أعمق الساعات صمتًا
ماذا جرى لي يا صحابي؟ لقد سادني الاضطراب؛ فأضعت هداي وأراني مندفعًا بالرغم مني إلى الرحيل والابتعاد عنكم وا أسفاه.
أجل، على زارا أن يعود إلى عزلته، غير أن الدُّب يرجع إلى مغارته كئيبًا حزينًا، ماذا جرى لي ومن تُرى يضطرني إلى الرحيل؟
إنها «هي» مولاتي الغاضبة، لقد كلمتني فأعلنت لي إرادتها، وما كنت ذكرت لكم اسمها حتى اليوم، هي أعمق ساعاتي صمتًا وهي نفسها مولاتي القاهرة، كلمتني أمس.
وسأقص عليكم ما جرى فلا أخفي عنكم شيئًا؛ كيلا يقسو قلبكم عليَّ وأنا أفاجئكم برحيلي عنكم.
أتعلمون ما هي خشية من يستسلم للكرى؟ إنه الذعر يستولي على الإنسان من رأسه إلى أخمص قدميه؛ لأن أحلامه لا تبتدئ ما لم تنسحب الأرض من تحته.
إنني أضرب لكم أمثالًا، فأصغوا إليَّ: أمس عند أعمق الساعات صمتًا خلت الأرض من تحتي وبدأت أحلامي.
وكان العقرب يدبُّ على ساعة حياتي في خفقانها، وما كنت سمعت من قبل مثل هذا السكوت يسود حولي ويروع قلبي.
وسمعتها «هي» تقول لي، ولا صوت لها: إنك تعرف هذا يا زارا.
فصحت مذعورًا عند سماعي هذه النجوى، وتصاعد الدم إلى رأسي.
فعادت هي تقول، ولا صوت لها: أنت تعرف هذا يا زارا، ولكنك لا تعلنه.
فانتفضت وأجبت بلهجة المتحدِّي: أجل إنني أعرف هذا، ولكنني لا أريد أن أعلن ما أعرف.
فقالت «هي» ولا صوت لها: أصحيح أنك لا تريد؟ لا تخفِ نفسك وراء هذا التحدي يا زارا.
فأخذت أبكي وأرتعش كالطفل قائلًا: ويلاه، أريد أن أُصرِّح، ولكن هل ذلك بإمكاني؟ أعفيني من هذه المهمة لأنها تفوق طاقتي.
فقالت، ولا صوت لها: وما أهميتك أنت يا زارا، قل كلمتك وتحطَّم.
فقلت: أهي كلمتي ما يهم، فمن أكون أنا؟ إنني أنتظر من هو أجدر مني بإعلانها، وما أنا أهل لأصطدم بالمنتظر فأنحطم عليه.
فقالت، ولا صوت لها: وما أهميتك أنت ما دمت لم تصل بعد إلى ما أريده من الاتضاع؟ وما أقسى ما يتشح الاتضاع به، وما أصلب جلده!
فقلت: لقد تحمَّل جَلَدُ اتضاعي كثيرًا، فأنا ساكن عند قاعدة ارتفاعي، ولم يدلني أحد بعد على ذراه العاليات، ولكنني تمكنت من سبر أغواري ومعرفتها.
فقالت، ولا صوت لها: أي زارا، أنت المعدُّ لنقل الجبال من مكان إلى مكان، أفما بوسعك أن تنقل أغوارك ومهاويك أيضًا؟
فقلت: لم تنقل كلمتي الجبال بعد، فإن ما قلته لم يبلغ حتى آذان الناس، لقد أتيت إلى العالم غير أنني لم أتصل به بعد.
فقالت، ولا صوت لها: وما يدريك …؟ إن الندى يتساقط على العشب في أشد أوقات الليل سكوتًا.
فأجبت: لقد هزأ الناس بي عندما اكتشفت طريقي ومشيت عليها، والحق أن رجليَّ كانتا ترتجفان إذ ذاك، فقال لي الناس: لقد ضللت سبيلك يا زارا، بل أصبحت لا تعرف أن تنقل خطاك.
فقالت، ولا صوت لها: وأية أهمية لسخريتهم؟ لقد تخلَّصت من الطاعة يا زارا، فوجب عليك أن تأمر الآن، أفلا تعلم أن من يحتاج الجميع إليه بأكثر من احتياجهم إلى أي شيء إنما هو من يقضي في عظائم الأمور؟
إن القيام بالكبائر صعب، وأصعب من هذا أن يأمر الإنسان بها. إن ذنبك الذي لا يغتفر هو أنك ذو سلطان ولا تريد أن تتحكَّم.
قلت: ليس لي صوت الأسد لأُصدِر أوامري.
فقالت — كأنها تهمس همسًا: لا يثير العاصفة إلا الكلمات التي لا صوت لها. إن من يدير العالم إنما هي الأفكار التي تنتشر كأنها محمولة على أجنحة الحمام. عليك أن تسير يا زارا كأنك شبح لما سيكون يومًا في آتي الزمان، هكذا تندفع في سبيلك إلى الأمام وأنت تتولى الحكم.
فقلت: إن الخجل يتولاني.
فعادت تقول، ولا صوت لها: عليك أن تعود طفلًا فيذهب خجلك عنك. إن غرور الشباب لمَّا يزل مستوليًا عليك؛ لأنك بلغت الشباب متأخرًا، ولكن على من يريد الرجوع إلى طفولته أن يتغلب على شبيبته.
واستغرقت في تفكيري وأنا أرتجف، ثم عدت إلى تكرار كلمتي الأولى قائلًا: لا أريد، وعندئذ ارتفع حولي صوت قهقهة مزقت قلبي وصدَّعت أحشائي.
وقالت «هي» للمرة الأخيرة: أي زارا، إن أثمارك ناضجة، غير أنك لم تنضج أنت لأثمارك، فعليك إذن أن تعود إلى العزلة لتزيد في قساوتك لينًا.
وعاد الضحك يتعالى، فشعرت أنها انصرفت عني «هي» وعاد الصمت يسود بأعمق مما كان حولي، أما أنا فبقيت منطرحًا على الأرض سابحًا في عرقي.
والآن، وقد أعلنت لكم كل شيء أيها الصحاب، فهأنذا أعود إلى عزلتي وما أخفيت عنكم شيئًا. أرحل عنكم بعد أن علمتكم أن تعرفوا من هو أشد الناس تكتمًا، ومن يريد أن يكون كتومًا.
وا أسفاه، أيها الصحاب، إن لديَّ ما أقوله لكم أيضًا، ولديَّ ما أبذله، فلماذا لا أبذله الآن؟ ألعلني أصبحت شحيحًا؟
وما نطق زارا بهذا حتى أرهقه سلطان حزنه لاضطراره إلى الرحيل، فبكي منتحبًا وما تمكن أحد من تعزيته، ومع هذا ما أرخى الليل سدوله حتى ذهب زارا وحده تحت جنح الظلام متخليًا عن صحبه.