مختار التسول
وعندما بارح زارا أقبح العالمين أحس بوحدته، ومشى الصقيع في أعضائه لما مر في رأسه من أفكار غريبة لافحة، ولكنه ذهب يجدُّ السير تارة على المراعي المخصبة المشرفة على البحر وطورًا وراء الجبل حيث جفَّ النهر، فانكشف مسيله الموحش تحف به الصخور، فتشددت عزيمته وعادت إليه حرارته فقال في نفسه: «لعلني على مقربة من إخوان لا أعرفهم يدورون في هذه الأرجاء، ولعل ما أحس به من أنس بعد الوحشة ومن حرارة بعد الصقيع يهب من أنفاسهم فتهش لها نفسي.»
وتطلع من موقفه إلى ما حوله فإذا به يرى قطيعًا من الأبقار على مرتفع، فأدرك أن ما ضاع من لهاث هذه القطيع قد كان السبب في إنعاش قلبه.
وما أحست الأبقار بقدومه؛ إذ كانت موجهة انتباهها إلى خطاب كان يلقى عليها، وما تقدم زارا بضع خطوات حتى سمع صوت إنسان يرتفع من وسط الحلقة، وقد أدارت الأبقار رءوسها إلى مصدر الصوت فأسرع زارا إلى اختراق الحلقة، فإذا برجل جالس على الحضيض يتكلم محوِّلًا كل جهده لإقناع الأبقار بألا تنفر منه.
وكان المتكلم أحد أنصار السلام ومن وعَّاظ الجبال المتصفين باللطف، وقد أشع العطف من عينيه.
وتقدم زارا وسأله بدهشة عما يفعل، فأجاب الرجل: إنني أطلب هنا ما تطلبه أنت، فأنا أفتش على سعادة الحياة، وقد أردت أن تعلمني الأبقار حكمتها، فمضت نصف الصبيحة وأنا أهيب بها إلى التكلم حتى كادت تنطق فأتيت أنت تكدر صفونا.
إذا نحن لم نرجع فنصير مثل هؤلاء الأبقار فلن ندخل ملكوت السماء … لأن علينا أن نقتبس من الأبقار اجترارها.
والحق لو أن الإنسان ربح العالم كله، ولم يتعلم الإمعان في تفكيره كما تُمعن الأبقار في مضغها، فأية فائدة له من الحياة؟ لأنه إذا لم يجترَّ بتفكيره فلا شفاء له من أشد أدوائه، وداء الإنسان العقام اليوم إنما هو داء الاشمئزاز، ومَنْ من أبناء هذا الزمان لا تتقزز نفسه وعيناه وفمه، أفما أنت كسائر الناس يا هذا؟ انظر إلى الأبقار.
قال واعظ الجبل هذه الكلمات ثم أمعن النظر في زارا بعد أن كان يعلقه على أبقاره، فتغيرت سحنته وهتف قائلًا: من هو مَنْ أخاطب؟
ونهض عن الأرض فجأة وهو يقول: هذا هو المتعالي عن كل اشمئزاز، هذا هو زارا بعينه، هذه عينه وهذا فمه وهذا قلبه.
وسارع إلى تقبيل يدي زارا وعيناه تفيضان بالدموع كأنه لقي كنزًا أرسلته السماء، ووقفت الأبقار تنظر إلى الرجلين مندهشة حائرة.
وتباعد زارا قائلًا: ما لك والتكلم عني، تحدَّث عن نفسك، أفما أنت مَنْ اختار التسول متخليًا عن ثروته الكبرى، أفما أنت من رأى العار في الغنى وأربابه ففزع إلى الفقراء ينشر عليهم نعمته، ويجود عليهم بقلبه، فردَّه الفقراء خائبًا؟
فأجاب المتسول: أجل لقد عدت بالخيبة فلجأت إلى هذه الأبقار، وأنت تعرف ذلك يا زارا.
فقال زارا: وهنا تعلمتَ فعرفت أن الإجادة في العطاء أصعب من الإجادة في الأخذ، وأن العطاء فن يتوقف إتقانه على إدارة العطف والتحكم في خطراته.
فقال المتسول: بخاصة في هذه الأيام التي ثار فيها كل سافل نفور متكبر مباهيًا بطبقة الغوغاء التي ينتمي إليها، وما خفي عليك أن الساعة قد دنت لثورة طبقات المستبعدين وهي ثورة سيطول أمدها ومداها.
