خطب زرادشت
التحول في ثلاث مراحل
سأشرح لكم تحول العقل في مراحله الثلاث فأنبئكم كيف استحال العقل جَملا، وكيف استحال الجمل أسدًا، وكيف استحال الأسد أخيرًا فصار ولدًا.
ما أوفر الأحمال التي تثقل العقل الجَلْد الصليب وهو مجلى الوقار، فإن صلابته تتوق إلى الحمل الثقيل بل إلى أثقل الأحمال.
يفتش العقل السليم عن أثقل الأحمال؛ فينيخ كالجمل ظهره متوقعًا رفع خير حُمِل إليه. إن العقل السليم ينادي الأبطال قائلًا: أي حمل هو الأثقل لأرفعه فتغتبط به قوتي؟ أفليس أثقل الأحمال هو في الاتضاع لإنزال العذاب بالغرور؟ أفليس أثقلها أن يبدي الإنسان اختلالًا لتظهر حكمته جنونًا؟
أم أثقلها في تخلي الإنسان من مطلب حين يقترن هذا المطلب بالنصر، أم في ارتقاء قمم الجبال لتحدي من يتحدى؟
أم أثقلها في أن يتغذى الإنسان بأقماع السنديان والأعشاب ويتحمل مجاعة نفسه من أجل الحقيقة.
أم أثقلها في احتمال المرض وطرد العوَّاد المعزِّين، أم في مخادنة الصمِّ الذين لا يسمعون ولا يعون ما تريد؟
أم أثقلها في الانحدار إلى المياه القذرة إذا كانت الحقيقية فيها والرضى بملامسة الضفادع اللزجة والعقارب التي تقطر صديدًا.
أم أثقلها في محبة من يحتقرنا وفي مدِّ يدنا لمصافحة شبح يقصد إدخال الرعب إلى قلوبنا. إن العقل السليم يحمِّل ذاته جميع هذه الأثقال المرهقة، وكالجمل الذي يسارع إلى طريق الصحراء عندما يُرفع الوقر عن ظهره هكذا يندفع هو أيضًا نحو صحرائه.
وهنالك في الصحراء القاحلة يتم التحول الثاني؛ إذ ينقلب العقل أسدًا؛ لأنه يطمح إلى نيل حريته وبسط سيادته على صحرائه.
وفي هذه الصحراء يفتش عن سيده ليناصبه العداء كما ناصب سيده السابق، فهو يستعد لمكافحة التنِّين والتغلب عليه.
ومن هو هذا التنين الذي يتمرد العقل عليه فلا يريد بعد الآن أن يرى فيه ربه وسيده؟
إن التنين هو كلمة «يجب عليك» وعقل الأسد يريد أن ينطق بكلمة «أريد» إن كلمة «الواجب» تترصد الأسد على الطريق تنينًا يدرع بآلاف الأصداف وعلى كل قطعة منها تتوهج بأحرف مذهبة كلمة «يجب عليك».
وعلى هذه الأصداف تشع شرائع ألف عام والتنين الأعظم يعج قائلًا إن جميع الشرائع تتوهج عليَّ.
كل ما هو سنَّة قد أوجد من قبل، وبي تتمثل جميع السنن الكائنة، والحق إن كلمة «أريد» يجب ألا ينطق بها أحد بعد! هكذا قال التنين.
فأية حاجة لكم أيها الإخوة بأسد العقل؟ أفما يكفيكم الحيوان القوي الجليل الممنَّع بامتناعه؟
من العبث أن تطمحوا إلى خلق سنن جديدة، إن الأسد نفسه ليعجز عن هذا الخلق؛ إذ لا يسعه إلا أن يستعد بتحرير نفسه لخلق جديد، لأن قوته لن تتجاوز هذا الحد.
أيها الإخوة، إن العمل الذي تحتاجون فيه إلى الأسد إنما هو تحرير أنفسكم والوقوف ببطولة الامتناع في وجه كل شيء حتى في وجه الواجب، ذلك أيها الإخوة هو العمل الذي تحتاجون إلى الأسد للقيام به.
إن الاستيلاء على حق إيجاد سنن جديدة يقضي بالجهاد العنيف على العقل الخشوع الصبور، ولا ريب أن في هذا الجهاد قسوة لا يتصف بها إلا الحيوانات المفترسة.
لقد كان العقل فيما مضى يتعشق كلمة «الواجب» كأنها أقدس حق له، وقد أصبح عليه الآن أن يجد حتى في هذا الحق المفدَّى ما يحدو به إلى التعسف والتوهم، ليتمكن بإرهاق عشقه أن يستولي على حريته وليس غير الأسد من يقوم بهذا الجهاد.
ولكن ما هو العمل الذي يقدر عليه الطفل بعد أن عجز الأسد عنه؟ ولماذا يجب أن يتحول الأسد المكتسح إلى طفل؟
ذلك لأن الطفل طهر ونيسان؛ لأنه تجديد ولعب وعجلة تدور على ذاتها فهو حركة البداية وعقيدة مقدسة.
أجل أيها الإخوة إن العمل الإلهي للإبداع يستلزم عقيدة مقدسة، فإن العقل يطلب الآن إرادته، ومن فقد الدنيا يريد الآن أن يجد دنياه.
لقد ذكرت لكم تحولات العقل الثلاثة فأوضحت كيف استحال العقل جملًا وكيف استحال أسدًا وكيف استحال أخيرًا إلى طفل.
هكذا قال زارا، وكان في ذلك الحين مقيمًا في مدينة اسمها البقرة العديدة الألوان.
منابر الفضيلة
وبلغ زارا خبر حكيمٍ أطنبَ الناس في علمه ومقدرته في التكلم عن الكرى وعن الفضيلة فحبَوْه بالتكريم والتبجيل، واتَّبعه عدد من الشبان أصبحوا دعامة لمنبره العالي، فذهب زارا وجلس معهم أمام المنبر مصغيًا إلى الحكيم فكان يقول:
مجِّدوا الكرى وعظموه؛ لأن له المقام الأول وتحاشوا مرافقة من ساء رقادهم ومن استحوذ عليهم الأرق.
إن اللص ليقف خاشعًا أمام الكرى فيدلج في الليل مخرسًا وقع أقدامه، ولكن الساهر المجازف لا يتورع عن حمل بوقه.
ليس بالسهل أن يعرف الإنسان كيف يستسلم لسنة الكرى، وليس إلا لمن عرف كيف ينتبه طول النهار أن ينام ملء جفنيه.
يجب عليك أن تقاوم نفسك عشر مرات في النهار فتغنم خير التعب وتهيئ المخدِّر لروحك.
عليك أن تصالح نفسك عشر مرات في النهار؛ لأنه إذا كان في قهر النفس مرارة فإن في بقاء الشقاق بينك وبينها ما يزعج رقادك.
عليك أن تجد عشر حقائق في يومك كيلا تضطر إلى السعي وراءها في نومك فتبقى نفسك جائعة.
عليك أن تضحك عشر مرات في يومك لتكون مرحًا كيلا تزعجك معدتك في ليلك والمعدة بيت الداء.
قليل من يعرف هذا من الناس، ولن يتمتع بالرقاد الهنيء إلا من حاز جميع الفضائل، فإذا ما المرء أدى شهادة زور أو تلطخ بالزنا وإذا هو اشتهى خادمة قريبه فقد حُرم وسائل الهناء في نومه.
غير أن المرء يحتاج فوق فضائله إلى شيء آخر وهو أن يندفع إلى الرقاد بفضائله نفسها في الزمن المناسب.
إن من الفضائل من هي كالغانيات المتجنِّيات، فأقم بينهنَّ حائلًا كيلا ينتهين إلى عراكٍ تكون أنت ضحيته.
ليكن سلام بينك وبين ربك وبين الأقربين، فلا نوم هنيء بدون هذا السلام، وسالم شيطان جارك أيضًا لئلا يراودك في رقادك.
أكرم السلطة واخضع لها حتى ولو كانت هذا السلطة عرجاء. إن ذلك ما يقتضيه النوم الهنيء.
وما أنا بالجاني إذا كان يحلو للسلطة أن تسير متعارجة.
إن خير الرعاة من يقود قطيعه إلى المروج الخضراء ذلك ما يقتضيه الرقاد الهنيء.
لا أطلب كثيرًا من المجد ولا وفيرًا من المال وكلاهما يؤدي إلى الاضطراب، ولكن المرء لا ينام هنيئًا ما لم يكن له شيء من الشهرة ولديه شيء من المال.
أفضِّل أن يزورني القليل من الناس على أن يرتاد مسكني عُشَراءُ السوء، وهذا العدد القليل يجب عليه ألا يطيل السمر عندي لئلا يعكر صفو رقادي.
تسرني مجالسة البلهاء؛ لأنهم يجلبون النعاس، ولشد ما يغتبطون عندما نحبِّذ حماقاتهم ونشهد بإصابتهم.
على هذه الوتيرة يقضي فضلاء الناس نهارهم، أما أنا فإنني إذا أمسى المساء أحترس من أن أراود النعاس؛ لأنه سيد الفضائل ولا يرتاح إلى تحرش الساهرين.
وتحت جنح الظلام أستعرض ما فكرت فيه وما فعلته في يومي، فأنطوي على نفسي كالحيوان الصبور وأسائلها عما قهرت به أميالها عشر مرات وعما عقدت به الصلح مع ذاتها عشر مرات، وعن الحقائق العشر والمسرات العشر التي أفعمت بها.
وبينما أكون مستغرقًا تهزني الأربعون خاطرة، يستولي النعاس عليَّ فجأة، وهكذا يسودني الكرى سيد الفضائل دون أن أتوجه بدعوة إليه.
يشغل النعاس جفنيَّ فتغمضان، ويلمس فمي فيبقى مفتوحًا.
إنه يدلف إليَّ كلص محبوب فيسرق أفكاري وأبقى أنا منتصبًا كعمود من خشب، ثم لا تمر لحظات حتى أنطرح ممددًا على فراشي.
وبعد أن أصغى زارا إلى هذه الأقوال يقرع الحكيم بها الأسماع تملَّك ضحكه، وأشرق نور في جوانب نفسه فناجاها قائلًا: يتراءى لي أن هذا الحكيم قد جُنَّ كخواطره الأربعين.
ولكنه جدُّ خبير بحالات الكرى، فما أسعد من يجاور هذا الحكيم! لأن مثل هذا النعاس شديد الانتقال بالعدوى حتى إلى ما وراء الجدران.
إن شيئًا من السحر يفوح من منبره العالي، وما يجتمع هذا العدد من الشبان عبثًا حول خطيب الفضائل.
إن قاعدة هذا الحكيم إنما هي: اسهروا لتناموا. وفي الحقيقة لو لم يكن للحياة معناها ووجب أن أختار لها حكمة لا معنى لها لما كنت أجد أفضل من هذه القاعدة.
لقد أدركت الآن ما كان يطلب الناس قبل كل شيء عندما كانوا يفتشون على أوليات الفضائل، إنهم كانوا يطلبون النوم الهنيء والفضائل التي يتجلى على مفرقها تاج المخدِّرات، وما كانت الحكمة في عرف حكماء المنابر، وقد نالوا الإعجاب والثناء، إلا قاعدة نوم لا تقلقه الأحلام. إنهم لم يكتشفوا معنى أفضل من هذا المعنى للحياة.
وكم في أيامنا هذه من أناس يشبهون هذا الواعظ في دعوته إلى الفضيلة غير أنهم أقل إخلاصًا منه، ولكن هذا الزمان لم يعد زمانهم ولن يطول وقوفهم والكرى يراود أفكارهم فهم عن قريب سيُمددون.
طوبى لمن دب إلى عيونهم النعاس! إنهم عما قريب سيرقدون.
هكذا تكلم زارا …
المأخوذون بالعالم الثاني
وترامى زارا يومًا بخياله إلى ما وراء الإنسانية، فتراءى هذا العالم لديه كما يراه جميع المأخوذين بالعالم الثاني خليقةَ ربٍّ متألم مضطرب، فقال: رأيت الدنيا كأنها أحلام نائم أبدعت أبخرة حوَّالة متلونة ترتد عنها ألوهية النفس على غير رضى، وقد لاح لي الخير والشر والأفراح والأحزان، وذاتي وذات الآخرين كما تلوح الأبخرة الملونة لعين المبدع، ولعل المبدع أراد أن يتحول ببصيرته عن ذاته فأوجد العالم.
لا ينتشي المتألم بمسرة أشد من مسرته حينما يُعرض عن آلامه وينسى نفسه، هكذا تكشَّف لي العالم يومًا فرأيت مسرته ثملًا ونسيانًا، وهو يتقلب أبدًا في نقائصه معكسًا للتناقض الأبدي.
نظرت إلى العالم يومًا فلاح لي مسرة مسكرة يتمتع بها مبدع غير كامل خلقتُه أنا، فجاء ككل أعمال البشر جِنَّة بشرية.
ما كان هذا الإله إلا إنسانًا، بل جزءًا من شخصية إنسان؛ لأنه نشأ من ترابي ومن لهبي، إنه لشبح من هذا العالم لا من وراء هذا العالم.
شهدت ذلك، أيها الإخوة، فتفوقت على ذاتي بآلامي، وحملت ترابي إلى الجبل حيث أوقدت نارًا تشع نورًا فإذا بالشبح يتوارى مبتعدًا عني.
فإذا ما آمنت الآن بمثل هذا الشبح، فلا يكون إيماني إلا توجعًا وصغارًا، ذلك ما أقوله للمأخوذين بالعالم الثاني.
ما أوجدَتِ العوالم الأخرى في هذا العالم سوى الآلام والشعور بالعجز، ذلك ما أوجدته تلك العوالم، فأوجدت معه هذا الجنون السريع الزوال بسعادة ما ذاقها من الناس إلا أشدُّهم آلامًا.
إن المتعب الذي يطمح إلى اجتياز أبعد مدى بطفرة واحدة بطفرة قاتلة، وقد بلغت به مسكنته وجهالته حدًّا لا يستطيع عنده أن يريد، إنما هو نفسه مبدع جميع الآلهة وجميع العوالم الأخرى.
صدقوني، أيها الإخوة، إن الجسد قد قطع رجاءه من الجسد، فغدا يجسُّ بأنامله مواضع الروح المضللة، وذهب يتلمسها من وراء الحواجز القائمة على مسافة بعيدة.
صدقوني، أيها الإخوة، إن الجسد قد تملكه اليأس من الأرض فسمع صوتًا يناديه من قلب الوجود، فأراد أن يخترق برأسه أطراف الحواجز، بل حاول العبور منها إلى العالم الثاني، غير أن العالم الثاني جد خفي عن الناس؛ لأنه بتخنثه وابتعاده عن كل صفة إنسانية ليس إلا سماءً من العدم. إن قلب الوجود لا يخاطب الناس إذا لم يكلمهم كإنسان.
والحق إنه ليصعب علينا إثبات الوجود واستنطاقه. أجيبوا أيها الإخوة، أفما يلوح لكم أن أغرب الأمور أثبتها دليلًا؟
أجل! إن هذه الذات على ما فيها من تناقض واختلال تثبت بكل جلاء وجودها فتبتدع وتعلن إرادتها لتضع المقاييس وتعيِّن قِيَم الأشياء، وما تطلب هذه الذات في إخلاصها إلا الجسد حتى في حالة استغراقه في أحلامه، وتحفزه للطيران بأجنحته المحطمة.
