السلام
وكان العصر قد خطا خطوة كبرى نحو المساء عندما بلغ زارا مغارته بعد طول المسير، وبعد أن ذهب جهده في التفتيش على المستنجد عبثًا.
ولكنه ما أصبح على قاب عشرين قدمًا من مسكنه حتى وقف مذعورًا؛ إذ سمع صوت الاستنجاد يدوي في أذنيه وازدادت دهشته؛ إذ تأكد أن الصوت خارج من مغارته نفسها، غير أن الهتاف كان يصل إليه كأنه هتافات عديدة يدفعها فم واحد.
وأسرع زارا فولج مغارته فإذا هو ماثل أمام جميع من التقاهم في طريقه: ملك الميمنة وملك الميسرة والساحر الشيخ ورئيس الأحبار والمتسول والظِّل وضمير العقل والعراف الحزين والحمار.
وكان أقبح العالمين واضعًا تاجًا على رأسه وملتفًّا بدثارين من القرمز؛ لأن هذا الرجل كان يحب أن يتنكر ويتجمل ككل قبيح.
وكان نسر زارا منتصبًا بين هذا الجمع، وقد انتفش ريشه ولاح الاضطراب عليه لاضطراره إلى إبداء الجواب على مسائل تنال من غروره وكان الأفعوان ملتفًّا حول عنقه.
ودهش زارا مما رأى وذهب نظره يتفرس في كل وجه من وجوه ضيوفه ويطالع صفحات نفوسهم، وكان هؤلاء الضيوف وقفوا عن مقاعدهم وكل منهم ينتظر بخشوع خطاب زارا.
وبعد صمت قصير قال زارا: ما كان صوت الاستنجاد إلا صوتكم إذن … فأنا أعلم الآن أين يجب أن أفتش على الإنسان الراقي.
إنه جالس في مغارتي هذا الإنسان، وما أعجب لهذا لأنني أنا دعوته، وأهبت به للحضور وقد وعدته بالعسل والسعادة، ويلوح لي أنكم لا تتصلون إلى الاتفاق فيما بينكم، فكل منكم يسبب الكدر لرفاقه وأنتم مجتمعون هنا في حين أنكم تستنجدون بصوت واحد فأنتم بحاجة إلى من يعيد ضحككم إليكم، إلى رجل مرح رقاص استولى عليه الجنون.
اغتفروا لي هذه اللهجة التي لا تليق بضيوف مثلكم يستسلمون لليأس، ولكنكم لا تعلمون ما يشدد العزم في قلبي، إن مشهد اليائسين يدفع بكل إنسان إلى محاولة مواساتهم وتعزيتهم وهذا ما أشعر به الآن، وأنا مدين لكم بهذا الشعور؛ لذلك أقدم لكم ما أملك، فانزلوا على الرحب في مغارتي هذا المساء وليقم نسري وأفعواني بخدمتكم.
ولكن عليكم أن تردوا عنكم كل يأس فأنتم في منزلي حيث يسود الاطمئنان والسلام.
فأنا إذن أقدم لكم الأمان أولًا، ثم أقدم لكم خنصر يدي؛ لأنكم إذا ما قبضتم عليه تقبضون على ساعدي، فأنا لا أتردد في تقديم قلبي لكم، فأهلًا وسهلًا بكم.
هكذا تكلم زارا وهو يضحك ضحكة الحب والشر، فانحنى الضيوف يردون السلام بإجلال واحترام وتكلم ملك الميمنة باسم الجميع قائلًا: لقد عرفنا أنك أنت زارا من طريقة تقديم يدك، وإهداء سلامك لقد تواضعت أمامنا حتى كدت تُخجل حرمتنا لك، وما سواك من يعرف التواضع فيقف منه عند حد العزة، فقد أتيتنا بقدوة تُصلح من أخلاقنا فتسدد نظرنا وتشدد قلبنا.
