النقاهة
١
وما كانت مضت أيام طويلة على عودة زارا واستقراره في غاره، حتى هب يومًا من رقاده كالفاقد الرشد، وأخذ يصيح ويعربد مشيرًا إلى مرقده كأن عليه شخصًا غريبًا يحاول طرده، وساد القلق حيوانَي زارا؛ فدارا حوله وحكم الرعب جميع الحيوانات الأخرى، فإذا هي تدب وتزحف وتتطاير هاربة إلى بعيد.
وبقي زارا في موقفه قائلًا: هيا! انهضي أيتها الفكرة الرائعة المنبثقة من أعماق ذاتي، لقد كنت لك فجرًا وأعلنت انجلاءك كالديك الصائح، وأنتِ لا تزالين منطرحة كالتنين، افتحي أذنيك واسمعي؛ لأنني أريد أن تطلقي صوتك أنت، انهضي فإن هنا من الصواعق ما يعلِّم حتى القبور أن تصيخ سمعًا.
افركي أجفانك واسمعي بعينيك ما أقول لك، فإن صوتي يهب النظر حتى لمن ولدوا عميانًا، فإذا ما انتبهتِ مرة فلن يعاودك الرقاد؛ لأنني ما تعودت إيقاظ الجدود الأقدمين لأسمح لهم بالرجوع إلى نومهم العميق.
أراك تتحركين وتتثاءبين، فانهضي وتكلمي، إن زارا يدعوك، إن مَنْ يهيب بك للنهوض إنما هو الكافر زارا.
أنا هو زارا مؤكِّد الحياة، مؤكد الألم، مؤكد الدائرة الأبدية، أدعوك يا أعمق فكرة بين أفكاري.
يا لابتهاجي! إنني أراك قادمة، فها أنذا أسمع صوت هاويتي لقد نفضت نحو النور آخر أغواري.
يا لسروري! تقدمي إليَّ … هاتي يدك.
لا … لا … أرجعيها … يا للكراهة … ويا لشقائي!
٢
وما نطق زارا بهذه الكلمات حتى سقط على الأرض كالميت، وطالت غيبوبته حتى إذا ثاب إليه روعه حكمه ارتعاش شديد، وشحب وجهه وانطرح سبعة أيام على فراشه لا يتناول طعامًا ولا شرابًا، وكان تابعاه من الحيوانات لا يبارحانه، ولكن نسره كان يذهب في طلب الغذاء ويعود حتى كدَّس أنواع البقول والفاكهة حول المرقد، وطرح أمامه نعجتين اختطفهما بكل عناء من القطعان السارحة وقد نام عنها رعاتها.
وبعد سبعة أيام جلس زارا على مرقده وأخذ تفاحة ينشق نكهتها، فخيل لحيوانيه أن الزمن قد حان فقالا له: لقد مرت سبعة أيام يا زارا، وأنت مثقل الأجفان أفما آن لك أن تنهض، اخرج من غارك فإن كل شيء يتشوق إليك؛ فالهواء يهب بالعطور نحوك والغدران تتسارع إلى لقياك، وكل شيء يتوق إلى معالجتك وشفائك.
هل أتاك يقين جديد، فأرهقك بثقله وفعلتْ خميرتُه فعلها فيك؟ فقد رأيناك ساكنًا كالعجين المنتفخ باختماره، وشعرنا بروحك تتدفق من جنبيك.
فأجاب زارا: اذهبا في ثرثرتكما، يا حيوانيَّ ودعاني أَشْدد عزمي بالإصغاء إلى هذه الروح. إن الثرثرة لتبسط العالم كله أمامي كحديقة مترامية الأطراف.
إن العذوبة كلها كامنة في الكلمات والأصوات، فما هي إلا جسور من الوهم ممدودة بين الكائنات المنفصلة إلى الأبد.
لكل نفس عالمها فهي تجد في كل نفس أخرى عالمًا آخر، وكلما ازداد التشابه بين الأشياء ازداد خداع السراب بينها، وأصعب المآزق اجتيازًا أضيقها.
إنني لا أدرك كيف يمكن أن يوجد شيء ليس فيَّ أنا؛ لأن نفي الذات ممتنع، غير أن جميع الأصوات تنسينا هذه الحقيقة وخير لنا أن نتمكن من نسيانها.
ما أُعطيت الأسماء والأصوات إلا لتشديد عزم الإنسان، وهل اللغة إلا جنون له لذته؟ أفما ترى الإنسان يرقص بيانه على كل شيء.
ما ألذ الكلمات وما أحلى خداع الأصوات! فإنها ترقص حبنا على جميع ما في قوس قزح من الألوان.
