تقدمة العسل
وكرت الأشهر وتوالت السنون على زارا وهو لا يشعر بها، مع أنها جلَّلت بالبياض ناصيته وفَوْدَيه.
وجلس زارا يومًا على حجر أمام غاره، وأرسل نظراته إلى بعيد ترود تعاريج الأودية وقد ظهر شيء من أفق البحر عند منتهاها السحيق، وبينما هو مستغرق في تفكيره دار حوله نسره وأفعوانه ثم مثلا أمامه قائلين له: علامَ ترسل نظراتك يا زارا، أتُراك تفتش على سعادتك؟
فأجاب: ما لي وللسعادة، لقد انقضى الزمان الذي كنت أتوقع السعادة فيه، فما أتشوق الآن إلا إلى أعمالي.
فقال الحيوانان: إنك تتكلم كمن تغلغل الخير فيه، أفما أنت عائم على بحيرة من السعادة ينعكس على صفحتها أديم السماء؟
فأجاب زارا وهو يبتسم: لقد أجدتما التشبيه، ولكنكما تعلمان أيضًا أن سعادتي ثقيلة، ولا شبه بينها وبين الأمواج هجومًا وتراجعًا، فهي تزحمني ولا تبتعد عني وتلتصق بي كأنها الرَّاتنج المذوب.
ودار الحيوانان مرة ثانية حول زارا وعادا يتفرسان به قائلين له: لقد عرفنا السبب إذن في اصفرار لونك واكمداده وتحول لون شعرك إلى لون القنَّب، أفلا ترى أنك غارق في المادة الراتنجية اللزجة وفي شقائك؟
وتضاحك زارا قائلًا: والحق أنني جدفت عندما ذكرت المادة الراتنجية، فما حدث لي إلا ما يحدث لكل ثمرة يتداركها النضوج أن العسل هو ما يخثر دمي، ويزيد نفسي استغراقًا في صمتها.
وتقرب النسر والأفعوان من سيدهما وقالا: إن الأمر كما تقول ولكن أفلا تريد اليوم أن تصعد إلى الجبل العالي فالهواء نقي يشعرك بلذة الحياة.
فقال: إنكما تعربان عن مشتهاي فأنا أتوق اليوم إلى تسلق المرتفع، ولكن عليكما أن تتداركا لي عسلًا من القفير الذهبي، عسلًا أصفر وأبيض من أجوده وأبرده؛ لأنني أريد أن أبذله تقدمة إلى الذرى.
ولما وصل زارا إلى القمة وأطلق للحيوانين سراحهما رأى نفسه منفردًا، فابتسم وأدار لحاظه ما حوله قائلًا: لقد تعللت بتقدمة العسل لأتمكن من الانفراد بنفسي فأتكلم حرًّا طليقًا على القمة بعيدًا عن منازل النساك وحيواناتهم.
عندما كنت أذكر التضحية كنت أبدد ما وهِب لي بألف راحة منبسطة، فكيف أجسر أن أدعو هذا العمل اليوم تضحية؟
إنني عندما طلبت العسل لم أطلب سوى طعمة للشَّرَك، فأردت أخذها من القفير المذهب الذي تتشوق إلى التلذذ به الأطيار والدببة.
طلبت خير طعمة يستعملها الصائدون على اليابسة وفي البحر، فإن الدنيا عبارة عن غابة تغص بالحيوانات وحديقة يتنعم بها كل صائد وحشي، ولعلها أشبه ببحر زاخر لا قعر له، فهي والحق بحر محتشد بالأسماك على أنواعها وعديد ألوانها مما يثير شهية الآلهة أنفسهم حتى إنهم ليصبحوا صيادين يرمون بشباكهم إلى هذا العالم المليء بالعجائب والغرائب كبيرها وصغيرها، وأخص من الدنيا عالم الناس برَّهم وبحرهم فأنا أرسل في مجالاته شبكتي المذهبة هاتفًا: انفتحي أيتها الأغوار البشرية.
