الساحر
١
وما دار زارا بالصخر على منعطف طريقه حتى لاح له رجل يأتي بحركات غريبة، ثم يدور كالمجانين وينطرح زاحفًا على الأرض، فوقف وقال في نفسه: لعل هذا هو الإنسان الراقي الصارخ المدد، ولعلني أوفَّق إلى نجدته، وإذ وصل إليه رآه شيخًا ارتجفت أعضاؤه وجحظت عيناه، فهرع إليه محاولًا رفعه عن الأرض ولكنه حاول عبثًا، فبقي هذا الشيخ كأنه في غيبوبة لا يحس بوجود أحد قربه، واستمر يتلفت إلى ما حوله ويبدي إشارت اليائس المتروك، وبعد أن تململ وانطوى على نفسه بدأ يرسل أنينه وشكواه قائلًا: من يدفئني؟ من يحبني بعد؟!
إليَّ بالأيادي الحارَّة، إليَّ بالقلوب المتقدة.
أنا المحتضر المحتاج إلى أكفٍّ تفرك رجليَّ الباردتين.
أنا المنتفض تتأكلني الحمَّى الخفية، المرتعش تهب عليَّ الرياح اللوافح.
أنا طريدك أيها الفكر الذي لا اسم له، أيها المحجب المخوف الملفَّع بالغمام عينًا تحدجني في طيات الظلام.
ها أنذا طريحٌ أتلوى بعذاب الأبد تحت ضرباتك، أيها الصياد العاتي، أنت أيها الإله المجهول …
•••
انزل عليَّ بأشد ضرباتك، اضرب أيضًا، اخرق هذا القلب وقطع نياطه تقطيعًا.
ما لك تطيل تعذيبي فلا ترشقني إلا بسهام فُلَّت حرابها.
علامَ تطيل النظر، وفي عينيك الساخرة بريق الألوهية أفما مللت عذاب بني الإنسان؟
أنت تمتنع عن القتل ولا تقصد إلا التعذيب، لماذا تعذبني أيها الإله الساخر المجهول؟
•••
آهٍ، أراك تقترب مني زاحفًا في الليل.
ماذا تريد؟ تكلم.
أراك تزحمني وتدفعني، ها أنت تلاصقني.
إنك تتنصت إلى حشرجة أنفاسي وخفقان قلبي.
فيا لك من حسود! وعلامَ تحسدني؟
اذهب عني … اذهب عني …
ما هذه السلم تحملها إليَّ؟ أتريد أن تعلو عليها لتلج قلبي؟
أتريد أن تنفذ إلى أغوار أفكاري؟
ارجع أيها المتطاول المجهول … أيها السارق.
•••
ما الذي تريد اختطافه؟ وما الذي تطلب سماعه؟
ما الذي تريد اختلاسه، أنت أيها المعذِّب؟
أنت أيها الإله الجلَّاد؟
أتريد أن أترامى كالكلب على قدميك؟
أتريد أن أتقدم ثاملًا لا أعي زاحفًا أحمل إليك غرامي؟
•••
إنك تضرب عبثًا، فاضرب يا أقسى العُتاة!
أنا لست كلبًا! أنا لست فريسة لك، أيها الصياد!
أنا لست أسيرك، أيها اللص الملفع بالغمام.
تكلم أيها المتواري وراء السحب، تكلم أيها المجهول!
قل، ما الذي تطلبه مني، أيها الكامن لعابري السبيل؟
•••
أتطلب فدية؟ يا للغرابة!
وما هي الفدية التي تقتضيها؟
إن عزة نفسي تشير عليك بأن تطلب كثيرًا.
غير أن عزتي الثانية تشير عليك بالإيجاز فيما تقول.
آه! إن ما تطلبه هو أنا بكليتي!
•••
يا لجنونك! إنك ترهقني بتعذيبك، إنك تعذب عزتي.
أعطني المحبة … من يدفئني … من يحبني بعد؟
إليَّ بالأيادي الحارة … إليَّ بالقلوب المتقدة.
أعطني … أنا المنفرد المتشوق في الصقيع حتى إلى أعدائه.