إن هذه الذات تتدرب على الإفصاح عن رغباتها بإخلاص، وكلما ازدادت تدربًا أُلهمت البيان للإشادة بالجسد وبالأرض.
لقد علَّمتني ذاتي عزة جديدة أعلمها الآن للناس: علمتني ألا أخفي رأسي بعد الآن في رمال الأشياء السماوية، بل أرفعها رأسًا عزيزة ترابية تبتدع معنى الأرض.
إنني أعلِّم الناس إرادة جديدة يتخيرون بها السير على الطريق التي اجتازها الناس عن غباوة من قبلهم، أعلمهم أن يطمئنوا إلى هذه الطريق فلا تنزلق أرجلهم عنها كما انزلقت أرجل الأعلاء المتهكمين، وما هؤلاء إلا مَن ابتدعوا الأشياء السماوية واخترعوا قطرات الدماء المراقة لافتداء البشر، على أن هذه السموم التي أخذوا بلذتها ورهبتها لم يستخرجوها إلا من الجسد ومن الأرض.
لقد شاءوا الفرار من الشقاء وتراءت لهم الكواكب بعيدة صعبة المنال فوجموا يدفعون بالزفرات قائلين: وا أسفاه! لِمَ لا تنفتح أمامنا سبل في السماء ننسحب عليها إلى وجود آخر وسعادة أخرى.
إن زارا ليشفق على الأعلاء فلا يغضب لما أوجدوه من وسائل السلوان ولا يتمرمر؛ لأنهم عقُّوا جسدهم وأرضهم، بل هو يرجو لهم الشفاء والتغلب على أنفسهم ليوجدوا لهم أجسادًا أرقى من أجسادهم.
إن زارا لا يغضب أيضًا على النَّاقِه الذي يحن إلى وهمه فيذهب في منتصف الليل ليطوف بقبر إلهه، ولكنه لا يرى في دموع هذا الناقه إلا أثر المرض والجسم المريض.
لقد وجد في كل زمان كثير من المرضى المستغرقين المتشوهين فهم يكرهون إلى حد الهوس كل من يطلب المعرفة، ويكرهون أبسط الفضائل وهي فضيلة الإخلاص.
أنهم يلتفتون دائمًا إلى الوراء، إلى الأزمنة المظلمة؛ إذ كان للجنون وللإيمان حلَّتهما الخاصة، فكان الإله يتجلى في هوس العقل، وكانت كل ريبة خطيئة.
لقد عرفتهم جد المعرفة، أولئك المتجلين على صورة الله ومثاله فتيقنت أن جميع رغباتهم تتجه إلى أن يؤمن الناس بهم وأن يصبح كل شك فيهم خطيئة، وما فات مداركي ذلك الإيمان الذي يدَّعون رسوخه فيهم، فإنهم لا يؤمنون لا بالعوالم الأخرى ولا بقطرات الدماء تفتدي العالم، بل هم كسائر الناس يعتقدون بالجسد، ويرون أن أجسادهم نفسها هي الكائن الواجب الوجود.
غير أن هؤلاء الناس يرون الجسد كائنًا معتلًّا، فيودون أن يبارحوا جلودهم وذلك ما يدفعهم إلى الإصغاء للمبشرين بالموت وما يهيب بهم إلى التبشير بالعوالم الأخرى.
أما أنتم، يا إخوتي، فأصغوا إلى صوت الجسد الذي أبل من دائه؛ لأن هذا الجسد يخاطبكم بصوت أنقى وأخلص من تلك الأصوات.
إن الجسد السليم يتكلم بكل إخلاص وبكل صفاء، فهو كالدعامة المربعة من الرأس حتى القدم وليس بيانه إلا إفصاحًا عن معنى الأرض.
هكذا تكلم زارا …
المستهزئون بالجسد
لأقولن للمستهزئين بالجسد كلمتي فيهم: إن واجبهم ألَّا يغيروا طرائق تعاليمهم، ولكن عليهم أيضًا أن يودِّعوا أجسادهم فيستولي على ألسنتهم الخرس.
يقول الطفل: أنا جسد وروح، فلماذا لا يتكلم هؤلاء الناس كالأطفال؟ أما الإنسان الذي انتبه وأدرك ذاته فيقول: إنني بأسري جسد لا غير، وما الروح إلا كلمة أطلقت لتعيين جزء من هذا الجسد.
ما الجسد إلا مجموعة آلات مؤتلفة للعقل، ومظاهر متعددة لمعنى واحد. إنْ هو إلا ميدان حرب وسلام، فهو القطيع وهو الراعي.
إن آلة جسدك إنما هي أداة عقلك الذي تدعوه روحًا، أيها الأخ، إن هو إلا أداة صغيرة وألعوبة صغيرة لعقلك العظيم.
إنك تقول: «أنا»، وتنتفخ غرورًا بهذه الكلمة، غير أن هنالك ما هو أعظم منها، أشئت أن تصدق أم لم تشأ، وهو جسدك وأداة تفكيره العظمى، وهذا الجسد لا يتبجح بكلمة أنا لأنه هو «أنا»، هو مُضمر الشخصية الظاهرة.
إن ما تتأثر الحواس به وما يدركه العقل لا نهاية له في ذاته، غير أن الحس والعقل يحاولان إقناعك بأن فيهما نهاية الأشياء جميعها، فما أشد غرورهما!
ما الحس والعقل إلا أدوات وألعوبة، والذات الحقيقية كامنة وراءهما مفتشة بعيون الحس ومصغية بآذان العقل.
إن في جسدك من العقل ما يفوق خير حكمة فيك، ومَنْ له أن يعلم السبب الذي يجعل جسدك بحاجة إلى خير ما فيك من حكمة.
إن ذاتك تهزأ بشخصيتك وبألعابها قائلة: ما هي خطرات الفكر وتساميه إن لم تكن جنوحًا إلى هدفي، أفلست أنا رائدة الشخصية وملهمة أفكارها؟
تقول الذات للشخصية: اشعري بألم، فتتألم وتفتكر بالتخلص من هذا الألم وقد تحتم عليها أن تتجه إلى هذه الغاية.
وتقول الذات للشخصية: اشعري بالسرور، فتسر وتفتكر بإطالة أمد هذا السرور، وقد تحتم عليها أن تتجه إلى هذه الغاية.
لي كلمة أقولها للمستهزئين بالجسد، وهي أن احتقارهم إنما هو في الحقيقة حرمة واعتبار؛ إذ من هو يا ترى موجد الاحترام والاحتقار والتقدير والإرادة؟
إن الذات المبدعة أوجدت لنفسها الاحترام والاحتقار كما أوجدت اللذة والألم، إن الجسم المبدع أوجد العقل لخدمته كساعد يتحرك بإرادته.
إنكم لتخدمون الذات الكامنة فيكم حتى في جنونكم وفي احتقاركم، وأنا أقول لكم أيها المستهزئون بالجسد إن ذاتكم نفسها تريد أن تموت، وقد تحولت عن الحياة؛ لأنها عجزت عن القيام بما كانت تطمح إليه، وما أقصى رغباتها إلا إبداع من يتفوق عليها ولقد مضى زمن تحقيق هذه الرغبة، لذلك تطمح ذاتكم إلى الزوال أيها المستهزئون بالأجساد.
إن ذاتكم أصبحت تتوق إلى الزوال، وهذا ما يدفع بكم إلى الاستهزاء بالأجساد؛ إذ قد امتنع عليكم أن تخلقوا من هو أفضل منكم.
إن هذا العجز قد ولَّد فيكم النقمة على الحياة والأرض، وها هي ذي تتجلى شهوة في لحظاتكم المنحرفة دون أن تعلموا.
إنني لا أسير على طريقكم أيها المستهزئون بالأجساد؛ لأنني لا أرى فيكم المعبر الذي يؤدي إلى مطلع الإنسان المتفوق.
هكذا تكلم زارا …
الملذات والشهوات
إذا كان لك فضيلة يا أخي، وكانت هذه الفضيلة خاصة بك فإنك لا تشارك فيها أحدًا سواك، ولا ريب في أنك تريد أن تدعوها باسمها وتداعبها لتتسلى بها، ولكنك بهذا أشركت بها الناس بما أطلقت عليها من تعريف، فأصبحت أنت وفضيلتك مندغمين في القطيع.
خير لك يا أخي أن تقول: إن ما تلذ به روحي وتتعذب به يتعالى عن الإيضاح، ويجلُّ عن أن يسمى، وهذا العجز عن إدراكي له يخلق المجاعة في أحشائي.
لتكن فضيلتك أسمى من أن تستخف بالأشياء عند تحديدها، وإذا ما اقتحمت هذا التحديد، فلا تستحي من أن تتلفظ به تمتمة، فقل وأنت تتمتم: إن هذا هو خيري الذي أحب، إن هذا ما يثير إعجابي، فأنا لا أريد الخير إلا على هذه الصورة، لا أريد هذه الأشياء تبعًا لإرادة رب من الأرباب ولا عملًا بوصية أو ضرورة بشرية، فأنا لا أريد أن يكون لي دليل يهديني إلى عوالم عليا وجنات خلود …
قل: ما أحب سوى فضيلة هذه الأرض، لأن ما فيها من الحكمة قليل، وأقل منه ما فيه من صواب متفق عليه، إن هذا الطير قد بنى عشه على مقربة مني، لذلك أحببته وعطفت عليه، وها هو ذا الآن يحتضن عندي بيضه الذهبي على هذه الوتيرة تكلم وأنت تتمتم ممتدحًا فضيلتك.
لقد كان لك فيما مضى شهوات كنت تحسبها شرورًا، أما الآن فليس فيك إلا الفضائل، وقد نشأت هذه الفضائل من شهواتك نفسها؛ لأنكم وضعت في هذه الشهوات أسمى مقاصدك فتحولت فيك إلى فضائل وملذات هي منك ولك، ولسوف ترى جميع شهواتك تستحيل إلى فضائل، ولسوف ترى كل شيطان فيك يستحيل ملاكًا حتى ولو كنت ممن يستسلمون للغيظ والشهوات وكنت من فئة الحاقدين المتعصبين.
لقد كانت الكلاب المفترسة تسكن دهاليزك من قبل، فها هي ذي الآن أطيار مغردة، لقد استقطرت بلسمًا من سمومك وحلبت ناقة الأوصاب، وأنت الآن تكرع لذيذ درِّها.
لن يخلق منك شرٌ بعد الآن، غير أن هناك شرًّا قد ينشأ من تخاصم فضائلك فاصغَ إليَّ، يا أخي! إنك إذا شعرت بسعادة فما يكون ذلك إلا لفضيلة مستقرة فيك وهي تسهِّل اجتياز الصراط عليك.
إنها لمزية أن تكون للإنسان فضائل عديدة، غير أن تعدد الفضائل يرمي بالإنسان إلى أشقى الحظوظ، وكم من مجاهدٍ أرهقه النزال في ساحات الفضائل فتوارى لينتحر في الصحراء.
إذا كنت ترى المعارك والحروب شرورًا فاعلم يا أخي أنها شروط لا بد منها؛ لأن للحسد والريبة والشتيمة مقامها المحترم بين فضائلك نفسها، تبصَّر ترَ أن كلًّا من فضائلك تطمح إلى المقام الأسمى، وتطمع في الاستيلاء على جميع أفكارك لتستعبدها وتحصر بها وحدها كل ما في غضبك وبغضائك وحبك من قوة.
إن كلًّا من فضائلك تحسد الأخرى، والحسد هائل مريع يتناول الفضائل أيضًا فيبيدها.
إن من يحيط به لهيب الحسد تنتهي به الحال إلى ما تنتهي العقرب إليه فيوجِّه حُمته المسمومة إلى نحره.
أفما رأيت، يا أخي، من الفضائل من تشتم نفسها وتنتحر؟
ليس الإنسان إلا كائنًا وجب عليه أن يتفوق على نفسه، لذلك حق عليك، يا أخي، أن تحب فضائلك لأنك بها ستفنى.
هكذا تكلم زارا …
المجرم الشاحب
أفما تريدون أن تُنزلوا القصاص، أيها القضاة والمضحُّون، ما لم يهز الحيوان رأسه؟ إليكم رأس المجرم الشاحب، إنها لترتعش، وها إنَّ أفظع احتقار يتكلم في نظراته.
إن عيني المجرم تقولان لكم: ما الشخصية إلا شيء وجب علينا أن نتسامى فوقه، وما شخصيتي إلا عظيم احتقاري للبشر.
لقد انتهى أجل هذا المجرم عندما أصدر حكمه على نفسه، فلا تتركوا لتساميه سبيلًا يندفع منه إلى الانحطاط. عاجلوه بالموت فهو المَنْفَذ الوحيد لمن بلغ عذابه بنفسه هذا الحد البعيد.
ليكن قصاصكم، أيها القضاة، رحمة لا انتقامًا، وإذا ما حكمتم بالموت فلتكن غايتكم تبرير الحياة. لا يكفيكم أن تقيموا السلم بينكم وبين من تقتلون، بل يجب أن يكون حزنكم تعبيرًا عن ولهكم بالإنسان المتفوق، وهكذا تبررون الاستبقاء على أنفسكم.
قولوا إن هذا الرجل عدوٌ، ولا تقولوا إنه سافل. صفوه بالمرض لا بالدناءة اعتبروه مختلًّا لا مجرمًا، وأنت أيها القاضي، لو أنك تعلن للملأ، وأنت في برودك الحمراء، ما ارتكبت من مآتٍ في تفكيرك، لكنت تسمع الناس يهتفون قائلين: اخلعوا هذا الرجل عن كرسيه فهو ممتلئ أقذارًا وسمومًا.
ولكن الفكرة شيء والعمل شيء آخر، كما أن شبح العمل شيء مستقل بنفسه أيضًا، فليس بين هذه الأشياء الثلاثة أية علاقة يصح أن تعتبر علاقة العلة بالمعلول.
إن شبح الجريمة كان صورة لاحت لهذا الرجل فعلا وجه الاصفرار؛ لأنه عندما ارتكب جرمه كانت قوته على مستواها، ولكنه ما أتمَّ الجرم حتى وهنت تلك القوة، فلم يستطع أن يتفرس في شبح جرمه.
لقد لاح لهذا الرجل أنه ارتكب فعلة واحدة لا غير، وبذلك يقوم جنونه لأن الشواذ تحول إلى قاعدة في كيانه. إن الدائرة التي يرسمها المجرم تصبح قيدًا لتفكيره كالفرخة يرسم المنوم حولها دائرة فلا تستطيع اجتياز خطَّها، وهكذا لا يكاد المجرم يخرج من جرمه حتى يدخل في دائرة جنونه.
أصغوا إليَّ، أيها القضاة، إن الجنون الذي يتلو العمل إنما تقدمه جنون آخر قبله، وأنتم لم تسبروا روح المجرم إلى أقصاها.
إن القاضي الأحمر يتساءل عن سبب إقدام المجرم على القتل، فيقول في نفسه: إن القاتل أراد السرقة أولًا، أما أنا فأقول: إن نفس المجرم لم تقصد السرقة بل طلبت إراقة الدماء؛ لأنها كانت ظامئة إلى إغماد النصل. إن عقلية المجرم لم تفهم هذا الجنون فاندفع إلى ارتكاب جرمه، وعقليته تناجيه قائلة: ما يهمك أن تريق الدماء ما دام جرمك يوصلك إلى السرقة أو الانتقام، لقد أصغى المجرم إلى صوت عقليته المسكينة؛ لأن ما أسرَّت به إليه كان ثقيلًا كالرصاص، فسرق بعد أن قتل لأنه أراد أن يبرر جنونه ولا يخجل منه.