إننا لن نتردد في تسلق جبالٍ أعلى من هذا الجبل؛ إذ كان من اعتلائنا ما يبسط أمامنا مشاهد تقشع الغشاء عن العيون وتجعل بصرها حديدًا.
لقد انقطعنا الآن عن الصراخ في طلب النجدة؛ لأن قلوبنا قد تفتحت وامتلأت حبورًا ونكاد نستعيد قوانا وشجاعتنا.
أي زارا، ليس في الأرض شيء أدعى إلى السرور كالإرادة القوية السامية، فهي أشرف ما ينبت التراب، فإذا ما نمت دوحة واحدة من هذا النبات سرت القوة في كل ما حولها من حدائق ومروج.
إن من يعلو مثلك يا زارا لشبيه بشجرة الصنوبر ترتفع صامتة فريدة صلبة العود وتمد فروعها القوية الخضراء كأنها تريد اللحاق بما تنشر من سيادة، وكأنها تستنطق الرياح والعواصف وكل ما يبدو على الذرى العاليات، وإذا ما أرسلت جوابًا أرسلته بنبرة عالية ظافرة آمرة.
من يتردد في تسلق الذروة ليشاهد مثل هذه الدوحة؟ إن كل من يسوده الأسى القاتم يطرح عنه الاستسلام إليه إذا هو نظر إلى دوحتك يا زارا، وفي النظر إليك طمأنينة من لا قرار له وشفاء القلوب الحائرة.
والحق أن عيونًا كثيرة تتجه اليوم نحو جبلك ودوحتك، وقد تنبهت الأشواق إليك وقد تساءل الكثيرون عن حقيقة زارا، وجميع من وصلت معسولات أناشيدك إلى آذانهم، جميع المنفردين أفرادًا وأزواجًا يقولون: أترى لم يزل زارا في الحياة؟ إذا نحن لم نعش معه كانت الحياة باطلة لا خير فيها، لماذا لا يجيء إلينا بعد أن أعلن قدومه طويلًا، أذَهَب فريسة عزلته، أم علينا أن نسعى نحن إليه.
إن العزلة نفسها قد تراخت وتفككت في هذا الزمان فكأنها قبر ينشق عمن ثوى فيه، ففي كل بقعة بعث ونشور.
وها إن الأمواج تتعالى حول الجبل وبالرغم من ارتفاع ذروتك لقد حق على الكثيرين أن يرقوا إليك، وقد حان الزمن لإطلاق سفينتك من مأواها.
إذا كنت ترانا الآن أمامك نحن من حكمنا اليأس فتغلبنا عليه الآن، فما ذلك إلا دليل على أن من هم خير منا قد خرجوا إلى طريقهم متجهين إليك، إن البقية الأخيرة من أتباع الله بين الناس يسيرون إليك أيضًا وهم مَن تناهى فيهم الشوق والكره والتخمة من الدنيا، هم من لا يريدون الحياة إلا إذا أعطي لهم أن يتدربوا على الأمل، إلا إذا تعلموا منك الأمل الأعظم يا زارا.
هكذا تكلم ملك الميمنة وقد قبض على راحة زارا قاصدًا تقبيلها، ولكن زارا تراجع عنه، وابتعد عن الجميع في صمته العميق، ثم عاد إليهم يحدجهم بلفتاته الخارقة لسرائرهم فقال: أيها الرجال الراقون، أيها الضيوف، أصغوا إليَّ إنني سأخاطبكم بالألمانية وبكل صراحة فأقول لكم: إن من أنتظر قدومه إلى هذه الجبال ليس أنتم.
فقال ملك الميسرة: إنه سيخاطبنا بالألمانية وبصراحة … أفلا يتضح أن هذا الحكيم الشرقي لا يعرف من هم الألمان، وكان الأجدر به أن يقول سأخاطبكم بالألمانية الخشنة، وما هي بأقبح ما في هذا الزمان.