أطلب إليك أن تستسلم لي، وأنت أقسى من يعاديني.
ولكنه توارى! توارى رفيقي الوحيد، أكبر أعدائي، الكائن المجهول، الإله الجلاد …
•••
لا … لا تذهب، ارجع … عُد إليَّ بتعذيبك.
عد إلى آخر المنفردين فإن دموعي كلها تنهمر شوقًا إليك، وآخر أشعة من فؤادي تترامى نحوك.
آواه. عد إليَّ يا إلهي المجهول، يا ألمي يا منتهى سعادتي!
٢
وبلغت الثورة في زارا حدها؛ فرفع عصاه وأخذ يقرع بها الرجل الذاهب بنواحه وشكواه، قائلًا له بضحكة ملؤها الغضب: توقف أيها المشعوذ، أيها المزيَّف، أيها الكذاب، لقد عرفت من أنت.
سألهب ساقيك فأنا أعرف كيف أعامل أمثالك، فانتصب الشيخ وصاح: توقف عن ضربي يا زارا، فإن ما شهدته مني لم يكن إلا مزاحًا ولعبًا، وما اللعب إلا فنٌ من فنوني. لقد أردت أن أعرضك للتجربة، والحق أنك نفذت إلى أعماق سريرتي، فأبنت لي أيضًا ما تنطوي أنت عليه، إنك لحكيم قاسٍ يا زارا، وعصاك ذات العقد تضطرني إلى أن أقول لك إنك تجلد الناس بحقائقك جلدًا.
فقال زارا — وهو لا يزال على حنقه: لا تداهن يا مشعوذ الأرواح، ما أنت إلا مظهر لا ينمُّ على حقيقته فليس لك أن تذكر الحقائق بفمك.
بأي دور كنت تقوم أمامي يا طاووس الطواويس، أيها البحر الزاخر بالأباطيل، أيها الساحر المشئوم، أظننت أنني كنت مصدقًا أنينك وشكاياتك؟
فقال الشيخ: كنت أمثل دور كفارة العقل، أفما أنت المخترع لهذا التعبير؟ فتكلمت بلسان الشاعر الساحر الذي ينقلب عليه عقله بعد تبدله لإدراكه فساد عمله وفساد ضميره.
أفما خُدعت بتمثيلي يا زارا؟ وهل تكشَّف لك خداعي قبل أن آمنت بشقائي وألقيت راحتيك على رأسي؟ وقد سمعتك تقول آسفًا: «لم يُمتع من الحب إلا بالنذر اليسير.» فرقص شرِّي حبورًا في داخلي.
فقال زارا: لا ريب في أنك خدعتَ من قبلي مَن هم أقوى فراسة مني، وما أنا من يتحوط لنفسه تجاه المخادعين؛ لأن من واجبي ألا أحاذر أحدًا، هكذا قُضي عليَّ.
أما أنت فقد قُضي عليك بأن تخدع الناس، فما يخفى أمرك عليَّ فأنا أعرفك وأعرف أن لكل كلمة من كلماتك معنيين بل ثلاثة وأربعة معانٍ، حتى إن ما اعترفت به الآن ليس فيه الصدق كله ولا الكذب كله.
وهل بوسعك أن تكون على غير ما أنت عليه أيها الشرير الكاذب أيها المزيف، وأنت إذا ما وقفت عاريًا أمام طبيبك يومًا، فإنك لتجعل داءَك نفسه يتنكر عليه، هكذا موَّهتَ أمامي كذبك نفسه ونكَّرته عندما قلت لي: إن ما شهدته مني لم يكن إلا مزاحًا ولعبًا، فقد ضمَّنت كذبك شيئًا من الحقيقة وأنت شبيه من بعض الوجوه بالمكفِّر عن ذنوب العقل.
لقد تكشفت لي سريرتك، فأنا أراك بلغت من السحر ما تستهوي به الناس، ولكنك لا تجد من الكذب والرياء ما تستهوي به نفسك، لقد انكسر خيالك وعثرت آمالك؛ لأنك لم تجنِ غير الكره حقيقةً لا حقيقةَ لك سواها، فأصبحت ولا كلمة صادقة عندك، فكل شيء مزيف فيك إلا شفتاك أو بالأحرى ما التصق بهما من كره أو اشمئزاز.
