الروح الثقيل
١
ليس فمي إلا فم الشعب، فكلماتي قاسية تخدش أسماع المتأنقين، وهي أشد وطأةً على أسماع زعانف الكتاب المسلحين بالأقلام.
ما يدي إلا يد مجنون، فويل منها لألواح الشرائع ومنيعات الحصون، وويل لكل ما يتسع لزخارف الجنون وغرائب سطوره.
وما قدميَّ إلا حافرا جواد يتراكضان على الأنجاد وفي الأغوار، فأحس بروح أبليس ينفخها المرح فيَّ وأنا أنهب أشواطي.
أما معدتي فلعلَّها حوصلة عقاب؛ لأن أفضل ما تشتهيه لحوم النعاج، وإن لم تكن حوصلة عقاب فهي على كلٍّ حوصلة مجنَّح من أبناء الفضاء؛ لأنني أتغذَّى من كل طاهر لذيذ فأتوق أبدًا إلى الاختطاف والانخطاف، وكيف لا يكون فيَّ شيء من الطير وأنا أهفو إلى هذه الحياة.
كفاني أن أعادي كل روح ثقيل لأكون شبيهًا بالطيور، فأنا العدو الألد لروح الكثافة، بل العدو المقسم ألَّا يحول عن كرهه وقد تكوَّن معه في رحم أمه، فتلك العداوة لن تطير ولن تتبدد.
لسوف أُطلق صوتي بالإنشاد مترنمًا بهذه المعاني بالرغم من انفرادي في مسكني المقفر حيث لا يسمع أغانيَّ غير أذناي.
لكَم في الأرض من منشد لا ينطلق الصوت الشجي من حنجرته، ولا تطابق التوقيع حركة يده ولا تشع عيناه ولا ينتبه قلبه إلا إذا غص البيت بالسامعين، وما أنا من أمثال هذا المنشد.
٢
إن من سيعلِّم الطيران للناس في آتي الزمان سيدفع كل ما ضرب حولهم من حدود، بل سيذري معالمها هباء ويبدِّل اسم الأرض باسمٍ يدل على زوال كثافتها وثقلها.
إن النعامة تعدو بأسرع ما تعدو الخيول الضوامر غير أنها لا تزال كالإنسان تغرس رأسها الثقيل في التراب الثقيل، وما الإنسان بأفضل منها ما زال يجهل كيف يطير، وما زال يشعر أن الحياة ثقيلة كالأرض.
من يريد أن يشعر من نفسه بخفة الطير فعليه أن يتوسَّل بالأنانية للانعتاق من كثافته، ليحبَّ الإنسان نفسه. هذا ما أعلم به أنا.
وما أدعو الناس إلى إثارة حب الذات بعاطفة المرضى والمحمومين، فإن رائحة السقام تنبعث من أنانية المريض والمحموم.
تعلَّموا الأنانية الصحيحة السليمة؛ لتتمكنوا من احتمال ذاتكم فلا تضلكم أنانيتكم. هذا هو تعليمي.
وما ضلال الأنانية إلا بذهابها إلى «محبة الغير» فإن القائلين بالغيرية قد أتوا بأمهر تمويه، وما أرهق الغير أحدٌ بمثل إرهاقهم.
ليس القول بوجوب التمرن على الأنانية وصيةً من الوصايا تُنفَّذ بين عشية وضحاها، فالتدرب على محبة الذات أدق الفنون وأصعبها، وما يملك زمامه إلا المتحيل الجلود؛ لأن روح الكثافة يجعل المالك في غفلة عما يملك ويعمي صاحب الكنوز طويلًا عن مثاويها، فإننا لا نكاد نُطرح على السرير حتى نُجهَّز بالكلمتين الثقيلتين: «الخير» و«الشر» ذلك هو ميراثنا، بل تلك هي الوصية التي لا تُغتفر لنا الحياة إلا باتباعها، وإذا ما قال قائل: دعوا الأولاد يأتون إليَّ، فما يدعوهم إلا ليمنعهم في الزمن المناسب من أن يحبوا ذاتهم. تلك هي مآتي الروح الثقيل.
أما نحن، فنذهب ساحبين ما أثقلت به كواهلنا الصلبة إلى الجبال الجرداء، حتى إذا شكونا اللَّغَب والسَّغَب قيل لنا: أنتم محقون بشكواكم فالحياة أعباء وأثقال.
والحق ليس في الحياة من أعباء على الإنسان غيرُ الإنسان نفسه؛ لأنه يوقر كاهله بما لا طائل تحته، فهو نفسه قد استناخ كالجمل مسلمًا ظهره، فأُثقل بأشد الأحمال، وأكثر الناس استسلامًا الرجل الصلب الجلود يرفع على كاهله جمًّا من الكلمات والوصايا الثقيلة فتنبسط الدنيا أمامه صحراء قاحلة مترامية الأطراف.
