الأمنية العظمى
أيْ نفسي! لقد علمتك أن تقولي كلمة «اليوم» كما تتلفظين بكلمتي «أمس وما قبله» وأن ترقصي فوق كل مندثر أينما كان.
أي نفسي! لقد حررتك من كل قيد خفي وطهرتك من الأدران، وأقصيت عنك العناكب وكل نور يخالطه ظلام.
أي نفسي! لقد نفضت عنك صغائر حيائك وكمينات فضائلك، وأقنعتك بالخروج عارية أمام عين الشمس.
لقد نفخت عاصفة الفكر على بحرك المضطرب، وجلوت الغيوم السوداء من آفاقك، وقضيت فيك على الإثم القاتل.
أيْ نفسي، لقد أوليتك الحق بأن تقولي «لا» كما تقول العاصفة، وأن تقولي «نعم» كما تقول صافيات الآفاق، فأصبحتِ هادئة كالنور يجتاز العواصف النافيات المانعات.
أي نفسي، لقد أطلقت لك الحرية تتسلَّطين بها على ما هو كائن وعلى ما لم يتكوَّن بعد، فما شعرت نفس بمثل ما تشعرين من ملذات آتي الزمان.
أي نفسي، لقد علمتك أن تحتقري احتقارًا لا ينخر كالسوس، علمتك الاحتقار الذاهب إلى أقصى المحبة أو إلى أقصى التحقير.
أي نفسي، لقد علمتك الإقناع حتى خضعت الأسباب والمقدمات لما تَرْتئين، فأصبحت كالشمس تُقنع البحار بأن تتعالى إلى مدارها.
أي نفسي، لقد نزعت منك كل خضوع وخنوع ومتابعة واستعباد حتى رأيتك سائدة لكل شقاء، ومتحكمة في الدهر لأنك أنت هي المقدور.
أي نفسي، لقد منحتك أسماء جديدة، ومتعتك بألعاب متنوعة فدعوتك المقدور ومحيط المحيط وقطب الزمان ومئذنة الآفاق.
أي نفسي، لقد أغدقت الحكمة كلها على مملكتك الأرضية، وأترعت كئوسها بخمرة المعرفة المعتقة منذ أقدم العصور.
أي نفسي، لقد غمرتك بجميع الأنوار والظلمات، وكل ما في الكون من سكنات وشهوات، فرأيتك تنمين أمامي كما تنمو الجفنة في الكروم.
أي نفسي، ما أنت الآن إلا دالية في الكرمة أثقلك جنيك، ونهدت أثداؤك عناقيد يلوح سمرتها النضار، لقد أرهقتك السعادة الكامنة فيك فأنت صابرة خجولة من صبرك.
أي نفسي، ليس في الكون من نفس أشد منك حبًّا ورحابة وحنانًا، فأين يتقارب الماضي والمستقبل إن لم يتقاربا في مجالك.
أي نفسي، لقد وهبتك كل ما ملكت يدي، والآن أراك تبتسمين قائلة: على أي من كلينا حقت كلمة الشكران؟
أفليس على الواهب أن يشكر من تفضل بقبول هبته؟ وهل العطاء إلا حاجة في نفس من أعطوا، والأخذ إلا إشفاق في نفس الآخذين؟
أي نفسي، إنني أدرك مغزى ابتسامتك ومعنى شجونك، فأنت الآن تمدين راحات إقبالك مترعة بشهوة العطاء، وتمدين أبصارك على البحار المزبدة وقد ابتسم في عينيك صفاء السماء.
من له أن يرد دموعه عن الفيضان، إذا لاحت له ابتسامتك يا نفسي؟ إن ما في هذه البسمة من العطف والحنان ليستهوي الملائكة للبكاء.
إن عطفكِ وقد تجاوز حدَّه يمتنع عن النواح والعويل في حين أن ابتسامتك تتشوق إلى البكاء ونحْرُك يتهدج بالنحيب.
إنك تتناجين قائلة: إن كل دمعة فيها أنين وفي كل أنين شكاية؛ ولذلك تفضلين الابتسام على الجهر بما تتحملين من خيراتك، ومن شوق يهز جوارحك بارتعاش الكرمة تتوق إلى مقاطع القاطفين.
فإذا ما كنتِ تمتنعين عن البكاء، يا نفسي، مُغضيةً بأجفانك الحمراء، فعليك أن ترفعي صوتك بالإنشاد.
انظري إليَّ في ابتسامي وأنا منبئك بأنك ستطلقين أناشيدك بصوت مرعد يجعل البحار تتنصت لنبرات شهوتك، إلى أن تسبح عليه العائمة المذهبة والمحلاة بكل ما هو حسن في روغانه وغرابته، حيث ينتصب السيد المجمَّل بالعزم وفي يده المقطع الماسي لعناقيد الكروم، ذلك هو مخلِّصك ومحررك يا نفسي، ذلك هو الكريم الذي أضمر اسمه في أناشيد المستقبل، والحق أن في أنفاسك شيئًا من أريج هذه الأناشيد، فأنت الآن مستسلمة للأحلام تنقعين غليلك من الآبار حيث يدوي السكون وتلقين بأشجانك إلى أناشيد آتي الزمان لتجدي فيها الراحة من العناء.
أي نفسي، لقد وهبتك كل شيء حتى فرغت يداي، وآخر ما وهبتك إهابتي بك للإنشاد، فقولي لي الآن مَن منا وجبت عليه كلمة الشكر؟
تغني يا نفسي «أطلقي أناشيدك من أجلي ودعيني أوجه إليك آيات شكراني.»
هكذا تكلم زارا …