العشاء السري
وتقدم العرَّاف كمن عيل صبره وقبض على يد زارا قائلًا: ولكن … أفما أنت القائل: إن بعض الأمور مقدم على بعض، أفما دعوتني إلى تناول الطعام وهنا من قطعوا شوطًا بعيدًا للوصول إليك، فهل ترى أن تشبعنا كلامًا؟
لقد تحدثتم كثيرًا عن الموت بردًا وغرقًا واختناقًا، ولكن لم يذكر أحد منكم بليَّتي أنا وهي الخوف من الموت جوعًا.
وما سمع النسر والأفعوان هذا الكلام حتى سادهما الرعب فهربا؛ إذ تأكدا أن كل ما جمعاه منذ الصباح حتى المساء لن يكفي لإشباع العراف وحده.
وأردف العراف قائلًا: ولم يذكر أحد منكم الخوف من الموت عطشًا، أما أنا فبالرغم من أنني سمعت تدفق الفصاحة كالنهر فإنني لا أرتوي منها بل أطلب خمرًا؛ لأن الخمر وحده يرتجل الصحة ارتجالًا ويقضي على المرض بالشفاء العاجل.
وبينما كان العراف ذاهبًا في كلامه يطلب خمرًا كان ملك الميسرة يقول: لقد تداركت الخمر فأحضرنا منه حملًا ولكن الخبز ينقصنا.
فضحك زارا وقال: إن المنفردين لا خبز لديهم، ولكن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بلحم الخراف أيضًا ولديَّ خروفان، فليُذبحا وليعدَّا ليعطرا فإنني أحب لحم الخروف معطرًا، ولدي أيضًا أعشاب وأثمار تكفي أهل الشراهة، وأهل الذوق وعندي من الجوز وسائر المُغلقات ما يشغلنا كسره وكشف خفاياه.
سنجلس عما قليل لنتناول خير غذاء، ولكن على الجميع أن يمدوا سواعدهم للعمل وليشتغل الملكان كالآخرين؛ لأن زارا وهو ملك يمكنه أن يكون طباخًا أيضًا.
وفرح الجميع بهذا الاقتراح ما عدا المتسول المتطوع الذي كان يأنف من اللحوم والخمور والتوابل، فقال: اسمعوا ما يقول زارا في شراهته! فهل يتسلق الإنسان الجبال ليتنعم بوليمة؟ وإنني لأفهم الآن ما كان يقصد بتعليمه؛ إذ قال: ليكن الفقر مباركًا، وأدرك لماذا يريد إفناء المتسولين.
فقال زارا: كن مرحًا مثلي يا هذا واحتفظ بما تعودته امضغ حبوبك واشرب ماءك وامتدح طبخك إذا كان هذا يورثك الحبور، فما أنا أمثل الشريعة إلَّا لأتباعي ولي، ولستُ شريعة للناس أجمعين، ولكن من أراد أن يتبعني فعليه أن تقسو عظامه وتخف رجلاه، عليه أن يكون فرحًا في الولائم فيطَّرح عنه الهموم ويبقى مستعدًا لاقتحام الصعاب قويًّا صحيحًا.
إن خير ما في الأرض لي ولأتباعي وإذا مُنع عنا أخذناه عنوة واقتدارًا، لنا ألذُّ غذاء وأنقى سماء وأقوى الأفكار وأجمل النساء.
هكذا تكلم زارا، ولكن ملك الميمنة أجابه قائلًا: أليس من الغريب أن يقول حكيم بمثل هذا القول الصواب؟! والحق لمن الغرابة بمكان أن يجمع الحكيم بين الأمرين ولا يكون حمارًا.
هذا ما قاله ملك الميمنة وهو يبدي دهشته فأمَّن الحمار على قوله بالنهيق، وهكذا بدأت هذه الوليمة الطويلة التي دعيت بالعشاء السري في كتب التاريخ، وما دار حديثٌ أثناء هذا العشاء إلا على الإنسان الراقي.