العلماء
وكنت نائمًا فإذا نعجة تتقدم فتقضم الغار المعقود إكليلًا على رأسي، فكانت تعمل أنيابها فيه وتقول: لم يعد زارا من العلماء.
وذهبت بعد ذلك مزدرية متفاخرة، ذلك ما أخبرنيه أحد الأولاد.
أحب أن أستلقي على الأرض حيث يلعب الأطفال تحت الجدار المتهدم، وقد نبت في شقوقه العوسج والشقائق الحمراء، فإنني لم أزل عالمًا في عيون الصغار وفي عيون العوسج والشقائق الحمراء؛ لأنها طاهرة حتى في أذيتها.
أنا لم أعد عالمًا في نظر النعاج. تبارك حظي فهذا ما قُضي به عليَّ، والحقيقة هي أنني هجرت مسكن العلماء فخرجت منه جاذبًا بابه بعنف ورائي.
لقد جلست روحي الجائعة طويلًا إلى الخوان، وما أنا كالعلماء متطبع على المعرفة كمن اتَّخذ كسر القشور مهنة له، فأنا عاشق الحرية والسير في الهواء الطلق على الأرض الباردة، كما أفضل أن أتوسد جلود الثيران على افتراش أمجاد العلماء وألقابهم.
إن بي من الحماس ومن لهب الفكر ما يقطع عليَّ أنفاسي، فلا يسعني إلا الاندفاع إلى رحب الفضاء هاربًا من الغرف المكسوة بالغبار.
ولكن هؤلاء العلماء يتفيَّئون الظلال فلا يقتحمون السير على المسالك التي تلهبها حرارة الشمس، بل يكتفون بالاستكشاف كالمتفرجين يفتحون أشداقهم وينظرون إلى المارَّة في الشارع، هكذا يفتح العلماء أشداقهم وينتظرون اتِّقاد شرارة الفكر في أدمغة المفكرين، وإذا ما لمستهم بيدك تطاير الغبار ما حولهم كأنهم أكياس من الحنطة، ولكن لا يظننَّ أحد أن هذا الغبار المتطاير منهم هو دقيق السنابل الصفراء التي يتشح بها الصيف في زهوه.
إذا ما تظاهر العلماء بالحكمة، فإن حقائقهم وأحكامهم تهزني برعشة البُرَداء؛ إذ تنتشر منها روائح المستنقعات، ولكَم أسمعتني حكمتهم نقيق الضفادع.
إن لهؤلاء العلماء مهارتهم ولأناملهم لَبَاقَتها، فليس من نسبة بين صراحتي وتعقيدهم، فأناملهم لا تني تغزل وتحيك ناسجة للعقل ما يستره؛ فهم كالساعات إذا ما أحكم ربط رقَّاصها دلت بضبط على سير الزمان وأسمعتك طقطقة خافتة. إنهم يعملون كحجر الرحى فيطحنون كل ما تلقي إليهم من حبوب، وكل منهم يراقب حركة أنامل الآخرين، وجميعهم يتلهون بالنكايات ويترصدون من يتعارج بعلومه، فهم أشبه بالعناكب في تلصصهم، ولكَم رأيتهم يستقطرون سمومهم بكل حذر ساترين أيديهم بقفازات من زجاج، ولهم مهارة خاصة بلعب النرد المزوَّر، ولكَم انحنوا فوقه والعرَق يتصبب من وجوههم.
لا صلة بيني وبين هؤلاء الناس؛ فإن فضائلهم تبعد عن فضائلي بأكثر مما تبعد عنها أكاذيبهم ونردهم المزور.
وما وُجدت مرة بينهم إلا وكنت فوقهم؛ لذلك أبغضني هؤلاء العلماء، فإنهم لا يطيقون أن يسمعوا بمرور أي كان فوق رءوسهم، ولذلك وضعوا الأخشاب فوق رءوسهم، وأهالوا فوقها التراب والأقذار ليخنقوا وقع أقدامي، ولم يزل حتى اليوم أكثرهم علمًا أقلَّهم إدراكًا لأقوالي.
لقد نصبوا بيني وبينهم حائلًا كل ما في الإنسان من ضعف وضلال، وهم يدعون هذا الحصن لمسكنهم بالسقف المستعار.
ولكني بالرغم من كل هذا لا أزال أمشي فوق رءوسهم وأنا أنشر أفكاري، ولو أنني مشيت على عيوبي فلن أزال ماشيًا فوق جباههم، ذلك لأنه لا مساواة بين البشر، وهذا ما يهتف به العدل، فما أريده أنا لا حق لهم بأن يتناولوه بإرادتهم.
هكذا تكلم زارا …