الطفل حامل المرآة
ورجع زارا إلى الجبال، إلى عُزلة كهفه ليحتجب عن الناس كالزارع ألقى بذوره في أثلام أرضه وبات يتوقع نبتها، ولكنه ما لبث أن حنت جوارحه إلى أحبابه؛ إذ كان عليه أن يمنحهم بعدُ كثيرًا من الهبات، وأصعب ما يلقى المحب اضطراره إلى قبض يده إجابة لداعي محبته وتفاديًا للمنة في عطائه.
ومرت على المنفرد الشهور والأعوام وحكمته تزداد نموًّا فتزيده ألمًا باتساع آفاقها.
وأفاق يومًا من نومه قبل انفلاق الفجر، واستغرق في تفكيره وهو ممدد على فراشه وتساءل قائلًا: لماذا أرعبني هذا الحلم حتى استفقت منه مذعورًا؟ رأيت كأن ولدًا «يحمل مرآة» اقترب مني وهو يقول: انظر في هذه المرآة يا زارا.
وما نظرت إلى المرآة حتى صرخت وخفق قلبي خفوقًا شديدًا؛ لأن ما انعكس لي في المرآة لم يكن وجهي، بل وجهًا تقطبت أساريره بضحكة شيطان ساخر.
والحق ما يفوتني تعبير هذا الحلم وإدراك ما نُبهت إليه، فإن تعاليمي مُشْرفة على خطر، والزُّوان يريد أن ينتحل صفات الحنطة. لقد استأسد أعدائي فشوهوا تعاليمي حتى أصبح أتباعي يخجلون مما وهبتهم.
لقد فقدت صحبي وآن لي أن أفتش عمن فقدت.
وانتفض زارا لا كمَنِ استولى الذعر عليه بل كمأخوذ برؤى وكشاعر هزَّه شيطانه؛ فوجم نسره وأفعوانه وحدَّقا بوجهه وقد لاحت بوادر السعادة عليه كتباشير الفجر، فقال لهما: ماذا حدث لي؟ أفما تريان أنني تغيرت؟ أفما تحسان أن الغبطة قد نزلت عليَّ كأنها عصفات الرياح؟
لقد جنَّ شعوري بهذه السعادة فلن يسلم بياني من اختلال هذا الشعور. إن سعادتي لم تزل في حداثتها فتذرعا بالصبر معي عليها.
لقد أوجعتني سعادتي فليكن أُساتي كل من أرهقتهم الأوجاع.
إن في وسعي الآن أن أنحدر إلى مقر صحبي وإلى مقر أعدائي، فقد أصبح زارا قادرًا على استطراد القول والإحسان إلى من يحب.
لقد آن لحبي أن يتدفق كالنهر يندفع من الأعالي إلى الأعماق، ويتجه من المشرق إلى المغرب.
إن نفسي تندفع مرغية مزيدة في الوديان متملصة من الجبال الصامتة نصخب فوقها عواصف الآلام، ولطالما تعللت بالصبر وعلقت أبصاري على بعيد الآفاق، لقد أرهقتني العزلة فما أطيق السكوت بعدُ.
أصبحت وكأنني بأجمعي فمٌ أو هدير جدول يتحدر من شامخات الصخور، أريد أن أقذف بكلماتي إلى الأغوار، فيجري نهر حبي في المفاوز البعيدة، ولن يضل هذا النهر سبيله إلى مصبه في البحار.
إن في داخلي بحيرة وحيدة قانعة بنفسها، غير أن نهر محبتي يجتذبها في مسيره؛ ليقطع معها السيول ويترامى وإياها في لجة البحر.
إنني أتبع مسالك لم أعرفها من قبل فأُلهمت بيانًا «جديدًا» بعد أن أتعبتني اللهجات القديمة التي ترهق كل المبدعين، وقد امتنع على فكري أن يقتفي رواشم النعال المقطعة.
ما من لغة إلا وأراها بطيئة تقصر عن مجاراة بياني.
سأقفز إلى صهوتك أيتها العاصفة فألهبك أنت أيضًا بسوط سخريتي.
أريد أن أقطع أجواء البحار كهتفة مسرة وحبور إلى أن أستقر على الجزائر السعيدة حيث يقيم أحبابي، وبينهم أعدائي أيضًا، لشد ما أحب الآن جميع من يتسنى لي أن أوجه إليهم الكلام، وسيكون لهؤلاء الأعداء أيضًا قسطهم في إيجاد غبطتي.
عندما أتحفز لاعتلاء أشد جيادي جموحًا لا أجد لي معينًا أصدق من رمحي متكأ أرتفع عليه.
هو رمحي أهدد به أعدائي، ولكم يستحقون ثنائي إذا ما تمكنت من طرح هذا الرمح من يدي.
لقد طال اصطبار غيومي بين قهقهة الرعود، وقد آن لي أن أرشق الأعماق بقذائف بردي.
إن صدري سيتعاظم بانتفاخه حتى يزفر بالعاصفة الهائلة على الشامخات، وهكذا سأفرِّج عنه.
إن سعادتي وحريتي سيندفعان اندفاع العواصف، ولكنني أتمنى لو يحسب أعدائي أن ما يزمجر فوق رءوسهم إنما هو روح الشر لا روح سعادة وحرية.
وأنتم أيضًا أيها الصحاب سيتولاكم الرعب عندما تنزل عليكم حكمتي الكاسرة، ولعلكم تولون هاربين منها كما يهرب الأعداء.
ليت لي أن أستدعيكم إليَّ بحنين شبابة الرعاة، وليت تتعلم لبؤة حكمتي أن تزأر بنبرات العطف والحنان، فلطالما وردنا سويًّا من مناهل العرفان. ولكن حكمتي الوحشية تمخضت بآخر صغارها في الجبال السحيقة بين الجلامد الجرداء، وهي الآن تطوف بجنونها الصحاري القاحلة مفتشة على المروج الناضرة.
إنها لشيخة وحشية هذه الكلمة التي تقصد إنزال أعز ما لديها في مروج قلوبكم الناضرة.
هكذا تكلم زارا …