المعرفة
هذا ما أنشده الساحر، موقعًا في شراك نغمه الغدَّار الحزين جميعَ من حوله ما عدا صياد العلقة المقيَّد بضمير العقل، فإنه لم يقع كالآخرين بل نهض واختطف القيثارة من يد الساحر صارخًا: لقد سمَّمتَ هواء الغار يا هذا.
جددوا الهواء، أدخلوا زارا إلينا.
إن سحرك أيها المراوغ يدفع بالناس إلى الشهوات ومجاهل القفار، ويا لشقائنا إذا كان أمثالك يتكلمون عن الحقيقة ويُولونها أهمية، وويل للأفكار الحرة إذا كانت لا تحذر الساحرين، إنها لتفقد حريتها بإهمالها.
إنك تدعو للرجوع إلى السجون وتقتاد الناس إليها أيها الشيطان الحزين، ففي أنينك دعوةٌ مستترة، فما أشبهك بمن يمجدون العفاف فيجيء تمجيدهم دعوة إلى الملذات!
هكذا تكلم صاحب ضمير العقل، غير أن الساحر كان يجيل أبصاره في مَنْ حوله، وهو يتنعَّم بظفره فتتغلَّب لذته على حنقه من خصمه، وأخيرًا نظر إليه قائلًا بلطف: إن الأغاني الجميلة تثير خير الأصداء ولذلك يجب أن يعقبها السكوت الطويل، أفما ترى هؤلاء الرجال الراقين يتنصَّتون، ويلوح لي أنك لم تفهم شيئًا من نشيدي؛ لأن تفكيرك محصور في دائرة السحر.
فأجاب صاحب الضمير: إنك تثني عليَّ بالإقرار بالفرق بينك وبيني، وحسنًا فعلت، ولكن أنتم أيها الراقون، ما لي أراكم وأنتم ذوو النفوس الحرة ساكتين كمن تطلع طويلًا إلى رقص غانيةٍ عارية متهتكة، فإذا بروحه ترتقص في داخله؟!
أفليس فيكم أيها الراقون القوة التي لا تنال منها خزعبلات الساحرين؟!
ولكنني أراكم في وادٍ وأنا في واد، لقد تسنى لي أن أتحدث إليكم طويلًا قبل أن عاد زارا إلى مغارته فعرفت أنني معكم على خلاف، فأنتم لا تطلبون ما أطلب عن عقيدة راسخة، وما جئت إلى زارا إلا لأنني أعلم أنه معقل الإرادة الثابتة التي لا تتزعزع في هذه الأزمان التي يتصدَّع فيها كل شيء ويتداعى.
أما أنتم فإن نظراتكم تدل على أنكم تطلبون الريبة وتتشوَّقون إلى الشك، فتودون لو يزيد الارتعاش وتعم الزلازل الأرض لتزداد حياتكم اضطرابًا، فما أتخوف منه أنا تَتُوقون أنتم إليه فتستهويكم حياة الوحوش في الغابات والمغاور.
إنكم لتنفرون ممن يدعوكم إلى اجتناب الأخطار فلا تأنسون إلا إلى المضللين الساحرين.
ولكن اعلموا أن هذه الأماني الكامنة فيكم لن يكون لها أن تتحقق؛ لأن الخوف شعور غريزي أوليٌّ في الإنسان يفسر كل شيء، ويجلو حقيقة الخطيئة الأصلية والفضيلة الأصلية، وفضيلتي أنا قد نشأت عن الخوف واسمها «العِلمُ».
لقد عاش الإنسان طويلًا يسوده الفزع من الحيوانات الكاسرة وبينها الوحش الكامن فيه والذي يدعوه زارا «الحيوان الداخلي»، وقد استحال هذا الخوف مع كرور الزمان إلى ذُعر روحي يدعى «عِلمًا».
هكذا تكلم صاحب ضمير العلم، وكان زارا قد عاد إلى الغار وسمع نهاية الخطاب، فأخذ ينثر أوراق الورد على رأس صاحب الضمير وهو يهزأ به قائلًا: ماذا أسمع؟ والحق أنك مجنون وإلَّا كنت أنا مجنونًا، لذلك أبادر إلى إنزال الحقيقة على رأسك دفعة واحدة، فاعلم أن الخوف شذوذ في الإنسان؛ لأنه ما نشأ في الأصل إلا مفطورًا على الشجاعة طمَّاحًا إلى تقلبات الحدثان مأخوذًا بلذة الشك، مدفوعًا لاقتحام المجهول، فالشجاعة أُولى عواطف الإنسان؛ إذ استهوته فضائل الضواري وأشد الحيوانات عزمًا وإقدامًا، فما عتم حتى غنم هذه الفضائل منها وهكذا صار إنسانًا.
ويلوح لي أن هذه الشجاعة الراقية الوثابة إنسانية بجناح النسر وروغان الأفعى تدعى اليوم …
فضحك جميع الحاضرين وهتفوا بصوت واحد: تدعى زارا.
وارتفع من بين الحشد شيء أشبه بالغمامة السوداء وتوارى، فبدأ الساحر بالضحك أيضًا وهو يقول: لقد خرج روح الشرير مني، أفما دعوتكم إلى الحذر منه عندما أعلنت لكم أنه روح مكَّار مخادع كذاب، ويتناهى مكره بخاصة عندما يتجلى عاريًا، ولكنني أعجز من أن أقاوم سحره، فما أنا مَن خَلَقه وما أنا مَن خَلَق العالم.
فلنعد الآن إلى صلاحنا وسرورنا. انظروا إلى زارا فإن في عينيه قتامًا وأراه ناقمًا عليَّ، غير أنه لن يثبت على نقمته حتى يجيء الظلام فسوف يسترجع حبه ويعود مثنيًا عليَّ؛ لأنه لا يستطيع البقاء طويلًا دون أن يرتكب مثل هذا الجنون.
إن زارا يحب أعداءه وهو بين مَن صادفتُ في حياتي أقدرهم في هذا الفن، ولكنه في سبيل حبه لأعدائه ينتقم من أصدقائه.
هكذا تكلم الساحر الشيخ فصفَّق له الحاضرون حتى اضطر زارا إلى الدوران في غاره وهو ينفض راحتيه متبرمًا من أصحابه بعاطفةٍ تمازج شرُّها بحبها، فكأنه يحاول عذر الناس والاعتذار إليهم في آن واحد، وعندما وصل إلى مخرج الغار شاقه الهواء الطلق وتذكر نسره وأفعوانه فاندفع طالبًا الخروج.