إن الصغار يتمردون على كل ما هو إحسان وتصدق، فلينتبه أرباب الثراء وليحذروا.
الويل لكل وعاء متضخم لا يتسرب ما فيه إلا قطرة فقطرة من فوهته الضيقة، فإن أعناق هذه الآنية معرضة للكسر في هذه الأزمان، وقد اصطدمت بالحسد الفاحش والشهوة الغاضبة والظمأ الدافع إلى الانتقام وبكل ما في الغوغاء من غرور، لقد كذب من قال: إن السعادة سائدة بين الفقراء من الناس، فما يتمتع غير الأبقار بملكوت السماء.
وسأل زارا: ولماذا لا يتمتع الأغنياء بالملكوت.
فأجاب المتسول: لماذا تجربني يا هذا وأنت أدرى بالأمر مني، وهل فزعتُ إلى الفقراء إلا كرهًا لأغنيائنا؟ وهم أسرى أموالهم وعبيدها وهم ذوو العيون الباردة والقلوب التي تقرضها شهوة الإثراء فتوحي إليهم بكل وسيلة يستغلون بها أية كومة من كوم الأقذار، أفما هربت من هؤلاء الناس وسفالتهم الصارخة بوجه السماء، كما هربت من الطبقة الموشَّاة بالذهب والمزوَّرة تزويرًا المتحدِّرة من جدود كانت أصابعهم مخالب من حديد فعاشوا عقبانًا أو جامعي خرق، من الطبقة التي ماتت النخوة في رجالها فسرحت نساؤها فاحشاتٍ سائبات لا فرق بينهن وبين البائحات في المواخير.
لقد رأيت الغوغاء في الطبقة العليا كما رأيتها في الطبقة الدنيا، فلا فرق بين الأغنياء والفقراء في هذا الزمان؛ لذلك هربت وأمعنت في الهرب حتى أدَّى بي المطاف إلى هذه الأبقار.
هكذا تكلم رسول السلام والعَرَق يتصبب منه لاندفاعه بتيار خطابه، فوجمت الأبقار مضطربة، غير أن زارا كان لا يزال يحدق بالمتسول وهو يبتسم حتى إذا وقف عن الكلام قال له: لقد أجهدتَ نفسك بعنف خطابك فما لفمك أن يتفوَّه بهذه الكلمات الجافية وما لأذنيك أن تسمعاها، وما أرى معدتك نفسها قادرة على هضمها وتحمُّل مثل هذا الغضب المتدفق، فمعدتك بحاجة إلى غذاء أخف وما أنت بالرجل الشره، ولعلك من أكلة الأعشاب والبقول تحب مضغ الحبوب ولعق العسل.
فقال المتسول: لقد أصبت فأنا أحب العسل وأمضغ الحبوب فأفتش على ما لذَّ طعمه وطابت نكهته، وما يساعد بمضغه على إمرار الزمان شأن الكسالى وليس أمهر في الاجترار من الأبقار فهي التي اخترعته كما اخترعت التمدد تحت شعاع الشمس فتخلصت من كل تفكير جدي عميق مضخم للقلب.
فقال زارا: إذن عليك أن تشاهد نسري وأفعواني فليس لهما على الأرض نظير، تلك هي الطريق المؤدية إلى مغارتي فانزل فيها ضيفًا عليَّ هذا المساء لتتحدث مع النسر والأفعواني عن سعادة الحيوانات، وهنالك تنتظرني إلى أن أعود لأن صوتًا استنجدني من بعيد وأنا ذاهب إلى مصدره، ولسوف تجد في المغارة عسلًا جديدًا أُخذ من القفران الذهبية وهو بارد كالثلج فلك أن تأكله.
استأذن أبقارك الانصراف أيها الرجل الغريب، فإنها خير من أخلص لك وأصدق من علَّمك الحكمة.
فقال المتسول: ما هي أخلص وأصدق منك يا زارا، فأنت بطيبة قلبك خير من الأبقار.
فقال زارا: سحقًا أيها المداهن! لماذا تقصد إفسادي بمعسول القول والثناء؟
اذهب بعيدًا عني.
ورفع زارا عصاه غاضبًا فأسرع المتسول بالهرب.