انفتحي واقذفي إليَّ بأسماكك اللامعة، فلسوف أتمكن اليوم بخير طعمة أستهوي بها الأسماك البشرية من اصطياد خيارها، وما هذه الطعمة إلا سعادتي نفسها أنشرها إلى الأبعاد بين المشرق والجنوب والمغرب، وأنظر ما إذا كان العدد الغفير من الأسماك البشرية يتعلمون تذوق سعادتي والاشتباك بها، حتى إذا تغلغلت في حناجرهم طعمتي يضطرون إلى الارتفاع نحو مستواي، وهكذا يرتقي أشد الأسماك تعلقًا بالأغوار إلى قرب أشرِّ صياد يصطاد بني الإنسان، وما أنا إلا ذلك الصياد منذ نشأتي وفي أعماق روحي فأنا الجاذب المستهوي المزحزح الرافع والمثقف المعلم. أنا من قال من قبل: يجب عليك أن تصير مَن أنت.
فليرتفع الناس إليَّ الآن لأنني أنتظر الإشارات التي تعلن لي أن زمن نزولي قد حان، فإنني لم أنزل بين الناس بعد كما وجب عليَّ أن أنزل؛ لذلك أنتظر هنا على قمة الجبل مراوغًا مستهزئًا دون أن أعيل صبري ودون أن يعيل هو، أنتظر كمن نسي الصبر؛ لأنه لا شفقة فيه.
لقد أوسعتْ مقدراتي مجال الزمان أمامي، فهل هي تناستني فشُغلت باصطياد الذباب مستظلة وراء صخر كبير؟ والحق أنني ممتن لما قدر الأبد عليَّ؛ لأنه لا يزحمني بل يترك لي متسعًا من الدهر لأتلاعب وأرتكب الشرور حتى إنه أجاز لي اليوم أن أتسلق هذا الجبل لأصطاد عليه الأسماك، وهل سمعتم بإنسان يصطاد الأسماك على الذرى؟ لقد يكون ما طلبته جنونًا على أنه خير لي أن يحكمني الجنون من أن يسودني الجمود فأتلوَّن بالاخضرار والاصفرار وأنا ساكن على الانتظار في الأعماق، فأنا لا أريد أن أكون كهؤلاء المتحرقين في غيظهم لطول انتظارهم كأنهم عاصفة مقدسة تصيح بالوديان: أصغي إليَّ، وإلا فإنني أجلدك بسياط الله.
ما يكيدني مثل هؤلاء الثائرين فإنني أقف باعتباري لهم عند حد الاستهزاء، ولا يفوتني سبب غضبهم؛ لأنني أعلم أنهم إن لم يقرعوا طبولهم اليوم فلن يقرعوها إلى الأبد.
أما أنا ومقدراتي فما نوجه خطابنا لا إلى اليوم ولا إلى الأبد، وبوسعنا أن نصبر على الصمت؛ لأن أمامنا مدًى طويلًا وسيأتي زمن لن يكون فيه للقادم أن يعبر ويتوارى، ومن هو هذا القادم؟ إنْ هو إلا الصدفة العظمى أي مُلك الإنسان؛ إذ يحكم فيه زارا ألف عام.
وإذا كان هذا الملك لم يزل بعيدًا، فما يهمني هذا البعد وأنا الواثق من أنه لا بد قادم. إنني أستند من هذه الثقة إلى الأسس الأبدية، إلى هذه الصخور والجبال القديمة المنتصبة بين الرياح مترصدة ما كان وما سيكون.
فاضحكْ أيها الشر الكامن فيَّ، وأرسل قهقهتك الهازئة من أعالي هذه الجبال، وألقِ بشباكك لاصطياد خير الأسماك البشرية، اذهب رائدًا جميع البحار فإن كل ما فيها هو لي، التقط الجميع وارتفع به إليَّ. إن هذا ما يتوقعه أوفر المتصيدين شرًّا.
اذهبي في عرض البحار أيتها الطعمة وغوري في الأعماق لاصطياد سعادتي، واقطر أحلى قطراتك المعسولة أيها القلب طُعمة شهية تحل في أحشاء المصائب المروعة الدكناء.
إن أنظاري تمتد إلى أعمق الآفاق فيا للبحار تتسع أمامي ويا لمستقبل الإنسانية يفلق الضحى وما فوقي ينبسط السكون على تورد الآفاق، فيا للصفاء لا تكدره الغيوم.