استنجاد
وفي صبيحة اليوم التالي، جلس زارا على مقعده الحجري أمام غاره، وسار نسره وأفعوانه يتجولان في الأرض لتدارك أطعمة جديدة وعسلًا جديدًا؛ لأن زارا كان بدد حتى آخر قطرة من العسل القديم.
وبينما كان مستغرقًا في تفكيره وهو متكئ على عصاه يتفرس في ظل جسده، انتفض فجأة؛ إذ لاح له ظل آخر يرتسم قرب ظله، ووقف متلفتًا إلى ما وراءه فإذا بالعراف واقفًا على مقربة منه، وهو من قاسمه الغذاء يومًا على مائدته فأهاب إلى الخمول قائلًا: «إن كل الأمور متشابهة ولا شيء يستحق العناء؛ لأن لا معنى للوجود، والحكمة خانقة قاتلة.»
ولكن ملامح هذا العراف كانت تبدلت منذ ذلك العهد، وما أمعن زارا النظر فيه حتى استولى عليه زعر مما رأى على سحنته من طلائع الشؤم.
وأدرك العراف ما يمر في خاطر زارا؛ فبسط كفه ماسحًا وجهه كأنه يريد محو ما ارتسم عليه، ومسح زارا وجهه أيضًا حتى إذا عاد الاطمئنان إلى كليهما تصافحا فقال زارا: أهلًا بك يا بشير التراخي والجمود، ولعلك استفدت شيئًا من نزولك ضيفًا عليَّ فيما مضى، فاجلس اليوم أيضًا إلى مائدتي واسمح أن أجالسك أنا الشيخ الممتلئ غبطة وحبورًا.
فهز العراف رأسه قائلًا: يخيل إليك أنك شيخ يتدفق غبطة وحبورًا، ولكنك على أي حال كنت وأيًّا كنت يا زارا، لن يطول زمن حبورك على هذه الذرى فلسوف تجتاح سفينتك العواصفُ عما قليل.
فقال زارا: وهل أنا بمأمن من هبوبها؟
فقال العراف: إن الأمواج تدور بجبلك من كل جانب، فهي تعلو وترتفع دون انقطاع وعما قليل ستبلغ هذه الأمواج، أمواج الشقاء والآلام، هذه الذرى فتذهب بسفينتك وتذهب بك أيضًا.
وصمت زارا متعجبًا.
فاستطرد العراف: أفلا تسمع الآن شيئًا؟ أفما يبلغ أذنيك صخب الأغوار وهديرها.
وبقي زارا باهتًا يتنصت فإذا به يسمع صوتًا مديدًا تتلقفه أصداء المهاوي كأن لا هاوية منها تطيق الاحتفاظ بمثل هذا النداء الفجيع!
فصاح زارا بالعراف: أجل يا نذير الشؤم، إنني أسمع صوت استنجاد يصرخ به إنسان، ولعله آتٍ من بحر الظلمات، ولكن ما لي ولمدد الناس! أفما تعلم ما هي آخر خطيئة قُدرت عليَّ؟
فأجاب العراف: بلى إنها الرحمة.
وتدفق قلبه سرورًا فرفع ذراعيه هاتفًا: لقد جئت لأسقطك في هذه الخطيئة.
وعاد الصوت يدوي أوسع امتدادًا وأشد ارتياعًا، كأن مصدره يقترب.
فقال العراف: أتسمع يا زارا، إن النداء موجه إليك، تعال، تعال … فقد لا تصل إلا بعد فوات الأوان.
وبقي محتفظًا بصمته ولكنه شعر باضطراب زعزع إرادته فسأل مترددًا: ومن ذا يناديني من بعيد؟
فأجاب العراف: إنك تعرف فعلامَ تتجاهل؟ ذلك هو الإنسان الراقي يناديك مستنجدًا.
وارتعش زارا قائلًا: ماذا يريد مني؟ ماذا يطلب الإنسان الراقي هنا؟
وبدا جلده يتصبب عرقًا.
أما العراف فلم يأبه لاضطراب زارا، بل انحنى فوق الهاوية متنصتًا، وإذ طال السكوت في الغور أدار ظهره فرأى زارا لم يزل منتصبًا مكانه وهو يرتجف فقال له بصوت حزين: لا يلوح لي أنك الرجل الراقص لسعادته، فارقص إذا شئت إلا تقع على الأرض، ولو أنك رقصت بكل حركاتك أمامي الآن فإنني لا أصدق أنك آخر من يتمتع بالسعادة بين الناس، وإذا ما تسلق أحد هذه الذرى آملًا أن يجد آخر السعداء فإنه ليفتش عبثًا عليه؛ إذ لا يجد سوى المغاور يختبئ فيها من يحب الاستتار، إن مكامن السعادة ليست في هذه الأرجاء، وهل من سعادة ترتجى بين من دفنوا أنفسهم وتنسكوا؟ فهل وجب عليَّ أن أفتش على السعادة في الجزر السعيدة بعيدًا وراء البحار؟
ولكن ما لي ولهذا ما دام لا شيء في الوجود يستحق العناء والاهتمام، وعبثًا نفتش فإن الجزر السعيدة قد توارت من الوجود.
وبعد أن أنهى العراف خطابه ودفع آخر زفرة من صدره عادت الغبطة إلى زارا، فإذا به ينتفض كمن يخرج من الظلمة ليستقبل النور ويقول وهو يلعب بلحيته.
لا وألف لا … إنني أعلم منك، فالجزر السعيدة لا تزال مكانها فاصمت أيها النداب، ما أنت إلا غمامة تمطر على بسمة الصباح وقد بلَّلتني دموعك، ولكنني أنفضها عني وأفزع منك إلى بعيد، أفما تراني أعاملك بالحسنى؟ لا تعجب لهذا لأنك نازل في مملكتي.
ها أنذا ذاهب إلى مصدر صوت الاستنجاد في هذا الغاب؛ لأفتش على الإنسان الراقي فلعله معرض للخطر بين الوحوش الضارية، وأنا أحاذر أن يلحق به ضرر في مملكتي، وما أكثر الضواري فيها!
وما تحفَّز زارا للسير حتى قهقه العراف ضاحكًا وقال: أيْ زارا، ما أنت إلا مراوغ محتال، إنك تقصد التخلص مني فتفضل مطاردة الوحوش، ولكن هربك لن يجديك شيئًا فلسوف تجدني محتلًّا غارك عند رجوعك، ستراني متربعًا فيه كحزمة حطب ثقيلة.
فقال زارا وهو سائر نحو الغاب: ليكنْ ما تريد إن كل ما في غاري هو لك أيضًا لأنك ضيفي، وإذا ما وجدت فيه شيئًا من العسل فلك أن تلحسه لتخفف ما في نفسك من المرارة أيها الدب المزمجر؛ لأننا سنفرح ونطرب سوية هذا المساء لانقضاء هذا اليوم فتشترك معي بالغناء والرقص دبًّا مثقفًا.
أراك تهز رأسك كأنك لا تصدق ما أقول، فاذهب في سبيلك إذن أيها الدب الهرم، ولكن اعلم أنني عراف أنا أيضًا.
هكذا تكلم زارا …