وعاد جرمه فثقل عليه كالرصاص أيضًا، فثقل عقله المسكين فاستولى عليه التخدر والشلل، ولو أن هذا المجرم تمكن من أن ينتفض بهامته لكان تهاوى حمله الثقيل عنه، ولكن من كان سيهز له رأسه يا ترى؟
لو أنك أنعمت النظر في هذا الإنسان، لمَا تجلَّى لك إلا مجموعة علل تتطلع بالعقل إلى العالم الخارجي مفتشة عن غنيمة تظفر بها.
ليس هذا الإنسان إلا كتلة أفاعٍ اشتبكت، وهي في تدافع مستمر لا تسكن إلا لتتفكك منسابة في شعاب الدنيا تسعى وراء غنائمها.
انظروا إلى هذا الجسم المسكين! إن روحه الضعيفة طمحت إلى استكناه ما في الجسم من ألم ورغبات، فخيِّل لها أنها متشوقة إلى القتل.
إن من يتسلط عليه هذا المرض في هذه الأيام لتباغته شرورها فيريد أن يعذِّب الآخرين بما يتعذب هو به، غير أنه قد مر زمان من قبل كان له خير وشر هما غير خير هذه الأيام وشرها. ذلك زمان كانت تحتسب فيه شكوك الإنسان ومطامعه جرائم عليه، فكان المبتلى بالشكوك والمطامع يعدُّ ساخرًا ومنشقًّا عن المجتمع فيعمد هو إلى تعذيب الآخرين بعذابه.
إنكم لا تريدون الإصغاء إلى أقوالي؛ إذ ترونها تلحق الضرر بالصالحين بينكم، ولكنني لا أقيم وزنًا لرجالكم الصالحين.
إن في هؤلاء الرجال من تشمئز منه نفسي، وليس ما أكره فيهم ما يعد من الشرور، فإنني أتمنى لهم جنونًا يوردهم الردى كجنون المجرم الشاحب.
والحق إنني أريد أن يدعى هذا الجنون حقيقة أو إخلاصًا أو عدلًا؛ لأن فضيلة هؤلاء الناس لا تقوم إلا على إطالة عمرهم لقضائه بالملذَّات السافلة ولا ملذة لهم إلا بالارتياح إلى نفوسهم والرضى عنها.
ما أنا إلا حاجز قائم على ضفة النهر، فمن له قدرة على التمسك بي فليفعل، ومن لا طاقة له على ذلك فلا يظن أني سأكون طوع يده يقبض عليَّ كما يقبض الكسيح على عصاه.
هكذا تكلم زارا …
القراءة والكتابة
إنني أستعرض جميع ما كُتب، فلا تميل نفسي إلا إلى ما كتبه الإنسان بقطرات دمه. اكتب بدمك فتعلم حينئذ أن الدم روح، وليس بالسهل أن يفهم الإنسان دمًا غريبًا، إنني أبغض كل قارئ كسول؛ لأن من يقرأ لا يخدم القراءة بشيء، وإذا مر قرن آخر على طغمة القارئين فلا بد من أن تتصاعد روائح النتن من التفكير.
إذا أُعطي لكل إنسان الحق في أن يتعلم القراءة، فلن تفسد الكتابة مع مرور الزمان فحسب، بل إن الفكر نفسه سيفسد أيضًا.
لقد كان الفكر فيما مضى إلهًا فتحول إلى رجل، وها هو ذا الآن كتلة من الغوغاء. إن من يكتب سُوَرًا بدمه لا يريد أن تُتلى تلك السور تلاوة، بل يريد أن تستظهرها القلوب.
إن أقرب الطرق بين الجبال إنما هو الخط الممتد من ذروة إلى ذروة، ولا يمكنك أن تتبع هذا السبيل؛ إذ لم تكن لك رِجلا مارد. يجب أن تكون التعاليم شامخة كهذه الذرى، وأن يكون لمن تُلقَّن لهم قوة الجبابرة وعظمتهم.
لقد رقَّ النسيم وصفا، وهذه المخاطر تحدق بي عن كثب، وفكرتي تتخطر مرحة في قسوتها، أمامي الصراط الممهد فلأتخذنَّ من الجنِّ أتباعًا، أنا رب الجسارة والعزم، ومن توصل بأقدامه إلى طرد الأشباح لا يصعب عليه أن يخلق من الجن له أتباعًا.
لقد تاقت شجاعتي إلى الضحك، وقد انقطع كل حبل بيني وبينكم. إن السحب المتمخِّضة بالعواصف لهي سحبكم السوداء الثقيلة وأنا أهزأ الآن بها.
إنكم تنظرون إلى ما فوقكم عندما تتشوقون إلى الاعتلاء، أما أنا فقد علوت حتى أصبحت أتطلع إلى ما تحت أقدامي، فهل فيكم من يمكنه أن يضحك وهو واقف على الذرى؟
من يحوِّم فوق أعالي الجبال يستهزئ بجميع مآسي الحياة، ويستهزئ بمسارحها، بل بالحياة نفسها.
تريدنا الحكمة شجعانًا لا نبالي بشيء، تريدنا أشداء مستهزئين؛ لأن الحكمة أُنثى، ولا تحب الأنثى إلا الرجل المكافح الصلب.
تقولون لي إن الحياة وقرٌ ثقيل، فقولوا لي أيضًا لماذا تقابلون الصباح بغروركم، ثم يجيء المساء فلا يجد فيكم إلا المذلة والخضوع؟
إن الحياة جدُّ ثقيلة، ولكن ما هذا الخور الذي يبدو عليكم؟ أفلسنا كلنا دوابًّا ولكل دابة منا وقرها؟ وهل من شبه بيننا وبين برعم الورد يرتجف متضايقًا لسقوط قطرة الندى عليه!
لا ريب أننا نحب الحياة، وليس سبب ذلك لأننا تعودنا الحياة، بل السبب أننا تعودنا حب الحياة.
إن في الحب شيئًا من الجنون، ولكن في الجنون شيئًا من الحكمة، وأنا نفسي التائق إلى الحياة يتراءى لي أن خير من يدرك السعادة إنما هي الفراشات وكرات الصابون الفارغة، ومن يشبهها من الناس، ولا شيء يُبكي زارا ويدفعه إلى الإنشاد كنظره إلى هذه الأزواج الصغيرة الخفيفة الرائعة الدائمة الخفقان في جنونها.
إن الإله الذي يمكنني أن أُومن به إنما هو الإله الذي يمكنه أن يرقص.
عندما تراءى لي الشيطان رأيته جامدًا مستغرقًا ملؤه الجد والجلال، فقلت هذا هو الروح الثقيل الذي تتساوى جميع الحالات لديه.
إذا أردت القتل فلا تستعن بالغضب، بل استعن بالضحك. فهيَّا بنا نقتل الروح الثقيل.
إنني ما زلت راكضًا منذ تعلمت المشي، وهأنذا أطير الآن ولست بحاجة إلى من يدفعني لأتحرك.
لقد أصبحت خفيفًا، فأنا أطير مشعرًا بأنني أحلِّق فوق ذاتي، وأنَّ إلهًا يرقص في داخلي.
هكذا تكلم زارا …
دوحة الجبل
وارتقى زارا ذات مساء الربوة المشرفة على مدينة «البقرة الملونة» فالتقى هنالك فتًى كان يلحظ فيما مضى صدوده عنه، وكان هذا الفتى جالسًا إلى جذع دوحة يرسل إلى الوادي نظراتٍ ملؤها الأسى، فتقدم زارا وطوَّق الدوحة بذراعيه وقال: لو أنني أردت هزَّ هذه الدوحة بيدي لما تمكنت، غير أن الريح الخفية عن أعيننا تهزها وتلويها كما تشاء. هكذا نحن تلوينا وتهزُّنا أيادٍ لا تُرى.
فنهض الفتى مذعورًا وقال: هذا زارا يتكلم! وقد كنت موجهًا أفكاري إليه، فقال زارا: ما يخيفك يا هذا؟ أليس للإنسان وللدوحة حالة واحدة؟ فكلما سما الإنسان إلى الأعالي، إلى مطالع النور تذهب أصوله غائرة في أعماق الأرض، في الظلمات والمهاوي.
فصاح الفتى: أجل! إننا نغور في الشرور، ولكن كيف تسنَّى لك أن تكشف خفايا نفسي؟
فابتسم زارا وقال: إن من النفوس من لا نتوصل إلى اكتشافها إلا باختراعها اختراعًا.
وعاد الفتى يكرر قوله: أجل إننا نغور في الشرور. قلتَ حقًّا يا زارا، لقد تلاشت ثقتي بنفسي منذ بدأت بالطموح إلى الارتقاء فحُرمت أيضًا ثقة الناس، فما هو السبب يا ترى؟ إنني أتحول بسرعة فيدحض حاضري ما مضى من أيامي، ولَكَمْ حلَّقت فوق المدارج أتخطاها وهي الآن لا تغتفر لي إهمالي، إنني عندما أبلغ الذروة أراني دائمًا منفردًا وليس قربي من يكلمني، ويلفحني القَرُّ في وحدتي فترتجف عظامي، وما أدري ماذا أتيت أطلب فوق الذرى!
إن احتقاري يساير رغباتي في نموها، فكلما ازددت ارتفاعًا زاد احتقاري للمرتفعين فلا أدري ما هم في الذرى يقصدون، ولكم أخجلني سلوكي متعثرًا على المرتقى، ولكم هزأت بتهدج أنفاسي. إنني أكره المنتفضين للطيران، فما أتعبَ الوقوف على الذرى العالية!
ونظر زارا إلى الدوحة يتكئ الفتى عليها ساكتًا فقال: إن هذه الدوحة ترتفع منفردة على القمة وقد نمت وتعالت فوق الناس وفوق الحيوانات، فإذا هي أرادت أن تتكلم الآن بعد بلوغها هذا العلو فلن يفهم أقوالها أحد. إنها انتظرت ولم تزل تتعلل بالصبر، ولعلها وقد بلغت مسارح السحاب تتوقع انقضاض أول صاعقة عليها.
فهتف الفتى متحمسًا: نطقت بالحق يا زارا، إنني اتجهت إلى الأعماق وأنا أطلب الاعتلاء، وما أنت إلا الصاعقة التي توقعتها. تفرس فيَّ، وانظر إلى ما آلت إليه حالتي منذ تجليت لنا، فما أنا إلا ضحية الحسد الذي استولى عليَّ.
وكانت الدموع تنهمر من مآقي الفتى وهو يتكلم، فتأبط زارا ذراعه وسار به على الطريق، وبعد أن قطعا مسافة منها قال زارا: لقد تفطَّر قلبي، إن في عينيك ما يفصح بأكثر من بيانك عما تقتحم من الأخطار. إنك لمَّا تتحرر يا أخي، بل ما زلت تسعى إلى الحرية، وقد أصبحت في بحثك عنها مرهف الحس كالسائر في منامه.
إنك تريد الصعود مطلقًا من كل قيد نحو الذرى، فقد اشتاقت روحك إلى مسارح النجوم، ولكن غرائزك السيئة نفسها تشتاق الحرية أيضًا.
إن كلابك العقورة تطلب حريتها، فهي تنبح مرحة في سراديبها، على حين أن عقلك يطمح إلى تحطيم أبواب سجونك كلها، وما أراك بالطليق الحر فأنت لم تزل سجينًا يتوق إلى حريته، وأمثال هذا السجين تتصف أرواحهم بالحزم غير أنها تصبح وا أسفاه مراوغة شريرة.
على من حرَّر عقله أن يتطهر مما تبقى فيه من عادة كبْتِ العواطف والتلطخ بالأقذار؛ لتصبح نظراته براقة صافية. إنني لا أجهل الخطر المحدق بك؛ لذلك أستحلفك بحبي لك وأملي فيك ألا تطَّرح عنك ما فيك من حب ومن أمل.
إنك لم تزل تشعر بالكرامة ولم يزل الناس يرونك كريمًا بالرغم من كرههم لك وتوجيههم نظرات السوء إليك. فاعلم أن الناس لا يبالون بالكرماء يمرون بهم على الطريق، غير أن أهل الصلاح يهتمون بهم، فإذا ما صادفوا في سبيلهم من يتشح الكرامة دعوه رجلًا صالحًا؛ ليتمكنوا من القبض عليه لاستعباده.
إن الرجل الكريم يريد أن يبدع شيئًا جديدًا وفضيلة جديدة، على حين أن الرجل الصالح لا يحنُّ إلَّا إلى الأشياء القديمة، وجل رغبته تتجه إلى الإبقاء عليها.
لا خطر على الرجل الكريم من أن ينقلب رجلَ صلاحٍ، بل كل الخطر عليه في أن يصبح وقحًا هدَّامًا.
لقد عرفت من الناس كرامًا دلَّت طلائعهم على أنهم سيبلغون أسمى الأماني، فما لبثوا حتى هزءوا بكل أمنية سامية، فعاشوا تسير الوقاحة أمامهم، وتموت رغباتهم قبل أن تظهر فما أعلنوا في صبيحتهم خطة إلا شهدوا فشلها في المساء.
قال هؤلاء الناس: ما الفكرة إلا شهوة كغيرها من الشهوات.
وهكذا طوت الفكرة فيهم جناحيها فتحطما، وبقيت هي تزحف زحفًا وتدنَّس جميع ما تتصل به.
لقد فكر هؤلاء الناس من قبل أن يصيروا أبطالًا، فما تسنى لهم إلا أن يصبحوا متنعمين، يحزنهم شبح البطولة ويلقي الخوف في روعهم.
أستحلفك بحبي لك وأملي فيك ألَّا تدفع عنك البطل الكامن في نفسك؛ إذ عليك أن تحقق أسمى أمانيك.
هكذا تكلم زارا …
المنذرون بالموت
ما أكثر المنذرين بالموت! والعالم مليء بمن تجب دعوتهم إلى الإعراض عن الحياة.
إن الأرض مكتظة بالدخلاء وقد أفسدوا الحياة، فما أجدرهم بأن تستهويهم الحياة الأبدية ليخرجوا من هذه الدنيا.
لقد وُصف المنذرون بالموت بالرجال الصفر والسود، ولسوف أصفهم أنا فينكشفون عن ألوان أخرى أيضًا.
إنهم لأشد الناس خطرًا؛ إذ كمن الحيوان المفترس فيهم، فغدوا ولا خيار لهم إلا بين حالتين؛ حالة التحرق بالشهوة وحالة كبتها بالتعذيب، وما شهوتهم إلا التعذيب بعينه. إن هؤلاء المسوخ لم يبلغوا مرتبة الإنسانية بعد، فليبشروا بكُره الحياة، وليقلعوا عن مرابعها.
هؤلاء هم المصابون بسلِّ الروح، فإنهم لا يكادون يولدون للحياة حتى يبدأ موتهم، وقد شاقتهم مبادئ الزهد والملال.
يود هؤلاء الناس أن يُدرَجوا في عداد الأموات، فعلينا أن نحبِّذ إرادتهم، ولنحترس من أن نعمل على بعث هؤلاء الأموات وعلى تشويه هذه النعوش المتحركة.
إذا هم صادفوا مريضًا أو شيخًا أو جثة ميت، فإنهم يقولون: لقد انتفت الحياة. ولو أنصفوا لقالوا إنهم هم نفيٌ للحياة، وإن عيونهم دحضٌ لها لأنها لا تتجه إلا إلى مظهر واحد من مظاهر الوجود.