فأجاب الحيوانان قائلَين: «إن من له عقليتنا يرى الأشياء متراقصة لنفسها؛ لأن كل الأشياء تتقدم إلى مسرح الوجود فتتصافح وتضحك وتنسحب ثم تعود.
الكل يذهب والكل يرجع وعجلة الكون تدور إلى الأبد، كل شيء يموت، وكل شيء يعود فتنور أزهاره ودوائر الوجود لا انتهاء لها.
تتحطم الأشياء فتتبدد، ثم تعود فتلتئم لتجديد بناء الوجود، يتفرق الشمل على وداع، فإذا بعده تسليم فحلقة الكون أمينة لذاتها إلى الأبد.
إن الوجود يبدأ في كل لحظة، فعلى محور «هنا» تنفتح دوائر الأجواء «هنالك» فالمحور مرتكز في كل مكان وطريق الأبدية كله تعاريج.»
وعاد زارا إلى ابتسامه قائلًا: يا لطيشكما! إنكما تعلمان جيدًا ما وجب أن يتم في سبعة أيام، ويا للمسخ الذي زحف إلى داخل عنقي ليكتم أنفاسي، غير أنني قضمت عنقه بأسناني فقطعت رأسه ولفظته إلى بعيد، فأتيتما تعيدانه إلى نصابه.
أنا الآن متعب مما قضمت ولفظت، ولا أزال مريضًا من إجهاضي.
لقد شهدتما كل هذا، فهل أردتما التلذذ بأشد أوجاعي أسوة بالناس؟ والإنسان أقسى حيوان في الوجود؛ لأنه لا يجد ارتياحًا على الأرض إلا بمشاهدة المآسي ومصارعة الثيران والصلب، وما تمتع بلذة الجنان على أرضه إلا يوم اخترع الجحيم.
إذا ما صرخ رجل عظيم سارع صغير إلى نجدته والحسد يكاد يدلي لسانه من فمه، ولكنه يسمي هذا الحسد رحمة وإشفاقًا.
انظر إلى صغار الناس وأُخصُّ منهم الشعراء بأي بيان ملتهب يشكون الدهر وتصاريفه، وإذا ما أصغيتَ إلى هذا الأنين الشاكي فلا يفوتنَّك أن تنصت لنبرات اللذة في كل شكوى.
إن الحياة تقول لمن يشكو، وهي تتحكم فيه بغمزة من عينيها: إنك عاشقي فانتظرني لحظة لأتفرغ لك.
ما يقسو حيوان على نفسه قساوة الإنسان، فإذا ما سمعت أنين من يدَّعون أنهم مرتكبو آثام وحَمَلة صلبان وتائبون فتنصَّت إلى أنينهم وشكواهم تسمع فيها شهقات الشهوة المتلذذة.
وهل أقصد أنا الآن بما أقول أن أشكو الإنسان؟ أيْ نسري وأفعواني، إن الشر الأعظم ضروري للخير الأعظم بين الناس. هذا ما تعلَّمته وما تعلَّمت سواه حتى الآن.
إن الشر الأعظم لخيرُ ما في قوة الإنسان؛ لأنه الحجر الأشد صلابة لنحت المبدع، وعلى الإنسان أن يتكامل في خيره وفي شره.
لم أحمل على عاتقي صليبًا لأذهب مفتشًا عما إذا كان الإنسان شريرًا، بل وقفت هاتفًا بما لم يهتف سواي بمثله فقلت: «يا للأسف! أن يكون أعظم شر في الإنسان وأعظم خير فيه لا يتجاوزان هذه الصغارة.»
إن هذا الاحتقار العظيم للناس هو الثعبان الذي تغلغل في حلقي، فكاد يخنقني كما كاد يخنقني أيضًا ما أنبأ به العراف إذ قال: كل الأشياء متساوية ولا شيء يستحق العناء، فالمعرفة تخنق طلابها.
وهكذا رأيت الغَسَق ينسحب متعارجًا أمامي، وسمعت صوتًا حزينًا متعبًا كأنه نبرات سكران يراوده الموت يقول لي: «سيعود دورًا فدورًا إلى الأبد الإنسانُ الذي يرهقك؛ الإنسان الصغير.»
ذلك كان حزني المتعارج غسقًا طال انسحابه؛ فأورثني الأرق ورأيت أرض البشر تستحيل أمامي إلى مغارة اتسع صدرها ضامًّا إليه كل حي، فلاح لي كل شيء ركام أقذار وأكوام عظام وردوم قرون.
ذهب زفيري يجول بين المدافن متراميًا على لحود الناس ملتصقًا بها، وقد حُكم عليه إلا يغادرها؛ فبات هنالك منتحبًا يشكو ويردد ليلًا ونهارًا: «وا أسفاه إن الإنسان سيعود، سيعود الإنسان الصغير دورًا فدورًا إلى الأبد.»