وما يثقل كاهلكم كلُّ دخيل عليكم فحسب، فهنالك ما يرهقكم وهو منكم وفيكم فداخل الإنسان شبيه بحشوة المحَار فهو قذِرٌ متراخ لزجٌ ينزلق تحت أناملك إذا حاولت إمساكه؛ لذلك تتكفل القشور والظواهر المزخرفة بستر ما وراءها، وما يسهل على المرء أن يستنبت لنفسه قشورًا متعاميًا بحكمة عن دخائله، إنْ هذا إلا فنٌّ لا بد من التدرب عليه، ولكَم على الناس من قشور تنمُّ على المسكنة وقد وضح عليها التمويه، ولكَم من قوة ومن صفة طيبة تبقى غائرة فلا يلمحها أحد، وكَم من طعام شهي لا يرغب أحد فيه، وما خفيت هذه الحقيقة عن النساء فهنَّ يعلمن أن بين المترهلة والنحيلة مجالًا لتمني المتعنِّتين، وقد يتوقف حظهنَّ من الاستغواء على شيء من الترهل وشيء من النحول.
إن اكتشاف خفايا الإنسان لمن صعاب الأمور، وأصعب الأمور أن يكتشف الإنسان نفسه فكثيرًا ما يضلل العقلُ الشعورَ، وما ذلك إلا من تأثير الروح الثقيل.
ليس من مكتشف لحقيقة ذاته إلا من يقول في نفسه: هذا هو خيري وهذا هو شري، وبهذا القول يُخرس الخلد والقزم القائلين بأن الخيرَ خيرٌ للكل والشرَّ شرٌّ للجميع.
والحق أنني أكره أيضًا من يرون كل شيء حسنًا، ويرون هذا العالم خير العوالم، إنْ هؤلاء إلا القانعون يرتاحون لكل شيء ويتذوقون كل شيء، وما بهذا يستدل على الذوق السليم، أما أنا فأُجلُّ الفم الحساس المتصعب الذي يعرف أن يقول: «أنا» وأريد ولا أريد.
وما من يلتهم كل شيء ويهضم كل شيء إلا من قطيع الخنازير، فكل ناهق بالرضى سائر حمارًا بين الحمير.
أحب من الألوان الأصفر القاتم والأحمر الفاقع؛ لأنهما يُدخلان لون الدم على جميع الألوان، ومن موَّه جدران بيته باللون الأبيض يدل على أنه موَّه نفسه بهذا اللون أيضًا.
إنني أحب الدماء وما يتفق ذوقي وأذواق من يعشقون الجثث المحنطة من جهة ومن يعشقون الأشباح من جهة أخرى؛ لأن الفئتين معاديتان لكل ما هو لحم ودم، وأنا لا أريد الوقوف حيث يصيبني رشاشٌ من بصاق الثرثارين، وما يسيل النضارُ من أشداقهم كما يدَّعون، وخير لي من المثول أمامهم أن أعاشر اللصوص والخونة.
وإذا ما كرهت الثرثارين فإنني أشد كرهًا لمن يتلقون رشاشَ بصاقِهم، وما رأيت في الناس من تشمئز لهم نفسي كمن لا أجد لهم شبيهًا غير الطفيليات، فمثل هؤلاء يطلبون الحياة من الحب وهم لا يشعرون به.
إن مَن أدعوهم أيضًا أشقياء في الحياة هم الأُلى لا خيارَ لهم إلا بين حالتين، فإذا لم يكونوا حيوانات مفترسة كانوا مذللين لها، وما أنا بالضارب خيامي في جوار هؤلاء الناس.
وأنا أدعو أشقياء أيضًا من يُكرَهون على الانتظار أبدًا، فما أحبِّذ حياة الجُباة والتجار والملوك وكل من يقف حارسًا لحانوت أو لقطر من الأقطار.
وأنا أيضًا تعلمت الصبر والانتظار إلى زمان طويل، ولكن ما أنتظره إنما هو «أنا» وما تمرنت عليه هو أن أقف وأمشي وأركض وأقفز وأتسلق وأرقص؛ لأن تعليمي هو هذا: من يريد أن يتعلم الطيران يومًا فعليه أن يتدرب أولًا على الوقوف فالركض فالقفز فالتسلق فالرقص، وليس لأحد أن يطفِر إلى الطيران طفْرًا.
ما تعلَّمت التسلق إلى النوافذ إلا بنصب الحبال، وما ارتقيت مرتفعات الصواري إلا بعد أن تقوَّت عضلات ساقيَّ، إن أعظم اللذات هي اعتلاءُ صارية المعرفة، والاتقاد بلهب يتلوه لهب فإن في هذا الإشعاع المتردد هداية السفن الجانحة وأمل المشرفين على الهلاك.
لقد بلغت الحقيقة حقيقتي بسلوكي طُرُقًا عديدة واتخاذي وسائل جمَّةً، فما ارتقيت المدارج من سُلمٍ واحدة لأبلغ القمة التي أتسنمها الآن وأرسل منها نظراتي إلى بعيد.
وإذا كنت سألت أحيانًا عن الطريق فما سألت إلا مكرهًا؛ لأنني فضلت في كل زمان أن أستنطق السبيل عن وجهته فأختبره بنفسي.
وهكذا كان تقدمي سؤالا وتلمسًا وما يتوصل الإنسان إلى استنطاق نفسه وسبله إن لم يتمرن على ذلك، ولكل ذوقه وهذا هو ذوقي لا أراه خير الأذواق، ولا أراه شرَّها على أنني لا أخجل به ولا أخفيه.
هذا السبيل الذي أنتهج، فأين سبيلكم أنتم؟
بهذا الاستفهام كنت أجاوب من يسألونني: أين الطريق لأن لكلٍّ طريقه وليس هنالك جادة للجميع؟