هم يتلفَّعون برداء وسيع من الأسى ويتشوَّقون إلى الحوادث التي تجر وراءها الموت، ولكنهم يتوقعون الموت وأسنانهم تصطك فرَقًا، غير أنهم في الوقت نفسه يمدون أيديهم إلى ما لذَّ وطاب هازئين، فكأن الحياة قشة يهزءون بها ولكنهم يحرصون عليها. إن حكمة هؤلاء الناس تهتف قائلة: «الحياة جنون، أفظع منه التمسك بالحياة، وقد بلغ الجنون بنا هذا الحدَّ الفظيع.»
يقولون إن الحياة آلام، إنهم يقولون حقًّا، فلماذا لا يضعون حدًّا لهذه الحياة إن لم يكن فيها سوى العذاب؟ تلك تعاليم ترمي إلى وجوب الانتحار، فيقول البعض وهو يدعو إلى الموت: إن الملاذَّ الجنسية خطيئة فيجب الامتناع عنها والإضراب عن التوليد. ويقول البعض الآخر: إن الولادة مؤلمة، فعلامَ تلد النساء وهنَّ لا يقذفن إلى الوجود إلا بالأشقياء؟ وهذه الفئة هي أيضًا من المنذرين بالفناء.
وتقول لك فئة أخرى: إن الرحمة لازمة فخذ ما نملك، بل خذ ما تتكوَّن شخصيتنا منه، فإن فعلت فإنك تقطع من الأسلاك التي تشد بنا إلى الحياة. ولو أن رحمة هذه الفئة من الناس تتغلغل في صميم ذاتهم لكانوا يبذلون الجهد في سبيل دفع سواهم إلى كره الحياة. ليستمرَّ هؤلاء الناس على ما هم عليه؛ لأن رحمتهم الحقيقية كامنة في إيقاع الأذى.
إن ما يقصد هؤلاء الناس إنما هو التملص من تكاليف البقاء فلا يهمهم إنْ هم ألقوا بأغلالهم على الآخرين.
وأنتم أيضًا، أيها المتحمِّلون من الدنيا همومها وجهودها المرهقة، أفما تعبتم من الحياة؟ أفما أنضجت المحنُ نفوسكم لتقوم هي أيضًا منذرة بالموت؟
أنتم يا من تحبون الأعمال الوحشية، وكل حادث يمتعكم بكل جديد وغريب سريع الزوال! لقد ضقتم ذرعًا بأنفسكم، فما تتهالكون في العمل إلا تهربًا من الحياة وطلبًا للاستغراق؛ لتصلوا بذاتكم إلى نسيان ذاتها، ولو كنتم أشد إيمانًا بالحياة لما كنتم تستسلمون هذا الاستسلام الكامل لحاضركم، لقد خَلَتْ سرائركم من القوة اللازمة للانتظار، بل خلت مما يستلزم كسلكم نفسه من جَلَد.
إن صوت المنذرين بالموت يدوي في كل مكان، والعالم مكتظ بمن وجبت دعوتهم إلى الموت أو بالحري إلى الحياة الأبدية، ولا فرق عندي بين ذاك وهذه إذا كان هؤلاء الناس يسارعون إلى إخلاء الأرض.
هكذا تكلم زارا …
الحرب والمحاربون
لا نريد أن يراعينا خيرة أعدائنا، كما لا نريد أيضًا أن يراعينا من نحبهم من صميم الفؤاد.
دعوني أُعلن لكم الحقيقة.
إنني أحبكم من صميم الفؤاد، أيها الرفاق في المعارك، فما أنا الآن إلا، كما كنت في الأمس، جندي مثلكم، فأنا إذن من خيار أعدائكم. دعوني أعلن الحقيقة لكم.
إنني عارف ما في قلوبكم من حقد وحسد، فأنتم من العظمة بحيث لا يمكنكم أن تتجاهلوا الحقد والحسد، فلتكن عظمتكم رادعة لكم عن الخجل بما في قلوبكم، وإذا امتنع عليكم أن تكونوا أولياء في معرفة الحق فكونوا على الأقل جنودًا يكافحون من أجل هذه المعرفة، وما المكافحون إلا طليعة الأولياء.
لقد كثر عدد الجنود فليتني أرى مثل هذا العدد من المحاربين، وعسى ألا تكون سرائرهم على طراز واحد كالألبسة التي يرتدونها.
لتكن أنظاركم منطلقة تفتش على عدو لكم، وقد لاحت في لمعاتها بوادر البغضاء. عليكم أن تجدوا العدو لتصلوا معه حربًا تناضلون فيها من أجل أفكاركم، حتى إذا سقطت هذه الأفكار في المعترك، ينتصب إخلاصكم هاتفًا بالظفر.
أحبوا السلام كوسيلة لتجديد الحروب، وخير السلام ما قصرت مدته. إنني لا أشير عليكم بالسلم، بل بالظفر، فليكن عملكم كفاحًا وليكن سلمكم ظفرًا.
لا اطمئنان في الراحة إذا لم تكن السهام مسددة على أقواسها، وما راحة الأعزل إلا مدعاة للثرثرة والجدال، فليكن سلمكم ظفرًا …
تقولون إن الغاية المثلى تبرر الحرب، أما أنا فأقول لكم إن الحرب المثلى تبرر كل غاية، فقد أتت الحروب والإقدام بعظائم لم تأت بمثلها محبة الناس، وما أنقذ الضحايا حتى الآن إلا إقدامكم لا إشفاقكم.
إنكم تتساءلون عن الخير، وما الخير إلا الاتصاف بالشجاعة، فدعوا صغيرات الأطفال يقلن: «إن الخير في اللطف والجمال.»
يقولون أن لا قلوب لكم، ذلك لأن قلوبكم تنبض بالإخلاص، وأنا أحب تواضعكم وإخلاصكم. إنكم تستحون لأن أمواجكم تندفع في مدِّها، وسواكم يخجل من تراجعها في جزرها.
إن قبحكم مريع، فتدثروا به أيها الإخوة؛ لأن في دثار القبح ما ليس في سواه من الروعة والبهاء.
إن النفس لتقف صاخبة عندما تعتلي، والقسوة كامنة في اعتلائكم، فما خفيت حالكم عني، ففي ميدان القسوة يلتقي الشديد العزم بمنهوك القوى فلا يمكنهما أن يتفاهما. إنني أعرف من أنتم.
إذا ظفرتم بعدوٍ فصبوا عليه بغضكم، وحاذروا أن تصبوا عليه احتقاركم، فما عدوكم إلا مدعاة مباهاتكم، فإذا عملتم بوصيتي يصبح انتصاره انتصارًا لكم أيضًا.
إن الثورة مفخرة للعبيد، فليكن افتخاركم أنتم قائمًا على طاعتكم، وليكن أمر الآمر فيكم جزءًا من هذه الطاعة نفسها. إن المحارب الصادق يفضِّل ما يجب عليه على ما يريده. فعليكم أن توجهوا ما تؤمرون به إلى هدف رغباتكم، وليكن حبكم للحياة تعبيرًا عن أسمى أمانيكم، ولتكن هذه الأماني عبارة عن أرفع فكرة في الحياة. وما أرفع فكرة لكم، وأنا أستميحكم إبداءها لكم كأمر، إلَّا هذه القاعدة: «ما الإنسان إلا كائن يجب أن نتفوق عليه.»
على هذا الوجه تمر حياتكم بالطاعة والجهاد، فما يهمكم أطالت الحياة أم قصرت فليس من محارب يطلب أن يُعامل بالمراعاة.
لقد قلت لكم الحق بلا محاباة؛ لأنني أحبكم من صميم الفؤاد، أيها الإخوة في السلاح.
هكذا تكلم زارا …
الصنم الجديد
لم يزل في بعض الأماكن من الأرض شعوب وجامعات، أما نحن فليس عندنا سوى حكومات وما أدراكم ما هي الحكومات؟
أعيروني أسماعكم لأخاطبكم عن موت الشعوب: ليست الحكومة إلا أبرد مسخ بين المسوخ الباردة، فهي تكذب بكل رصانة؛ إذ تقول: «أنا الحكومة أنا الشعب.»
إياكم وتصديق ما تقول، فما كوَّن الشعوب إلا المبدعون الذين نشروا الإيمان والمحبة، فأتوا بأجل خدمة للحياة، وما الناصبون الأشراك للجموع الغفيرة إلا مَن يهدمون كيانها؛ ليشيِّدوا الحكومات على أنقاضها، ويعلقوا نصلًا قاطعًا فوق رأس الشعب، وينصبوا مئات الشهوات أمام عينه.
إن الشعب، حيث بقي له مرتع على الأرض، لا يفهم ما هي الحكومة، بل هو ينفر منها كما ينفر من العين الساحرة، ويراها شذوذًا هادمًا للشرائع والتقاليد، وإليكم الدليل: إن لكل شعب بيانه عن الخير والشر، وجيرة هذا الشعب لا تفهم هذا البيان الذي أوجده لنفسه محددًا به شرائعه وتقاليده، على حين أن الحكومة تكذب في جميع تعابيرها عن الخير والشر، فليس ما تقوله إلا كذبًا، وليس ما تملكه إلا نتاج سرقتها واختلاسها.
إن كل ما للحكومة مزيَّف، فهي تنهش بأسنان مستعارة، وأحشاؤها مختلَقة اختلاقًا، وما شعارها إلا: «البيان المبهم المشوش عن الخير والشر» فهي تتجه به نحو الفناء، وتقوم بنشره بدعوة صريحة للمنذرين بالموت.
إن عدد من يدخلون الدنيا قد تجاوز الحد، وما أُوجدت الحكومة إلا لخدمة الفضوليين الدخلاء على الحياة. انظروا إلى هذه الحكومة كيف تجتذب إليها الدخلاء فتضمهم إلى صدرها وتشبعهم عناقًا وتقبيلًا. اسمعوها تهدر قائلة: ليس أعظم مني على وجه الغبراء، فأنا يد الألوهية المنظِّمة.
وعندما تهتف هذا الهتاف، تتهاوى الركاب جاثية، وبين الراكعين كثير من غير طوال الآذان وقصار النظر.
إن هذه الأكاذيب تجد مصدِّقين لها، وا أسفاه، حتى بينكم أنتم، يا من تجول فيكم النفوس الأبيَّة؛ لأن الحكومة تعرف أن تدغدغ قلوبكم الطافحة بالمكارم الطامحة إلى الجود، إنها لتخترق سرائركم، أنتم أيضًا، يا من تغلبتم على الألوهية القديمة، فهي تعرف أنكم تعبتم من الكفاح فتستخدم مَلالكم لعبادة الصنم الجديد.
إنه لصنم يتمنى أن يحيط به الأبطال وفضلاء الرجال، إنه لمسخ بارد يريد أن يدفأ بشمس الضمائر المشعة المشرقة.
إنه ليمنحكم كل شيء إذا أنتم سجدتم له. فهذا الصنم الجديد يشتري لمعان فضائلكم وما في لفتاتكم من عزة وكرامة. إنه في حاجة إليكم؛ ليجتذب إليه العدد الفائض من الدخلاء على الحياة، فهنالك البرج الجهنمي، وهنالك جياد الموت تفرقع بعُدَدِها حاملة شارات المراتب والأمجاد، أجل ذلك هو اختراع الموت أتى به للجموع ليحصدها حصدًا وهو يباهي بأنه هو الحياة، والمنذرون بالموت يرون بفعلته خير خدمة لمبادئهم.
حيث يكْرَع الجميع السموم ويضيِّع كلُّ إنسان نفسه صالحًا كان أو طالحًا، هنالك تقوم الحكومة؛ لأنها تسود كل مكان يوصف فيه الانتحار البطيء بالحياة.
انظروا إلى هؤلاء الدخلاء. إنهم يختلسون ثمرة جهود المخترعين وكنوز الحكماء ويدعون هذا الاختلاس تمدنًا، غير أن كل شيء يصبح أدواء ومصاعب تحت سلطانهم. انظروا إلى هؤلاء الدخلاء وليس فيهم إلا الأعلَّاء ينفثون غِسْلين مرائرهم، وينتحلون صفة الصحافيين … إنهم يتناهشون ويلتهم بعضهم البعض الآخر، وليس لهم قوة على هضم ما يلتهمون.
انظروا إلى هؤلاء الدخلاء. إنهم يحشدون الأموال، وكلما ازدادت ذخائرهم زاد فقرهم، فإنهم يطمحون إلى الاستيلاء على القوة فيبدءون بالقبض على محركها الأول: على الأموال الطائلة، وما هم إلا الدخلاء العاجزون.
إنني أراهم وقد جُنَّ جنونهم؛ قرودًا لا تسكن لهم حركة وهم يتسلقون قاعدة صنمهم البارد وقد انبعثت منه ومنهم أكره الروائح وأخبثها.
أفيَحْلُو لكم، أيها الإخوة، أن يخنقكم ما يتبخر من أشواق هؤلاء المسوخ؟ حطموا النوافذ واقفزوا منها لتنجوا بأنفسكم.
حاذروا هذه الأبخرة الخانقة، وابتعدوا عن عبادة الأصنام فإنها دين الدخلاء على الحياة. حاذروا هذه الأبخرة وأعرضوا عن هذه الضحايا البشرية.
لم يزل حتى الآن مجال تسعى في رحبه النفوس الكبيرة نحو الحرية في الحياة، ولم تخلُ الأرض من أماكن يلجأ إليها المنعزل منفردًا أو مزدوجًا حيث تهبُّ نسمات البحر الهادئة. فإن الحياة الحرة لم تزل تفتح أبوابها لكبار النفوس، والحق أن من يملك القليل من حطام الدنيا لا يناله إلا اليسير من تحكُّم المتسلطين. فطوبى لصغار الفقراء!
لا يظهر الإنسان الأصيل في الحياة إلا حيث تنتهي حدود الحكومات، فهنالك يتعالى نشيد الضرورة بنغماته المحررة من كل مطاوعة وتقييد.
هنالك عند آخر حدود الحكومات، قفوا وتطلعوا، يا إخوتي، أفما ترون تحت قوس قزح المعبر الذي يجتازه الإنسان المتفوِّق؟
هكذا تكلم زارا …
حشرات المجتمع
سارع إلى عزلتك، يا صديقي، فقد أورثك الصداع صخبُ عظماء الرجال، وآلمتك وخزات صغارهم، إن جلال الصمت يسود الغاب والصخور أمامك، فعد كما كنت شبيهًا بالدوحة التي تحب، الدوحة الوارفة الظل المشرفة على البحر مصغية في صمتها إلى هديره.
على أطراف حقول العزلة تبدأ حدود الميادين حيث يصخب كبار الممثلين ويطن الذباب المسموم. لا قيمة لخير الأشياء في العالم إن لم يكن لها مَن يمثِّلها، والشعب يدعو ممثليه رجالًا عظامًا، إنه يسيء فهم العظمة المبدعة، فيبتدع من نفسه المعاني التي يجمِّل بها ممثليه والقائمين بالأدوار الكبرى على مسرح الحياة.
إن العالم يدور دورته الخفية حول موجدي السنن الجديدة. وحول لاعبي الأدوار على مسرح الحياة يدور الشعب وتدور الأمجاد، وعلى هذه الوتيرة يسير العالم.
إن للاعب الأدوار ذكاءَه، ولكنه لا يدرك حقيقة هذا الذكاء؛ لانصباب عقيدته إلى كل طريقة توصله لخير النتائج وإلى كل أمر يدفع بالناس إلى وضع ثقتهم به.