ولقد رأيت الناس من قبلُ، رأيت كبيرهم وصغيرهم، فما أشبه الأكبر بالأصغر فيهم فكلهم مستغرق في بشريته.
ما أصغر الأكبر بين الناس! ويا للشقاء في أن يعود الصغار أبدًا. إنَّ هذا ما يرهقني من الوجود.
واندفع زارا يردد قوله: يا للكراهة … يا للكراهة، وهو يتنهد ويرتعش متذكرًا داءه وأوجاعه.
وقاطعه نسره وأفعوانه قائلين: توقف عن الكلام، أيها الناقه، اخرج من هنا واذهب إلى حيث تنتظرك الدنيا في حدائقها، إلى الورود والنحل والحمام، وقف عند أسراب الأطيار المترنمة لتتعلَّم أناشيدها، وما أجدر الناقهين بالإنشاد! فإن المتمتعين بالعافية يتكلمون وإذا هم تغنوا فبغير ما يتغنى به الناقهون.
فقال زارا: اسكتا أيها الأحمقان أراكما عرفتما السلوى التي أوجدتها لنفسي في سبعة أيام، ولسوف أعود إلى الإنشاد الذي أوجدته للسلوى فيكون لي منه الشفاء، أفتريدان أن أعدل عن هذا أيضًا.
فصاح الحيوانان: انقطعْ عن الكلام أنسيت أنك ناقه؟ أعدَّ قيثارة جديدة لنفسك، فما تجاري القيثارةُ القديمة إنشادًا جديدًا.
أطلق أغنيتك، يا زارا، ولتذهب داوية كالعواصف، أشفِ نفسك بها لتنهض بما قُدِّر لك وما قدر لأحد قبلك.
إن حيوانيك يعرفان من أنت، يا زارا، وما ستكون، فما أنت إلا النبي المعلن تكرار عودة الأشياء إلى الأبد، وهذا ما قدر عليك القيام به منذ الآن: أن تكون أول من ينشر هذا التعليم وكفاك بهذا العمل علة وأخطارًا.
ما غرب عنا تعليمك يا زارا، فأنت تقول بأن جميع الأشياء تعود أبدًا، ونحن معها عائدون وبأننا وُجدنا من قبل مرارًا لا عداد لها ومعنا جميع الأشياء أيضًا.
أنت تقول بالسُّنة العظمى المتكررة، وهي كالساعة الرملية تنقلب كلما فرغ أعلاها ليعود أدناها إلى الانصباب مجددًا، وهكذا تتشابه السنوات كلها بإجمالها وتفصيلها كما نعود نحن مشابهين لأنفسنا إجمالًا وتفصيلًا في هذه السنة العظمى.
إذا ما شئت أن تموت الآن يا زارا، فإننا نعلم ما ستناجي به نفسك، ولكن نِسرك وأفعوانك يرجوانك ألا تضع حدًّا لحياتك الآن.
إذا أنت عزمت على الرحيل، فإنك لتدفع بزفرة الارتياح لا بأنين الألم؛ إذ تطرح عن عاتقك وأنت الصلب الجلود وِقْرَك الثقيل وكربتك المضنية، قائلًا: ها أنذا أموت وأتوارى، وعما قليل أصبح عَدمًا، فإن الأرواح تفنى كما تفنى الجسوم، غير أن شبكة العلل الدائرة بي ستعود يومًا فتخلقني مجددًا، فما أنا إلا جزء عن علل العودة الأبدية لكل شيء.
سأعود بعودة هذه الشمس وهذه الأرض، ومعي هذا النسر وهذا الأفعوان سأعود لا لحياة جديدة ولا لحياة أفضل ولا لحياة مشابهة، بل إنني سأعود أبدًا إلى هذه الحياة بعينها إجمالًا وتفصيلًا، فأقول أيضًا بعودة جميع الأشياء تكرارًا وأبدًا، وأبشِّر أيضًا بظهيرة الأرض والناس وبقدوم الإنسان المتفوق.
هذه هي كلمتي نطقت بها وقد حطمتني هذه الكلمة، ذلك ما قُدِّر عليَّ أبدًا، فأنا أتوارى منذرًا وبشيرًا.
لقد حانت الساعة الآن، الساعة التي يبارك فيها نفسه من يتوارى، وهكذا ينتهي جنوح زارا إلى المغيب.
قال النسر والأفعوان هذا وتوقعًا أن يجيبهما زارا بشيء، ولكن زارا لم يعلم أن حيواناه سكتا عن الكلام؛ لأنه كان قد استغرق في مناجاة نفسه فظهر كأنه نائم وما كان نائمًا.
ووجم النسر والأفعوان أمام سكون زارا، وذهبا على مهل من قربه.