فأردف زارا قائلًا: لقد تكونون جميعكم رجالًا راقين أما أنا فلا أراكم بلغتم ما يستلزمه التفوق من العظمة والقوة، هكذا أنتم في تقديري أو بالحري في تقدير الإرادة الصارمة الكامنة في نفسي وهي صامتة الآن ولكنها لن تسكت أبدًا. لقد تكونون من أتباعي ولكنكم لستم مني في مقام ساعدي الأيمن؛ لأن من يمشي على أرجل مريضة كأرجلكم يحتاج إلى عناية ومداراة سواء أعرف نفسه أم خفيت حاله عليه، وأنا لا أُداري ساعديَّ ولا رجليَّ ولا أداري المجاهدين تحت إمرتي، فكيف تقتحمون ما أصلي من معارك؟!
إذا أنا اعتمدت عليكم عرَّضت للفشل انتصاري؛ لأن أكثركم ينطرح صريعًا لأول قرعة تهدر بها طبولي.
ما أنتم من البهاء على ما أرجو، ولا من النَّسَب على ما أطلب، وأنا أطلب المرايا الصافية لأعكس عليها تعاليمي، فإذا ما انعكست صورتي على مراياكم جلتها مشوَّهة للناظرين.
إن كواهلكم مثقلة بعديد الأحمال وبخيالات الزمان المنصرم، وفي خباياكم شرور كثيرة ففيكم من الغوغاء خصالٌ مستترة، فأنتم وإن صلحتم وحسن أصلكم لا تزال فيكم عيوب عديدة وأمهر حدَّاد لا يسعه تقويم اعوجاجكم.
ما أنتم إلا جسور يعبر عليها من هم خير منكم، ما أنتم إلا مدارج يرقاها المتجه إلى الاعتلاء فوق ذاته، وعليكم أن تلينوا له ظهوركم، لقد يولد منكم يومًا من يصبح وارثًا لي، ولكن هذا اليوم لا يزال بعيدًا في مجال الزمان، أما أنتم فما لكم أن تحملوا اسمي ولا أن ترثوا خيراتي في هذه الحياة.
لستم أنتم من أنتظر هنا في هذه الجبال، لستم أنتم من سأستصحب عندما أهبط بين الناس للمرة الأخيرة، فما أنتم إلا طليعة القادمين إليَّ وهم أعظم منكم؛ لأنهم من غير من تناهى فيهم الشوق والكره والتخمة من الدنيا ومن غير الفئة التي تدعونها البقية الأخيرة من أتباع الله على الأرض.
لا … وألف لا … إنني أنتظر سواكم هنا على جبالي العالية، ولن أتحرك للخروج إلى العالم قبل أن يصلوا إليَّ، فهم أرفع منكم وأقوى، هم رجال المرح الأصحاء من رأسهم إلى أخمص أقدامهم، ولا بد أن يأتي إليَّ هؤلاء الأسود الضاحكون.
أفما بلغكم أيها الضيوف خبر أبنائي وهم قد خرجوا على طريقهم يقصدون مقري؟
حدثوني عن حدائقي وجزري السعيدة، حدثوني عن نوعي الجديد، لماذا لا تحدثونني عن كل هذا؟
أستحلفكم بحق ضيافتي لكم أن تذكروا لي أبنائي، فما جمعت الثروة إلا لهم، وما تحملت للفقر إلا من أجلهم فامتنعت عن العطاء.
إنني أفدي بكل شيء هؤلاء الأبناء وهم النبت الحي، أدواح الحياة المجسمة لأعز آمالي.
وتوقف زارا فجأة عن الكلام لتغلب شوقه عليه فأغمض عينيه، وأطبق فمه متنصتًا لخفقان فؤاده.
وساد الصمت جميع من في الغار غير أن العرَّاف الشيخ أخذ يرسم بيديه إشارات غريبة.