قبل بزوغ الشمس
أيتها السماء الرافعة قبابها فوق رأسي نقية صافية، أيتها السماء السحيقة وقد غادرتُ في أبعادك الأنوار، إنني أشخص إليك فتتملكني رعشة الأشواق الإلهية.
أنا لا أسبر أغواري إلا إذا سَموتُ إلى عليائك، ولا أشعر بطهارتي إلا حين يجللني صفاؤك.
إنك تحجبين نجومك كما يتلفَّع الإله بسنائه. أنت صامتة وبصمتك تذيعين لي حكمتك.
لقد تجليتِ لي اليوم في سكونك على زبد الآفاق فأعلنت لروحي المزبدة ما فيك من حب وعفاف. جئتِ إليَّ جميلة مقنعة بجمالك تخاطبينني بلا كلام، وتعلنين حكمتك وما كنت أعلم ما في روحك من عفاف. أتيت إليَّ قبل بزوغ الشمس أنا المنفرد في عزلتي.
أنا وأنت صديقان منذ الأزل فأحزاننا واحدة كارتياعنا، وعمق أغوارنا وشمسنا واحدة أيضًا، وما نتناجى إلا لوفرة ما نعلم، ثم يسودنا الصمت فنتبادل ما أعرف وما تعرفين بلغة البسمات، أفما بُعثت أنوارك من مكمن أنواري؟ أفليست فكرتك أختًا لفكرتي؟
لقد تعلمنا كل شيء سوية، وتدربنا سوية على الاعتلاء فوق ذاتنا متجهين إلى صميمها مبتسمين بافترار لا تعكره الغيوم، وبلفتات صافية نغرقها في سحيق الأبعاد في حين تتدافع كالأمطار تحتنا النزعات المكبوتة وأهداف الخطيئة.
إلامَ كانت تتوق نفسي عندما كنت أذهب في الليل شاردًا على مسالك الضلال؟ وماذا كنت أطلب في تسلقي الجبال نحو قممها؟ أفما كنت أنت مقصدي أيتها السماء؟ وهل كانت أسفاري جميعها إلا ذهابًا مع حافز التدرب؟ وهل كان لإرادتي من هدف غير التحليق في الأجواء؟ وهل أبغضت شيئًا بغضي الغمام وكل نقاب يلفع الضياء؟ لقد كرهت بغضي نفسه؛ لأنه يعكر صفاءك أيتها السماء.
إنني أنفر من هذه الغيوم تمر كأنها قطط برية تزحف زحفًا؛ لأنها تختلس مني ومنك أيتها السماء الحقيقة الإيجابية الثابتة في كل شيء، فأنا وأنت ننفر من هذه الدخيلات المعكرات من هذه الغيوم الكاسحات، فما هي إلا كائنات مختلطة في نوعها يسودها التردد، فلا تعرف أن تلعن بإخلاص ولا أن تبارك بإخلاص، وخير لي أن ألجأ إلى مغارة أو أسقط في هاوية من أن أقف أمامك يا سماء الضياء، وقد عكرت صفاءك الغيوم الكاسحات، ولكم وددت لو أنني أُسمِّر أردانها على آفاقك بسهام البروق الذهبية، ثم أنزل عليها الرعود تهود قاصفة على مراجل أحشائها أنني أود قرعها بعصا الغيظ؛ لأنها تحجب عني حقائقك أيتها السماء الممتدة بأغوار أنوارها فوق رأسي كما تحجب حقيقتي عنك.
لخيرٌ لي أن أسمع هزيم الرعود وولولة العواصف من أن أتنصت إلى مواء هذه الهررة الزحَّافة المترددة، ففي المجتمع أمثال لهذه الغيوم يسيرون مترددين بخطوات الذئاب، وقد وقفت أشد بغضي عليهم.
«على من لا يعرف أن يمنح البركة أن يتعلم إنزال اللعنات.» ذلك ما ألهمتنيه السماء الصافية مبدأ ينير سمائي كالكواكب في أشد الليالي قتامًا.
ما دمتِ فوقي أيتها السماء الصافية المتألقة بالأنوار فإنني لا أنقطع عن منح البركة وإيراد بياني إيجابًا وتأكيدًا؛ لأنير بعقيدتي جميع الأغوار المظلمة.
لقد جاهدت طويلًا حتى أصبحت مباركًا ومؤكدًا، وما ناضلت إلا لأحرر ذراعيَّ فأبسطهما للبركة، وتقوم بركتي على الاعتلاء فوق كل شيء كما تعتلي السماء والسقوف المكورة وقباب الأجراس والغبطة الدائمة، فطوبي لمن يبارك هكذا؛ لأن كل الأشياء قد تعمَّدت من ينبوع الأبدية وما وراء الخير والشر، وما الخير والشر إلا خيالات عابرة وأحزان بليلة وغيوم متراكضة إلى الفناء.
والحق أن من البركة لا من اللعنة أن نعلم بأن فوق كل شيء تمتد سماء الصدفة وسماء البراءة وسماء الحيرة وسماء الاضطراب.
إن كلمة الصدفة لأقدمُ ما في العالم من نسب للأشياء، وقد أرجعتُ كل الأشياء إلى هذا النسب النبيل فأنقذتها من عبودية المقصد والهدف، وهكذا رفعت الحرية والغبطة السماوية عاليًا ونصبتها كالقباب فوق جميع الأشياء؛ إذ علمتُ أن ليس من إرادة أبدية تعلو بها لتبسط مقاصدها فوقها.
لقد وضعت حدًّا لهذه الإرادة بل لهذا الجنون وهذا الاضطراب عندما علمت أن الوقوف عند الحقيقة كان مستحيلًا وسيبقى مستحيلًا، فما هناك إلا قليل من التعقل وذرات من الحكمة تتلقفها الكواكب كخميرة امتزحت بالأشياء جميعها ولولا الجنون لما امتزجت بها.
ليس للإنسان أن يُعطي من الحكمة إلا قليلًا، غير أنني وجدت في كل مكان عقيدة لها سعادتها، وهي تفضيل الرقص على أرجل الصدفة العمياء.
فيا أيتها السماء الممتدة فوق رأسي، أيتها السماء الصافية المتعالية، لقد أصبح كل صفائك فيك قائمًا على اعتقادي بأن ليس في الكون عنكبة خالدة، وليس فيه من الحكمة ما تنسجه العناكب، فلتكن مجالاتك أيتها السماء مسرحًا لخطرات الصدف الإلهية، أو فلتكن خوانًا يدحرج عليه الآلهة نردهم، فلماذا يعلو أديم وجهك الاحمرار؟ أترى جاء بياني مبهمًا أم وردت بركتي لك لعنة عليك؟ أم أخجلك أن أنفرد بك فأردتِ أن أتوارى، وأكف عن الكلام؛ لأن الفجر قد لاح على الآفاق؟
إن في العالم من الأغوار ما لا يدركه النهار، ومن الأشياء ما يجب كتمانه أمامه، وقد باغتنا النهار، فلنفترق.
أيتها السماء الممتدة فوق رأسي بطهرها واضطرامها، أيتها الغبطة المتجلية قبل بزوغ الشمس، لقد باغتنا النهار فلنفترق.
هكذا تكلم زارا …