غدًا سيعتنق هذا الرجل عقيدة جديدة، وبعد غدٍ سيستبدل بها أجدَّ منها، ففكرته تشبه الشعب تذبذبًا وتوقدًا وتقلبًا.
إن ممثل الشعب يرى بالتحطيم برهانه، وبإيقاد النار حجته، وبإراقة الدماء أفضل حجة وأقوى دليل. إنه ليعتبر هباءً كل حقيقة لا تسمعها إلا الآذان المرهفة، فهو عبد الآلهة الصاخبة في الحياة.
إن ميدان الجماهير يغص بالغوغاء المهرجين، والشعب يفاخر بعظماء رجاله فهم أسياد الساعة في نظره، ولكن الساعة تتطلب السرعة من هؤلاء الأسياد، فهم يزاحمونك، يا أخي، طالبين منك إعلان رفضك أو قبولك، والويل لك إذا وقفت حائرًا بين «نعم» وبين «لا».
وإذا كنت عاشقًا للحقيقة فلا يغرنَّك أصحاب العقول الرعناء المتصلِّبة، وما كانت الحقيقة لتستند يومًا إلى ذراع أحد هؤلاء المتصلِّبين.
دع المشاغبين وارجع إلى مقرك، فما ميدان الجماهير إلا معترك يهدد سلامتك بين خنوع «نعم» وتمرد «لا». إن تجمع المياه في الينابيع لا يتم إلا ببطء، وقد تمر أزمان قبل أن تدرك المجاري ما استقر في أغوارها.
لا تقوم عظمة إلا بعيدًا عن ميدان الجماهير وبعيدًا عن الأمجاد، وقد انتحى الأماكن القصيَّة عنها من أبدعوا السنن الجديدة في كل زمان.
اهرب، يا صديقي، إلى عزلتك. لقد طالت إقامتك قرب الصعاليك والأدنياء، لا تقف حيث يصيبك انتقامهم الدسَّاس وقد أصبح كل همهم أن ينتقموا منك.
لا ترفع يدك عليهم فإن عددهم لا يحصى، وما قُدِّر عليك أن تكون صيادًا للحشرات. إنهم لصغار أدنياء ولكنهم كثرة، ولَكَمْ أسقطت قطرات المطر وطفيليات الأعشاب من صروحٍ شامخات. ما أنت بالصخرة الصلدة، ولشدَّ ما فعلت بك القطرات، ولسوف يتوالى ارتشاقها عليك فتصدعك وتحطمك تحطيمًا.
لقد أرهقتك الحشرات السامة فخدشت جلدك وأسالت منه الدماء، وأنت تتحصن بِكبْرك لتكظم غيظك، وهي تودُّ لو أنها تمتص كل دمك معتبرة أنَّ من حقها أن تفعل؛ لأن دمها الضعيف يطلب دمًا ليتقوَّى، فهي لا ترى جُناحًا عليها؛ إذ تُنشب حُمتها في جلدك. إن هذه الجروح الصغيرة لتذهب بالألم إلى مدى بعيد في حسك المرهف، فتتدفق صديدًا يرتعيه الدود. أراك تتعالى عن أن تمد يدك لقتل هذه الحشرات الجائعة، فحاذر أن يجول سمُّ استبدادها في دمك.
إن هؤلاء المشاغبين يدورون حولك بطنين الذباب، فهم يرفعون أناشيدهم تزلفًا إليك ليتحكموا في جلدك ودمك. إنهم يتوسلون إليك ويداهنونك كما يداهنون الآلهة والشياطين، فيحتالون عليك بالملاطفة والثناء، وما يحتال غير الجبناء.
إنهم يفكرون بك كثيرًا في سرهم فيلقون الشكوك عليك، وكل من يفكر الناس به كثيرًا تحوم حوله الشبهات.
إنهم يعاقبونك على كل فضيلة فيك، ولا يغتفرون لك من صميم فؤادهم إلا ما ترتكب من أخطاء. إنك لكريم وعادل؛ لذلك تقول في قلبك: «إن هؤلاء الناس أبرياء وقد ضاقت عليهم الحياة.» ولكن نفوسهم الضيقة تقول في نجواها: «إن كل حياة عظيمة إنما هي حياة مجرمة.» ويشعر هؤلاء الناس بأنك تحتقرهم عندما تشملهم بعطفك، فيبادلونك عطفك بالسيئات. إنك لتصدعهم بفضيلتك الصامتة فلا يفرحون إلا عندما يتناهى تواضعك فيستحيل غرورًا. إن الناس يطمحون بالطبع إلى إلهاب كل عاطفة تبدو لهم، فاحذر الصعاليك؛ لأنهم يحسُّون بصغارهم أمامك فيتحمسون حتى ينقلب إحساسهم كرهًا وانتقامًا.
أفما شعرت أنهم يخرسون عندما تطلع عليهم، فتبارحهم قواهم كما يبرح الدخانُ النار إذا همدت.
أجل يا صديقي، ما أنت إلا تبكيتٌ في ضمائر أبناء جلدتك؛ لأنهم ليسوا أهلًا لك، فهم لذلك يكرهونك ويودون امتصاص دمك.
إن أبناء جلدتك لن يبرحوا كالحشرات المسمومة؛ لأن العظمة فيك ستزيد أبدًا في كرههم لك.
إلى عزلتك، يا صديقي، إلى الأعالي حيث تهب رصينات الرياح، فإنك لم تخلق لتكون صيادًا للحشرات.
هكذا تكلم زارا …
العفة
أُحب الغاب، فما تسهل حياة المدن عليَّ وقد كثر فيها عبيد الشهوات الثائرات.
لخير أن يقع الرجل بين براثن سفاحٍ من أن تحدق به أشواق امرأة جامحة ملتهبة.
إنك إذا ما تفرست في رجال المدن، لتشهد لك نظراتهم بأنهم لا يرون في الأرض شيئًا يفضل مضاجعة امرأة …
في أغوار أرواحهم ترسب الأقذار، وأشقاهم من تمرَّغ عقله بأقذاره.
ليتك حيوان اكتملت حيوانيته على الأقل، ولكن أين منك طهارة الحيوان؟ ما أنا بالمشير عليك بقتل حواسك، إن ما أوجبه إنما هو طهارة هذه الحواس.
ما أنا بالمشير عليك بالعفة؛ لأنها إذا كانت فضيلة في البعض فإنها لتكاد تكون رذيلة في الآخرين، ولعل هؤلاء يمسكون عن التمتع، غير أن شبَقَهم يتجلى في كل حركة من حركاتهم.
إن كلاب الشهوة تتبع هؤلاء الممسكين حتى إلى ذرى فضيلتهم فتنفذ إلى أعماق تفكيرهم الصارم لتشوش عليه سكينته، ولكلاب الشهوة من مرونة الزلفى ما تتوسل به إلى نيل قطعة من الدماغ المفكر إذا منعت قطعة اللحم عنها …
إنكم تحبون المآسي وكل ما يفطِّر القلوب، أما أنا فلا أثق بكلاب شهواتكم؛ لأن نظراتكم الرصينة تمتلئ شهوة عندما تقع على المتألمين، وقد تنكَّر الشبق فيكم فدعوتموه إشفاقًا، وإني لأضرب لكم مثلًا على هذا حالة العدد الوفير ممن أرادوا طرد الشياطين فدخلوا هم في الخنازير بدلًا منها.
إذا ما ثقلت العفة على أحد منكم فعليه أن يعرض عنها كيلا تنبسط أمامه سبيلًا إلى الجحيم، جحيم أقذار النفس ونيرانها.
لعلكم ترون بذاءة في كلامي، أما أنا فأرى البذاءة حيث لا ترونها أنتم.
ليست البذاءة في قذارة الحقيقة، بل هي في تدنيها وإسفافها، وطالب المعرفة يأنف من الانحدار إلى مهاويها.
إن من الناس من دخلت العفة قلوبهم فلانت هذه القلوب لها. أولئك هم الضاحكون وفي ابتسامهم ما ليس في ابتسامكم من إخلاص. إنهم يهزءون بالعفة ويتساءلون عما يمكن أن تكون.
أفليست العفة غرورًا؟ أفليست هي التي جاءت إلينا ولم نذهب نحن إليها؟
لقد فتحنا قلبنا لها فاستقرت ضيفًا ثقيلًا فيه، فليبقَ هذا الضيف نازلًا فينا ما طاب له المقيل.
هكذا تكلم زارا …
الصديق
يقول المنفرد في نفسه: «لا أطيق وجود أحد بقربي.» ولكثرة ما يقف محدقًا في ذاته تظهر التثنية فيه، ويقوم الجدال بين شخصيته وبين ذاته فيشعر بالحاجة إلى صديق، وما الصديق للمنفرد إلا شخص ثالث يحول دون سقوط المتجادلَين إلى الأغوار كما تمنع المنطقة المفرغة غرق العائمين.
إن أغوار المنفرد بعيدة القرار، فهو بحاجة إلى صديق له أنجاده العالية، فثقة الإنسان في غيره تقوده إلى ثقته بنفسه، وتشوقه إلى الصديق يُنهض أفكاره من كبواتها.
كثيرًا ما يقود الحب إلى التغلب على الحسد، وكثيرًا ما يطلب الإنسان الأعداء ليستر ضعفه ويتأكد إمكانه مهاجمة الآخرين.
من يطمح إلى اكتساب الصديق وجب عليه أن يستعد للكفاح من أجله، ولا يصلح للكفاح إلا من يمكنه أن يكون عدوًّا. يجب على المرء أن يحترم عِداءَه في صديقه؛ إذ لا يمكن لك أن تقترب من قلب صديقك إلا حين تهاجمه وتحارب شخصيته.
أنت تريد الظهور أمام صديقك على ما أنت عليه هاتكًا كل ستر عن خفايا نفسك، فلا تعجب إذا رأيت صديقك يعرض عنك ويقذف بك إلى بعيد.
من لا يعرف المصافعة يدفع بالناس إلى الثورة عليه، فاحذر العري، يا هذا، لأنك لست إلهًا، والآلهة دون سواهم يخجلون من الاستتار.
عليك بارتداء خير لباس أمام صديقك، لتهيب به إلى طلب المثل الأعلى: الإنسان المتفوق.
أفما تفرست يومًا في وجه صديقك وهو نائم لترى حقيقته؟ أفما رأيت ملامحه إذ ذاك كأنها ملامحك أنت منعكسة على مرآة مبرقعة معيبة؟ أفما ذعرت لمنظر صديقك وهو مستسلم للكرى؟
ما الإنسان، أيها الرفيق، إلا كائن وجب عليه أن يتفوق على ذاته، وعلى الصديق أن يكون كشافًا صامتًا، فأمسك عن النظر علنًا إلى كل شيء ما دمت قادرًا في غفلتك على كشف كل ما يفعله صديقك في انتباهه. عليك أن تحل الرموز قبل أن تعلن إشفاقك، فقد ينفر صديقك من الإشفاق ويفضل أن يراك مقنعًا بالحديد وفي عينيك لمعان الخلود.
ليكن عطفك على صديقك متشحًا بالقسوة وفيه شيء من الحقد، فيبدو هذا العطف مليئًا بالرقة والظرف.
كن لصديقك كالهواء الطلق والعزلة والغذاء والدواء، فإن من الناس من يعجز عن التحرر من قيوده ولكنه قادر على تحرير أصدقائه.
دع الصداقة إذا كنت عبدًا، وإذا كنت عاتيًا فلا تطمح إلى اكتساب الأصدقاء.
لقد مرت أحقاب طويلة على المرأة كانت فيها مستبدَّة أو مستعبَدة فهي لم تزل غير أهل للصداقة، فالمرأة لا تعرف غير الحب.
إن حب المرأة ينطوي على تعسف وعماية تجاه من لا تحب، وإذا ما اشتعل بالحب قلبها فإن أنواره معرَّضة أبدًا لخطف البروق في الظلام …
لم تبلغ المرأة بعد ما يؤهلها للوفاء كصديقة، فما هي إلا هرَّة، وقد تكون عصفورًا، وإذا هي ارتقت أصبحت بقرة …
ليست المرأة أهلًا للصداقة، ولكن ليقل لي الرجال من هو أهل للصداقة بينهم؟ إن فقر روحكم وخساستها يستحقان اللعنة أيها الرجال؛ لأن ما تبذلونه لأصدقائكم يمكنني أن أبذله لأعدائي دون أن أزداد فقرًا.
إنكم لا تتخذون إلا الأصحاب، فأي متى تسود الصداقة بينكم؟
ألف هدف وهدف
لقد شاهد زارا كثيرًا من البلدان وكثيرًا من الشعوب، فنفذ إلى حقيقة الخير والشر، وعرف أن لا قوة في العالم تفوق قوتهما.
تحقق أن ليس على الأرض من شعب تحلو له الحياة دون أن يُخضع النظم والسُّنن لتقديره، وأن كل شعب يرى من واجبه، إذا أراد الحياة، أن يجيء بتقدير يختلف عن تقدير من يجاوره من الشعوب، وهكذا كان ما يراه أحدها خيرًا يراه الآخر دناءة وعارًا.
ذلك ما عرفته، فكم من عمل اتشح العيب في بلد، رأيته مجللًا بالشرف والفخر في بلد آخر.
لم أر جارًا تمكن من إدراك حقيقة جاره، بل رأيت كلًّا منهما يعجب لجنون الآخر وقسوته.
لقد علق كل شعب فوق رأسه لوح شريعته، وسطَّر عليه ما اجتاز من عقبات وما تضمر إرادته من عزم، فما تراءى له صعب المنال فهو موضوع تمجيده، وما خيره إلا حاجة ملحَّة عزَّ مطلبها، فهو يقدس كل وسيلة تمكنه من الظفر بهذه الحاجة.
إن كل ما يوطد الحكم لهذا الشعب، وكل ما ينيله النصر والمجد ويلقي الرعب في روع جاره مثيرًا حسده إنما هو في نظره ذو المكانة الأولى، وما احتل المقام الأول في اعتباره يصبح مقياسًا لجميع أموره ومعنًى لجميع ما يحيط به، فإذا ما تمكنت من الاطلاع على حاجات أي شعب، وخبرت أرضه وجوَّه وحالة جاره، فإنك لتدرك النواميس التي تتحكم فيه وتحفزه إلى المجالدة للغلبة على أهوائه، ولتعرف السبب في اختياره مراقيه الخاصة يتدرج عليها لبلوغ أمانيه.
«عليك أن تكون سبَّاقًا مجليًا في كل مضمار، فلتتلفع نفسك بغيرتها كيلا تبذل الولاء إلا للصديق.»
إنها لكلمات إذا وقعت في أذن يوناني ترتعش نفسه لها؛ فيندفع إلى اقتحام الصعاب طلبًا للمجد.
«قل الحق، وكن ماهرًا في تفويق سهامك من قوسك.»
إنها لوصية صعبت وعزَّت على الشعب الذي اقتبست اسمي منه، وفي هذا الاسم من المصاعب قدر ما فيه من أمجاد.
«أكرم أباك وأمك، ولتكن بارًّا بهما من صميم قلبك.»
وهذه الوصية القائمة على إرغام النفس قد عمل بها شعب آخر؛ فبلغ القوة وأصبح خالدًا.
«كن أمينًا وابذل للأمانة دمك وشرفك حتى ولو كان جهادك في سبيل ما يضير وما يورد المهالك.»
وهذه أيضًا وصية عمل بها شعب آخر، فتغلب على ذاته وأصبح عظيمًا تثقله الأماني الجسام.
