نشيد الأشجان
١
وعندما لفظ زارا الكلمات الأخيرة من خطابه رأى نفسه أمام مخرج غاره فترك ضيوفه وانطلق يستنشق الهواء النقي هاتفًا: يا للنفحات الطيبات ويا للسكينة السعيدة، تعاليا إليَّ يا نسري وأفعواني وقولا لي أراقتْكما رائحة هؤلاء الرجال الراقون. إنني أشعر الآن بمقدار حبي لكما.
إنني أحبكما يا نسري وأفعواني.
ودار الحيوانان حول زارا وحدقا به طويلًا، وبقي الثلاثة يستنشقان هواء بليلًا لا يظفرون بمثله في مجلس الرجال الراقين.
٢
وما خرج زارا من الغار حتى وقف الساحر الشيخ مرسلًا نظرات التجسس ما حوله وهو يقول: لقد أُخلي المكان.
فيا أيها الرجال الراقون وما أدعوكم بهذا النعت إلا تشبهًا بزارا في ثنائه عليكم، فإنه ما كاد يخرج هو حتى عاد فاستولى عليَّ روحي الخداع الماكر الساحر وما هو إلا شيطان أشجاني. العدو اللدود لزارا فلا تلوموا هذا الشيطان إذا طمح إلى إبداء ضروب سحره أمامكم وقد اجتاحته نوبة من نوباته ولطالما حاولت مقاومتها بلا جدوى.
إن روحي الشرير عدوٌّ لزارا وهو صديقكم جميعًا، سواء أَدُعيتم رجال الفكر الحر أم رجال الحق أم رجال كفارة العقل أم رجال الثورة أم رجال الشوق الأعظم أنتم المصابين بما أُصبت به من الكراهة العظمى، أنتم المؤمنين بأن الله قد مات دون أن يكون على أحد الأسرة إله آخر تشده الأقمطة في طفولته.
إنني أعرف من أنتم يا أهل الرقي، وأعرف أيضًا من هو زارا الذي أتوجه إليه بحبي مرغمًا؛ لأنني أحس بأن قديسًا سينبثق منه، ويلوح لي أحيانًا أنه هيكل يسكن فيه شيطانُ الأشجان فأحبه أيضًا لحلول روحي الشرير في سريرته.
لقد أوشك هذا الروح أن يستولي عليَّ، وها هو ذا يصرعني، فيا له من شيطان يتقمص أشجان الغسق!
افتحوا أعينكم أيها الراقون، إن هذا الروح يتجسد ولا أدري أيظهر عاريًا في هيئة رجل أم في هيئة امرأة.
لقد بدأ ستار العتمة ينسدل حتى على خير الأشياء.
أعيروا سمعكم وحدقوا، أهو رجل أم امرأة هذا الروح، روح أشجان المساء.
هكذا تكلم الساحر الشيخ، ثم أدار لحاظه فيمن حوله وقبض على قيثارته.
٣
عندما يعتل الهواء، ويتساقط الندى المعزي دون أن تراه العيون، وما تسقط الأنداء إلا خفية ككل عزاء.
أفما تذكر أيها القلب الملتاع كم ظمئت إلى دمع السماء، إلى قطرات الأنداء؟
لقد كنت منهوكًا يرهقك السغب والشمس تلقي أشعتها على الأعشاب الصفراء متراكضة حولك من خلال الأدواح القاتمة فتبهرك في روغانها، وتلقي في روعك أنك تائق إلى الحقيقة، وما هي إلا خادعة ساخرة.
لا … ما أنت إلا شاعر ولست إلى الحقيقة متطلعًا مشوقًا.
ما أنت إلا حيوان وحشي زحاف عليه أن يتفوه بالكذب، حيوان مفجوع بالغنائم، يُسدل على وجه قناعًا تعددت ألوانه، وهو نفسه قناع لقناعه وغنيمة لفجعته.
أأنت يا هذا طالب حقيقة وحق؟
لا … ما أنت إلا مجنون، ما أنت إلا شاعر.
إنك تتكلم بالاستعارات والتشابيه، وترتفع عقيرتك مُقنعًا بوجه معتوه متراكضًا على معابر من كاذبات البيان تائهًا على أقواس قُزَح مزيفة تحت آفاق لا حقيقة لها.
إنك تائه يتراكض في كل مكان.
ما أنت إلا مجنون، ما أنت إلا شاعر!
•••
أأنت طالب حقيقة وحق؟
ما أنت إلا مسخُ تمثالٍ إلهي يلتمع في صقيعه، وليس له جلال هذا التمثال ولا صمته منصوبًا على مدخل بيت الله.
ما أنت إلا عدو كل هيكل مشيدٍ للفضيلة فمسرحك القفار حيث تشب حرًّا طليقًا، وإذا ما حُصرتَ في مسكن قفزت من نوافذه مستسلمًا لتصاريف الحدثان ذاهبًا بهدير شهوتك في مجاهل الغاب بين الوحوش الكاسرة الرقطاء الجميلة كالمعصية وقد قطرت أشداقها شَبقًا ودماء فتسرح بينها متوحشًا زحَّافًا كاذبًا.
أو أنت أشبه بالنسور التي تحدق طويلًا في الأغوار حتى إذا لاحت الخرفان في مراعيها انقضَّت عليها. إنها لعدوة الخراف وكل من له نظراتها وصوفها ووداعتها.
•••
ما شهوة الشاعر إلا شهوة النسر والنمر.
تلك هي شهوتك المقنَّعة بألف وجهٍ أيها المجنون، أيها الشاعر!
لقد نظرتَ إلى الإنسان كأنه نعجة فمزَّقت الله فيه كما مزقت النعجة وأنت تقهقه ضاحكًا.
تلك هي لذتك، أيها الشاعر، إنْ هي إلا لذة نسر ونمر، لذة شاعر ومجنون.
لقد جنحتُ يومًا في الهواء البليل جنوح الهلال الحسود على وهج أنوار الغروب، هاربًا من النهار عدوه اللدود متواريًا عن شجيرات الورود إلى أن يغمرها الظلام ماحيًا أشباحها.
أجل لقد جنحتُ فيما مضى جنوح الهلال هاربًا من جنون الحقيقة وشهوة النور، تعبت من النهار ومن أضوائه فانحدرت عليلًا نحو المغرب إلى مطارح الظلام، وقد أحرقتني الحقيقة بسعارها.
أفما تذكر أيها القلب الملتاع مِحنةَ تعطُّشك في ذلك الحين؟
ما لي وللحقائق جميعها، سحقًا لها.
ما أنا إلا مجنون ما أنا إلا شاعر.