العلقة
بينما كان رجل سائرًا في طريق مقفر وقد سرحت أفكاره في مجالات بعيدة عثر بكلب نائم تحت شعاع الشمس، فوقفا الواحد بوجه الآخر كعدوَّينِ لدودين يرتعشان خوفًا وحذرًا، ولو أن الصدف تحولت قيد أنملة لكان تداعب الكلب والمنفرد، أفما هما في القفر فريدان.
فقال الرجل المصدوم والغضب لا يزال آخذًا منه مأخذه،: كُنْ من تشاء يا هذا، فما أنت إلا معتدٍ عليَّ بمثَلك بأكثر مما اعتديت بصدمتك، انظر إليَّ، أفكلب أنا؟!
وكان هذا المتكلم جاثمًا على الأرض، وقد غرس ذراعه في المستنقع كأنه يتصيد منه شيئًا فنهض ساحبًا ذراعه العاري من الأوحال.
ورأى زارا دمًا غزيرًا يقطر من ذراع الرجل فصاح به: ماذا جرى لك أيها التعس، هل لسعك حيوان.
فأجاب غضوبًا هازئًا وهو يدير ظهره ليذهب في سبيله: ما يعنيك يا هذا، إنني مقيم في ملكي وليس عليَّ أن أرد على أهوج.
وأمسك زارا بالرجل وقد أشفق عليه فقال له: لقد أخطأت فلست في ملكك بل أنت في ملكي حيث يجب أن لا يضار أحد. ادعني بالاسم الذي تشاء فما أنا إلا من يجب أن أكون وقد أسميت ذاتي زارا. تعال اتبعني إلى مغارتي لأضمِّد جراحك، فما أنت إلا تعس خانك الحظ، لقد لسعك الحيوان ثم جاء الإنسان بعد ذلك يدوس عليك.
وما سمع الرجل اسم زارا حتى تبدلت سحنته وهتف قائلًا: أي شيء أهتم له في الحياة غير هذا الإنسان الفريد «زارا» وغير هذا الحيوان الفريد الذي يعيش من غب الدماء «العَلَقة».
ما انطرحت على الأرض إلا طلبًا لهذا الحيوان فقُرصت يدي عشر مرات وإذا بزارا نفسه يقرصني أيضًا.
يا لسعادتي؛ إذ قضي لي أن أكون اليوم في هذا المستنقع لأبارك خير حجَّام بين الأحياء، لأبارك زارا أعظم من علق على الضمائر ليمتص منها.
وفرح زارا لسماعه هذه الكلمات، فقال للرجل وقد مد إليه يده ليصافحه: من أنت يا هذا؟ إن ما بيننا أمورًا كثيرة يجب أن نجلوها، غير أنني لا أجد مشقة في الإيضاح وها قد وضح بيننا النهار.
فأجاب الرجل: أنا «ضمير الفكر»، وليس من عامل أشد صلابة وأكثر تقيدًا مني غير زارا معلمي، وقد تعلمت منه أنه خيرٌ للإنسان أن يكون مجنونًا في عين نفسه من أن يكون حكيمًا في نظر الناس.
أنا هو الذاهب إلى الأعماق ولا أبالي بضيق المدى أو باتساعه، ولا فرق عندي أكان الغور مستنقعًا أم سماء، وإنه ليكفيني من الأرض سعة الكف إذا جمدت وصلحت مستقرًّا للقدم فليس أمام العِلم الموالي للضمير من شيء يعده صغيرًا أو كبيرًا.
فقال زارا: لعلك إذن من يحاول إدراك منشأ العلقة، فتذهب إلى الغور في بحثها حريًّا مع ضميرك.
فأجاب: لا يا زارا، كيف لي أن أقوم بهذا العمل الفظيع ولا معرفة لي إلا بدماغ العلقة، وفي دماغها ينحصر الكون في نظري، أفليس هذا الحيز كونًا بنفسه؟ أرجو عفوك إذا ما أظهرتُ كبرياء بقولي إنني أنا الأستاذ في هذا المطلب، ولذلك قلت لك إن هنا مُلكي، لقد مرَّ عليَّ زمان طويل وأنا أحصر اهتمامي في بحث دماغ العلقة كيلا تفوتني الحقيقة في دقائقها، إن في هذا المطلب تمتد سلطتي وقد أعرضت عن كل ما عداه؛ لذلك يتمشى علمي موازيًا لجهلي، وقد قضى عليَّ ضميرُ تفكيري أن أعرف شيئًا وأجهل سائر الأشياء، فأصبحت كارهًا لكل عمل فكري لا يتعدَّى نصف مرحلته، ولكل إنسان اعتكر فكره في حماسه وتردده.
إن عماوتي تبدأ حيث يتناهى إخلاصي لعقيدتي، وأنا راضٍ بالعمى، وإذا ما أردت معرفة شيء انصرفت إليه قاسيًا طالبًا متعصبًا لا ألوي على شيء في سبيل محجته.
أفما أنت القائل يا زارا: إن الحياة نفسها مبضع يشق الحياة.
إن قولك هذا قد جعلني تابعًا لتعليمك، فتمكنت بذلك من اكتساب معرفتي ببذل دمي.
فقال زارا: إن الواقع يثبت قولك.
وأشار إلى ساعد الرجل وهي تدمي، وعليها عشر علقات تمتص منها، وأردف قائلًا: إن في حالك عِبرًا، أيها الإنسان، فأنت بنفسك تعليمٌ، ولن أقدم على إسماعك كل تعاليمي.
لنفترق هنا، غير أنني أود أن ألقاك بعد الآن، إن هذه الطريقة المرتفعة تؤدي إلى غاري فانزل فيه أهلًا هذا المساء بين ضيوفي؛ لأنني أريد أن أسترضيك عما ألحقته بك من إهانة عندما دست عليك بقدمي، فأنا أفكر بهذه الترضية الآن ولكنني مضطر إلى مبارحتك إلى حيث يستنجدني الصوت البعيد.
هكذا تكلم زارا …