لقد أقام الناس الخير والشر، فابتدعوهما لأنفسهم، وما اكتشفوهما ولا أُنزلا عليهم بهاتف من السماء.
لقد وضع الإنسان للأمور أقدارها ليحافظ على نفسه، فهو الذي أوجد للأشياء معانيها الإنسانية.
ما التقدير إلا الإيجاد بعينه، فأصغوا إليَّ أيها الموجدون.
ما الكنوز والجواهر إلا أشياء أرادها تقديركم جواهر وكنوزًا، فما القيمة إلا اعتبار، ولولا التقدير لما كان الوجود إلا قشورًا لا نواة فيها. اسمعوا أيها الموجِدون: إن قيمة الأشياء تتغير تبعًا لتحول اعتبار الموجِد، ولا بد لهذا الموجد من أن يَهدم في كل حين.
لقد كانت الشعوب تتولى الإيجاد في البدء حتى ظهر الأفراد الموجِدون، فما الفرد في الواقع إلا أحدث هيئات الوجود.
لقد أقامت الشعوب لنفسها قِدمًا شريعة خيرِها، وما نشأت هذه الشريعة إلا باتفاق المحبة التي طمحت إلى السيادة، والمحبة التي رضيت بالامتثال.
إن هوى المجموع أقدم من أهواء الفرد، وإذا كان خير الضمائر ما يكمن في المجموع، فإن شرها ما يتجلى في الفرد المعلن شخصيته.
والحق أن الشخصية المراوغة التي لا محبة فيها، الشخصية التي ترمي إلى الاستفادة من خير الأكثرية، إنما هي عنوان انحطاط المجموع لا مبدأ كيانه.
ما خلق الخير والشر في كل عصر إلا المتهوسون المبدعون، وما أضرم نارهما إلا عاطفة الحب وعاطفة الغضب باسم الفضائل جمعاء!
لقد شاهد زارا كثيرًا من الشعوب والبلدان فما رأى قوة على الأرض تفوق قوة المتهوسين، والقوة معنى لكلمتي الخير والشر.
ما أشبه ما يستدعي التمجيد ويستوجب العقاب بالمسخ الهائل، فمن له بسحق هذا المسخ، أيها الإخوة؟ من سيشد بالأغلال على ما يُتلِعُ هذا الحيوان من آلاف الأعناق؟
لقد بلغت الأهداف الألف عدًّا؛ إذ بلغ عدد الشعوب ألفًا، فنحن بحاجة إلى قيد واحد لألف عنق؛ لأننا بحاجة إلى هدف واحد، فالبشرية لم تعرف حتى اليوم لها هدفًا، ولكن إذا كانت الإنسانية تسير ولا غاية لها، أفليس ذلك لقصورها وضلالها؟
هكذا تكلم زارا …
محبة القريب
إنكم لتعطفون على القريب، وتعبِّرون عن عطفكم بتزويق الكلام، أما أنا فأقول لكم إن محبتكم للقريب إنْ هي إلا أنانية مضللة.
إنكم تلجأون للقريب هربًا من أنفسكم، وتريدون أن تعدوا هذا العمل فضيلة، وهل يخفى عليَّ كنه تجردكم هذا؟
إن المخاطَب أقدم من المتكلم؛ فالأول مقدَّس أما الثاني فلم يقدَّس بعد. ذلك هو السبب في عطف الإنسان على قريبه.
إن ما أشير به عليكم هو أن تنفروا من القريب لا أن تحبوه، وذلك لتتمكنوا من محبة الإنسان البعيد، فإن ما فوق محبة القريب محبة الإنسان البعيد المنتظَر، وإني أضع فوق محبة الإنسان محبة الأشياء والأشباح.
إن الشبح الذي يعدو أمامك، يا صديقي، لهو أجمل منك، فلِمَ لا تعيره لحمك وعظمك؟
لقد استولى الخوف عليكم فلذلك تفزعون إلى القريب، لا قِبَل لكم باحتمال أنفسكم وما حبكم بالحب الكامل؛ لذلك أراكم تطمحون إلى إغواء قريبكم لتتمتعوا بضلاله.
أتمنى أن تنفروا من جميع فئات الأقربين، ومن جيرتهم أيضًا لتضطروا إلى إيجاد الصديق الذي يطفح قلبه بالإخلاص. إنكم لتدعون شهودًا عندما تريدون أن تغدقوا الثناء على أنفسكم، وإذا ما توصلتم إلى تضليلهم ليحسنوا الظن بكم تبدءون حينئذ بإحسان الظن بأنفسكم.
ما من أحد يرتكب الكذب إلا إذا تكلم ضد ضميره، فأصدق الناس من لا ضمير له يحول دون قوله الصدق. على هذه القاعدة تتكلمون عن أنفسكم بين الناس لتضللوهم في حقيقتكم.
يقول المجنون في نفسه: «إن مخالطة الناس تفسد الأخلاق، بل هي تفسد بخاصة من لا خلاق لهم.»
إن منكم من يهرع إلى جاره ليفتش عن نفسه، ومنكم من يذهب إليه لينساها. إنكم تسيئون محبة أنفسكم؛ لذلك يصبح انفرادكم بمثابة سجنٍ لكم.
إن الغائبين يؤدون ثمن حبكم للقريب؛ لأن خمسةً يجتمعون منكم يقضون دائمًا على السادس الغائب.
إنني لا أحب أعيادكم؛ إذ رأيتها مليئة بالممثلين، ورأيت النُّظَّارة أبرع منهم تمثيلًا.
لا أدعوكم إلى محبة القريب، بل أدعوكم إلى محبة الصديق، فليكن الصديق لكم مظهر حبور الأرض، فتحسون بما ينبئكم بالإنسان المتفوق.
أوصيكم بالصديق يطفح قلبه إخلاصًا، غير أن من يطمح إلى الظفر بمثل هذا القلب يجب عليه أن يكون كالإسفنجة قادرًا على تشرب السائل المتدفق. أوصيكم بالصديق الذي يحمل عالَمًا في نفسه، فهو الصديق المبدع الذي يسعه أن يقدم لكم هذا العالم في كل حين، فيعرض عليكم ما مرَّ به من عِبَر الحياة، فتشهدون كيف يتحول الشر إلى خير، وكيف تنتهي الصدف بكم إلى غاياتكم.
ليكن المستقبل والمقاصد البعيدة ما تصبو إليه في يومك، فتحب في صديقك الإنسان المتفوق، وتضعه نصب عينيك كغاية لوجودك.
لا أشير عليكم بمحبة القريب، أيها الإخوة، بل بمحبة الآتي البعيد.
هكذا تكلم زارا …
طرق المبدع
أتقصد العزلة يا أخي لتجد الطريق التي توصلك إلى مكمن ذاتك؟ إذن، فقف قليلًا في تردد واصغَ إليَّ: لقد قال القطيع: «مَن فتش فقد تاه، ومَن انعزل فما أمن العثار.»
وأنت قد عشت طويلًا بين هذا القطيع، ولسوف يدوي صوته مليًّا في داخلك، فإذا قلت له: لقد تغير ضميري جانحًا عن ضميرك، فلن تكن إلا شاكيًّا متألمًا.
إن اشتراكك بالشعور مع القطيع قد أورثك هذا الألم، وآخر وَهَجٍ من هذا الضمير المشترك لا يزال يلهب فجيعتك فيجددها، ولكنك ترغب في اتباع هاتف آلامك؛ لأنه يقودك إلى التوغل في ذاتك، فأين برهانك على حقك في المضي إليها وعلى أنك قادر على هذا السفر، أفأنت قوة جديدة وحق جديد؟ أأنت حركة ابتداءٍ؟ أأنت عجلة تدور على ذاتها؟ أبوسعك أن تجعل النجوم تدور حولك؟
لكَمْ من طموح يتحفز نحو الأعالي، ولكم من طمع يرتعش في أمانيه، فأثبتْ لي أنك لست من الطامحين الطامعين.
إن كثيرًا من ساميات الأفكار لا تعمل إلا عمل الأُكر المنتفخة، فلا تكاد تتضخم حتى يحكمها الضمور.
إنك تدعو نفسك حرًّا، فقل لي ما هي الفكرة التي تقيمها مبدأ لك، ولا تكتفِ بقولك إنك خلعت نيرك، فهل كنت يا ترى ذا حق بخلعه؟ إن من الناس من يفقدون آخر مزيَّة لهم إذا هم انعتقوا من عبوديتهم.
لا يهم زارا أن تقول له من أية عبودية تحررت، فلتعلن له نظراتك الصافية الغاية التي تحررت من أجلها.
هل بوسعك أن تسنَّ لنفسك خيرها وشرها فترفع إرادتك شريعة تسود أعمالك، أبوسعك أن تكون قاضيًا على نفسك وأن تكون منتقمًا منها لشريعتك؟ إنه لأمر مريع أن يبقى الإنسان منفردًا مع من أقامة قاضيًا على نفسه ومنتقمًا منها بالشريعة التي أوجدها. إن مثل هذا الإنسان ليذهب في الفضاء ذهاب الكوكب مقذوفًا إلى فراغ الوحدة وصقيعها.
إنك وقد أصبحت منفردًا لا تزال تتألم من المجتمع؛ لأنك لم تطرح شجاعتك ولم يزل للأمل مرتع فيك، غير أنك ستتعب من انفرادك يومًا؛ إذ تلين قناتك وينحطم غرورك فلا تتمالك من الهتاف قائلًا إنني أصبحت وحيدًا فريدًا.
سيأتي يوم تحتجب فيه عظمتك عنك فيلتصق صغارك فيك حتى لترتجف فرَقًا من تساميك نفسه؛ إذ يبدو أمامك كشبح مرعب فتصرخ قائلًا: «كل شيء باطل.»
إن في المنفرد عواطف تطمح إلى القضاء عليه، فإن لم تنل منه نالت من نفسها وانتحرت، فهل أنت مستعد لارتكاب جريمة القتل؟
أتعرف، يا أخي، معنى كلمة الاحتقار، وما ستكون آلامك إذا أنت أردت العدل واضطررت إلى الاقتصاص ممن يحتقرونك؟
إنك تُكره الكثيرين على تغيير اعتقادهم فيك، فتثير حفيظتهم عليك، لقد اقتربت منهم ثم تجاوزتهم، فهم لذلك لن يغتفروا لك.
لقد تفوقت عليهم، فكلما اعتليت فوقهم ازددت صغارًا في أعين الحاسدين، وما كره الناس أحدًا كرههم للمحلِّق فوق السحاب.
لقد وجب عليك أن تقول للناس: إنني اخترت ظلمكم نصيبًا حق لي منكم لذلك عز إنصافي عليكم. إن الناس يرشقون المنفرد بالمظالم والمثالب، ولكنك إذا كنت تريد أن تصبح كوكبًا فعليك أن ترسل أنوارك حتى إلى الراشقين.
واحترس بخاصة من أهل الصلاح والعدل؛ لأنهم يتوقون إلى صلب من يوجِد فضيلة لنفسه. إنهم يكرهون المنفرد.
واحترس أيضًا من السذاجة المتقية؛ لأنها ترى الكفر في كل إنسان لا يلتصق بها، وقد كان الساذجون في كل مكان يتوقون إلى إيقاد النار واللعب بها.
كن على حذر من التطرف في حبك، فإن المنفرد يمد يده متسرعًا لمصافحة من يلتقي في طريقه. إن من الناس من يجب عليك ألا تمد إليهم يدًا، بل مخلبًا ناشبًا.
غير أن أشد من تصادف من الأعداء خطرًا إنما هو أنت، وما يترصدك في المغاور والغابات إلا نفسك.
لقد تبينت الطريق الذي يقودك إلى ذاتك، أيها المنفرد، وطريقك منبسط أمامك وأمام شياطينك السبعة، فستصبح منذ الآن جاحدًا لنفسك، ساحرًا مجنونًا مشككًا كافرًا شديدًا. فيجب عليك أن ترضى بالاحتراق بلهبك؛ إذ لا يمكنك أن تتجدد ما لم تشتعل حتى تصبح رمادًا.
إنك تتبع طريق الخالق، أيها المنفرد، فأنت تفتش على إله لك تقيمه من شياطينك السبعة. إنك تتبع طريق العاشق، أيها المنفرد، وقد عشقت نفسك، فأنت لذلك تحتقرها احتقار العاشقين.
يريد العاشق أن يبتدع لأنه يحتقر، وما له أن يدعي الحب إذا كان لم يبدأ باحتقار المحبوب.
توغل في عزلتك يا أخي. سِرْ فلا رفيق لك إلا حبك وإبداعك. إنك ستسير طويلًا قبل أن تقفو العدالة أثرك متثاقلة متعارجة.
اذهب إلى عزلتك فإنني أشيِّعك بدموعي يا أخي؛ لأنني أحب من يتفانى ليوجد في فنائه من يتفوق عليه.
هكذا تكلم زارا …
الشيخة والفتاة
لماذا تدلج مختفيًا في الغسق يا زارا؟ وما هو الذي تخفيه بكل احتراس تحت ردائك؟ أكنز وُهِبته أم طفل رُزقته؟ وإلى أين تتجه على طريق اللصوص يا صديق الأشرار؟
فأجاب زارا: والحق يا أخي، إن ما أحمل هو كنز وُهبته، فهو حقيقة صغيرة طائشة كالطفل، ولولا أنني كممت فمها لصاحت بملء شدقيها.
بينما كنت أسير اليوم منفردًا في طريقي عند الغروب، التقيت بشيخة ناجتني قائلة: لقد كلمنا زارا مرارًا نحن النساء، ولكنه لم يتكلم عنا مرة واحدة.
قلت لها: يجب ألا يتكلم الرجلُ عن النساء إلا للرجال.
فقالت: لك أن تتكلم أمامي عن النساء؛ لأنني بلغت من العمر أرذله، فلن تستقر أقوالك في ذهني.
وقبلت رجاء المرأة العجوز فقلت لها: كل ما في المرأة لغز، وليس لهذا اللغز إلا مفتاح واحد وهو كلمة «الحَبَل».
ليس الرجل للمرأة إلا وسيلة، أما غايتها فهي الولد، ولكن ما تكون المرأة للرجل يا ترى؟ إن الرجل الحقيقي يطلب أمرين: المخاطرة واللعب، وذلك ما يدعوه إلى طلب المرأة، فهي أخطر الألعاب.
خُلق الرجل للحرب، وخُلقت المرأة ليسكن الرجل إليها، وما عدا ذلك فجنون، ولا يحب المحارب الثمرة إذا تناهت حلاوتها، فهو لذلك يتوق إلى المرأة لأنه يستطعم المرارة في أشد النساء حلاوة.
تفهم المرأةُ الطفل بأكثر مما يفهمه الرجل، غير أن الرجل أقرب إلى خُلُق الطفل من المرأة، ففي كل رجل حقيقي يحتجب طفل يتوق إلى اللعب، فلتعمل النساء على اكتشاف الطفل في الرجل.
لتكن المرأة لعبة صغيرة طاهرة كالماس تشع فيها فضائل العالم المنتظر.
ليتوهج الكوكب السنيُّ في حبك أيتها المرأة، وليهتف شوقك قائلًا: لأضعنَّ للعالم الإنسان المتفوق. ليكن في حبك استبسال تتسلحين به لاقتحام من يثير الوجل في قلبك. ضعي شرفك في حبك، وما تعرف المرأة من الشرف إلا يسيرًا، غير أن الشرف في حبك هو الخُلق الذي يجعلك تبادلين المحبة بأكثر منها فلا تنحدرين إلى المقام الثاني.
