الشعراء
وقال زارا لأحد أتباعه: منذ بدأت أعرف حقيقة الجسد لم تعد الروح روحًا في نظري إلا على أضيق مقياس، وهكذا صرت أرى «كل ما لا يفنى» رمزًا من الرموز.
فأجاب التابع قائلًا: لقد قلتَ هذا من قبل يا زارا، ولكنك أضفت إليه قولك: «وكثيرًا ما يكذب الشعراء.» فلماذا قلت هذا؟
فقال زارا: أنت تسأل لماذا، وما أنا ممن يحق عليهم أن يُسألوا. ما أنا ابن الأمس وقد مر زمان طويل على إدراكي أسباب ما أَرتَئِيه، وهل أنا خزانة تذكارات لأحفظ الأسباب التي بنيت عليها آرائي؟ إنما يكفيني عناء أن أحفظ هذه الآراء نفسها، أفليس في العالم عصافير تشرد من أماكنها، ولكَم وجدت في قفصي من طير غريب يرتجف إذا ما أمررت عليه يدي، ومع ذلك فماذا قال لك زارا يومًا؟ لقد قال إن الشعراء كثيرًا ما يكذبون، وهل كان زارا نفسه إلا واحدًا من هؤلاء الشعراء؟ أفتحسب أنه بهذه الصفة قد أعلن الحق؟ وما الذي يُكْرِهك على تصديقه؟
فقال التابع: إنني مؤمن بزارا.
أما زارا فهز رأسه وابتسم قائلًا: ليس الإيمان مما يرضيني حتى ولو كان هذا الإيمان معقودًا عليَّ، ولكن إذا قال إنسان بكل جد: إن الشعراء يكذبون، فإنه ليقول حقًّا؛ لأننا نحن الشعراء نكذب كثيرًا، ولا بد لنا من الكذب ما دام ما نجده من العلم قليلًا، ومَنْ من الشعراء بيننا لم يغشَّ شرابه وفي سراديبنا تُستقطر السوائل المسمومة؟ ولكَم فيها من أمور يقصر عن وصفها البيان. إن افتقارنا في المعرفة يهيب بنا إلى محبة مساكين العقول، وبخاصة إلى محبة مسكينات العقول الفتيات … فنحن نعود بشهواتنا إلى الأمور التي تتحدث عنها العجائز في السمر، ونقول إن ما نبحث فيه إنما هو قضية المرأة الأبدية.
يخيل لنا أن أمامنا طريقًا سويًّا يؤدي إلى المعرفة، وأن هذا الطريق لا ينكشف لمن يدركون الأمور بالعلم، فنحن لا نؤمن إلا بالشعب وبحكمته، فالشعراء جميعهم يعتقدون أن الجالس على منحدر جبل مقفر يتنصَّت إلى السكون يتوصل إلى معرفة ما يحدث بين الأرض والسماء، وإذا هم هزَّهم الشعور المرهف خُيل لهم أن الطبيعة نفسها أصبحت مغرمة بهم؛ فيرونها تنحني على آذانهم لتلهمهم البيان الساحر والأسرار، فيقفون مباهين بإلهامهم أمام كل كائن يزول.
وا أسفاه! إن بين الأرض والسماء أمور كثيرة لا يحلم بها إلا الشعراء، وهنالك أمور أخرى كثيرة فوق السماء، فما جميع الآلهة إلا رموز أبدعها الشعراء.
والحق أننا منجذبون أبدًا إلى العلياء، إلى مسارح الغيوم فنرسل إليها أكرًا منفوخة ملونة ندعوها آلهة وبشرًا متفوقين، والحق أنهم من الخفة على ما يجعلهم أهلًا لاقتعاد مثل هذه العروش.
ويلاه! لكم تعبت من كل قاصر يطمح إلى جعل نفسه شيئًا معدودًا! ولكَم أتعبني الشعراء!
وما نطق زارا بهذا الكلام حتى ثارت نفس تابعه، ولكنه كظم غيظه فسكت وسكت زارا أيضًا وغيَّض نظره كأنه يستر أقاصي نفسه، ثم تنفس الصعداء وقال: أنا من الأمس ومن الزمن القديم ولكن فيَّ شيئًا من الغد وبعده ومن الآتي البعيد، فقد أتعبني الشعراء الأقدمون منهم والمجددون، فما هم في نظري إلا رغوة لا صريح تحتها، بل هم أسرَّة بحار جفت مياهها. إن أفكارهم لم تنفذ إلى الأغوار، وقد وقف شعورهم عند أول جُرُفها، وخير ما ترى في تأملاتهم قليل من الشهوة وقليل من الضجر، فليست بحورهم إلا مجالات تنزلق على تفاعيلها الأشباح، فهم لم يدركوا شيئًا بعد من القوى الكامنة في النبرات. لم يبلغ الشعراء درجة النقاء فهم يعكِّرون جداولهم؛ ليخدعوا الناس ويوهموهم أنها بعيدة الغور. إنهم يريدون أن يقيموا أنفسهم موفِّقين بين مختلف المعتقدات غير أنهم لا يزالون رجال العمل الناقص السائرين على السبل المتوسطة الحائرة فهم يعكرون المياه بأقذارهم.
وا أسفاه لقد ألقيت شباكي في بحارهم آملًا اصطياد خير الأسماك، ولكنني ما سحبت هذه الشباك مرة إلا وقد علق فيها رأس إله قديم، وهكذا كان يجود البحر بحجر على الجائع. ولعل الشعراء أنفسهم خرجوا هم أيضًا من البحر وفيهم ولا ريب بعض اللآلئ، فهم أشبه بنوع من المحار الممنَّع بأصدافه، ولكَم وجدت في داخلهم بدل الروح شيئًا من الرغوة المالحة. إن الشعراء يقتبسون من البحر غروره، وهل البحر إلا أشد الطواويس غرورًا؟ فهو حتى أمام أقبح الجواميس يدحرج أمواجه ويبسط أطالس مراوحه وأطراف وشاحه المفضض، فيحدجه الجاموس بنظرات الغيظ؛ لأن روحه المقتربة من الشاطئ لا تزال ملتصقة بمعلفه ومرعاه فما يبالي بالجمال وبالبحر وببهاء الطواويس. هذا هو المثل الذي أَضرِبه للشعراء، والحق أن فكرهم لطاووس مغرور، بل هو بحر من الغرور، ففِكْر الشاعر يطلب من يشاهده حتى ولو كان المشاهِد جاموسًا.
لقد أتعبني هذا الفكر وسوف يأتي زمان — وهو قريب — يتعب فيه هذا الفكر من ذاته.
رأيت بعض الشعراء يتحولون عن الشعر، ويوجهون النقمة إلى ما كانوا عليه، ورأيت من يقدِّمون كفَّارة للفكر، وما نشأ هؤلاء المكفِّرون عن الضلال إلا بين الشعراء.
هكذا تكلم زارا …