وصاح الساحر بصوت جلجلت الكبرياء فيه: من أنت يا هذا ليحق لك أن توجه إليَّ مثل هذا الخطاب، وأنا أعظم الأحياء في هذا الزمان؟
ونزل الساحر على زارا بنظرة التمعت بأشعتها الخضراء، ولكنه وجم بغتة وأردف قائلًا بصوت حزين: آي زارا … لقد تعبتُ من كل هذا … لقد كرهت جميع فنوني فما أنا بالعظيم وما يجدي التظاهر شيئًا، ولكنني طلبت العظمة كما تعلم، أردت أن أمثل دور الرجل العظيم؛ فتمكنت من اكتساب ثقة الكثيرين ولكن أكاذيبي تجاوزت طاقتي ووقفت دوني حائلًا اصطدمت به فانحطمت.
أي زارا … إن كل ما فيَّ أكاذيب بأكاذيب … ولا حقيقة عندي سوى انحطامي.
فأجاب زارا وهو ينكث الأرض بنظراته: لقد كان طلبك للعظمة مشرِّفًا لك وقد خانك مقصدك فما أنت بالعظيم.
إن ما أكرِّم فيك وما أراه خير صفة لديك هو تعبك من نفسك وهتفتك: «إنني لست عظيمًا.» لذلك أكرمك كمكفِّرٍ عن العقل، وهب أن تكفيرك هذا لم يدم إلا لحظة واحدة فإنك كنت في هذه اللحظة صادقًا.
ولكن قل لي ما أتيت تطلب هنا في غاباتي وبين صخوري، وإذا كنت انطرحت على طريقي لتلقاني فأي برهان قصدت نواله مني؟ بأية وسيلة أردت أن تنصب شَرَك تجربتك لي؟
هكذا تكلم زارا وعيناه تقدحان شررًا، فوجم الساحر الشيخ، ثم قال: وهل حاولت تجربتك؟ ما كنت إلا مفتِّشًا، وما أفتش عليه هو الإنسان الصادق المستقيم الإنسان الذي لا يُظهر إلا ما يضمر، إن ما أطلبه هو إناء الحكمة الصادقة هو الرجل العظيم.
أفما تعلم يا زارا أنني أطلب زارا.
وساد السكوت على المتخاطبين، وأغمض زارا عينيه مستغرقًا بالتفكير، ثم قبض على يد الساحر وقال له بكل تأدب: هنالك على المرتفع الطريق المؤدي إلى مغارتي، وفي هذه المغارة ستجد من تطلب، فإذا ما بلغتها سلْ نسري وأفعواني ليساعداك بالتفتيش في طولها وعرضها.
لا أكتمك إنني ما رأيت الرجل العظيم حتى الآن؛ لأن العيون لا تزال في خشونتها قاصرة عن تفحص أية عظمة، فإننا في عهد سيادة الشعوب.
ولكَم رأيت من متعاظم يتمطَّى وينتفخ، والشعب يصيح حوله هذا هو الرجل العظيم، ولكن ما يفيد منفخ الحداد تمدده إذا كان الهواء لا يلبث فيه.
هكذا يخرج الهواء أيضًا من الضفدع حين ينتفخ لينشق، وليس من لعبة أشد تسلية من غرز مِنصل في جلد منتفخ فاسمعوا هذا يا أبنائي: إن يومنا هذا يوم الشعوب فمن له أن يميز بين الكبير والصغير فيها، ومن له أن يطلب العظمة فيظفر بها غير المجانين، وهل من ظافر غير من فقد رشده.
أراك تفتش على الرجل العظيم أيها المجنون الغريب، فمن ترى أوعز إليك بهذا؟
أفي مثل هذا الزمان يوجد العظيم، أيها المراوغ؟
لماذا تحاول نصب شراكك أمامي؟
هكذا تكلم زارا وقد سلا همومه؛ فضحك وسار في طريقه.