غور ليتعالى إليَّ …
هكذا تكلم زارا …