ليحذر الرجل المرأة عندما يستولي الحب عليها، فهي تضحي بكل شيء في سبيل حبها؛ إذ تضمحل في نظرها قِيَم الأشياء كلها تجاه قيمته، ليحذر الرجل المرأة عندما تساورها البغضاء؛ لأنه إذا كان قلب الرجل مكمنًا للقسوة، فقلب المرأة مكمن للشر.
إلى من توجه المرأة أشد بغضائها؟
والجواب في قول الحديد للقوة الجاذبة: إن أشد كرهي موجه إليكِ لأنك تجتذبين وليس فيك من طاقة تربط على ما تجتذبين.
إن سعادة الرجل تابعة لإرادته، أما سعادة المرأة فمتوقفة على إرادة الرجل.
تقول المرأة وقد استسلمت لحبها العميم: لقد اكتمل العالم.
ولا بد لها أن تخضع وأن ترى أعماقًا على سطحها؛ لأن روح المرأة سطحية فهي صفحة ماء متماوجة تداعبها الرياح، في حين أن روح الرجل أعماقٌ تزمجر أمواجها في المغاور السحيقة القرار، وقد تشعر المرأة بقوة الرجل ولكنها لن تفهمها.
عندئذ قالت العجوز: لقد تكلم زارا عن أشياء طريفة أجدر بسماعها من النساء مَن لم يزلن في مقتبل العمر، ومن الغريب أن ينطق زارا بالحق عن النساء وهو لا يعرفهن إلا قليلًا، أفتكون إصابته ناشئة عن أن ليس في حالة المرأة شيء ممتنع.
والآن أصغ إليَّ يا زارا، فإنني سأعلن لك حقيقة صغيرة مكافأة على ما قلت، وكبر سني يجيز لي أن أعلنها لك، فاسترعِها وأطبق شفتيك عليها لئلا يتعالى صراخها من فمك.
فقلت هاتها، هذه الحقيقة الصغيرة أيتها المرأة. وهذا ما قالت العجوز: إذا ما ذهبت إلى النساء فلا تنسَ السوط.
هكذا تكلم زارا …
لسعة الأفعى
واستسلم زارا للكرى يومًا تحت شجرة التين، وكان الحر شديدًا فستر وجهه بساعده فأتت أفعى ولسعته في عنقه؛ فصرخ متألمًا وانتفض محدقًا بها فعرفت عينيه وتململت لتنصرف، فقال لها زارا: «لا تذهبي قبل أن أقدم لك شكري؛ لأنك نبهتني في الزمن المناسب لأقوم بسفر بعيد.»
فأجابت الأفعى وفي صوتها غنة الأسى: بل سفرك قريب فزُعافي قاتل.
وابتسم زارا وقال: وهل لزعاف الأفعى أن يقتل تنينًا؟ خذي سمَّك، إنني أعيده إليك فلستِ من الغنى على ما يسمح لك بتقديمه هدية لي.
وسارعت الأفعى إلى الالتفاف حول عنق زارا تلحس جرحه.
وقص زارا هذه الحادثة يومًا على أتباعه فقالوا له: وما هو المغزى الأدبي لهذه القصة، فأجاب: إن أهل الصلاح والعدل يدعونني هدامًا للمبادئ الأدبية فقصتي لا تتفق وهذه المبادئ.
إذا كان لكم عدو فلا تقابلوا شره بالخير؛ لأنه يستصغر بذلك نفسه، بل أكدوا له أنه أحسن بعمله إليكم، والأجدر بكم ألا تحتقروا أحدًا، تظاهروا بالغضب، وإذا وجهت اللعنة إليكم، فلا يسرني أن تمنحوا البركة، إن ما يسرني هو ألا تأبوا اللعن أنتم أيضًا، وإذا ما أُنزلت بكم مظلمة كبيرة فبادلوا المعتدي مثلها، وأرفقوها بخمس مظالم صغرى؛ لأنه ما من مشهد أشد قبحًا مِن مشهد مَن لا يخضع إلا للظلم.
إن اقتسام المظالم بالتساوي إنما هو مساواة بالحق، فهل كنتم تعرفون هذا من قبل؟ من يقدر على إرهاق الناس بظلمه فعليه أن يحتمل هو الظلم أيضًا.
لئن ينتقم الإنسان قليلًا فذلك أدنى إلى المعروف، وليس من الإنسانية أن يترفَّع المظلوم عن الانتقام. إنني لأنفر من اقتصاصكم إذا لم يكن عبارة عن حق تؤدونه للمعتدي، فإن من يسند الخطأ إلى نفسه لأنبل ممن يعلنون في كل آنٍ أنَّ الحق في جانبهم، وأخص من هؤلاء من كانوا حقيقة على صواب. إن أغنياء الروح لا يفعلون هذا.
إنني أكره عدالتكم الباردة، فإن في عيون قضاتكم ازورار الجلَّاد ولمعان سيفه، فأين العدالة تلمح في عينيها الصفاء. أوجدوا لي الحب الذي لا يكتفي بحمل كل أنواع العقاب، بل يحمل أيضًا جميع الخطايا.
أوجدوا لي العدل الذي يبرئ الجميع ليحكم على الإنسان الذي يدين.
أتريدون أن أذهب إلى أبعد مما قلت فأعلن لكم أن الكذب نفسه يصبح محبة للإنسانية في نفس من يتوق إلى إقامة العدل؟
ولكن هل بوسعي أن أقيم العدل بكل إخلاص؟ وكيف يمكني أن أتوصل إلى إعطاء كل ذي حق حقه؟ إذن، لأكتفينَّ بأن أعطي أصحاب الحق حقي الخاص.
وأخيرًا، حاذروا ظلم المنفرد؛ إذ ليس بوسعه أن ينسى وأن يبادل الظالمين ظلمًا، وما المنفرد إلا بئر عميقة يسهل على من يشاء أن يلقي فيها حجرًا، ولكن من يقدر أن يستخرج هذا الحجر إذا بلغ قعر البئر السحيق؟
احترسوا من إهانة المنفرد، وإذا أنتم حقَّرتموه فأجهزوا عليه بقتله.
هكذا تكلم زارا …
الطفل والزواج
لي سؤال أخصك به لأسبر أعماق روحك يا أخي: أنت في مقتبل العمر وتتمنى أن يكون لك زوجة وولد، ولكن قل لي هل أنت الرجل الذي يحق له هذا التمني؟ أأنت الظافر المنتصر على نفسه، الحاكم على حواسه، السائد على فضائله؟ أم أن تمنيك هذا ليس إلا شهوة حيوان أو خشية منفرد أو اضطراب من قام النزاع بينه وبين نفسه؟
إن ما أريده منك هو أن تتوق بانتصارك وحريتك إلى التجدد بالولد؛ إذ عليك أن تقيم الأنصاب إلى ما فوق مستواك، وهل بوسعك أن تفعل إذا لم تكن متين البنية من رأسك إلى أخمص قدميك؟
ليس عليك أن ترسل سلالتك إلى الأمام فحسب، بل عليك بخاصة أن ترفعها إلى ما فوق. فليكن عملك في حقل الزواج منصبًّا إلى هذه الغاية.
عليك أن توجد جسدًا جوهره أنقى من جوهر جسدك؛ ليكون حركة أولى وعجلة تدور لنفسها على محورها، فواجبك إذن إنما هو إبداع من يبدع.
ما الزواج في عرفي إلا اتحاد إرادتين لإيجاد فرد يفوق من كانا علَّة وجوده، فالزواج حرمة متبادلة ترسو على احترام هذه الإرادة.
ليكن هذا معنى زواجك وحقيقته، أما ما يدعوه الدخلاء الأغبياء زواجًا فأمر أحار في تعريفه، فما هو إلا مسكنة روحية يتقاسمها اثنان، ودنس يتمرَّغ به اثنان، ولذة بائسة تتحكم في اثنين، ولكن الدخلاء يرون في مثل هذا الزواج رباطًا عقدته السماء.
وما أنا بالمرتضي بمثل هذه السماء، سماء الدخلاء أطبقت شباكها عليهم، تبًّا لها، وسحقًا لمثل هذا الإله الذي يتقدم متراجعًا ليبارك اثنين لم يجمع هو بينهما.
لا يضحكنكم هذا الزواج، فكم من طفل من حقه أن يبكي على أبويه!
رأيت رجلًا وقورًا فحسبته بالغًا من النضوج ما يدرك به معنى الأرض، ولكنني رأيت امرأته بعد ذلك فلاحت لي الأرض كأنها مأوى المجانين، أود لو تميد الأرض بي عندما أرى رجلًا فاضلًا يتخذ له زوجة حمقاء.
من الناس من يتجرد كالأبطال سعيًا وراء الحقائق، فلا يلبث حتى يصطاد رباطًا مزيفًا يدعوه زواجًا. ومنهم من اشتهر بحذره في علاقاته وبصرامته في اختياره، فإذا هو بين ليلة وضحاها قد أفسد حياته ووقف يدعو هذا الإفساد زواجًا. ومنهم أيضًا من كان يفتش عن خادمة لها فضائل الملائكة، فإذا هو ينقلب فجأة خادمًا لامرأة وقد حق عليه أن يتصف هو بالفضائل الملائكية.
فتشت في كل مكان فما رأيت إلا مشترين يقلبون السلع وعيونهم تتدفق مكرًا، ولكن أمكر هؤلاء الناس لا يتوصل في آخر الأمر إلا إلى ابتياع هرَّة يدسها في جلبابه.
إن ما تدعونه عشقًا إنما هو جنون يتتالى نوبة بعد نوبة حتى يجيء زواجكم خاتمًا هذه الحماقات بالحماقة المستقرة الكبرى. ويا ليت حب الرجل للمرأة وحب المرأة للرجل كانا إشفاقًا يتبادله إلهان يتألمان، ولكن هذا الحب لا يتجلى في الغالب إلا تفاهمًا بين إحساس حيوانين. وما خير الحب لو تعلمون إلا تحولٌ واضطرام في ألم وخشوع، إنْ هو إلا المشعل ينير أمامكم مسالك الاعتلاء، وسيأتي يوم يتجه فيه حبكم إلى مقر أبعد وأرفع من مستقر ذاتكم، لقد بدأتم بتعلم الحب؛ لذلك ترتشفون الآن المرارة الطافية كالحبَب على كأسه.
إن في كأس كل حب إطلاقًا، وحتى في كأس أرقى حب مرارة لا بد لكم من تجرعها، وهذه المرارة هي التي تنبه فيكم الشوق إلى الإنسان المتفوق وتلهب فيكم الظمأ إليه، أيها المبدعون، إذا كان هذا الظمأ هو الذي يدفع بك إلى طلب الزواج يا أخي، وإذا كنت تشعر بشوقك يندفع كالسهم نحو الإنسان المتفوق، فإنني أقدس إرادتك وأقدس زواجك.
هكذا تكلم زارا …
تخير الموت
كثيرٌ مَن يتأخرون في موتهم، وكثير من يبكِّرون، فإذا قال قائل للناس بالموت في الزمن المناسب؛ رفعوا عقيرتهم مستغربين، وزارا يعلِّم الناس أن يموتوا في الزمن المناسب، ولكن أنَّى لمن يعرف الحياة أن يتخيَّر الموت في أوانه؟
أفما كان خيرًا للدخلاء على الحياة لو أنهم لم يولدوا، ولكن هؤلاء الدخلاء يريدون أن يولي الناسُ أهمية كبرى لموتهم، وكم من نواة تباهي بأنها كسرت وهي جوفاء.
إنهم يعلقون أهمية على الموت؛ لأنهم ما عرفوا بهجة الموت، فالناس لم يعرفوا حتى اليوم كيف يقدِّسون أبهج الأعياد، ولسوف أنبئكم بالموت الذي يُقدس، الموت الذي يدفع الأحياء ويجتذبهم بحوافزه وآماله، إن مَن أكمل عمله يموت ظافرًا وحوله من يحفزهم الأمل وتنطوي فيهم الأماني. تعلموا أن تموتوا هكذا، ولكن اعلموا أن لا ظفر لمن يموت إذا هو لم يبارك ما أقسم الأحياء بإتمامه.
تلك هي الميتة الفضلى، تليها في المراتب ميتة من يسقط في المعركة وهو ينشر عليها عظمة روحه، غير أن ما يحتقره المجاهدون والظافرون على السواء إنما هو ميتتكم الشوهاء التي تزحف لصًّا وتتقدم آمِرًا مطاعًا.
ما أجمل ميتتي إذا أنا تخيرتها فجاءتني لأنني أطلبها.
ولكن متى يجدر بالإنسان أن يطلب الموت؟
إن من يتجه إلى مقصد في الحياة وله وريث وجب عليه أن يتمنى الموت في الزمن المناسب لغايته ولوريثه؛ لأنه يأنف حرمة لهما من أن يلقي بالأكاليل الذابلة على هيكل الحياة.
إنني لا أريد أن أحبُك الخيوط، وأنسحب إلى الوراء كمن يفتلون الحبال.
من الناس من لا يتجاوزون بأعمارهم الحد اللائق بالحقائق والظفر، وخليق بالفم المجرد عن أسنانه ألا يتناول ببيانه جميع الحقائق. على الطامحين إلى الظفر أن يودِّعوا الأمجاد في الزمن المناسب ليتمرنوا على فن الرحيل عن الدنيا في الزمن المناسب أيضًا، ومن واجب المرء أن يتوقف عن عرض نفسه للآكلين عندما يكفُّون عن تذوقها، ولا يعرف هذه الحقيقة إلا من يود الاحتفاظ بمحبة مَن حوله.
ولكن من الأثمار كالتفاح من تقضي طبيعته الحامضة عليه أن ينتظر النضوج إلى آخر أيام الخريف، فإذا هو ماثل للنظر باصفرار الشيخوخة وتجاعيد أساريرها.
ومن الناس من يدب الهرم إلى قلوبهم أولًا، ومنهم من يدب الهرم إلى عقولهم، ومنهم من يشيخون في ربيع الحياة، غير أن من يبلغ الشباب متأخرًا يحتفظ بشبابه أمدًا طويلًا.
ومن الناس من ضلوا السبيل في حياتهم، فأضاعوا عمرهم، فعلى هؤلاء أن يعملوا على بلوغ التوفيق في موتهم على الأقل.
وهنالك أثمار لا تنضج لأنها تتهرَّأ في الصيف ولكنها تبقى معلقة بأغصانها؛ لأن جبنها يصدها عن السقوط، وهكذا نرى في العالم أناسًا يلتصقون التصاقًا بأغصانهم، فهل من عاصفة تهب على الشجرة لتسقط ما عليها من أثمار تهرَّأتْ ورعى الدود قلبها؟ ليتقدم دعاة الموت العاجل وليهبوا كالعاصفة على دوحة الحياة، غير أنني لا أرى غير دعاة للموت البطيء يعظون بالصبر واحتمال كل مصائب الأرض.
إنكم تدعون إلى مكابرة الأرض ومجالدتها، أيها المجدِّفون والأرض صابرة عليكم صبرها الجميل.
والحق أن ذلك العبراني الذي يمجده المبشرون بالموت البطيء قد مات قبل أوانه، ولم يزل جمٌّ غفير يعتقد بأن ميتته المبكرة كانت مقدورة عليه.
وما كان هذا المسيح العبراني قد عرف غير دموع قومه وأحزانهم وكيد أهل الصلاح والعدل؛ لذلك راودته فجأة شهوة الفناء.
ولو أنه بقي في الصحراء بعيدًا عن أهل الصلاح والعدل لكان تعلَّم حب الحياة وحب الأرض، ولكان تعلم الضحك أيضًا.
إن في الرجل من الطفولة ما ليس في الشاب، فالرجل الناضج أقل حزنًا وأقدر على فهم الحياة والموت؛ لأنه يشعر بحريته للموت وبحريته في الموت، وإذا امتنع عليه أن يُثبت شيئًا أنكره.
حاذروا أن يكون موتكم تجديفًا على الأرض والإنسان أيها الصحاب. تلك هي النعمة التي أستجديها من وداعة روحكم.
ليرسل فكركم وفضيلتكم آخر أشعتهما في احتضاركم كما ترسل الشمس الغاربة آخر أنوارها على الأرض، وإلًّا فإن ميتتكم ستكون فاشلة. إنني هكذا أريد أن أموت ليزداد حبكم للأرض من أجلي، أيها الأصحاب، أريد أن أعود إلى الأرض التي خُلقت منها لأجد الراحة في أحضانها.
لقد كان زارا يرمي إلى هدف وقد أطلق سهمه الآن فارموا إلى هذا الهدف بعدي؛ لأنني من أجلكم أطلقت سهمي الذهبي، فما أشتهي شيئًا اشتهائي أن أراكم تطلقون سهامكم الذهبية أيضًا، ولسوف أبقى على الأرض قليلًا لأمتِّع عيني بهذا المشهد، فاغتفروا لي هذا التخلف إلى حين.
هكذا تكلم زارا …
الفضيلة الواهبة
١
وبعد أن ودَّع زارا مدينة «البقرة الملوَّنة» التي شغف قلبه بها؛ شيعه عدد غفير مما كانوا يدعون أنفسهم أتباعه حتى بلغوا إلى منعطف الطريق فقال زارا إنه يريد متابعة سيره وحده، فودَّعه أتباعه وقدموا إليه عصا قبضتها من ذهب بشكل أفعى ملتفة حول الشمس، فسُرَّ زارا من هذه الهدية واتكأ على العصا قائلًا لأتباعه: قولوا لي، لماذا أصبح الذهب ذا قيمة؟ أليس لأنه نادر ولا فائدة منه، ولأنه وديع في لمعانه، ويبذل نفسه في كل حين؟ لم يبلغ الذهب أسمى مراتب الأشياء القيمة إلا لأنه رمز لأسمى الفضائل، فعين الواهب برَّاقة كالذهب، ووهج الذهب رسول سلام بين النيرين.
إن أسمى الفضائل نادرة ولا نفع منها، فهي تتوهج بنورها الهادئ، وليس بين الفضائل من يطاول فضيلة السخاء.
والحق أنني شاعر برغبتكم، أيها الصحاب، فإنكم تطمحون مثل طموحي إلى الفضيلة الواهبة، فأنتم تريدون أن تحولوا نفوسكم إلى هبات وعطايا، وإلا لكنتم أشبه بالهررة والذئاب، ولهذا تتعطشون إلى حشد جميع الكنوز لأنها ظامئة أبدًا إلى العطاء. إنكم تجتذبون كل ما حولكم ليتسرَّب إلى داخلكم فينفجر ينبوعكم بها كأنها هبة من محبتكم.
إن المحبة السخية الواهبة تستحيل إلى لص يمد يده إلى جمع الأشياء القيمة، وما أرى هذه الأنانية إلا عملًا صالحًا مقدسًا.
غير أن هنالك أنانية أخرى تدهورت إلى أدنى دركات المسكنة في مجاعتها المتحكمة أبدًا فيها، تلك هي الأنانية التي تطمح إلى السرقة في كل آن، فهي أنانية المرض بل هي الأنانية المريضة، تحدج كل شيء بنظرات اللص وبنهم الجائع، فتزن لقمات الآكلين من أبناء النعمة وتدب أبدًا حول موائد الواهبين، وما مثل هذه الشهوة إلا عَرَضُ الداء الدفين ودليل الانحطاط الخفي، وما الطموح إلى السرقة بمثل هذه الأنانية إلا نزعة من نزعات الجسوم العليلة.
أي شيء نراه أقبح الأشياء، أيها الإخوة، أفليس الانحطاط أقبحها؟ وهل يسعكم إلا أن تحكموا بانحطاط مجتمع لا أثر لروح السخاء والعطاء فيه.
إن سبيلنا يتجه إلى الأعالي، وما نقصده إنما هو الارتقاء من نوع إلى نوع؛ لذلك نرتعش عندما نسمع الانحطاط يهتف قائلًا: «لي كل شيء.»
وهل روحنا إلا رمز لجسدنا وهي تطمح إلى الاعتلاء، وهل الصفات التي ندعوها فضيلة إلا عبارة عن هذه الرموز عينها؟
إن الجسد يقطع مسافات التاريخ بكفاحه، ولكن ما تكون الروح من الجسد يا ترى إن لم تكن المذيع لكفاح الجسد وانتصاراته؟ ما الجسد إلا الصوت، وما الروح إلا الصدى الناجم عنه والتابع له. ليست الكلمات الموضوعة للدلالة على الخير والشر سوى رموز فهي تشير إلى الأمور ولا تعبر عنها، ولا يطلب المعرفة فيها ومنها إلا المجانين.
انتبهوا، أيها الإخوة، إلى الزمن الذي يطمح فكركم فيه إلى البيان بالرموز؛ لأن في هذا الحين تتكون الفضيلة فيكم، وعندئذ يُبعث جسدكم ويتجه إلى الأعالي مجتذبًا عقلكم من سكونه؛ ليدفع به إلى مراحل الإبداع حتى إذا ما سار عليها عرف قيمة الأشياء وأحب فأجاد في كل أعماله.
في الزمن الذي يختلج فيه قلبكم تتكون فضيلتكم؛ لأن هذا القلب يفيض باختلاجه كالنهر العظيم فيغمر القائمين على ضفافه بالبركة كما يهددهم بأشد الأخطار.
إنما تنشأ فضيلتكم عندما يعجز المدح والذم عن بلوغ شعوركم، فتطمح إرادة الرجولة فيكم إلى السيادة على كل شيء.
إنما تنشأ فضيلتكم عندما تحتقرون النِعَم والفراش الوثير، وعندما لا تجدون راحة إلا بعيدًا عن مواطن الراحة.
إنما تنشأ فضيلتكم عندما تنصب إرادتكم على مقصد واحد، وعندما يصبح هذا التحول في آلامكم ضرورة لا يسعكم التحول عنها.
أفليس هذا شكلًا جديدًا للخير والشر؟ أفما تسمعون بهذا القول خرير الينبوع العميق الذي غربت مسالكه من قبلُ عنكم؟
إنها لفضيلة جديدة تمنح الإنسان قوة وتبعث فيه عزمًا، هذه الفكرة المتحكمة في روحٍ بلغت الحكمة؛ لأنها شمس مذهَّبة التفت عليها أفعى الحكمة.
٢
وصمت زارا مرسلًا نظرات الحب إلى أتباعه، ثم ارتفع صوته بنبرات جديدة قائلًا: أخلصوا للأرض، يا إخوتي، بكل قوى فضائلكم. لتكن محبتكم الواهبة ولتكن معرفتكم خادمتين لروح الأرض، إنني أطلب هذا متوسلًا.
لا تدعوا فضيلتكم تنسلخ عن حقائق الأرض لتطير بأجنحتها ضاربة أسوار الأبدية، ولكَمْ ضلت من فضيلة من قبل على هذا السبيل.
أرجعوا الفضيلة الضالة كما رجعتُ بها أنا إلى مرتعها في الأرض. عودوا بها إلى الجسد وإلى الحياة لتنفخ في الأرض روحها روحًا بشرية.
لقد تاه العقل وتاهت الفضيلة فخدعتها آلاف الأمور، ولمَّا يزل هذا الجنون يتسلط على جسدنا حتى أصبح جزءًا منه فتحول فيه إلى إرادة.
لقد قام العقل وقامت الفضيلة معه بتجارب عديدة فضلَّا على ألف سبيل، وهكذا أصبح الإنسان عبارة عن تجارب ومحاولات ألصقت بنا الجهل والضلال. وليس ما استقر فينا من التجارب حكمة الأجيال فحسب، بل جنونها أيضًا، ولكَمْ يتعرض الوارثون إلى أخطار.
إننا لم نزل نصارع جبار الصدف، ولم يزل العته سائدًا على الإنسانية حتى اليوم.
ليكن عقلكم وفضيلتكم بمثابة روح للأرض وعقل لها، أيها الإخوة، فتتجدد بكم قِيَم الأشياء جميعها، من أجل هذا وجب عليكم أن تبدعوا.
إن الجسد يطهر بالمعرفة، فيرتفع بمرانه على العلم؛ لأن من يطلب الحكمة يطهر جميع غرائزه، ومن ارتقى فقد أدخل المسرة في نفسه.
أعِنْ نفسك، أيها الطبيب، لتتمكن من إعانة مريضك، إن خير ما تبذله من معونة لهذا المريض هو أن يرى بعينه أنك قادر على شفاء نفسك.
إن في الأرض من السبل ما لم تطأها قدم بعد، فما أكثر مجاهلها وما أكثر خفاياها!
اسهروا وانتبهوا أيها المنفردون؛ لأن من المستقبل تهبُّ نسمات سرية حاملة بشائر لا تقرع إلا الآذان المرهفة.
إنكم في عزلة عن العالم، أيها المنفردون، ولكنكم ستصبحون شعبًا في آتي الزمان، ومنكم سيقوم الشعب المختار؛ لأنكم اخترتم نفسكم اليوم، ومِن هذا الشعب سيولد الإنسان المتفوق.
والحق أن الأرض ستصبح يومًا مستشفى للأعلَّاء، فإن في نشرها عبيرًا جديدًا هو عبير الإخلاص والأمل الجديد.
٣
وسكت زارا كمن يقف عند كلمة تتلجلج في فمه، وبعد أن قلَّب عصاه طويلًا بين يديه، أطلق صوته وقد تغيرت نبراته فقال: سأذهب وحدي الآن، أيها الصحاب، وأنتم أيضًا ستذهبون بعدي وحدكم لأنني هكذا أريد.
هذه نصيحتي إليكم؛ ابتعدوا عني وقفوا موقف الدفاع عن أنفسكم تجاهي، بل اذهبوا إلى أبعد من هذا؛ اخجلوا من انتسابكم إليَّ فلقد أكون لكم خادعًا.
على من يطلب الحكمة ألا يتعلم محبة أعدائه فحسب، بل عليه أيضًا أن يتعلم بغض أصدقائه، وما يعترف التلميذ اعترافًا تامًّا بفضل أستاذه إذا هو بقي أبدًا له تلميذًا. لماذا لا تريدون أن تحطموا تاجي؟
إنكم تحوطونني بالإجلال، ولكن ما هي الكارثة التي تتوقعونها من إعراضكم عني، إن في رفع الأنصاب لخطرًا فاحترسوا من أن يسقط عليكم التمثال المنصوب فيقضي عليكم.
تقولون إنكم تؤمنون بزارا، ولكن أية أهمية له؟ تقولون إنكم مؤمنون، ولكن ما أهمية جميع المؤمنين؟ ما كان أحد منهم فتش عن نفسه قبل أن وجدتموني، وهكذا جميع المؤمنين، فليس الإيمان شيئًا عظيمًا؛ لذلك آمركم الآن أن تضيِّعوني لتجدوا أنفسكم، ولن أعود إليكم إلا عندما تكونون جحدتموني جميعكم.
والحق، يا إخوتي، إنني في ذلك الحين، سأفتش عن خِرافي الضالة بعين أخرى فأبذل لكم حبًّا غير هذا الحب.
سيأتي يوم تصيرون فيه أصحابًا لي إذا ما وحَّد بينكم الأمل الواحد، عندئذ سأرغب في الإقامة بينكم للمرة الثالثة للاحتفاء بأنوار الهاجرة العظمى.
وستبلغ الشمس الهاجرة عندما يصل الناس إلى منتصف طريقهم بين الحيوان والإنسان المتفوق، وعندما يرون أملهم الأسمى على منتهى السبيل الذي يقودهم إلى الفجر الجديد.
في ذلك الحين يتوارى من يسير إلى الجهة الثانية وهو يبارك نفسه؛ إذ ترتفع شمس معرفته لتتكبد الهاجرة.
لقد مات جميع الآلهة، فلم يعد لنا من أمل إلا ظهور الإنسان المتفوق، فلتكن هذه إرادتنا الأخيرة عندما تبلغ الشمس الهاجرة.
هكذا تكلم زارا …
إن نيتشه كان قد خرج على الدين الذي اقتبستْه الآرية عن السامية فشوهته، فأصبح بعد ذلك طريدَ فكرِه الجبار ينتقد آثار الدين في المجتمع، وقد وقف موقفه السلبي؛ فلا هو يُسكت صراخ نفسه المتمردة، ولا هو يهتدي إلى الدين الحق الذي تسكن الروح إليه، وينتظم المجتمع بأحكامه، وها نحن نورد كلمة لنيتشه قالها وهو يكتب زرادشت وفيها عبرة للمؤمنين وللجاحدين.
في حديقة من حدائق لوزرن جلس نيتشه إلى السيدة «لو سالومه» وهي حسناء روسية ملكت لبَّه، وفي حديثه معها ملكه الصمت، فرأت لو دموعه تنهمر وبدأ يقص عليها تاريخ تطوره الفكري، فوصف لها سني فتوته التي قضاها في التعبد، ثم عرض مراحله في شكوكه واضطرابه في عالم لا بد من إمرار الحياة فيه دون أن يكون لهذا العالم إله … فقال — والسيدة نفسها دونت قوله للتاريخ: «هكذا بدأت مغامراتي الفكرية وما وصلت إلى محجة منها، فإلى أين أتجه … أفلا يجدر بي أن أعود إلى الإيمان، أو أن أُوفَّق إلى إيمان جديد؟ على أنه خير لي إذا أنا لم أوفق إلى الوصول لهدف أن أعود أدراجي من أن أقف في حيرتي.» ا.ﻫ. نقلًا عن كتاب دانيال هالافي.
هذه كلمة لم نر بدًّا من الإتيان بها وهي جد موجزة، ولكنها ستكون مدارًا لبحث نتوق إلى تناوله عندما ننتهي من ترجمة فيلسوف الغرب الكبير لنأخذ من إلحادة دليلًا له شأنه على صحة إيمان الشرق بالواحد الأحد وبما نفخ في الأجساد من نسمة الحياة الخالدة.
كان يريد زارا أن يبلغ عيسى ما بلغه هو من العمر؛ ليجحد تعاليمه ويطلق جناحي نفسه فيحب الإنسان والأرض، فهل بلغ أحد من مصلحي الإنسانية — باعتبار القضية الاجتماعية مستقلة جدلًا عن المسألة الروحية — ما بلغه العبراني والعربي بعده من حب الإنسانية والتضحيات في سبيل إصلاح الحياة.
وهل لنيتشه أن يدعي أنه أتى بشيء جديد في فلسفته عند تصويره مبادئ الحياة، أفليس كل ما أصاب فيه مستمدًا مما أُوحي إلى رسل الله وأنبيائه الأطهار، أفليس كل ما ضل فيه ناشئًا عن محاولته الاستغناء عن أنوار هذا الوحي …